النشيد الثاني عشر

واقعة الخندق

مُجْمَلهُ

استظهر الطرواد على الإغريق، فدفعوهم إلى داخل معقلهم، وهزموهم إلى سفنهم، وألقى هكطور الرعب في قلوبهم، فخارت عزائمهم وهانت قواهم، أما هكطور فدفعته الحمية إلى اجتياز السور والخندق إلى السفن، فهيأ قومه لذلك، وارتأى فوليداماس أن يترجل الجميع ويندفعوا مرة واحدة مشاة، فاستصوب الطرواد رأيه، وتكتبوا خمس كتائب، كل كتيبة بزعامة رئيسها إلا أسيوس فإنه ظل على مركبته فقتل، ولما اندفع الطرواد إلى أبواب المعقل وقف لصدهم بطلان من أبطال اليونان، فأبرزا من البسالة ما يفوق الوصف، وإذ أوشك هكطور أن ينقض على المعقل ظهر لهم على ميسرة الجيش الطروادي نسر ممسك بمخالبه حيةً حيّة، فارتاع فوليداماس لذلك وأشار بالكف عن القتال، فوبخه هكطور ولبث على كرته فثبت الإغريق في موقفهم وأمطروا على الطرواد وبل نبال وامتاز الآياسان بالبأس والبطش بين الإغريق، كما امتاز سرفيدون وغلوكوس بين الليقيين نجاد الطرواد، ثم جرح غلوكوس فانهزم، وبقي سرفيدون وحده، فخرق السور وفتح منفذًا فيه لجماعته فكادوا ينفذون فيه لولا بسالة آياس، فكثر الفتك والقتل فانحاز حينئذ زفس إلى الطرواد، وتقدم هكطور ورمي بصخر على أحد الأبواب فسحقه وولج مع كل جيشه معسكر الإغريق، ولم يزل يتعقبهم إلى أن لجأوا إلى سفنهم.

النشيد الثاني عشر

فطرقل عند أريفيل بخيمته
يعنى به ويداويه بحكمته
والحرب في مأزق ضاقت مسالكه
على الفريقين ألقى ثقل وطأته
أما الأغارق فالحصن المتين بنوا
والخندق احتفروا من حول خطته
ليدفعوا عن خلاياهم ومحملها
من الغنائم ما يغلو بقيمته

•••

لكنهم حين شادوا سورهم غفلوا
عن الضحايا مئات بئس ما فعلوا
فما إذا هو واقيهم بمنعته
من الأعادي إذا كروا وإن حملوا
فلا يقوم بناءٌ لا تحيط به
عين العناية إلا شابه الخلل١
قد دام ما دام هكطور وما بقيت
إليون واشتد آخيل بنفرته

•••

وعندما فتحت إليون واندثرت
من بعد عشرة أعوام بها حصرت
والأرغسيون هاتيك السفائن في
من عاش منهم إلى أوطانهم مخرت
فوسيذ فورًا وآفلون انحدرا
وكل أنهار إيذا فوقه انحدرت
ريسوس روديس قاريس إيسفس
والهفتفور بضافي سيل ضفته

•••

والإسكندر إغرانيق يتبعه
وسيمويس انجلى يهوي تدفعه
عن جنة سطعت أو بيضة لمعت
أَو قِرن ربٍّ بذاك الجد مصرعه٢
وفيبس حول الأنهار قاطبة
عليه تسعة أيام تزعزعه
وزفس أمطر شؤبوبًا يقوضه
للبحر يقذفه في قعر لجته

•••

وفوسذ وعصا الأنواء في يده
يطغي السيول عليه في توقده
يدك أركانه من أسها وبها
لليم يقذف معتزًّا بسؤدده
يستأصل الصخر منها والجذوع إلى
أن ساوت الجرف في مألوف معهده
فأسبل الرمل يعلوها وقد رجع الـ
ـأنهار كلٌّ إلى محدود جِدَّتِهِ

•••

ذاك الذي سوف يبديه لنا القدر
والآن من حوله الطروادة استعروا٣
ترتج أبراجه من عنف كرِّهم
والأرغسيون في الأسطول قد حصروا
يروعهم سخط زفس مذ أصابهم
وهكطر ذاك أس الروع والخطر
لا زال يعصف فيهم مثل عاصفة
وقوم طروادة اشتدوا لشدته

•••

كأن خرنوص بَرٍّ صال أو أسدا
لم يعبأن بجمع حوله احتشدا
به تحيط السرايا والكلاب وقد
أهمت حواليه من أسهامها بردا٤
فيستجيش بقلب لا يروعه
بأس فلا يلتوي للخطب مرتعدا
بل ينثني وهو حيث انقض منقبضًا
أو صال شقت سراياهم لصولته

•••

كذاك هاج بهم هكطور يندفق
يصيح في القوم: «هَيُّوا الخندق اخترقوا»
لكنما خيله في الجرف جازعةً
ترددت مذ تراءى دونها العمق
وأطرقت صاهلات لا تطيق به
وثبًا فتجتاز أو عدوًا فتنطلق
وكيف تعدو وحول السور هاويةٌ
يحوطها السد إحكامًا لمنعته

•••

هيهات تحت العجال الخيل تقطعها
لكنما لمشاة الجيش مرجعها
لذاك فوليدماس جاء هكطر والـ
ـفرسان نادى بقرب الفوز يطمعها:
«يا هكطر يا سراة الجند كيف ترى
فوق الحفير جياد الخيل ندفعها
وراءه السور والأركان قد رفعت
أوتادها غضةً من ضمن سدته

•••

فكيف ننزل في هذي العجال إلى
هذا الشفير ولا نلقى به فشلا
لئن ننل من لدى زفس إبادتهم
ونشر خزيهم فليهلكوا عجلا
فإن عبرنا وصدونا لوهدته
فأيُّ رُزءٍ يوافينا وأي بلا
والحق أصدقكم لن ينجون بنا
ناج لإليون ينمي شر محنته

