النشيد الثالث عشر

الواقعة الرابعة

مُجْمَلهُ

دفع زفس هكطور وأنصاره إلى الثغر فاشتد الكفاح.

وغادرهم في لظى نارهِ
وحوَّل وقاد أبصارهِ

ففتك الطرواد بالإغريق، وهاجت العاطفة فوسيذ فهمَّ خفيةً عن زفس بمعاونة الإغريق، فاتخذ هيئة كلخاس العرَّاف، واستنهض همة الآياسين ونفرًا من المقاتلة، فالتف الإغريق حول آياس بن تيلامون، وقاتلوا قتالا مرًّا فصدوا هكطور وأتباعه، فجرح هكطور ودفع عن مرسى السفن بعد أن قتل أمفياخوس، وامتعض فوسيذ لموت هذا البطل، فهب مرة أخرى وتمثل لأيذومين بهيئة ثواس وألهب لبه، فشك في سلاحه وسار بمريون حوذيه إلى ميسرة الجيش وظل الآياسان في القلب، فاصطدم الجيشان وخرت القتلى أفواجًا، وزفس منحرف إلى الطرواد وفوسيذ إلى الإغريق، وكان ذلك اليوم يوم أيذومين فبرز ببسالة أحرز بها قصب السبق وجندل الأبطال وهزم الأقيال، وكادت ترجح كفة النصر للإغريق، فتثبت هكطور بموقفه وتألبت عليه الأعداء فلم تفز منه بطائل، وزحف عليه الآياسان بجيشهما وانهالت النبال كالمطر على الطرواد، حتى كادوا ينهزمون، فأشار فوليداماس بجمع الزعماء؛ للوقوف على رأيهم فيما إذا كان الأولى لهم أن يتقهقروا، أو يتصبروا فخاض هكطور الصفوف وعنف أخاه فاريس، ثم انقضا معًا انقضاض الأسود، فلم يظفرا بخرق كتائب الإغريق فالتقى الجيشان.

وعجُّ الخميسين شق الفضا
إلى حيث في الجوّ زفس اضا

مجرى وقائع هذا النشيد في اليوم الثامن والعشرين أيضًا، ومشهدها بين معقل الإغريق والساحل.

النشيد الثالث عشر

إلى الثغر هكطور زفس دفع
وأنصاره والكفاح صدع
وغادرهم في لظى ناره
وحوَّل وقَّاد أبصاره
لإثراقةٍ أرض خير الجياد
وميسة مهد قروم الجلاد
ونحو الإفوملغ أهل الفطن
أباة النفوس غذاة اللبن١
ونحو الأبيين رهط الكمال
وعن حصن إليون صد ومال
وما كان يخطر في باله
بأن بني الخلد من آله
يثور بهم أحد ويقوم
لنصرة أي فريق يروم
ولكن مزعزع ركن الثرى
فسيذ جميع البلا أبصرا
لقد كان شق عباب البحار
وأقبل يرقب حر الأوار
وَامَّ سمثراق أُمَّ الشجر
لأشمخ طود بها واستقر
فلاحت له كل إيذا وأبصر
سفين البحار وإليون والبر
وأحدق مستعجبًا وهو عابس
وشق عليه نكال الأراغس
فهبَّ من القمة الوعرهْ
بنفس على زفس مستعرهْ
وتحت خطاه ارتجاج شديدْ
له الشم والغاب طرا تميدْ٢
ثلاثًا خطا في الذرى الشاسعهْ
فأدرك إيغاس في الرابعهْ٣
هنالك شيدت صروح النضار
له خالدات بقعر البخار
فشد لشائق مركبتهْ
جيادًا تطير بمرحلتهْ
حوافرها ذُكْرَةٌ تلمع
وعسجد أعرافها يسطع
وحل بإبريز شكته
وسوط النضار بسدته
فراحت بقلب العباب تلجْ
لها اليم مبتهجًا ينفرجْ
وخلق البحار وقد شعرا
بوطأة مولاه إذ عبرا
من القعر حيتانه تثب
لمرآه يأخذها الطرب
فطارت بجذع بها اتصلا
وما سيم فولاذه بللا
سراعًا بها خيلها رامحات
لتبلغه السفن الراسيات
وفي اللج ما بين تينيذس
وذات الجلاميد أمبرس
توسط من تحت ذاك الطريق
على البحر في القعر كهف عميق
هنالك أوقفها ثم حلا
ومد لها علف الخلد حلا
وقيدها ذهبًا يبهر
فليس يحل ولا يكسر٤
لتلبث ثم له بانتظار
ونحو الأغارق بالنفس سار٥
فألفى الطراود قد هرعوا
على إثر هكطور واندفعوا
بصوت جهير وقلب يفور
كنار تثور ونوء يدور
يرومون أخذ الأساطيل قهرا
وذبح الأخاءة ثمة طرا
ولكن فوسيذ من قبضا
على الأرض من فوره اعترضا
من اليم أم الأراغس رفقا
فماثل كلخاس شكلا ونطقا
ونحو الأياسين مال بحدهْ
فزادهما شدةً فوق شدهْ:
«أياس أياس ألا فاحملا
فحملكما فيه درء البلا
ألا فاذكرا شأو بأسكما
نعم وانبذا الرعب خلفكما
فلست بخاش ذراع العدى
وإن كثفوا حولنا العددا
فهم حيثما عبروا السور جهرا
يصدهم قومنا الغر قهرا
ولكنما خشيتي ها هنا
وهكطور كالنار ثار بنا
يفاخر أن كان من نسل زفس
فرب إلاه يقوم ببأس
ويوليكما العزم في ملتقاه
وضم القيول لكف أذاه
يغادر أسطولكم فشلا
وإن كان أغراه مولى العلى»٦
ومن ثم مسهما بعصاه
وأولاهما قوة من قواه
شديد ذراع وثبت قدمْ
وخفة جسم وكل الهممْ
وحالا توارى بسرعة صقر
على الفور ينقض من صلد صخر
ويرمح طي الجناح الخفيف
إلى الواد في إثر طير ضعيف
ففيه أحس أياس الصغير
ونبَّه يدعو أياس الكبير:٧
«من الخلد لا شك ربٌّ نهضْ
وماثل عرافنا لغرضْ
لنوري الأوار ونحمي السفينا
فما هو كلخاس فاعلم يقينا
تبينت وهو يسير خطاه
وأمر يسير بيان الإلاه
فنفسي ماجت لسفك الدم
وهاجت يدي وعدت قدمي»
فقال: «نعم، وأنا الآن أُلْفِي
برمحي تهتز للفتك كفِّي
ورجلي بي شدة تثب
وروحي للنقع تضطرب
تحرقني لبراز يجل
مع القرم هكطور من لا يكل»
فذاك حديثهما طربا
وفوسيذ قلبهما ألهبا
وراح لساقة جيش الأراغسْ
يشدد كل فتى متقاعسْ
فقامت مفاصلهم تنتعشْ
وكانت على عيِّها ترتعشْ
إزاء الأساطيل يضوون غما
وبالسور جيش العدو ألما
يرون ويذرون دمعًا سخينا
وبالحتف قد أصبحوا موقنينا
ففوسيذ بينهم اندفقا
يحثهم فِرَقًا فِرَقا
وبادر يدعو قروم الرجال
كليطس طفقير ربِّ النبال
وفينيل ذيفير فخر الكماة
وثاوس مريون هول العداة
كذا أنطلوخ وبكتهم
بقول أثار عزيمتهم:
«ألا أي عار أرى أي عار
أفتيتنا يا حماة الذمار
ظننت بكم إن ثبتم جهادا
وقاية أسطولكم أن يقادا
وإلا فإن تجبنوا في الكفاحْ
ففجر انتصار الطرواد لاحْ
أتبصر عيني عجابًا خطيرا
تيقنت رباه أن لن يصيرا
علينا الطراود منتصرهْ
وهم قبل إيَّلَة فررهْ
تتيه بعجز بغاباتها
ولا عزم يدفع آفاتها
إلى أن تروح بسوق النصيب
طعام ابن آوى وفهد وذيب
أهم هم ولم يك مَنْ منهم
إلينا ولو لحظة يقحم
أهم هم وقد غادروا البلدا
وساموا عمارتنا النكدا
وذاك لان المليك عثرْ
فغيظ الجنود وسيموا الضجرْ
فحول سفائنهم يذبحونا
وللذود عنهن لا ينهضونا
وهب أن أتريذ كان امتطى
بإغضاب آخيل متن الخطا
هلمو بنا نتلافى العرضْ
فعقل أخي الفضل يأبى المرضْ
وليس جديرًا بصيد الرجال
مغادرة الكر يوم النزال
ولا أعذل النكس إن قعدا
ولست بعاذركم أبدا
تقاعسكم سيزيد البلا
ألا فاذكروا العار بين الملا
ألا تنظرون الصدام الشديدا
وهكطور ذاك العميد العنيدا
بأرتاجنا فاز والقفل حطمْ
وحول السفائن صال وصمم»٨
فهاجوا وحول الأياسين ضمت
كتائبهم للصدام وهمت٩
صفوفًا تشوق انتظامًا أريسا
وفالاس يوم تثير الوطيسا
تربص صيد جماهيرهمْ
لصد العداة وهكطورهمْ
نصال القنا لنصال القنا
وفوق المجنِّ المجنُّ انحنى
وَبِالْمِغْفَرِ الْمِغْفَرُ اتصلا
وقد لاصق البطل البطلا
برصهم الخوذ اللامعات
تلاقت تموج بها العذبات
ومن دون صلد أناملهمْ
تلاقي اهتزاز عواملهمْ
فهبوا بهنَّ بثبت جنان
تضرم نارًا لحر الطعان
وهب الطراود والتصقوا
وفي الصدر هكطور مندفق
