النشيد الخامس عشر

الواقعة الخامسة وبسالة أياس

مُجْمَلهُ

تجاوزت الطرواد حد الخنادق
يصلمهم فيها حسام الأغارقِ

فاستيقظ زفس وعلم أن حيلة هيرا قد جازت عليه، فانهال عليها بالتقريع والتونيب، فادعت أن فوسيذ نكل بالطرواد منبعثًا بمجرد هوى نفسه، فأمرها باستدعاء إيريس وأفلون وإنفاذهما لاستنهاض الطرواد، فرجعت إلى السماء وأطالت على مسمع الآلهة شكواها من زفس، وأنبأت آريس بما كان من موت ابنه عسقلاف، فهاج آريس وماج فثبتطته آثينا، وطار أفلون وإيريس إلى إيذا عملًا بأمر زفس، فبعث بإيريس إلى حومة الوغى تتوعد فوسيذ، فاضطر إلى مغادرة ساحة القتال وعاد أفلون بهكطور مستعرًا بالغيظ والبسالة بعد أن بسط أفلون مجنه أمام الإغريق وهد قلوبهم بمنظره، فانقضت الطروادة على الإغريق وذبحوهم ذبحًا، فالتوى الإغريق إلى معسكرهم وتقدم هكطور بجيشه يصحبهم أفلون، فاجتازوا الخندق ووقع الرعب في قلوب الإغريق فتضرع نسطور إلى زفس فأرعد وأبرق، فتفاءل الطرواد بذلك، وما زال هكطور متقدمًا بفيلقه حتى بلغ السفن. وكان فطرقل يشهد كل هذا من مضرب أوريفيل فجدَّ مسرعًا إلى أخيل يستنهضه ليفزغ لقومه، وقام الإغريق فقاتلوا قتال الأسود على أنهم ما لبثوا أن اضطروا إلى الهزيمة فانثنى آياس بنزر من صحبه وثبت أمام الطرواد، واشتد القتال ثانيةً فخرت الأبطال من الفريقين، وحال آياس دون بلوغ الطرواد سفن قومه، وهمَّ هكطور بإحراق السفن وكان يبلغ منها مأربه لو لم يقف آياس فيصد الأبطال ويجندل الرجال.

لا تزال وقائع هذا النشيد في اليوم الثامن والعشرين.