•••

فالرأي عندي أن نبقِي الجياد لدى
سُيَّاسِها عند هذا الحد حيث بدا
ونحن نتبع هكطورًا بجملتنا
مكثفين على أكتافنا العددا
فالأرغسيون إما حان مصرعهم
لن يستطيعوا سبيلا للقا أبدا»
فلم يكد ينتهي والقول راقهم
حتى ترجل هكطور لساعته

•••

وكل فرسانهم ألقوا عجالهم
لساسة الخيل تستبقي حيالهم
تقام في الجرف صفًّا واحدًا وهم
فيالقًا خمسةً صفوا رجالهم
فقاد أولها هكطور أولهم
كذاك فوليدماسٌ من أمالهم
وقبريون وقد أبقى الجياد لدى
فتًى لهكطور من أعراض فتيته٥

•••

كتيبة تلك ضمت جلهم عددا
جندًا تمد إلى كيد العداة يدا
وقاد ثانيها فاريس يصحبه
ألقاث ثم أغينور الذي اتقدا
وحاز ثالثها من ولد ملكهم
فريام قرمان مقدامين قد عهدا
هيلينس ثم ذيفوب الذي طلعت
سيماء آل العُلى تزهو بطلعته

•••

كذا ابن هرطاقس آسيس البطل
من ثقف الجُرد للهيجاء يشتعل
من بر آرسبة من جد سيلس قد
جرى عليها إلى إليون ينتقل٦
وانضم رابعها جيشًا على حدةٍ
لأمر أنياس رب البأس يمتثل
وآكماس ابن أنطينور يصحبه
أخوه أرخليخ كانا بصحبته

•••

وخامس الفرق الغراء قد جمعت
أحلافهم ولسرفيدون قد خضعت
وعسطروف بغى عونًا له وكذا
غلوكسًا تلك صيدُ الحملة اندفعت
كماة بأس بلا هكطور وقعهم
في الحرب أيان أطراف القنا وقعت
قد قصر الكل عن إدراك شأوهم
وقصروا جملة عن شأو سطوته

•••

وعندما التأموا تزهو يلامقهم
تقدموا ومرام النفس سائقهم
وأيقنوا أن أعداهم وقد وهنوا
تبيدهم في خلاياهم مخافقهم٧
بصدق فوليدماس كلهم وثقوا
على اختلاف سراهم وهو صادقهم
سوى ابن هرطاقس ما زال معتليًا
يليه حوذيُهُ من فوق سدته٨

•••

أم السفائن مغترًّا على حمق
بخيله وبشر الحتف لم يثق
فلن يرى بعد إليونًا ويفخر بل
برمح إيذومن حكم القضاء لقي٩
يُسرى السفين مضى حيث الأغارق قد
آبوا بخيلهم من أفسح الطرق
أغار تتبعه الأجناد لا غِبَّةً
وأيقنت في العدى فوزا بغارته

•••

للباب كروا ومصراعاه ما زلجا
بل فيه قوم يباري من عدا ونجا
ودونه من بني اللافيث يحرسه
قرما نكال على هز القنا درجا
لينطس عد آريس وفولفت
لصده وقفا فيه وما اختلجا
قاما كأنهما ملولتان على
طود وقد قامتا من فوق قمته

•••

فإن أصلهما في الأرض ينتشر
ولا يروعهما ريح ولا مطر
تربصا للقاه لا يهولهما
أنصاره وإن اشتدوا وإن كثروا
فكر يتلوه يامين وآدمس
كذا ثوون وأورست الأولى اشتهروا
وإينماوس تعلوهم يلامقهم
وجيشهم لغبًا داوٍ بصيحته

•••

والأرغسيان لا يلويهما الجزع
صاحا بمن ضمن ذاك المعقل امتنعوا
فما أجاب مجيب والتووا قلقًا
وكاد جيش العدى للسور يندفع
فبرزا خارج الأبواب وانفردا
مكافحين وأسهام العدى تقع
وفوق صدريهما الفولاذ متقد
يصل للوبل يهمي فوق صفحته

•••

كأن في الشم خرنوصين قد ذعرا
بين الخياطل والقناص مذ حصرا
فيسحقان ببطن الغاب ما لقيا
كيدا ويستأصلان الفرع والشجرا
ويعليان صريف الناب ما بقيا
حيين لم يلقيا في المعرك القدرا
فهكذا اشتد ذان الباسلان وما
ريعا لكل قوى جيش وكثرته

•••

كانا على ثقةٍ من بأس ذرعهما
وبأس من قام فوق السور خلفهما
جند مُدافعةٌ بالعنف دافعةٌ
وبلا من الصخر من فوق العداة همى
ومن كلا الجحفلين الرمي منطلق
على الرءوس بغيث بالنبال طما١٠
كصيب الثلج تنهال الغيوم به
والنوء هب فتهمي تحت هبته١١

•••

والبيض ترجع عن وقع الحجار صدى
للجو عنها وعن أجوابهم صعدا١٢
ففات آسيسًا ما كان أمله
فصاح يلطم يضويه العنا كمدا:
«أكنت يا زفس خدَّاعًا وكيف أرى
قرمين فذين لم نبلغهما أمدا
مثل الزنابير ذبت عن خشارمها
والنحل لا يتخلى عن خليته

•••

فلن يكفا ترى إلا إذا صُرِعا
أو بين فتاك أيدينا إذا وقعا»١٣
لكن زفس وهكطورًا بنصرته
من دونهم خص ذاك الصوت ما سمعا١٤
وسائر الجيش لم ينفك مضطرمًا
بأسًا على سائر الأبواب مندفعا
من لي بإلهام ذي علم فينبئني
كم هامةٍ وقعت في حَرِّ وقعته١٥

•••

من كل فج لدى السور الأوار علا
وارتاع للخطب أهلوه وقد ثقلا
فلم يروا غير حسن الذود من مددٍ
ورهط أنصارهم في الخلد قد وجلا
لكنما ولدا اللافيث حولهما
قد أعملا في الأعادي السيف والأسلا
واجتاح فولفت داماس مبتدرًا
بطعنةٍ نفذت في بطن خوذته