كجلمود صخر قد انتزعا
من الشم سيل به اندفعا
له الغاب مرتجة ترتجف
إلى القعر حيث بعنف يقف١٠
وقد كاد هكطور يسفك سفكا
على الخيم والفلك للبحر فتكا
ولما بتلك الصفوف اصطدمْ
على رغمه ثبطته القدمْ
وجيش الأخاءة هم إليه
يهيل القنا والسيوف عليه
فصدوه وانكفأ القهقرى
يصيح ويدعو قيول السرى:
«طراودتي وبني ليقيا
ويا آل دردانس الأصفيا
قفوا فالعدو قريبًا يدينْ
وإن رُصَّ رَصَّ الحصار المتين١١
لئن كان خير بني الخلد طُرَّا
نعم بعل هيرا المعظم قدرا١٢
هو الدافعي لنكال العدى
فإن لهم بسناني الردى»
فهاجوا لذا النطق نفسًا وَلُبَّا
وبرز ذيفوب يختال عجبا
بجنته مستجيش القوى كرْ
يحث الخطى وبها يتسترْ
فلقاه مريون صلد سنانهْ
فمد المجن اتقاء طعانهْ
فمن نصله الرمح عنفًا تكسرْ
ومريون بين ذويه تقهقرْ
مغيظًا لرمح قد انصدعا
ونجوى العدو المبين معا
وللفلك والخيم حالا سعى
يروم قناة بها استودعا
وقوم أخاي بكرتهم
يعج الفضاء بصيحتهم
وطفقير أول من ظهرا
بإمبريوس الفتى ظفرا
(هو ابن لمنطور حاوي الجياد
بفيذية كان قبل الجهاد
وزوجٌ لميديسكستا الجميله
فتاةٌ لفريام غير حليله١٣
فعند انتشاب الوغى قفلا
لإليون حيث كما بطلا
وحل لفريام ضيفًا كريما
على حرمةٍ كبنيه مقيما
فأرداه طفقير بالأذن
وجر القناة ولم ينثن»
فخر كدردارة نبتت
على رأس طودٍ به ثبتت
يميل بها النصل حين برى
بغض الغصون لوجه الثرى
كذلك إمبريوس التوى
بصلصلة الدِّرع واهي القوى
وطفقير همَّ يروم السلب
ولكن هكطور حالًا وثب
وأقبل يرميه بالعامل
وطفقير ما كان بالغافل
تنحى فراح السنان يطير
لصدر الفتى أمفماخ المقير
«فتًى أقطياط أبوه وكانا
لأقطور ينسب نسلا وشانا»١٤
فخر يصلُّ وهكطور كرَّا
ليسلب خوذته حيث خرَّا
ولكن آياس عامله
أُطِير عليه يعاجله
فلم يبلغ الرمح جسمًا تردَّى
حديدًا يصد العوامل صدا
ولكن بمتن المجن وقع
وهكطور بالعنف رغمًا دفع
فظل القتيلان حيث هما
وقوم أخاي خلوا بهما
ففي أمفماخ منست الموقر
وإستيخيس قفلا المعسكر
وإمبريوس إلا ياسان سارا
به يقدحان احتداما شرارا
كليثين من تحت ناب الكلاب
قد انتزعا سخلة وسط غاب
لغض الغياض قد احتملاها
وما بين فكيهما أعلياها
كذا بين أيديهما رفعا
وشائق شكته انتزعا
وظل ابن ويلوس يشتد حقدا
لقتل الفتى أمفماخ المفدَّى
فهامة إمبريوس اقتضب
رحا ورماها شديد الغضب
فدارت ولا كرة حيث مرت
وتلقاء هكطور في الترب قرت١٥
وفوسيذ منتقمًا لحفيده
يعد لطرواد شر وعيده١٦
فهب إلى الفلك والخيم يجري
يهيج النفوس لوقع أمر
فأبصر إيذومنًا قفلا
إلى الحرب من بعد ما اعتزلا
يعالج حينًا فتًى طرحا
ببطن شظيته جرحا
فمن بعد أن حملوه إلى
خيامهم عجلًا عجلا
وألقاه إيذومنٌ للإسى
لخيمته جدَّ بادي الأسى١٧
يشك بها بثقيل السلاح
ويقبل مقتحمًا للكفاح١٨
تلقاه فوسيذ يعدو بباس
بشكل ابن أنذرمون ثواس
ثواس الذي كان ملكًا كبيرا
وساد الإتول أميرًا خطيرا
على كالدونة أم الجبال
كذلك فلورونةٍ بالجلال
فقال: «أإيذومنٌ أين ما
لفيف الأخاءة قد زعما
ببأسٍ يقدُّ الطرواد قدَّا
وعيدٌ أراه قد انهدَّ هدَّا»
أجاب: «ولست أرى أن يلام
بنا أحد لاعتزال الصدام
كررنا جميعًا وما من أحد
عن الحرب جبنًا وذلًا قعد
فلا شك زفس القدير استطابا
نكالًا وعارًا لنا واغترابا
ثواس وأنت الفتى الباسل
بنصحك يسترشد الخامل
فلا تألون برشدك جهدا
وحض الفوارس فردًا ففردا»
فقال: «أإيذومنٌ من بغى
قعودًا عن الكر في ذا الوغى
عسى أن يعز عليه المآب
ويبقى هنا مضغة للكلاب
فشك وهي اتلنى مسرعا
عسى الفوز في أن نكر معا
فأعجز ما في الرجال لدى
تكافلهم يحرزون القوى
وزد أننا بقروم الرجال
إذا اشتدَّت الحرب لسنا نبالي»
ولما انتهى راح وجهتهُ
وإيذومنٌ أمَّ خيمته
فألقى زهيَّ السلاح عليه
وهبَّ برمحين بين يديه
كصاعقةٍ زفس من عنده
على الأرض يدفع من زنده
يطير لها في الألمب شرر
فينبئ بالشؤم بين البشر
شعاع حكته على صدره
صفائحه الغُر في كرِّه
فأبصر تابعه الشهم أضحى
لدى الخيم يطلب من ثَمَّ رمحا
فصاح: «ابن مولوس مريون حبي
أعز الفوارس من كل صحبي
علام برحت الصدام الأصم
أصابك سهمٌ وزاد الألم
أم الآن تحمل لي خبرا
ألست تراني مستعرا
أبيت التخلف بين خيامي
ويدفعني عاملي وحسامي»
فقال: «أتيت نعم عاجلا
أرى في خيامك لي عاملا
فإن قناتي قد انقعرت
على ترس ذيفوب وانكسرت»
فقال: «هنا خيمتي ادخل تنقى
قناةً وإن شئت عشرين تلقى
صفوفًا بها علقت ساطعات
بأكنافها من سلاح العداة
لأني مقتحمٌ أبدا
بوجهي وجه عُلُوج العدى١٩
ففيها تروس وفيها رماح
وبيض ولامٌ بزاهي الصفاح»٢٠
أجاب: «وفي خيمتي وبفلكي
سلاحٌ كثيرٌ ذخرت بفتكي
ولكنه والعدو استطال
عسير المنال لبعد المجال
وإني مثلك افتخر
بأني بأسي أدَّكر
وأني يوم الطعان أرى
إذ التحم النقع صدر السرى٢١
فغيرك إن أبل قد لا يراني
ولكن إيذومنًا قد بلاني»
فقال: «ومثلي من خبرك
فلست لتُنمي لي خبرك٢٢
علمت بأنا إذا ما أقمنا
كمينًا له صفوةَ البهم رمنا
هنالك حيث يكون المحك
فيعرف من صك ممن فتك٢٣
هنالك حيث الجبان امتقع
ومن جوفه قلبهُ ينخلع
بمهجته هلعًا يحقق
ومن خشية الموت يصطفق
وتصطك أسنانه ويقف
فتقعده ركبٌ ترتجف
وأما الجَسُورُ فليس ليعبا
ولا يتغير لونًا وقلبا
يعال وقد رصد القوم صبرا
إلى الكر والبطش طعنًا ونحرا
هنالك من ذا الذي يجد
عليك سبيلًا فينتقد
فإما طعنت وإما ضربت
قريبًا إذن أو بعيدًا أصبت
فليس بظهرك وقع سلاح
وصدرك ذاك محط الرماح٢٤
ولكن دع البحث في صدد
نلام عليه ولا نجتدي
هلم ادخلنَّ عزيزًا مكينا
ومن خيمتي اقتل سنانًا متينا»٢٥
لئن يرم ما مثله نابل
وإن كر فهو الفتى الباسل
فهم كفء هكطور مهما طغى
فلن يبلغن بهم ما بغى
ومهما يكن عزمه لن يهونا
عليه المنال فيوري السفينا
فلا نالها غير زفس إذا
رماها بمقباس نار الأذى
ولا بشرٌ من جميع البشر
يؤلمُهُ عاملٌ وحجرْ
ويغذي نتاج الثرى مستمرًّا
يطيق لآياس ذلًّا وقهرا
وليس بغير السباق يطال
ولو نفس آخيل بالعزم صال
فقم فنسير إذا لليسار
لنولي أو نحن نولى الفخار»
ومريون حالًا كرب القتال
تقدم يجري إلى حيث قال
ودون الطراود مذ ظهرا
يضرَّم إيذومنٌ شررا
وتابعُهُ بالسلاح المتين
تراموا بكبحهما مجمعين
هناك السرى اشتبكت والغبار
إزاء السفائن للجو ثار
وقد ستر السبل سحقٌ رفيع
فتنسفه لعباب الرقيع
كأن الرياح قد اصطدمت
بنوءٍ تفاقم فالتطمت
كذا اشتبكوا فوق تلك الفلا
وقارنت الأسل الأسلا
رماح تمزق صدر الرجال
وأفئدةٌ لهبت للنزال
ولمع الدروع وغر التروس
وزهر الترائك فوق الرءوس
وقد عانق الفيلق الفيلقا
بمنظره يبهر الحدقا
وليس سوى الفاتك الباسل