النشيد الخامس عشر

تجاوزت الطرواد حد الخنادق
يصلمهم فيها حسام الأغارق
وحول العجال استوقفوا وتألفوا
برعدة مذعورٍ وصفرة خافق
ومن طور إيذا هبَّ زفس ودونه
صفيته هيرا فهاج ظنونه١
وألفت والإغريق أبصر عقبوا
عداهم وفوسيذ ببطن الفيالق
وأبصر هكطورًا به القوم أحدقا
ومن فيه سيَّال النجيع تدفقا
على الترب ملقى خامد الحس خافقًا
وما صرعته كف أضرع خافق٢
فهزت أبا الأرباب والناس رأفة
ولاحت لهيرا منه بالغيظ نظرة
وقال: «نعم هكطور مكرًا أَبَنْتَه
عن الحرب فارتاعوا لقرع المخافق
تحدثني نفسي أهيل عقوبتي
فتجنين قبل القوم عقبى الخديعة
أفاتك أن علقت قبل مهانةً
بلب رقيع الجو بين البوارق
وغلت بصلد القيد من عسجد القدم
يداك وسندانان في أخمص القدم
وآل العلى حوليك ذلوا وأشفقوا
وهل كان من يوليك نصرة شافق
ولو فعلوا ألقيت أيهم اجترا
من السدة العليا صريعًا إلى الثرى
وما كان هذا خافضًا غضبي لما
أنلت هرقلًا في السنين السَّوابق
به رمت سوءًا ثم أهببت شمألا
تقاذفه الأنواء فيها منكلا
وأحللته قوصًا ومنها أعدته
لأرغوس مَمنُوًّا بأدهى البوائق٣
ألا ادَّكري تلك الشئون وجانبي
مخاتلتي فيما ابتغيت بجانبي
برحت مقام الخلد تشجينني جوًى
فليس بمغنٍ عنك مكر المنافق»
أجابته هيرا تقشعر تظلمًا:
«يمينًا عليَّ الأرض تشهدُ والسما
وتحتهما إستكس يشهد يمُّه
يمين لنا لم يأتها غير صادق
ورأسك والعقد الذي بيننا ولم
يكن قسمي إلَّا إذا أثقل القسم٤
لئن سام فوسيذ الطراود ذلةً
فما كان مبعوثي ولا كان لاحقي
وما ساقه إلَّا فؤادٌ تفطرا
لجيش لدى أسطوله قد تذعرَّا٥
فمرني فأمضي بالبلاغ فينثني
لحيث قضى زفس مثير الصواعق»
فهش لها زفس وقال بمنتدى
بني الخلد لو رأيي ارتأيت مؤبَّدا
ففوسيذ مهم كان من نزعاته
لأذعن وانقاد انقياد الموافق
فإن كنت أخلصت المقال فبادري
لمؤتمر الأرباب ألقي أوامري
فتحضر إيريس الرشيقة عاجلًا
وفيبوس هيَّال النبال الذوالق
فأنفذ إيريسًا لفوسيذ مبلغًا
إلى يمِّه يأوي ويطرح الوغى
وفيبوس هكطورًا يسكن روعهُ
ويوليه حزمًا لاختراق الحزائق٦
فيكتسح الإغريق يكساهم إلى
أساطيل آخيل فيشفق للبلا
ويرسل فطرقلًا فيفتك فيهم
ويدمي وصمي في لباب الغرانق٧
ويجتاح سرفيدون قري ويقحم
ويبطش للأسوار يصمي ويهزم٨
فيطعنه هكطور طعنة قاتلٍ
فينهض آخيلٌ بهبَّة حانق
ويقتل هكطورًا ومن ثم تلبث
أخاءة في الطرواد تعثو وتعبث
إلى حين آثينا تتيح بحذقها
لهم فتح إليونٍ بحكمة حاذق
على أنَّني ما دام آخيل لم ينل
مناه فلن أولي الأغارقة الأمل
ولست براضٍ أن يقوم برفدهم
من الخلد قوَّامٌ بتلك المضايق
بذلك قد عاهدت ثيتيس عندما
ترامت ومسَّت ركبتي تظلما
لإعزاز آخيلٍ دعتني ترفقًا
فأومأت بالإيجاب إيماء رافق»٩
فلبته هيرا واستطارت بلحظة
إلى قمة الأولمب من طور إيذة
كفكرٍ يجوب الشرق والغرب طارقًا