•••

ما صدها ذلك الفولاذ بل خرقتْ
حتى الدماغ وأم الرأس قد سحقتْ
من ثم أتبعه فيلون يلحقه
أرمين عن طعنةٍ في جوفه مرقتْ
كذا لينطس في لدن القناة مشى
رمى وفي خصر هيفوماخس فهقتْ
فاستل من غمده السيف الحديد وفي
قلب العدى كر يلقي روع كرته

•••

فانطفأت فرى يلقيه منقلبا
من ثم كر ومنيون الفتى اقتضبا
واجتاح أورست تُسقى الأرضُ من دمه
والقرم يامين ثم استقبل السلبا
وهكذا فتيا اللافيث قد فتكا
فتكًا ذريعًا وحازا بعده النشبا
وهكطر إثره الفتيان لا غبةٌ
وإثر فوليدماس تحت إمرته

•••

(كتيبة تلك ضمت جلهم عددا
جندا تمد إلى كيد العداة يدا)
كادت حفيرهم تجتاز عابرةً
إذا بطير لها تحت السماء بدا
فاستوقفت جزعًا في الجرف حائرةً
تطير أو هو عن يُسرى السرى وردا
نسر مخالبه في الجو قد نشبت
بأفعوان خضيبٍ تحت قبضته

•••

فالأفعوان وفيه لم يزل رمق
ما بين أظفاره في الجو يصطفق
حتى عليه التوى بالعنف يلسعه
في بارز الصدر حيث التفت العنق
فصاح عن ألم مر وأفلته
وراح تحت مهب الريح ينطلق
والأفعوان هوى للأرض مختضبًا
حيا وطروادة ارتاعت لرؤيته

•••

فتلك من زفس نجوى رامها علنا
ونحو قرمهم فوليدماس دنا
وقال: «عُوِّدتَ هكطورٌ معارضتي
إذا اقترحت مقالا بيننا حسنا
لا يجدرن بنا أن نستطيل إلى
مداك أو نرتئي ما لا يلوح لنا
لكنني كيفما دارت مباحثنا
مهما أقل فمقالي ثق بصحته١٦

•••

لا خير بالفتك في الإغريق بالسفن
إن صح حدسي ففيه فادح المحن
ألم نر النسر يسرى الجيش مرتفعًا
بحية حية مشتدة الإحن
أما رأيناه ألقاها مخضبة
فريسة تلك فاتته ولم تهن
ولم تكن لفراخ قد خلون بها
بوكره فانثنى يخلو بخيبته

•••

وهكذا فلئن نظفر بسورهم
وخرق أبوابه خرقًا برغمهم
ولو هزمناهم لن يرجعن بنا ا ا
أجناد من حيث كروا بانتظامهم
بل سوف نلوى شتاتًا تاركين لهم
جندًا تمزقها نيران كيدهم
فذاك تفسير هذا النجو يخبره
أخو الهدى تهتدي الدنيا بخبرته»١٧

•••

فمال هكطور شزرًا وهو يلتهب
غيظًا وقال: «أللإحجام تنتدب
فإن تكن قلت ما قد قلت عن ثقةٍ
لا شك رشدك أبناء العلى سلبوا
لأنت أولى برأي أصوب فعلا
م رمت أني قضايا زفس أجتنب
تلك القضايا التي بلغتها سلفًا
مذ مال بالرأس إعلانًا لنصرته

•••

أرمت أني أطيع الطير إن رمحت
سيان تعلم عندي كيفما سرحت
لمطلع الشمس عن يمناي إن سنحت
أو يسرتي لدياجي الغرب إن برحت
فلا نطيعن إلا من أطاع جميع الـ
ـجن والإنس والدنيا به انتصحت
وليس للمرء من فأل يدين له
خير من الذود عن أوطان نشأته١٨

•••

علام تخشى الوغى جبنًا وتضطرب
وأنت في الأمن لن ينتابك العطب
فلست بالقرم يأتي مؤقفًا حرجًا
حتى ولو جملةً أجنادنا نكبوا١٩
لكن إذا ما اعتزلت الحرب مجتنبًا
أو ما بنصحك رمت الجند تجتنب
واغتر من قومنا فرد لقولك ذا
فاعلم فروحك في رمحي وطعنته»٢٠

•••

وكر والجيش طرا إثره حملا
وزفس من طور إيذا ريحه حملا
هبت بعثيرها من فوقهم ومضت
تذروه فوق العدى توليهم الوجلا٢١
فتلك من فضل زفس نصرة وثقوا
بها وفي بأسهم واستقبلوا القللا٢٢
فهدموها وأطراف الوشيع رموا
والمعقل ابتدروا ثغرًا لثغرته

•••

وزعزعوا صخر أركان بدت عمدا
من تحت أبراجه قامت لها سندا
وشددوا العزم في استئصالها أملا
بمنفذ منه يؤتون العدى الشددا
لكنما عسكر الإغريق ظل على
أبراجه مستجيش العزم مجتهدا
مدت يلامقهم حصنًا يذود به
يرمي العداة الأولى آلوا بخذلته٢٣

•••

آياس يجري وآياس على القلل
يستنهضان السرى بالقول والعمل
طورًا بلين حديث للأولى اعتزلوا
وتارة بملام الفارس الوجل:
«يا أول الصيد أبطالا وثانيهم
بأسًا ومن لم يخول قوة البطل
لم يمنح الكل بأسًا واحدًا ولكم
في يومنا الذود كل جهد طاقته

•••

عرفتم ضيق هذا الموقف الحرج
لا تلتون بقلب هد مختلج
لا يصدعنكم قرم يسوقكم
إلى سفينكم في خائر المهج
بل شددوا بعضكم بعضًا ولا تهنوا
لعل زفس منيل النصر والفرج
به نذل عدوًّا قد ألم بنا
يصمى ويذبح حتى باب بلدته»

•••

فهاج قولهما الأجناد فاعتصبوا
وماج من فوق ذاك المعقل اللجب
حجارة من كلا الصوبين طائرة
في الجو في موقف الجيشين تنسكب
كأن يوم شتاء زفس كان له
بالقر فيه على كيد الورى أرب
فتسكن الريح والثلج الكثيف على
وجه الثرى صبيًّا هام بوفرته