يسر لذا المشهد الهائل
وكلُّ من ابني قرونس رام
خلاف مرام أخيه الهمام٢٦
فزفس لإعزاز شأن أخيل
لهكطور كان مليًّا يميل٢٧
ولكنه لم يشأ أن يبيدا
بإليون قوم الأخاء بعيدا
بل اختار إجلال ثيتيس قدرا
كذاك أخيل ابنها الشهم جهرا
وفوسيذ سرًّا من البحر هبَّا
ليحيي الأراغس نفسًا وقلبا
يؤلمه أن زفس جنف
عليهم ونحو العداة انحرف
هما ابنا أبٍ واحدٍ ليس إلا
وثم التكافؤ فرعًا وأصلا
ولكنما البكر زفس غدا
وقد فاق علمًا وطال يدا٢٨
لذلك فوسيذ ما جسرا
بجيش الأراغس أن يظهرا
فجاب يخوض الصفوف خفيًّا
يماثل بين الكماة كميًّا
وأورى الإلاهان نار نكال
له بسطا حبل حربٍ سجال
بأطرافه كلهم وقعوا
فقطعهم وهو لا يقطع
وخرت سراة كتائبهم
لديه بعنف تجاذبهم٢٩
هنالك إيذومنُ سخطا
وإن كان بالشيب قد وخطا
لقلب العداة بثبت القدم
دعا قومُه حنقًا وهجم
وهدَّ عزائمهم مذ قتل
بكرته أثريون البطل
فتًى من قبيسة قد أقبلا
حديثًا ونيل العلى أمَّلا
بكسندرا ربَّة الحسن هام
فخاطب فريام في ذا المرام
وما ساق مهرًا لها بل وعد
بقهر العدو وحفظ البلد
ومذ وعد الشيخ أبهى بناته
يزوجه انقض فوق عداته
مضى شامخًا بعزيمته
فلم يقه صلب جنَّتِهِ
وغار السنان بمهجته
فخر يصل بشكته
فناداه إيذومنُ يفتخر:
«أيا أثريون لئن تنتصر
فتتبع خبرك بالخبر
علمتك خير بني البشر
فإن كان فريام أبدى العهود
فنحن نبرُّ كذا بالوعود
على دك إليون إن نلنا
فعهدك نوثقه علنا
ونجعل عرسك أجمل بنت
لأتريذ من أرغليذة تأتي
هلم إلى الفلك نبدي القرار
فأحماؤنا لن يشابوا بعار٣٠
ومن ثم وافاه مجتذبًا
بساقٍ فزاد العدى لغبا
وآسيُّسٌ راجلًا أقبلا
لينقمَ وانقضَّ مشتعلا
ومِنْ خلفه الخيل يحرسها
فتى قد علاه تنفسها
فهمَّ وإيذومنٌ سبقا
بزج بحلقومه مرقا
فمال أمام الجياد يصرُّ
بأسنانه للحضيض يخرُّ
كأرزة طودٍ وحورتهِ
وملُّولةٍ فوق قنَّتهِ
تميل بفأسٍ لها شحذوا
لصنع السفائن تتخذ
وسائقه ظل مضطربا
وحاز فلم ينهزم هربا
ورمح ابن نسطور وافى يميذ
بأحشائه فوق درع الحديد
فأهوى إلى الأرض يشهق شهقا
وأفراسه أنطلوخ تلقَّى
وسار بها للحمى مغنما
وذيفوب إيذومنًا يمَّما
لآسيسٍ هبَّ يطلب ثارا
مشى وعليه السنان أطارا
وإيذومنُ مذ رآه تقدَّم
وزجَّ فتحت المجن تلملم
«مجنٌّ يغشيه جلد البقر
وفولاذه ساطعٌ للنظر
له مقبضان متينٌ كبير
يحفُّ القتير به مستدير»
فلامس بطن السنان المجنَّا
وطار ومن وقعه التُّرس رنَّا
وغلَّ وما طاش إذ صدرا
إلى ابن هفاسس إفسينرا
فأنفذ يصميه بالكبد
وذيفوب يشهد عن بعد
فراح بخيلة مفتخر
يصيح بنعرة منتصر:
«نعم دم آسيس ما انهدر
وإن أم آذيس هول البشر
سيأمن ضمن المقام العميق
لأني أتبعته برفيق»
فساء الأراغس ذاك النعير
وأورى حشا أنطلوخ السعير
على بثه راح والصبر عيلا
يقي بالمجن الخليل القتيلا٣١
وآلسطرٌ ومكستُ أسيرا
به للسفائن يعلي الزفيرا
وإيذومنٌ ظل في حزمه
يكر بعزمٍ على عزمه
فإمَّا ليردي كميًّا ببأسه
وإما ليفدي ذويه بنفسه
أصاب سليلًا لزفس الأغر
بألقاثٍ بن إسيت اشتهر
لأنخيس قد كان صهرًا صفيًّا
على بنته البكر هيفوذميا
فتاةٌ بصرحهما أبواها
بمنزل قلبهما أنزلاها
وما كان بين لدات الزمان
لها مثلٌ في العذارى الحسان
وفاقت بوشي وعقلٍ وحسنِ
كما فاق ذاك بضربٍ وطعن
فزفَّتْ إليه ولكنَّما
أبى الربُّ فوسيذ أن يسلما
فحل قواه وغشى البصر
فضاق المفر وحال المكر
وظل بغير حراكٍ مقيم
كركنٍ مكينٍ وجذعٍ عظيم
بدرعٍ مرارًا وفته الردى
فلم تقه الآن طعن العدى
فمزقها الزج مذ رشقا
وفي الصدر من دونها مرقا
فصلت وخر وكيف المناص
وفي قلبه العامل اللدن غاص
وعود السنان إلى الكعب ماد
بعنف اشتداد وجيب الفؤاد٣٢
وما زال يهتز حتى تلاشى
وإيذومنٌ صاح يشتدُّ جاشا:
«أذيفوب ها قد فرى ساعدي
ثلاثة صيدٍ لقا واحدِ
علام التشدق أقبل هنا
فتعلم أي ابن زفس أنا
ألم يأتك العلم عن نسبي
وأن ذقليون كان أبي
وأهل إقريط مينوس جدي
بزفس أبيه رقى طود مجد
وأن بإقريط باعي شديده
لملكي دانت شعوب عديده
أتيت أريك هنا وأباك
وكل الطراود سبل الهلاك»
فنازع ذيفوب في أمره
مرامان ردَّد في فكره
أيبرز فذًا إلى ملتقاه
أم الرأي أن يلتجي لسواه
فعوَّل في شدة المعمعة
يلوذ بأنياس يأتي معه
فألفاه في طرف الفيلق
تقاعد من شدة الحنق٣٣
يؤلمُهُ أن فريام أزرى
به وبإقدامه لم يبرَّا
فوافاه قال: «إذن فهلمَّا
أأنياس صدر الطراود علما٣٤
فإن كنت ترعى حقوق النسب
فذا صهرك الآن بادي العطب
فكم بك في سالف الزمن
وقد كنت طفلًا قديمًا عني
وألقاث إيذومنٌ أدركا
فقم ذُبَّ عنه فقد هلكا»
فهاج بأنياس لبُّ الحشا
ونحو العدو الألد مشى
وإيذومن مستجيشًا مكث
ولم يرتعد كالغلام الحدث
أقام كخرنوص برٍ خبرْ
قواهُ فقام بطودٍ أغرْ
بمنفرجٍ في البراح تربَّص
ليرقب من جاءه يتقنص
فيلهب عينًا ويعقفُ ظهرا
ويشحذ نابًا ويكمن شرَّا
ويذخر بطشًا بعيد المنال
لذبح الكلاب وكبح الرجال٣٥
كذلك إيذومنٌ وقفا
لأنياس مذ حنقًا زحفا
ونادى الرفاق بصوتٍ جهير
كذيفيز مريون ذاك الجسور
وآفارسٍ عسقلاف البطل
كذا أنطلوخ وصاح: «العجل
هلموا رفاقي فليس لديَّا
معينٌ وأنياس خفَّ إليَّا
هو القرم يبلي بجمٍّ غفيرِ
وما زال غض الشباب النضيرِ
خشيت ولم أخش لو كان تربى
وذا العزم عزمي وذا القلب قلبي
فلا شكَّ كان النزال سجال
فإمَّا يعالُ وإمَّا أعال»
فحرَّكهم عاملٌ واحدُ
وهزمهم الجلل الوافدُ
فهبوا إليه بأصنافهم
وأجوابهم فوق أكتافهم
وأنياس صاح بمن لمحا
ينادي السراة بذاك الوحي
فهبَّ أغينور ذيفوب فارس
ومن خلفهم هبَّ كل القوامس
كما تبع الكبش سرب الشياه
تعاف المراعي لورد المياه
وأنياس بادي السرور رقب
كما هزَّ راعي الغنم الطرب٣٦
ومن حول ألقاثٍ اصطدموا
صدام الكواسر وازدحموا
وفوق الصدور دروعٌ تصلُّ
بضربٍ يحلُّ وطعنٍ يفلُّ
وأفتكهم كان إيذومنا
وأنياس كل لكلٍ دنا
كآريس في بأسه اندفقا
وأنياس عامله سبقا
فأبصر إيذومنٌ واحتفز
وفي الأرض راسُ السنان ارتكز
فلم تك بالطعنة الصادره
وإن أنفذتها يدٌ قادرة٣٧
وبالرمح إيذومنٌ رشقا
على وينماس فما زهقا
ففي الدرع غاص وشقَّ الحشا
فخر على الأرض مرتعشا
وإيذومنُ اجترَّ ذاك المثقف
وهمَّ يجرده فتوقفْ
فإن السهام عليه همت
وبالعي أعضاؤه وهنت
فلا قوةٌ لالتقاط الزِّجاج
ولا لفرارٍ بذاك العجاج٣٨
ولكن فيه بقية حزم
بها يدفع الحتف عنه ويصمي
وذيفوب أبصره يتقهقر
وقد كان حقدًا عليه تسعر٣٩
وزج فطاش السنان وطار
إلى عسقلاف ابن رب البدار
فحل بعاتقه فتلقى
براحته الأرض يخفق خفقا
ولم يدر آريس أن فتاه
بذا الملتقى فارقته الحياه
لقد كان فوق الألمب احتجب
تحيط به سحبٌ من ذهب