بلادًا وفيه ذكر تلك المطارق١٠
وأمت سراة الخلد في منتداهم
بمربع زفسٍ في سمو علاهم
فمذ أبصروها جملةً نهضوا لها
وقارًا وحيَّوا بالكئوس الدَّوافق
أبت رشف هاتيك الكئوس وإنما
لكأس ثميس الحسن مالت تكرُّمًا١١
فتلك إليها سارعت مستقصةً:
«أرى جئتنا في غصة المتضايق
فلا غير زفسٍ راعك اليوم غاضبًا»
فقالت: «دعي عنك التحري جانبا
عرفت عتوًّا شأنه وصلابةً
فعودي إلى بسط الطعام الشوائق
وفي أدبة الأرباب مجدًا تصدَّري
أبثكم من خبره شرَّ مخبرِ
أمورٌ قضاها أزعجت كل آدبٍ
من الإنس والجن الكرام المعارق
ومن ثم حلت عرشها ولفيفهم
تألم من زفسٍ وزفس مخيفهم
فهشت ولكن عن جبينٍ مقطبٍ
على سود أجفانٍ بحمرِ الحمالق
وقالت وجمر الغيظ ميزها: «فوا
حماقتنا في كبح زفس وما نوى
وأحمق منه زعمنا خفض جأشه
بمأزق بأس أو بقول مماذق
ولكنه في عز عزلته ولا
يبالي ادعاءً أنه فوقنا علا
وأن له بالبطش فيكم سوابقًا
فذوقوا نكالًا عاديات اللواحق
فهذا أريسٌ قيم الحرب نابه
مصابٌ وما أدراكم ما أصابه
أعز البرايا عسقلاف سليله
صريعٌ وما أغناه ظهر اليلامق»١٢
فهب أريسٌ ثائر الجأش لاطما
بكفيه فخذيه يولول ناقما:
«أيا معشر الأولمب لا تلحونني
إذا ما لثأر ابني أثرت مرافقي
سأنزل لو صم الصواعق تنزل
وفوق خضيب الترب صعقًا أجندل»
وأوعز للهول العظيم ورعدةٍ
بإعداد هاتيك الخيول العتائق١٣
وشك ببرَّاق السلاح ولو مضى
لأرعد زفسٌ في الألمب وأومضا
ولكن أثينا من على عرشها انبرت
إليه تلافي هول تلك الطوارق
وهبَّت إلى تلك التريكة تقتلع
عن الرَّأس والجوب المحدَّب تنتزع
وعامله الجباذ من صلد كفه
أماطت تريه شر تلك المزالق:١٤
«تعست وما أغواك هل فاتك الندا
وأصممت واخترت الهلاك المؤبَّدا
أغادرك الحس المنبه والحيا
وأصدق نطقٍ قاله خير ناطق
ألم تفقه الأنباء هيرا بها أتت
ومنذ يسير زفس بالنفس غادرت
أشاقك أن تمضي وقد هدَّك البلا
وترجع موقوذ الخطوب النواعق
وتدفع زفسًا للألمب ممعضا
وعن جملة القومين أغضى وأعرضا
فيحطمنا حطمًا وما هو بيننا
إذا ما اقترفنا أو برئنا بفارق
فجأشك خَفِّض واكظمنَّ فكم بطل
من ابنك خيرٌ جندلته ظبا الأسل
وهل من سبيلٍ دافعٍ غصص الرَّدى
عن الخلق ما امتدَّت حياة الخلائق»١٥
فأجلس مرغومًا وهيرا بحقَّة
من المجلس انسابت لموقف عزلة
ونادت أفلونًا وإيريس خارجًا
وقالت: «ألاسيرا بحقة بارق
وزفسًا بأعلى إيذة الآن وافيا
يلقنكما الأمر الذي كان خافيا»
وعادت وحلت عرشها فتسابقا
لإيذة في جهد الكدود المسابق١٦
فما لبثا أن أدركاه بأنور
ذرى غرغروسٍ في غمامٍ معنبر
وما غيظ أن جاءاه إذ لبَّيا ندا
صفيَّته هيرا بإذعان واثق
فقال: «أإريس الرشيقة فاسبقي
لفوسيذ بالأنباء مني واصدقي
وقولي له عن موقف الحرب ينثني
لشورى العلى أو يمه المتلاصق
فإن لم يرد إلا اتباع مراده
ليفكر بما يوليه شر عناده