•••

يهمي فيستر وجه السهل والجبلا
والمرج والزرع والأرياف والسبلا
والثغر حيث زغاب الموج يمحقه
وسائر الأرض منه ألبست حللا
لكن هكطور والطرواد ما ظفروا
بالسور والباب بالمزلاج قد قفلا
إلا بهمة سرفيدون هيجه
أبوه زفس ببادي بأس همته

•••

جرى كليث على سرب الثيار جرى
أمامه مجوب فولاذه بهرا
مؤلق مستدير دق صانعه
قتيره دق حذق يدهش البصرا
مبطن بجلود الثور دار على
أطرافه قضب من عسجد نشرا
به مشى بيديه عاملان مضى
عُجْبًا يهزهما أثناء مشيته٢٤

•••

كضيغم بين شم الراسيات ربي
وبرحت بحشاه آفة السغب
ينقض حتى مباني الناس مبتغيًا
فريسة بفؤاد غير مضطرب
لا ينثني لكلاب الحي إن نبحت
أم بادرته رعاة القوم بالقُضُب
وليس يرجع إلا نائلا وطرا
أو هالكًا بقناهم قبل عودته

•••

وهكذا انقض سرفيدون ممتحنا
خرق المراقب والسور الذي حصنا٢٥
فقال لابن هُفُوْلُوخٍ: «علام ترى
في ليقيا كان صدر القوم مجلسنا
والكأس تُتْرَعُ واللحم السمين لنا
والناس مثل بني العليا تبجلنا
علام في ثغر زنثٍ أرضنا اتسعت
والكرم والزرع يسقى ملء حاجته

•••

فلا يسوغ لنا إلا التربص في
صدر السرى حيث نلنا منتهى الشرف٢٦
حتى كتائبنا تعتز قائلة:
«نعم الملوك علوا عن حطة الضعف»
«فليهنأوا بسمين اللحم مأكلهم
والراح إذ وقفوا في موقف التلف»
وهل ترى لو أبينا الكر ننقذ من
وخط الشيب وموت بعد وخطته

•••

لو كان ذا عُفْتُ شر الحرب والحرب
وما بغيتك في ذا المأقِطِ اللجب٢٧
لكنما الموت منه لا مناص وقد
يأتي بأي سبيل كان أو سبب٢٨
فلنقدمن فإن المجد راقبنا
أو راقب من سقانا غُصَّة النُّوب»٢٩
لبى غلوكس لا يرتاع مطلبه
وكر تتبعه أبطال أمَّته

•••

فهال مرآهما مينستسًا وهما
هَمَّا إلى برجه بالعزم واقتحما
فسرح الطرف حول السور مبتغيًا
قرمًا يروم به عونًا يصدهما
ألفى الأياسين لا يضويهما تعب
قد بارح الخيم طفقير يرومهما
ولم يكن من سبيل للنداء على
ما اشتد من لغبٍ يصمي بضجته

•••

حيث الطرواد قد ثاروا بمعترك
يبغون إدراك دك السور للدرك
وفي اليلامق والبيض المعذب والـ
أبواب قرع دوى في قبة الفلك٣٠
فصاح مينستس بالفيج ثوطس
وقال: «طر بمقالي غير مرتبك
وادع الأياسين أو مهما بدا لهما
فليأت آياس يرفدني بنجدته٣١

•••

والرأي هذا فعندي موقف الخطر
وقوم ليقية انقضوا على أثري
وإن يكن جل وقع الخطب عندهما
فليأتني ابن تلامون أبو الظفر
وليأت طفقير رب القوس يصحبه»
فأسرع الفيج ينمي صحة الخبر
قال: «ابن فيتيس حينًا يرومكما
كليكما فأجيباه لدعوته

•••

والرأي ذا فلديه موقف الخطر
إذ قوم ليقية انقضوا على الأثر
وإن يكن جل وقع الخطب عندكما
فليأته ابن تلامون أبو الظفر
وليأت طفقير رب القوس يصحبه»
لبى كبيرهما يجري بلا حذر
ومال نحو ابن ويلوسٍ يشدده
ليحسن الذود فيهم حين غيبته:٣٢

•••

«قف يا أياس وفوليميذ لا تهنا
وحرضا الجند لا تأب الوغى جبنا
أمضي فأبلو بأعداء هناك عتوا
وإن دفعتهم دفعًا رجعت هنا
وسار يصحب طفقير الفتى معه
أخاه وابن أبيه النابل الفطنا
كذلك الشهم فنديون متبع
وراء طفقير يجري في حنيته٣٣

•••

من داخل السور أموه وما برحا
في برجه فإذا بالأمر قد فدحا
وقوم ليقية مثل العواصف قد
تسلقوا بوحى يشتد أي وحى
فقل آياس صخرًا هائلا وعلى
أفكلس خل سرفيدونهم طرحا
جلمودة من رجال العصر ما رفعت
يدا فتى رب بأس في شبيبته

•••

فذلك الصخر من ضمن الوشيع رفع
رحاه ثم على رأس العدو دفع
فدق هامته من تحت خوذته
فغائصًا من على البرج المتين وقع
كذاك أبصر طفقير غلوكس قد
رام التسلق مشتد القوى وطلع
وقد بدت يده البيضاء عارية
فأرسل السهم يعروها برميته

•••

فشب للأرض واهي العزم يستتر
كي لا يرى الجرح أعداه ويفتخروا
فأثقل الغم سرفيدون حين رأى
منآه لكنه ما ناله الضجر
وألقماوون ثسطور أصاب فلم
يقف وعاجله بالرمح يبتدر
واجتر عامله من صدره فهوى
يصل فولاذه من فوق جثته

•••

من ثم بين يديه ممسكًا جذبا
إحدى دعائم سطح السور فاضطربا
وأسقطت من أعالي الحصن وانكشفت
عن منفذ لبني طروادة رحبا
فانقض آياس يبغيه وبادره
طفقير يرمي بسهم فيه ما نشبا
حزام جنته الكبرى أصاب فلم
ينفذ وزفس تلافاه بقدرته٣٤