هنالك زفس بحكم القدر
على الخالدين القتال حظر
وحول القتيل الوغى صدعا
وذيفوب مغفرة انتزعا
ولكن كآريس مريون خف
على يده بالقناة قذف
فَمِنهُ التريكة في الحال فرَّت
وصلت على الأرض حيث استقرت
وهب إليه هبوب العقاب
ومن يده الرمح جر وآب
وفوليت بين يديه رفع
أخاه القتيل وفيه رجع
إلى حيث سائقه قد تخلَّفْ
بمركبةٍ دونها الخيل أوقف
فراحت لإليون فيه تطير
على ألمٍ ودمٍ وزفير
وسائرهم فوق ذاك الفجاج
يعجُّ بهم بالصدام العجاج
فآفارس بن قليطور راما
بأنياس فتكًا فألقى الحماما
فأنياس من فوره وثبا
برمحٍ بحلقومه نشبا
فمالت على الصدر هامته
وأهوى المجنُّ وخوذته
وأحدق فيه ظلام الرَّدى
فأخمد أنفاسه سرمدا
ورام ثوون فرارًا فأحدق
به أنطلوخ وكاهله شق
بطعنته ابتتَّ حبل الكتد
فمستلقيًا في التراب رقد٤٠
يمدُّ ذراعيه مستنجدا
وقاتله ينزع العددا
وينظر حوليه في صخبه
فكرَّ الطراود في طلبه
وفوق المجن العريض البديع
ظباتٌ حدادٌ وقرعٌ ذريع
وما مسَّه من ظباهم ضرر
ففوسيذ واقيه كل الخطر
وما ارتاع فانصاع بل ظل فيهم
يجيل مثقفه ويليهم
يفكر إما يزج وإما
يشق الصفوف بسيفٍ أصمَّا
وأما أداماس آسيُّسا
فأدرك ما بالخفا هجسا
فزجَّ برمحٍ إليه يطير
فغاص بقلب المجن الكبير
وفوسيذ يأبى منيَّته
فأوقف في الترس طعنته
وعود القناة وفيه انصدع
فشطرٌ إلى الأرض منه وقع
وشطرُ بمتن المجن التصق
حكى وتدًا باللهيب احترق
وأما أداماس فانقلبا
إلى قومه يتقي العطبا
ولكن مريون مذ كان أعدى
له بالسنان الشحيذ تصدَّى
فأنفذ حيث أريس يهيل
على الإنس موتًا أليمًا وبيل
بأسفل حالبه فسقط
إلى الأرض مصطفقًا وخبط٤١
كثورٍ على جبلٍ ربطا
بعنفٍ على رغمه ضغطا
وما دام هذا الوجيب وطال
سوى لحظاتٍ قصارٍ قلالْ
فما انتزع الرمح حتى انسدل
على مقلتيه ظلام الأجل
وهيلينسٌ صدغ ذيفير فل
بسيفٍ بإثراقةٍ قد صقلْ
أطار تريكتهُ تتدحرج
إلى قومه بالدماء تضرَّج
بها من ذويه خلا نفر
وأظلم في عينه البصر
فشق فؤاد منيلا الأسى
وأقبلَ يطلبُ هيلينسا
وهزَّ القناة وذاك حنى
حَنيَّتَهُ ومعًا طعنا٤٢
فهيلينسٌ سهمه نشبا
بلأمة أتريذ ثم نبا
وحلَّقَ وانطاد ثُمَّ وقع
كما الحب بين المذاري اندفع٤٣
وذو الزَّرع في بيدرٍ عاجلا
ذرى الحُمُّص اليبس والباقلي
فبين الرياح وجهد المذري
تدافُعُ حبٍ إلى الأرض يجري
ولكنَّ رمحَ منيلا استقر
بكفٍّ بها لا يزال الوترْ
فأُنْفِذ منها وفي القوس غاصا
فأمَّ ذويه يروم الخلاصا
فوافاهم النصل في يده
يقوضُ ركن تجلده
فأقبل فورًا أغينور يخرج
برقَّتِه النصل من حيث أولج
ومن صوف مقلاع تابعه حل
ضمادًا على ذلك الجرح أسبل٤٤
وفيسندر انقض متقدا
وللحتف ساقته أيدي الرَّدى
لديك منيلا رماه القدر
لتعمل فيه حسام الظفر
كلا البطلين مشى ورشق
ولكن رمح منيلا زهق
وفيسندرٌ رمحه وقعا
على الترس لكنَّه ارتدعا
بفولاذه الصلب ما صدرا
ومن كعب نصلته انكسرا
ولكن فيسندرًا طربا
لما خال من نيله الأربا
فسلَّ منيلا حسامًا ترصَّع
قتير لجينٍ بهي وأسرع
وذلك تحت المجن قبض
على فأسه وإليه ركض٤٥
بفولاذها بدعت عملا
وزيتون مقبضها صقلا
فما كان إلا أن اقتربا
وكل بشدته ضربا
فمن بيضة الخوذة الفأس حلَّتْ
على عذباتٍ بهنَّ تحلَّتْ
ولكن منيلًا بطعنته
أحلَّ السنان بجبهته
فأولج والعظم سحقًا سحق
ومن مقلتيه النجيع اندفق
وطيرتا بخضيب الدَّمِ
من الرأس حتى ثرى القدمِ
فقوس ظهرا وخرَّ صريعا
وقاتلُهُ الصَّدْرَ داس سريعا
وجرده من بهي السلاح
ومفتخرًا صاح أي صياح:
«ألا يا طراودةٌ يا لئام
ويا ظمئين لورد الصدام
ألا هكذا ستعافون قهرا
سفائننا اللَّاء يمخرن مخرا
علام إضافةُ عارٍ لعار
تحريتم يا كلاب الشنَّارِ
فهلا غنيتم عن الغدر نفسا
وهلَّا خشيتم إثارة زفسا
إلاه القرى من سيهدم هدما
دياركم إذ جنيتم ظلما
وزوجي لما رعتكم ضيوفا
فررتم بها والكنوز صنوفا
ألا ما اجتزأتم بما قد سبق
لتوروا السفين وتردوا الفرق
فلالا ومهما اضطرمتم غرورا
ستلقون تحت العجاج الثُّبورا
أيا زفس يا من بسامي النهى
على الإنس والجن طرًّا سما
بقدرتك استعصم المكره
فكيف تلي زمرًا غدره
جنوا وسيجنون طول الزَّمن
ولا يرتوون وغي وفتن
فرقص السرور وعذب المنام
وطيب الأغاني وكلُّ هيام
وكل سرورٍ وإن طمحا
له المرء فوق شرور الوحي
فلا بدَّ صاحبُهُ أن يملَّا
ولكن من العيث طروادة لا»٤٦
ولما أتم مقالته
وجرد ذلك شكته
وأدلى بها لرفيق بطل
وعاد فبرز بين الأُول
فهرفليون بن فيليمن
بدا للقواضب لا ينثني
وراء أبيه لإليون قدما
أتى ليوافي القضاء الملمَّا
فبادر أتريذ في طعنته
فلم ينفذ الرمح في جنته
ونحو ذويه التوى ينظر
حواليه خوف العدى تغدر
فما كاد ينصاع حتى تلقَّى
مثقف مريون يخرق حُقَّا
بأيمن فخذيه بالعظم مرَّا
وشق مثانته واستمرَّا
فأقعى ووجه التراب تروَّى
دمًا وارتمى دودةً تتلوَّى٤٧
فألفاه خلَّانه بالحضيض
بطرفٍ غضيض وروح تفيض
فحف به البفلغون ذووه
وبين أكفهم رفعوه
وألقوه من فوق مركبة
يهدهم فادح المحنة
لإليون ساروا أمامهم
أبوه مآقيه تنسجم
فإذ ذاك مقتله عظما
على نفس فاريس فاقتحما
لقد كان قبلا نزيلًا لديه
فشقَّ عظيم المصاب عليه
فزج وكان هناك فتى
بأوخينرٍ بينهم نُعتا
همامٌ بقورنشٍ ذو رياش
وأيقن بالحتف منذ استجاش
لأن أباه فليذ النبيل
مرارًا له قال قبل الرحيل:
«فإمَّا الحمام بداءٍ عضال
وإمَّا لدى الفلك يوم القتال»٤٨
فلم يرض داءً يؤرقٌهُ
وعذلًا وحزنًا يحرقُهُ
فجاء وفاريس فيه فتك
بزجٍ تلجلج تحت الحنك
فأودى على لهب الغمرات
وهام على أوجهِ الظلمات
هنا كاللَّهيب السُّرى اقتتلوا
وهكطور مقتلهم يجهل
ولم يدر أن يسار السَّفين
عثت بذويه أيادي المنون
وكاد العدى يحرزون الظفر
وفوسيذ فيهم يهيج الزُّمر
فإن مزعزع ركن الثرى
لنصرتهم بقواه انبرى٤٩
وهكطور مازال حيث اندفع
بهم أوَّلًا والصفاق اقتلع٥٠
هنالك حيث جرى حنقا
وفيلق دراعهم خرقا
وحيث سفين فروطسلاس
لقد قرنت بخلايا أياس
وقد جذبت لجدود البحار
تحاذي أداني ارتفاع الحصار
هناك الفوارس والخيل مالت
بجملتها للصدام فجالت
هنالك هكطور كالنار شبَّا
على فلكهم فتلقوه غضبى
وصدوه عنها وما ظفروا
بإجلائه فله صبروا
بصدرهم زعماؤهم
تخوض المنايا وتقتحم
هناك البيوتة جند أثينا
بصدر طلائعهم يصدرونا
منستس قائدهم وفداس
يليه وإستيخيس وبياس
ومسترسلو اللأم يونانهم
تصدَّر للطعن فتيانُهم٥١
إليهم قد انضم قرب الخلايا
بنو أفثس بلفيف السرايا
وميدون في قومهم آمر
وفوذرقس البطل القاهر
(فميدون كان فتًى رب باس
لويلوس من غير أُم أياس
بها هام ويلوس من غير حل
وميدون عن موطن الأهل أجلي
لفيلاقةٍ كان مذ قتلا