•••

لم يرض موت ابنه قرب السفين ولا
نكاله وأياس ثار مشتعلا
وكر يطعن والرمح الحديد مضى
في ترسه وإلى الأعضاء ما وصلا
فصدَّ يرجع سرفيدون بعض خطى
عن خطة السور لكن لم يهن وجلا
بل ظل يأمل نصرًا وانثنى عجلا
يصيح في من تلاه من عشيرته:

•••

«يا قوم ليقية هل خار عزمكم
فقد فتحت سبيلا في وجوهكم
وهل تيسر لي ما صلت منفردًا
أمهد السبل للأشراع دونكم٣٥
هيوا اتبعوني فخير الأمر ما اجتمعت
على تطلبه القوات تلتئم»
فجملة وجلوا من عذل ملكهم
وفار فائرهم من حول فورته

•••

والدانويون قد ضموا كتائبهم
من داخل السور لا يلوون غاربهم
فما هم دافعوا أعدائهم صببًا
عن ثغرة جعلوا فيها مضاربهم
ولا أولئك منهم نائلو وطرٍ
ولا سبيل ليحتلوا مراكبهم
وليس يفصلهم إلا الفواصل في الـ
ـسور الذي اشتبكوا من حول فرجته

•••

كزارعين بحقل بعد ما قسما
تنازعا كل شبر في حدودهما
ولا يظلان في جهدٍ وفي عملٍ
حتى يوازنه المقياس بينهما ٣٦
كذا تعادلت القوات يسرب من
كلا الفريقين سيالا نجيعهما
كم جنة سحقت في صدر حاملها
ولأمةٍ خرقت من تحت جنته

•••

وكم فتًى مدبر قد بان كاهله
فالسهم واصله والرمح قاتله٣٧
وما استطاع بنو الطرواد صدهم
بل استوى في مجال الفتك هائله
كمرأة عالت الأطفال عادلة
قد أمسكت عود ميزان تعادله
لا تخسر الصوف مثقالا تضن به
عن العيار الذي ألقت بكفته٣٨

•••

لكن زفس ذرى المجد الرفيع ذخر
لهكطر فإلى الحصن المنيع عبر
فكر أولهم كرًّا يصيح بهم:
«إيه فَكُرُّوا بني الطرواد خير مكر
والسور فاخترقوا والنار مضرمةً
ألقوا فلا تبق من أسطولهم وتذر»
فهاجت النفس والسور المنيع رموا
يهز كل فتًى رُمْحًا براحته

•••

وهكطر حجرًا في الباب قد ثقلا
محدد الرأس ضخم قعره حملا
جلمود صخر إذا ما رام يحمله
قرمان من خير ما في عصر نارجلا
ما بلغا رفعه إلا بجهدهما
من صفحة الأرض حتى يبلغ العجلا
لكن هكطور يرحوه بغير عنًا
إذ زفس أذهب عنه كل ثقلته٣٩

•••

نظير جزة كبش خف محملها
هيهات في راحة الراعي تثقلها
كذاك صخرته هكطور محتدمًا
عنفًا رماها لصفق الباب يرسلها٤٠
قد أحكموا قفل مصراعيه إذ رتجا
حتى يعز على الأعداء مدخلها
وقد تعارض قفلاه ووسطهما
ثقب تخلل مزلاج بفرضته

•••

فهكطر مذ أتاه أثبت القدما
مفرجًا بين ساقيه رحا ورمى
فراح ما بين صفقيه وقد سحق الـ
ـقفلين ينفذ والصفقان قد حطما
والرزتان استطارت قائماتهما
والباب يصرف من عنف به صدما
فانقض هكطور بالفولاذ متشحًا
كالليل يذعر ذعرًا في دجنته

•••

يهز بين يديه عامليه ولا
يصده غير رب عندما حملا
واجتاز وثبًا وعيناه شرارهما
وارٍ وألفت يدعو قومه عجلا
تلوه ما بين عاد قد تسلق أو
في الباب جار لداوي الصوت ممتثلا
والأرغسيون للأسطول قد لجأوا
في مأزق ضاق مشتد بأزمته

هوامش

(١) هذا أشبه شيء بقول المزامير: إن لم يَبْنِ الرب البيت فباطلا يتعب البناؤون، وإن لم يحرس الرب المدينة فباطلا يسهر الحرَّاس، ويقرب منه قول الشاعر العربي:
كذلك من لم يشكر الله لم تزل
معالمه من بعد ساحته تعفو
(٢) قرن رب، أي: نظير رب، وهي صفة كثيرًا ما يصف بها هوميروس أبطاله الأشداء، وقد خص سيمويس من بين الأنهار بالجنن والبيض، أي: الدروع والخوذ المنقذفة مع مياهه؛ لكثرة ما وقع فيه من القتلى بدوران رحى الحرب على ضفتيه.
(٣) تلك إشارة من جملة إشارات الشاعر إلى ما كان مزمعًا أن يقع بعد الحصار، وقد أدخلها هنا بمعرض نبوءة سبقت الإشارة إليها في النشيد السابع، والظاهر أنه في زمن هوميروس لم يكن لذلك السور من أثر باق، أو هو خرافة تناقلت إلى أيامه، ولا حاجة إلى إعادة ما قدمنا في هذا الشأن في النشيد السابق المذكور، وإنما نجتزئ هنا بالتنبيه إلى الأسلوب البديع، الذي اتخذه صاحب الإلياذة إلى محق آثار ذلك السور، فجعل الأمر متأتيًا عن تعاون الآلهة، وليس بالأمر العسير عليهم أن يبيدوه، وأتى بكل هذا بصورة رمزية تفيد أن اليونان في زمانه كانوا يدركون جانبًا من أسرار الطبيعة، فإن فيبوس وهو الشمس يحول الأنهار، وزفس وهو في بعض الأحوال الرقيع يهمي الأمطار، وفوسيذ وهو البحر الهدار يثير الأنواء في البحار، كل ذلك من الأصول العلمية التي يحسن تأويلها حتى في أيامنا هذه.
(٤) قد خالف الشاعر عادته هنا بتشبيه هكطور بطل الطرواد بالليث بين الكلاب مع دوام إثرته لقومه، ولكنه لا يبقى محل للاستغراب إذا علمنا أن مراده أن يشدد الأزمة على الإغريق، وينكل بهم تنكيلا، حتى إذا هب آخيل إلى نصرتهم وفاز بقتل هكطور كان له بذلك فخر على فخر، وزادت أناشيد الإلياذة وآخيل بطلها بلاغة على بلاغة.
(٥) قبريون هذا حوذي هكطور، وإذ كان بطلا باسلا استبقى المركبة لفتى آخر من أعراض الفتية، وتولى قيادة كتيبة من الجيش مع هكطور، وليعلم المطالع أنه شتان ما بين حوذي ذلك الزمان والحوذي في أيامنا، فسائق المركبة إذ ذاك كان رفيقًا وقرينًا لصاحبها، يشبَّه به اليوم رديف العرب في البادية كما تقدم.
figure
فوليداماس يشير إلى هكطور أن لا يجتاز الخندق راكبًا.
(٦) جد سيلس، أي: ضفة نهر سيلس وشاطئه.
(٧) الخلايا: السفن، والمخافق: السيوف.
(٨) ابن هرطاقس، أي: أسيوس.
(٩) تلك إشارة إلى مقتل أسيوس في النشيد التالي.
(١٠) شبه معقر بن حمار البارقي الرءوس المضروبة عند التقاء الجيشين بالحدج النقيف، وهو الحنظل المشقوق بقوله:
كأن جماجم الأبطال لما
تلاقينا ضحًى حدجٌ نقيفُ
(١١) شبه النبال المتطايرة بالثلج المتناثر، ومثله قول أبي العيَّال الهذلي إذ شبهها بالسنبل:
فترى النبال تغير في أقطارها
شُمسًا كأن نصالهنَّ السنبلُ
وأحسن منه قول العبسي، إذ ذكر السيوف والسهام والدروع، وشبه السهام بالجراد، قال:
يدعون عنتر والسهام كأنها
لمع البوارق في السحاب المظلمِ
يدعون عنتر والسهام كأنها
طشُّ الجراد على مشارع حوّمِ
يدعون عنتر والسهام كأنها
حدق الضفادع في غدير ديجمِ
(١٢) الأجواب: جمع جوب التروس. والبيض: الخوَذ.
(١٣) إن خطاب أسيوس لزفس من باب الكفر والاستطالة، ولعل الشاعر وطأ به ليجعل قتل أسيوس في ما يلي عقابًا على كفره، كما زعم بعض المفسرين. ولا أرى هذا التفسير ثبتًا؛ لأنه يلوح أن لوم الآلهة ساعة الغضب لم يكن بالخطأ القاتل، ولنا في الإلياذة أمثلة كثيرة على ذلك فقد جاء مثل هذا الكلام بخطاب ذيوميذ في النشيد الثالث إذ يقول:
من كل آل الخلد مثلك لم يكن
يا زفس معتسفٌ بمقدوراتهِ
ونفس أغاممنون الزعيم الورع رمى زفس بالكذب والخداع مرتين بقوله في النشيد الثاني والنشيد الحادي عشر:
فمان وما أغراه فيما رمانيا
وأمثال ذلك كثيرة
(١٤) قوله: «وهكطورًا بنصرته من دونهم خص». جملة معترضة.
(١٥) كل انتقال من الخبر إلى الاستفهام كما ترى في هذا البيت يشير إلى أمر خطير يليه، وأكثر ما يستعمل الشاعر ذلك عند تعداد أسماء كثيرة لا بد في استحضارها من ذاكرة يحكها محكٌّ جديد.
(١٦) نرى فرقًا بينًا بين خطاب فوليداماس هنا وخطابه السابق في هذا النشيد، فقد تكلم هنالك كلام الآمر الناطق بالحق، الذي يجب أن يتبع فيبدي رأيه بلا تزلف غير متوقع لومًا واعتراضًا، وأما هنا فيشرع في التلطف والاستعطاف؛ لأنه موقن أنه وإن نطق بالحق والصواب كما نطق في الموضع الأول، فهو هناك مثبتٌ أمرًا يميل إليه هكطور وموردٌ هنا رأيًا يعلم أن نفس هكطور تأباه؛ لأنه قد عيل صبرًا، ولا يرى إلا الساعة التي بها يبدد جيش أعدائه حالة كون فوليداماس يأمره تطيرًا بذلك النجو أن يكف عنه، فكان لا بد من ثم من توطئة يستميله بها.