أخا عرس والده رحلا
فهاجت لذا إريفيس استعارا
فأخلى البلاد وعاف الديارا
وفوذرقس بن إفقلوس كانا
سليلًا لفيلاقسٍ عزَّ شانا)
ويصحبهم باسلو لقريا
ومبجيس قاد بني إيفيا
لإمرته كلهم ذعنا
وإدراقسٍ ولأمفينا
وأما الأياسان فاندفقا
معًا لحظةً قط ما افترقا
كثورين في مزرعٍ أسحمين
بنبرٍ لقد قرنا كفؤين
جرى محرث الأرض خلفهما
بعزمٍ تعادل بينهما
فيثلم ثلمًا وينثنيان
وصدراهما رقًا يرشحان٥٢
ولكن لدى ابن تلامون ثارت
عصابة بأسٍ حواليه دارت
لجنته تتناوب حملا
لتخفض من ثقلة العي حملا٥٣
وأما رجال ابن ويلس فما
جروا خلفه عندما هجما
فما لبني لقريا مهج
بصدر الكتائب كي يلجوا
فليس لهم خوذٌ سابحات
على صلب فولاذها العذبات
وليس لهم جننٌ من صفاح
أديرت ولا أسلٌ ورماح
ولكنهم أقبلوا للقتال
بتلك القسي وتلك النبال
وتلك المخاذف تحكم جدلًا
من الصوف تمطر في الحرب وبلا
بعدَّتهم تلك هم أبدا
نكال كتائب جيش العدى٥٤
فظل مجيلو السلاح الكثير
يصدون أعداءهم بالصدور
وهم خلفهم جحفلًا ثانيا
يظل وبالهم هاميا
فربك وجه العدو الألد
وأوهى عزيمته والجلد
وكاد الطرواد ينكفئونا
إلى حصن إليون مكتئبينا
ولكن فوليدماس سبق
فصاح بهكطور بين الفرق:
عتوت فلا ترعوي لمقال
أأنت سبوقٌ بكل مجال
أمذ كنت هكطور تسمو بعزمك
زعمت بأنك فقت بعلمك
ألم تر آل الخلود العظام
ينيلون هذا فخار الصدام
ويؤتون ذلك صوتًا رقيقا
وقيثارةً ثم رقصًا أنيقا
وذيَّاك زفس الحكيم يزين
يثاقب فكرٍ وعقلٍ رزين
فذيَّاك ذيَّاك خابرُ تقسه
وواقي الذمار ونافع جنسه٥٥
إذن خذ مقالي رأيًا صوابا
فحولك ثار القتال التهابا
فأصحابنا منذ عبر الحصار
هم بين معتزل لا يباري
ونزرٍ لجيش العدى صدرا
وحول السفائن قد ذعرا
فعدوا عقدن من الصيد محضر
لنبحث فيما به نتدبَّر
أبا لفلك فتكًا بزحفٍ وكرْ
لعلَّ إلاهًا بنيل الظفر
أم العود عنهن منقلبينا
ونحن بأرواحنا سالمونا
فإني أخشى إيثار الأعادي
لنكبة أمس بحر الجلاد
هنا قرب فلكهم رجل
من الفتك لا يرتوي بطل
وظني لا يلبثن طويلا
فيبرز للحرب سخطًا وبيلا»٥٦
تلقَّاه هكطور رأيًا مصيبا
وقال لفولدماس مجيبا:٥٧
«هنا أوقفنَّ خيار الجنود
إلى أن أكرَّ أنا وأعود
أثير بقومي نار الكفاح
وأرشدهم لسبيل الصلاح»
وهب بخوذته يستطير
كطودٍ من الثلج راح يسير٥٨
وخاض يصيح بصوتٍ جفا
صفوف الطراود والحلفا
فكلٌ أصاخ لوقع الندا
ومن حول فوليدماس عدا
وهكطور بين الطلائع هام
يسائل عن هيلنوس الهمام
وعن آدماس بن آسيُّسا
وآسيُّسٍ نجل هرطافسا
وذيفوب لكن أتيح القضا
فبعضٌ جريحٌ وبعضٌ قضى
فمن بطلٍ بطعان الأراغس
قتيلٍ أمام السفائن راكس
ومن باسلٍ لم تغله المنون
جريحٍ بأكناف تلك الحصون
فأبصر فاريسًا المجتبى
يسار الجناحين ملتهبا
يكر ويدفعهم للقتال
فعاجله بأمر مقال:
«ألا يا شقيًّا بديع الجمال
وعشَّاق خدَّاعَ غيد الدَّلال
ألا أين ذيفوب هيلينس
كذا أثريون الفتى الأكيس
كذا آدماس بن آسيُّسا
وآسيُّسٌ نجل هرطاقسا
أشماء إليون تم المصاب
بك اليوم حتمًا يحوق الخراب»
فقال كربٍ يفيض جمالا:
«أخي أالبريء اتهمت محالا
أفي مثل ذا اليوم بأسي أنسى
وأمي ما ولدتني نكسا
فمذ سرت بالقوم قرب العماره
فنحن هنا بطعانٍ وغاره
فمن رمت من دون هيلينسا
وذيفوب عنهم ورثنا الأسى
وذان جريحان قد رغما
وزفس من الحتف صانهما
بنا الآن سر حيث شئت فإنَّا
لك التابعون قراعًا وطعنا
وحقك لن نبرحن الرهانا
نكر إلى أن تكلَّ قوانا
فمهما عتا القرم لن يجدا
سبيلًا إلى البطش إن جهدا»٥٩
لذا لان هكطور ثم زحف
وفاريس حيث اصطكاك الحجف
وحيث الفتى قبريون ضرب
وفلقيس ثار وأرثيس هب
وفوليدماس وفلميس كرَّا
وفولفتٌ ذو الجلال استقرَّا
ونجلا هفتيون قد ثبتا
مروس وعسقانيوس الفتى
بأمسهما أقبلا بدلا
لرهطٍ لعسقانيا رحلا٦٠
وزفس إلى الحرب حثهما
وجمع السرى واحدًا هجما
كأن من الجو نوءًا شديد
به زفس يقذف طيَّ الرَّعيدْ
يعيث ببرٍّ ويهوي لبحر
ويدوي بصعقة هولٍ ويجري
فيركم موجًا ويزيد يما
تدافع مرتفعًا مدلهمَّا٦١
فذاك اندفاع لفيف السُّرى
على أثر الصيد مستبشرا
صفوفٌ تدفع دُهم صفوف
تألق فولاذها للحُتُوف
وهكطورهم عدُّ آريس في
زعامتهم باهر الشرف
مشى بمجنٍ جلود البقر
كسته وفولاذه قد بهرْ
ومن حول صدغيه خوذته
تهيجُ فتسطعُ جبهتُهُ
دنا جائلًا يسبر القوم سبرا
يرى هل يذلهم اليوم قهرا
فما راعهم هولُهُ وتقدَّم
أياس يحث الخطى وتكلم:
«هلم إلي وألق الوساوس
علام كذا رمت ذعر الأراغس
بلونا القتال بثبت الخطى
ولكنَّما صوت زفس سطا
توهمت أن تنهب الفلك نهبا
وفينا أكف تقيهنَّ ذبَّا
وتسبق مفتتحاتٍ حماكم
ومغتنماتٍ جزيل غناكم
ولم يبق ظني إلَّا اليسير
أهكطور حتى فرارا تطير
تلوذ بزفس وكل إله
ليجري خيلك جري البزاه
فتلقيك خوف العدو المفاجي
بإليون تحت غمام العجاج»
وما كاد يفرغ حتى تراءى
بقلب الفضا طائرٌ يتناءى
هو النسر من فوق هامته
يبشر خيرًا بحومته
فضج الأراغس للفأل بشرا
لما أنسوا فيه من خير بُشرى
ولكنَّ هكطور حالًا أجاب:
«أثرثارة زاغ غثَّ الخطاب٦٢
هرفت أياس بما قلته
وقد خاب ما أنت أمَّلْتَهْ
ألا ليت لي أن أقول بنفسي
بأني من ولد هيرا وزفس
ويا ليت لي باعتزازي يقينا
كعزة آفلُّنٍ وأثينا
كما أنني موقنٌ ببوار
لفيف الأخاءة في ذا النهار
فإما اغتررت وعرَّضت نفسك
لرمحي تؤتى على الرغم بؤسك
يمزق جلدك ماضي سناني
فتلقى لدى الفلك ميت الهوان
وفي شحمك الغض واللحم ترتع
نواهس إليون والطير تشبع»
ومن ثم هم وفيهم تصدر
وفي إثره زعماء المعسكر
بهم خلفه ارتفع الصخب
ومن خلفهم جحفلٌ لجب
وجيش الأخاءة بأسًا تدرَّع
بموقفه ظَلَّ لا يتزعزع
تربَّص يلقى عُلوج العدى
بنقعٍ لقلب الفضا صعدا
وعج الخميسين شقَّ الفضا
إلى حيث في الجو زفس أضا

هوامش

(١) الأفوملغة: قبيلة من السكيثيين، كان معظم غذائهم لبن الخيل، وكانت مواطنهم على رواية إسطرابون في شمالي أوروبا — تضاربت الأقوال في تحويل أنظار زفس عن مواقف القتال؛ فمن قائل: إنه إنما حوَّل نظره عن الطرواد إيذانًا بنصرة الإغريق، ومن قائل عكس هذا القول، على أننا لا نرى سبيلا لكل هذا التأويل، فإن الشاعر يمثل بزفس عظمة الخالق، فيجدر به إذن حينًا بعد حين أن ينظر إلى أمم أخرى، كما رأيناه فيما سلف شخص إلى الأثيوبيين، وغادر المتحاربين وشأنهم إذ لا يعسر على مدبر الأكوان أن يتطلع إلى أحوال الخلق في آن واحد على حد قول الشاعر:
ليس على الله بمستنكرٍ
أن يجمع العالم في واحدِ
(٢) في التوراة: اللهمَّ عند خروجك قدام شعبك، عند بروزك في القفرسلاه رجفت الأرض قطرت السماء من وجه إله سيناء من وجه الله إله إسرائيل (مز ٦٧).
(٣) إيغاس هذه كانت على رواية إسطرابون جزيرة وعرة، بين تينوس وصافس، وكان فيها هيكل لفوسيذ إلاه البحر — يتصور المطالع هيبة فوسيذ بارتجاج الغاب والجبال تحت قدميه، وسيزيد ذلك هيبةً ما سيأتي من وصفه ووصف مركبته، وهي تشق قلب العباب والحيتان تتواثب من حولها جذلا به إلى آخر ما سترى مما يغني عن البيان، وإن وثوبه من أعلى قمم سمثراقة إلى إيغاس بثلاث خطوات يذكرنا بما جاء عندنا من الأثر عن خطوات أبينا آدم؛ إذ كان يجتاز من عدن إلى سرنديب خطوة واحدة، أو كما قال الثعلبي في قصص الأنبياء: إن خطوته كانت مسير ثلاثة أيام.
(٤) الخيل الطيارة كثيرة في أساطير الأمم، وعندنا في أقاصيص ألف ليلة وليلة من غرائب سرعة الفرس السحري ما لا يقصر عن خيل إلاه البحار، بل ربما يربو عليه بأن فرسنا لا يشعر بحاجة الطعام والشراب، وليس له قيد يقيد به، ولعل صاحب ألف ليلة وليلة قرأ أو سمع شيئًا من إنشاد الإلياذة، فأفرغها لنا بقالب يشبه أن يكون جديدًا.
(٥) لا أرى الباعث على اتخاذ فوسيذ ذلك الطريق للحلول ما بين جيش الإغريق، إلا أن يكون الشاعر قصد أن يزين شعره بتلك التصورات البديعة التي ترتاح إليها نفس السامع، ولا سيما في عصر كعصره كان الناس فيه أقرب إلى التشوف، إلى تلك الغرائب، وإلا فما كان على فوسيذ إلا أن يخطو خطوة خامسة، فيحل حيث شاء.
(٦) إن في كلام فوسيذ هذا لدربةً ودهاءً، فإنه إذ كان يمثل بطلا من أبطال الإغريق لم يكن يجدر به إلا أن يأتي حكمة يمكن أن تؤثر عنه، ولا عبارة أقوى من عبارته لاستنهاض همم ذينك البطلين الباسلين؛ إذ أثبت لهما أن الجيش في كل أطرافه بمأمن من الفشل إلا في موقفهما لشدة بطش هكطور، وإذ كانا يعلمان أن هكطور مندفع بقوة علوية ألقى في صدريهما أمل تحيز بعض الآلهة إلى الإغريق، وأثبت قوله بالفعل بما أوحي إلى صغيرهما كما سترى.
(٧) تساءل البعض عن سبب تنبه أياس الصغير قبل أياس الكبير لتلك القوة الخارقة! فقال بعضهم وهو قولٌ حسن: إن أياس بن تيلامون بطل مقدام لا يهاب الموت، وهو كالبرج الثابت لا يتزعزع، ولهذا كان قليل التنبه لما سوى دفع الكرات، وخوض الغمرات حالة كون أياس الصغير خفيف الروح والجسد، فهو أولى بسبق النظر.
(٨) صمم، أي: فتك — من الحكمة في هذا الكلام أن نسب قائله وهن الجيش إلى سأم ألمّ بهم؛ لنزاع سبق بين أغاممنون وآخيل، لا لفتور في هممهم، فكأنه التمس لهم من أنفسهم عذرًا على ذلك الفتور، وفتح لهم مخرجًا يخرجون منه على أهون سبيل.
(٩) لا بأس بتفكهة القارئ برواية رواها فلوتارخوس وفيلوستراتوس وغيرهما، قالوا: إن غانكتور بن أمفيداماس ملك أوبيا أجرى بمأتم أبيه ألعابًا ومخاطرات كثيرة، كجاري عادتهم وخص الشعر بجائزة سنية، فدارت المشاعرة بين هوميروس وهسيودس، وأنشد كل منهما أبياتًا من نظمه، فكانت الغلبة بكل الإنشاد لهوميروس باتفاق الجمع، وكان فانيذس أخو الميت من جملة المحكمين، فأمر كلا من الشاعرين بإنشاد أجود شعره في ظنه، فأنشد هسيودس شيئًا من مطلع نشيده الثاني، وأنشد هوميروس الأبيات التالية، فآثر فانيذس كلام هسيودس السلمي على شعر هوميروس الحربي خلافًا لإجماع الحضور على تفضيل شعر هوميروس، وحكم بالجائزة لهسيودس، وعلى هذا انهال جميع الشراح على فانيذس باللوم والسباب، ولم يكن منهم إلا من أورد هذه الرواية، وإن تكن غير ثبتة مع ثبوت إقامة أسواقهم العكاظية هذه.
(١٠) لو قرأت هذين البيتين في الأصل اليوناني لظننت أنك تسمع هدير ذلك السيل المندفق، والصخر المتحدر فوقه ترتجف لانحداره الغاب، ولسمعت صوت اندفاعه الدفعة الأخيرة ووقوفه فجأة، وصدى صوته بعد ذلك الوقوف، ولعل لنا حظًّا طفيفًا من مشاكلة شعر الشاعر اليوناني، أما التشبيه بحد نفسه فلا يفوقه تشبيه في كل إلياذة هوميروس وغيرها، وأي وصف أليق بوصف هكطور المنقض كالشهاب الثاقب والمندفق كالسيل الزاغب، إلى أن تتألب جماهير الإغريق حول الأياسين فتصده دفعة واحدة، وتقف به وقوفًا لم يكن بالبال والخيال، ولقد أجهد شعراء الرومان والإفرنج قرائحهم بالتشبه بهوميروس بنظم هذا المعنى، ولكنهم لم يدركوا شأوه، ولم يصيبوا المرمى إصابته، ولم يحسن منهم أحد إحسان شيخ شعراء العرب القائل في معلقته بوصف جواده:
مكرٍّ مفَرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معًا
كجلمود صخرٍ حطه السيل من علِ
على أن امرأ القيس زاد في المعنى الإقبال والإدبار، وأغفل ارتجاف الغاب والوقوف.
(١١) الحصار: المعقل، وقول هكطور: إنهم رصوا كالحصار المتين شهادة أخرى بانتظام فيالقهم، وتشبيه الجيش المتألب بالبنيان المرصوص كثير في كلام العرب، وفي الحديث: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا».
(١٢) لقد عرَّف هوميروس هنا زفس مرة أخرى بزوجه، وقد أشرنا إلى ذلك في النشيد العاشر:
(١٣) ذكرنا في ما تقدم أن أبناء السفاح لم يكونوا على شيءٍ من الحِّطة التي نالتهم في ما ولي عهد هوميروس، وهنا شاهد على أن بنات السفاح لم يكنَّ دونهم في المنزلة، ولولا ذلك لحاذر هوميروس أن يقول: إن مديسكستا كانت زوجة لزعيم من كبار الجيش، ولا يستخرج من كلام هوميروس كيف كانت حالة المسافحات لذلك العهد، ولم يقل أكانت والدة مديسكستا خصيصة به، أم كانت كبغايا العرب اللواتي كن يبحن أنفسهن لكثيرين، فإذا ولدن اجتمع إليهنَّ أولئك الرجال، فكان المولود لمن ألحقته به منهم، كما فعلت أم عمرو بن العاص؛ إذ كانت بغية وكان قد لازمها العاص، وأبو لهب، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب، فألحقت المولود بالعاص؛ لأنه كان ينفق على بناتها «السيرة الحلبية ١: ٤٦».
(١٤) أقطور: لقب لفوسيذ إلاه البحر، ومعناه القائد والدليل.
(١٥) قال عمر بن كلثوم يشبه الرءوس المقطوعة بالكرات التي يدحرجها الغلمان الشداد في مطمئن من الأرض:
يدهدون الرءوس كما تدهدي
حزاورةٌ بأبطحها الكرينا
(١٦) حفيد فوسيذ، أي: أمفيماخس.