(١٧) النجو: السر — العيافة، أو زجر الطير والتفاؤل والتشاؤم بوُجهتها في الطيران من أقدم المعتقدات، وهي ليست من استنباط اليونان بل أخذوها فيما أخذوا عمن تقدمهم من البابليين والأشوريين، على أنه لم يكن لها عند اليونان ذلك الشأن الخطير، الذي كان لها بعد حين عند الرومان والعرب، حيث كانت من أسمى خصائص الكهان، فكان الرومان ينتدبون لها رجالا من ذوي الوجاهة والكرامة، وكانت في جاهلية العرب لبني فهد يتكهنون بها كيف شاءوا، والظاهر أن اليهود عملوا بها زمنًا بدليل تحريمها في سفر اللاويين، ولم تنتسخ من بين العرب إلا بقوة الدين، وفي الحديث: «لا طِيرة في الإسلام».
والمشهور من طريقة العرب في العيافة أنهم كانوا يرمون الطائر بالحصاة، أو يصيحون به فإن ولَّى القوم ميامنه تفاءلوا به وإن ولاهم مياسره تشاءموا، ومنه قولهم التيمن والتشاؤم توقعًا لخيرٍ أو شر من اليمين والشمال، وكانوا إذا أرادوا السفر خرجوا من الغلَس والطير في مواقعها على الأرض والشجر، فيطيرونها فإن أخذت يمينًا أخذوا يمينًا، وإن أخذت شمالا أخذوا شمالا، وإلى ذلك يشير امرؤ القيس بقوله:
وقد اغتدى والطير في وكناتها
بمنجردٍ قيد الأوابد هيكلِ
وكانوا يسمون الطائر الآخذ من اليسار إلى اليمين سانحًا، والآخذ من اليمين إلى اليسار بارحًا، وربما تشاءموا أو تفاءلوا لظهور طائر بصرف النظر عن وجهة طيرانه، وأكثر التشاؤم بالغراب، وأضافوه إلى البين، فقالوا: غراب البين، وزعموا أن منه الغربة والاغتراب، ولهم في ذلك أشعار لا تحصى في الجاهلية والإسلام، فمن ذلك قول أبي الأسود الدؤلي، وفيه ما يشير إلى إنكار ذلك المعتقد.
زعم العواذل أن فرقتنا غدًا
وبذاك أنبأنا الغراب الأسودُ
وأكثر التفاؤل بطير القارية، وهو طائر قليل الانتشار في باديتهم؛ قصير الرجلين، طويل المنقار، أخضر الظهر يستبشرون برؤيته للمطر، كأنه رسول الغيث، وقد يتيمنون به لقضاء الحاجات.
ولكن الشعراء تلاعبوا في هذه المزاعم وأمثالها واشتقوا لكل طائر من اسمه ما يدل على الخير أو الشر، فإذا شاء الشاعر جعل العقاب عقبى خير وإن شاءَ جعله عقبى شر، وإن شاء جعل الحمام حِمامًا، أي: موتًا وإن شاء قال: حُمَّ اللقاء، وهلمَّ جرًّا، وقد يختلط على الرواة كثير من مقاصد الشعراء بطول العهد أو للاختلاف في الرواية، فمن هؤلاء الرواة من زعم مثلا أن الأخيل وهو الشقرَّاق طائر شؤم، إذا وقع على بعير يئسوا منه، وإن كان سالمًا وإذا لقيه المسافر تَطَّير، واستشهدوا ببيت الفرزدق القائل لناقته قَطَن:
إذا قَطنٌ بلغتنيه ابن مدركٍ
فلاقيت من طير العراقيب أخيلا
فقالوا: إن العرب تسمي كل طائر تتطير منه الإبل طير العراقيب؛ لأنه يعرقبها، ومثل ذلك قول أعرابي:
ذريني وعلمي بالأمور وشيمتي
فما طائري فيها عليك بأخيلا
ومنهم من استشهد ببيت الفرزدق هذا لعكس المعنى، وأورده ببعض خلاف وهو:
إذا قطنٌ بلغتنيه ابن مدرك
فلاقيت من طير الأخائل أخيلا
وقال: إنه يدعو لناقته بأن تلاقي هذا الطائر المبارك إذا بلغته ابن مدرك (انظر المطالعة التالية).
(١٨) علمت مما تقدم مذهبهم في التسعد والتشاؤم، وفي قول هكطور الآن ما يدلك على أن الأخذ بذلك المذهب لم يكن من مفروضات الاعتقاد الديني، وإلا لما جاهر هكطور بنبذه، وهو من أشد القوم استمساكًا بأذيال دينه، ولم يعدم الناس في كل عصر قيام أفراد يفندون خرافاتهم وينددون بها، فقد روي عن شيشرون الخطيب الروماني أنه وضع كتابًا مخصوصًا في تسفيه مزاعم العافة، مع أنه كان بنفسه عائفًا، ومن هذا القبيل قول لبيد:
لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى
ولا زاجرات الطير ما الله صانعُ
وطرق الحصى ضربٌ آخر من التكهن عند العرب، ومثله قول طرفة بن العبد:
إذا ما أردت الأمر فامض لوجهه
وخلِّ الهوينا جانبًا متنائيا
ولا يمنعنك الطير مما أردته
فقد خط في الألواح ما كنت لاقيا
وإلى مثل ذلك يشير أبو تمام في قصيدته التي التزم بها الرد على المنجمين إذ يقول:
ابن الرواية بل ابن النجوم وما
صاغوه من زخرف فيها ومن كذبِ
تخرصًا وأحاديثًا ملفقةً
ليست بنبعٍ إذا عُدّت ولا غربِ
(١٩) يرمي هكطور فوليداماس بالجبن ويعنفه على ما قال، ويقول له تهكمًا: إنه بمأمن من القتل؛ لأنه لا يعرض نفسه لمواقف المهالك، وليس من المغاوير المعدودين تتأثره المنايا في الحرب على حد قول العبسي:
وأما القائلون قتيل حربٍ
فذلك مصرع البطل الجليد
(٢٠) رأينا فوليداماس في أوائل هذا النشيد يرتئي الرأي الحسن بترجل الجند واستبقاء المركبات لدى ساسة الخيل، فيأتمر الجميع بأمره حتى هكطور، ولا يشذ عنه إلا ريسوس؛ لحماقة كانت برأسه، وإنا لنراه هنا يرتئي رأيًّا آخر تسوقه إلى بثه حكمته وسابق خبرته، فيتثنى إليه هكطور مقرعًا تقريعًا عنيفًا، بخطاب تشف كل كلمة منه عن جذوة نار ملتهبة في صدره، تحرقه للبطش بالأعداء وقد آنس من قوتهم وهنًا وفتورًا ورمى رفيقه فوليداماس بالعجز وهو يعلم أنه أطول باعًا منه في تلك التآويل، ولجأ إقناعًا للجند بفساد تفسير فوليداماس إلى تذكيرهم بأنه وافاه البلاغ اليقين من زفس بالنصر المبين، فلا محل بعد ذلك للتفاؤل بسانح أو التشاؤم ببارح، ولو لم يشتد تلك الشدة على فوليداماس ويوطد ما له من الهيبة والنفوذ، لانحلت عزائم الجيش بعد ما سمعوه من بطل مغوار يعتقدون به الحكمة والبأس. كل ذلك من بديع تصرف الشاعر فإنه أنبأ بما سيكون من وجه وأوضح من وجه آخر ما يسعر صدر هكطور من البأس الذي لا يرده مرد.