(١٧) الأسى: جمع آسي الأطباء، ويظهر من هذه العبارة أن أطباءهم كانوا كثيرين، أو كان لكل قبيلة منهم أطباء معلومون فضلًا عن ماخاوون وفوذالير، اللذين كانت لهما رئاسة الأطباء؛ لأنا رأينا فيما تقدم أن أخيل وفطرقل كان لهما أيضًا إلمام بفن الطب.
(١٨) من عادة الشاعر إذا أراد أن يبرز بأس بطل من أبطاله أن يأتي بمقدمة تمثل أخلاقه تمثيلًا، وهو هنا يريد أن يبرز لنا أيذوميناوس، وهو ملك ذو شأن قد وخط الشيب عارضه، ولكن فيه بقية بأس لمكافحة الأبطال، وإنا لنراه هنا قبل بداره إلى القتال، يعني بفتى جريح يؤاسيه ويداويه، ومما جاء في الأثر أنه لما اجتمعت الملوك للحرب طلب أيذوميناوس مشاطرة أغاممنون الزعامة الكبرى، ينبئنا ذلك بما كان له من علو المنزلة وبسطة الجاه، وهو على رفعة شأنه محب لجنده شفيق عليهم كما رأيت، وقد أنبأنا الشاعر بتلك الأخلاق دون أن يصرح بها.
(١٩) كقول أبي تمام:
حرامٌ على أرماحنا طعن مدبر
وتندقُّ قدمًا في الصدور صدورها
محرمة أعجاز خيلي على القنا
محللة لباتها ونحورها
(٢٠) كان من أعظم مفاخرهم أن يذخر الفارس منهم شيئًا كثيرًا من سلاح أعدائه، وكلما كثر سلبه عظم قدره بين ذويه، فلا تعجب بعد ذلك إذا رأيناهم في معمعة القتال يكبون على قتلاهم ليجردوا سلاحهم، وإن كان الأعداء محدقين بهم من كل صوب «راجع ن١».
(٢١) قال عنترة:
ما زلت ألقي صدور الخيل مندفقًا
بالطعن حتى يضجَّ السرج واللببُ
(٢٢) خبرك الأولى بمعنى عرفك.
(٢٣) صك، أي: جبن.
(٢٤) قال العلوي صاحب الزنج:
يلقى السيوف بنحره وبوجهه
ويقيم هامته مقام المغفر
ويقول للطرف اصطبر لشبا القنا
فعقرت وكن المجد إن لم تعقرِ
(٢٥) اقتل، أي: اختر.
(٢٦) قرونس هو زحل كما تقدم، والمراد بابنيه زفس وفوسيذ كما سترى.
(٢٧) مفاد ذلك: أن زفس كان يروم أن ينكل هكطور بالإغريق، حتى تضيق عليهم المسالك، فينهض أخيل لنصرتهم، ويكون فوزهم عن يده، فينال أخيل بذلك المقام الأرفع والفخر الأعظم.
(٢٨) إن إيثار البكر على سائر الأبناء من سنن الطبيعة التي استنت بها كل البشر، حتى لقد استن بها الآلهة أنفسهم، ولا سيما حيث ليس في الأسرة إلا موضع واحد للملك، فلا يصح أن يستأثر به سوى واحد، ولا يصلح أن يكون هذا الواحد إلا البكر لسبقه في الرشد، فإذا كان ذلك نظامًا مأثورًا فلا سبيل بعده إلى النزاع، وهذا هو الأصل في إيثار البكر على إخوته، ومن ثم سرت العادة إلى ذوي المقامات، ومنهم إلى سائر الناس، وسرت على مناهج شتى مرجعها جميعًا إلى إيثار البكر على إخوته حسًّا ومعنًى، وعلى هذا كان اليهود يخصون البكر ببركة أبيه، ويضاعفون سهمه في الميراث، أما العرب فالظاهر أنهم لم يزيدوا في حقوق البكورة شيئًا كثيرًا عما كان عندهم؛ لحرمة التقدم في السن من الرعاية المعنوية، ومع هذا فقد كان البكر يستأثر بما لا يحتمل القسمة من متروكات أبيه، ولكن الإسلام ساوى بين البنين جميعًا.
(٢٩) أي استعارة أجمل من هذه الاستعارة لفئتين متحاربتين متلاحمتين تلاحمًا لا يكاد يفرق فيه بين القاهر والمقهور، والملتوي والمنصور، فالحرب بينهما يتجاذبان أطرافها كحبل
بأطرافه كلهم وقعوا
فقطعهم وهو لا يقطعُ
وهي من استعارات هوميروس القليلة بإزاء تشابيهه، ولكنها ليست في شيءٍ دونهن قوة واستحكامًا.
(٣٠) لا يخفى ما في هذا الكلام من التهكم على خطيب ابنة فريام القتيل، ولقد عيب هوميروس على عبارات كهذه؛ إذ ليس من الإباء وشيم النفوس الكبيرة أن تتهكم على عدو ظفرت به، ولا سيما بعد موته، ولكنه قد يشفع لشاعرنا أنه إنما كان يصور أخلاق بني زمانه؛ حسنها وقبيحها، فهي عادة جرت لهم فأثبتها على علاتها.
(٣١) أي: خوفًا عليه من الأعداء أن يجردوه سلاحه ويخلوا بجيشه.
(٣٢) الوجيب: الخفقان — لقد آلى بعض الشراح على أنفسهم أن يفسروا كل كلمة من كلام هوميروس تفاسير طويلة عريضة، لم تمر على مخيلته، كاستنتاج بعضهم من كلامه هذا أنه كان أول عالم بعلم التشريح، واستنتاج البعض الآخر أنه لم يكن يعرف منه شيئًا، وشرَّح كلُّ لإثبات مدعاة قلب الإنسان، وأفاض بما يخرج كل الخروج عن هذا البحث، أَوَ لا يكفي ما في هذا الكلام على ظاهره من البلاغة حتى نتأول له التآويل التي ما أنزل الله بها من سلطان؟
(٣٣) من المعلوم أن فرجيليوس الشاعر الروماني بنى منظومته على مثال إلياذة هوميروس، وجعل بطلها آنياس، كما جعل هوميروس بطله الأعظم أخيل، وكأني بفرجيليوس وقف عند هذا البيت وهو يتلو الإلياذة، فكان له منه المحرك الأول لنظم الإنياذة «نسبة إلى أنياس»، لأنه كان متواترًا على ألسنة الناس خبر نبوءةٍ يزعمون أنها كانت شائعة في أيام حرب طروادة، تشير إلى أن فريام كان عالمًا أن آنياس وذريته سيحكمون بلاد الطرواد، وكلام هوميروس هنا يؤيد هذا القول، ولما كان من المأثور تاريخيًّا أن آنياس كان رأس الأسرة الرومانية بعد تلك الحرب لا يبعد أن تلك النبوءة لم تكن شائعة في أيام الحرب، بل تصورها القوم كأنها كانت عندما حققها التاريخ — ومهما يكن من صحة هذا الزعم، فلا عجب أن يكون فريام — وهذا اعتقاده — حذرًا من أنياس نازعًا إلى الغض من قدره وأن يكون أنياس حانقًا ساخطًا معتزلًا كما قال الشاعر: «في طرف الفيلق».
(٣٤) كثيرًا ما يطلق الشاعر لقب الطرواد عليهم وعلى حلفائهم، كما يطلق لقب الإخاءة والأراغس على جميع المحاصرين، وأنياس هذا بطلٌ مغوار، قال فيلوستراتوس: إنه لم يكن دون هكطور بشيءٍ إلَّا بشدة البأس، ولكنه كان يفوقه حكمةً ويساويه في كل ما سوى ذلك، وكان شاعرًا بما كان له في القدر بعد دك طروادة لا يعرف الخوف ولا تروعه الحروب. وإذا أحدق به خطر لا يتزعزع صوابه ولا يتغير، فكما أن هكطور كان ساعد الطرواد كان آنياس رأسهم يدبر أمورهم بدراية فوق تدبير هكطور باندفاعه وبأسه. وكلا البطلين متشابهان سنًا وشكلًا، وأنياس وإن كان أقل بأسًا وإقدامًا فقد كان أربط جأشًا وأثبت عزيمة.
(٣٥) قال لبيد يصف البقرة الوحشية دافعةً عن نفسها هجمات الرماة وكلابهم بما يشبه دفاع خرنوص هوميروس:
فَتَوَجْسَتْ رِزَّ الأنيسِ، فَرَاعَها
عَنْ ظَهْرِ غَيبٍ، والأنيسُ سَقَامُهَا
فَغَدَتْ، كِلا الفَرجَينِ تَحْسِبُ أَنّه
مَوْلى المَخَافَةِ، خَلْفُها وَأَمَامُهَا
حَتى إذا يَئِسَ الرَّّماةُ، وأَرْسَلُوا
غُضفًا دَوَاجِنَ، قَافِلًا أَعْصَامُهَا
فَلَحِقْنَ، واعْتَكَرَتْ لَها مَدَرِيّةٌ
كالسَّمْهَرِيّةِ حَدُّها وَتَمَامُهَا
لِتَذُودَهُنّ، وَأَيقَنَتْ إنْ لَمْ تَذُدْ
أَنْ قَدْ أَحَمَّ مَعَ الحُتُوفِ حِمَامُهَا
فتَقَصّدَتْ منها كَسابِ، فضرِّجتْ
بِدَمٍ، وَغُودِرَ في المَكَرّ سُخَامُهَا
قال: إن البقرة تسمعت صوت الرماة القادمين لصيدها فراعها ذلك، واستعدت للقاء، فلما عجز الرماة عنها بسهامهم أرسلوا عليها الكلاب، فرأت أنه لا بد من الدفاع، فقابلت تلك الكلاب بقرن كالرمح، وقتلت منها كلبتين تدعى إحداهما كساب، والأخرى سحام.
(٣٦) يعلم الرعاة أنه كلما كثر شرب الماشية كانت أقرب إلى الصحة، ولهذا يسرون إذا اندفعت للموارد بعد الاكتفاء من المراعي، وهذا الذي أشار إليه هوميروس بقوله: «هز راعي الغنم الطرب».
(٣٧) الصادرة: المصيبة النافذة.
(٣٨) الزِّجاج: جمع الزج، وهو السنان.
(٣٩) إذا أشار الشاعر إلى أمر مشهور في عصره، فقلما يفصله تفصيلًا كافيًا، مثال ذلك ما تقدم معنا في الكلام على آنياس، ومثله قوله هنا: إن ذيفوب تسعر حقدًا على أيذومين، ولم يذكر السبب لاشتهاره في زمانه، ذلك أنه كما قال أفستاثيوس: كان بين أيذومين وذيفوب رقابة غرام، وقد كان كل منهما طامعًا بهيلانة المسببة، وهذا القول يطابق كلام فرجيليوس؛ إذ ذكر أنه بعد موت فاريس زفَّت هيلانة إلى ذيفوب.
(٤٠) الكتد: ما بين الكاهل إلى الظهر.
(٤١) إن في هذا البيت في الأصل اليوناني من المشاكلة الشعرية ما يكاد يريك ذلك القتيل، وقد انقطعت أنفاسه ولعل في الترجمة العربية رائحة من ذلك.
(٤٢) الحنية: القوس، أي أن أحدهما طعن برمحه، والآخر أنفذ سهمًا.
(٤٣) انطاد: علا في الجو صعدًا.
(٤٤) ليس في الإلياذة ذكر للمقلاع أو المخذقة إلا مرتين في هذا النشيد، ولهذا ذهب بعض الشراح إلى أن الكلمة هنا تفيد معنى آخر، ولكن هذا الزعم غير ثبت؛ لأن المقلاع من أقدم آلات الحرب، وإن لم يكن كثير الاستعمال عندهم، فلأنه لم يكن له مجال واسع مع النبال والرماح، ولقد رأيناهم مع ذلك يقذفون الصخور عن قرب بأيديهم، فالحجر إذن كان من جملة أسلحتهم ولعلهم لم يكونوا أحكموا رمي المخذقة إحكام داود النبي قاتل جليات.
(٤٥) ما قيل عن المقلاع يصلح أن يقال هنا عن الفأس؛ لأنها كانت قليلة الاستعمال، تعتبر سلاحًا خشنًا لا يستخدمه الجنود المنتظمون بعد إتقانهم الطعن بالرماح والضرب بالسيوف والفأس كانت مع ذلك سلاح الأمازونة.
(٤٦) حيثما تكلم منيلاوس رأينا كلامه يشف عن حزازة نفس ليست في صدر غيره، ألا وهو الجريح الذي لم يصب بجرحه سواه، فإذا تشفَّى بعض التشفي من قتيل طريح أو عدو جريح فما ذلك ليروي غلة صدره، وهو ما زال بعيدًا عن نيل بغيته القصوى يتألم تألم صاحب الجميل، الذي نبذ أجره وبخس قدره، وقوبل بأشنع الغيلات، وكأنه يبرد غلالة لبِّه بملامة زفس؛ لاعتقاده أنه بقدرته استعصم المكرة الغدوة، ثم كأن ذلك الملام لا يغنيه فتيلًا، ولا يشفي له غليلًا، فيرجع إلى وصف عدوه بكلام وإن كان سهلًا بسيطًا فهو أمر ما وُصف به إنسان، وأشر ما دل على الغدر والنكران؛ إذ لا أدل على الظلم من ملالة المرء أمورًا طيبة حلالًا كالرقص والنوم والغناء والسرور، مع عدم ارتوائه من أمور أخرى متعبة مزعجة محرمة كالغيث والفساد — ويجمل بنا في هذا المقام أن ننبه إلى أن الرقص كان عندهم على نوعين؛ أحدهما: الرقص الممدوح للفرسان والفتيان، وهو الذي سنته لهم أثينا، والآخر: رقص الخلاعة والتهتك ولا شك أن منيلاوس أراد هنا النوع الأول.
(٤٧) ليس تلوّي هرفليون ألمًا، كتلوي صخر الخضري صبابةً بالمنازل؛ إذ يقول:
ألوَّى حيازيمي بهن صبابةً
كما تتطوَّى الحيةُ المتشرقُ
(٤٨) هنا فتًى كأخيل يقدم على الحرب مع علمه بأنه يقتل فيها، ولكن شتان ما هذا العلم وعلم أخيل، فأخيل أنبأته أمه بعمر مديد وعيش رغيد، إذا لبث في مكانه فآثر قصر الحياة مع المجد الأثيل والعناء على طولها مع العمر الطويل والرخاء، وأوخينور أنبأه أبوه بالموت بداء عضال إذا تقاعد عن الحرب، وكل فتى يؤثر الموت في ساحة النزال على الهلاك على فراش الأوجاع بداء عضال.
figure
فوسيذ أو فوسيذون.
(٤٩) مزعزع ركن الثرى: لقب من ألقاب فوسيذ إله البحار، كانوا يمثلونه بصور شتى، وهو في أكثرها إما ممتطٍ صهوة مركبة بهيئة صدفة تجرها جياد البحر، وبه تحيط الحور الحسان، وإما راكب دلفينه كما ترى في الرسم، والصولجان المثلث الأطراف ملازم له في كل صورة.
(٥٠) يريد صفاق الأبواب.
(٥١) اللأم الدروع — اليونان ملة هاجرت إلى أغيالة قبل حرب طروادة بنحو مئتي عام، ورجعت إلى بلادها في الأتيكة بعد تلك الحرب بمئتي عام، وبقي اسمهم عليهم وما هم إلا فرقة من تلك الأمم المتضافرة، ومن الغريب أن العرب أطلقوا اسمهم على جميع تلك الملل مع أن من تقدمهم من الرومان وغيرهم لم يغلبوا هذا التغليب.
(٥٢) أي: تشبيه أصدق لبطلين متساويين قوة وشدة من هذا التشبيه، وإن كان لا يشبه به في أيامنا فلم يكن هوميروس ليبالي برقة أبناء هذا الزمان.
(٥٣) الجنة: الترس، كما لا يخفى، وإذا كانت تلك العصابة تتناوب حمل تلك الجنة؛ لتخفض من ثقلتها حينًا بعد حين عن أياس، فلأن ثقلتها كانت شيئًا مذكورًا لأنها وأمثالها كانت تستر جميع الجسم، فلا بدع أن تكون ثقيلة مزعجة، ولا سيما في حين يكل فيه أشد السواعد لكثرة كره وقتاله.
(٥٤) نعلم من هذه الأبيات أن كل فرقة أتت بسلاحها الذي لها في أوطانها، فمنهم السيافة والرماحة، ومنهم النبال وحملة المخاذف، أي: المقاليع، ولا بدع أن يكون هؤلاء بلا دروع لقلة احتياجهم إلى ملاقاة الأعداء صدرًا لصدر.
(٥٥) أي: صاحب الفكر الثاقب والعقل الرزين، كانوا يعتقدون أن الآلهة تقسم على الناس الأخلاق، كما توزع عليهم الأرزاق، وفي مثل هذا المعنى يقول لبيد العامري:
فاقنع بما قسم المليك فإنما
قسم الخلائق بيننا علَّامها
وإذا الأمانة قسمت في معشرٍ
أوفى بأوفر حظنا قسامها
(٥٦) تلك إشارة إلى أخيل، يهيئ الشاعر المطالع لرؤية أخيل بأعظم مظاهر الهيبة والجلالة، هنالك يوفد الإغريق له الوفود لاسترضائه، وهنا أشد الأعداء بأسا كفوليداماس وهكطور يقفان عند ذكر اسمه، وعما قليل سنراهم منهزمين لرؤية فطرقل شاكًّا بسلاحه ظنًّا منهم أنه هو هو.
(٥٧) هنا في بعض النسخ بيت يقول: إن هكطور وثب إلى الأرض من مركبته. وإغفال هذا البيت من نسخ أخرى صواب؛ لأن سياق الكلام يدل على ترك الطرواد عجالهم خلف الحفير، فذل كالبيت إذن دخيل في الإلياذة.
(٥٨) لو أُخذ معنى الشطر الأخير على ظاهره لكان بلا ريب أبرد من الثلج المشبه به هكطور، ولكن المقصود منه لا بد أن يكون إشارة إلى بريق سلاحه أو ارتجاف قونس خوذته؛ إذ يلقبه هوميروس في مواضع كثيرة بهياج الخوذة.
(٥٩) ترى من كلام الأخوين ما بين أخلاقهما من الفرق، فهنالك هكطور العتي الصارم، يشدد المقال ويلوم حين لا محل للوم، وهنا فاريس أخوه يطلطف كجاري عادته ويؤانس مؤانسة الأخ الأصغر والعشيق الأمهر.
(٦٠) نعلم من هنا أنه كما كان البحر مفتوحًا للإغريق، تأتيهم به النجدة والذخيرة كان البر مفتوحًا للطرواد يتناوب في طريقه نجَّادهم.
(٦١) قال عنترة وأجاد بتشبيه الجيش بالبحر والنصال بأمواجه:
وفاض عليَّ بحرٌ من رجالٍ
بأمواج من السمر الدقاقِ
(٦٢) لم يكن ذلك النسر ليروع هكطور؛ لأنه على ما تقدم في النشيد السابق لم يكن كثير الاعتقاد بالطيرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