(٢١) لو قال الشاعر: اصطلى الأوار، وتعالى الغبار، لأفاد المراد ونطق بحقيقة لا بد منها بتصادم جيشين، ولكن أبت بلاغته كجاري عادته إلا أن يفرغ الكلام بقالب شعري تمكينًا لوقعه في النفوس، فقال: إن زفس هو الذي نشر ذلك العثير، وأبرز ذلك المظهر الرهيب.
(٢٢) أي: قلل السور.
(٢٣) جعل هوميروس حصون الإغريق يلامقهم، أي: تروسهم، وأبلغ من ذلك جعل المعاقل من الرماح والسيوف، كقول لبيد:
معاقلنا التي نأوي إليها
بنات الأعوجية والسيوفُ
وقد جمع ربيعة بن مقروم المعنَيين بقوله:
وثغر مخوف أقمنا به
يهاب به غيرنا أن يقيما
جعلنا السيوف به والرماحَ
معاقلنا والحديد النظيما
(٢٤) كلما أراد الشاعر أن يهيئ بطلا لعمل خطير يشرع في تنبيه المطالع، فيصفه وصفًا فخيمًا؛ ليصدق عليه ما يلي من المقال، وهذا سرفيدون الذي يصدر لبراز فطرقل، لا بد أن يكون من صفوة الفرسان، ولهذا نبهنا الشاعر إليه بمقال مخصوص.
(٢٥) المراقب: قلل السور.
(٢٦) هذا المعنى كثير الورود في حماسيات العرب، وهو مكرر كثيرًا في شعر عنترة، كقوله:
إذ لا أبادر في المضيق فوارسي
حتى أوكل بالرعيل الأولِ
وقوله:
وأكرَّ فيهم في لهيب شعاعها
وأكون أول وافد يصلاها
وأكون أول ضارب بمهندٍ
يفري الجماجم لا يريد سواها
وأكون أول فارس يغشى الوغى
فأقود أول فارس يغشاها
وأبلغ منه قول الأعشى:
وإذا تجيء كتيبةٌ ملمومةٌ
يخشى الكماة الدارعون نزالها
كنت المقدّم غير لابس جنة
بالسيف يضرب معلمًا أبطالها
(٢٧) وهذا من المعاني المطروقة كثيرًا في الشعر، كقول زهير:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه
ولو رام أسباب السماء بسلم
وقول عنترة:
وعرفت أن منيتي أن تأتني
لا ينجني منها الفرار الأسرعُ
وقول أبي فراس الحمداني:
إذا لم يكن ينجي الفرار من الردى
على حالة فالصبر أرجى وأكرمُ
(٢٨) كقولهم:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره
تعددت الأسباب والموت واحدُ
(٢٩) إن في خطاب سرفيدون لغلوكوس لأنفةً وعظمة تنبه إليهما أكثر الشراح، قالوا: إنه لما كانت الملوك قوادًا للجيش في ذلك الزمان كان من المفروض عليهم أن يعرضوا أنفسهم إلى المخاطر، ويستنهضوا الهمم باستقبال العدو في صدر الفيالق وفاءً بما ينالونه من رعايتهم وإكرامهم، وهكذا فقد قال سرفيدون: يعظمنا قومنا تعظيم الآلهة، فعارٌ علينا أن نتصرف تصرف البشر، بل علينا أن نتفوق عليهم، فنفضلهم بهمتنا وفضيلتنا، كما فضلناهم بمقامنا، وهو كلام يتضمن إباء نفس ما فوقه إباء، وينطوي تحته العدل والوفاء وهكذا، فالعدل لمقابلة المثل بالمثل والوفاء لمقابلة رعاية الرعية لولي أمرها بالإكرام والأنفة؛ لازدراء الموت والتهالك في سبيل المجد
(٣٠) البيض المعذب، أي: الخوذ ذوات العذبات.
(٣١) حيثما ورد ذكر أياس وحده، فهو يفيد أياس الكبير ابن تيلامون.
(٣٢) ابن ويلوس: أياس الصغير.
(٣٣) الحنية: القوس، أي: قوس طفقير — قد استنجد مينستس بأياس وطفقير؛ لأن الأول أبسلهم، وطفقير أرماهم، فذلك للقرب، وهذا للبعد.
(٣٤) الجنة: الترس.
(٣٥) أي: إنني مهما اشتددت بأسًا، فيستحيل عليَّ وحدي تمهيد السبيل إلى السفن أمامكم.
(٣٦) حسبنا استلفات نظر المطالع اللبيب إلى صحة هذا التشبيه وصدقه على جيشين متلاحمين لا يبلغ أحدهما من الآخر أربًا.
(٣٧) الجنة: الترس، واللأمة: الدرع — قال أبو الطيب:
كم مقلة ولغت فيها أسنتهُ
ومهجة ولجت فيها بواترهُ
وحائن لعبت سمر الرماح به
فالعيش هاجره والنسر زائرهُ
(٣٨) قال أفستاثيوس: كان من المأثور عند القدماء أن الشاعر إنما أتى بهذا التشبيه تخليدًا لذكر والدته، وإعلانًا لحرصها على الصدق والعدل؛ لأنها كانت أرملة تكد وتجد؛ لتعول نفسها بعرق جبينها، وهو تشبيه بالغ في العدل؛ لأنه ما من شيء يوضح القسط كالقسطاس، وأبلغ من ذلك أنه لم يجعله بيد ذات ثروة ومقام؛ لأنها في الغالب لا تكون ميالة إلى تمام التوازن، ولا بيد أمة مملوكة؛ لأنها لا تكون حريصة على ذلك الإنصاف، ولكن بيد امرأة فقيرة تكد لتعيش بالستر والحلال، فهي لا تغش ولا تُغش؛ فتحرر ميزانيها تحرير الصادق المتيقظ.
(٣٩) لنا هنا شاهد آخر على أثرة الشاعر لقومه، فإن الحجر الذي رفعه أياس إنما رفعه بقوة ذراعيه، وهذا حجر هكطور لا يتسنى له رفعه إلا بعون زفس.
(٤٠) صفق الباب: مصراعه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