فليس بكفئي ما استطال فإن لي
مزية بكرٍ بالمكانة سابق١٧
ولكنه ما زال يطلب إسوتي
وإن قلق الأرباب طرًّا لخشيتي»
فلبت وطارت في قضاء بلاغه
مصفقةً مثل الرياح الصوافق
ومن طور إيذا كالعواصف هبت
وما لبثت أن ثغر إليون حلت
كما انهال غيث الثلج والبرد الذي
به الريح هبت من غيومٍ غوادق
وفوسيذ نادت: «يا محيط العوالم
أتيتك من زفسٍ بأنباء صارم
فيأمر أن تأبى المعامع لاحقًا
بشورى العلى أو لجك المتلاحق
فإن لم ترد إلا اتباع مرادكا
سيأتيك مقتصًّا لشر عنادكا
فإياك والعصيان إنَّ له سمت
مزيَّةَ بكرٍ بالمكانة سابق
وأنت على هذا المساواة تزعم
وإن أكبر الارباب طرًّا وأعظموا»
فأن أنين السأم ثم أجابها:
«لئن ساد خلقًا فهو فظ الخلائق
أيزعم إرغامي وقد ضمَّنا النسب
ثلاثة إخوان لنا إقرنوس أب١٨
ريا أمنا طرًّا وثالثنا غدا
اذيس ولي الموت بين الودائق١٩
ثلاثة أقسامٍ جميع العوالم
قسمنا اقتراعًا بالقداح الرَّواغم
فنال أذيسٌ ظلمةَ الموت قسمةً
وفزت ببحرٍ مزبدِ اليم دافق
وزفس له الأفلاك والغيم والسما
ليهنأ قرير العين فيها معظَّما
فإن ذرى الأولمب والأرض بيننا
مشاعٌ فلا ألوي له حبل عاتقي
فمهما سما بأسًا ومجدًا وسؤددا
فلست بمرتاعٍ ولا أبسط اليدا
ليطبق على أبنائه وبناته
يدينوا ويرتاحوا ارتياح المطابق»
أجابت: «وهل هذا المقال اقوله
له علنًا أو هل لديك بديله
تحامقت لكن ذو الحصافة يرعوي
وينبذ عنه خلَّة المتحامق
وللسن فضلٌ فالموارد سرمدا
حوارس بكرٍ أحرز السبق مولدًا»٢٠
فقال: «نعم بالحق فهت وخير ما
يكون رسولٌ عالمٌ بالحقائق
سأذعن كرهًا لاعج الغيظ مكمنا
لكبر إلاهٍ لم يكن فوق ما أنا
ولكنَّ لي قولًا بقلبي أقوله
فعيه إلى يوم انبتات العلائق:
على رغم فالاسٍ وهيرا وهرمس
ورغمي وهيفست الملي المرأَّس
إذا صان إليونًا وصد عداتها
سنفتق فتقًا ليس زفس براتق»
وأقلع يبغي لجَّة البحر فاستعر
لمنآه أبناء الأخاء على الأثر
وزفس لآفلون قال: «ألا إذن
لهكطور طِرْ في مثل لحظة رامق
ففوسيذ في بطن العباب قد التجا
ومن نار غيظي في حزازته نجا
وإلا لأهمت فاتكات أكفنا
بنا عرفا يهمي به كل عارق٢١
وكان اصطدامٌ بالعوالم يحدق
ويزعج أرباب الجحيم ويقلق
فيا نعم مسعاه له ولعزَّتي
فإنَّا كفينا فلق تلك الفلائق٢٢
وهج جوبي المزدان في حلق الذَّهب
فلا يبق في الإغريق الأمن ارتعب
وملْ نحو هكطورٍ فشدده يندفع
وراءهم للفلك خلف الخنادق
فإن تم هذا كله سوف أنظر
بأمرهم فيما عساي أقدر»
فلبَّى أفلون وطار كباشق
على الورق منقض بشم الشَّواهق
فهكطور ألفى جالسًا وقد انتعش
يحاط به والرشح جفَّ وما ارتعش
رعاية زفسٍ أسكنت زفراته
فقال أفلُّونٌ بلهجة وامق:
«علام ابن فريامٍ بجهد التقاعد
أمثلك من يوهيه جهد المجاهدِ
أبرَّح فيك الغمُّ قل» فأجابه
بصوتٍ خفيف الجأش خافي المناطق:
«أيا خير ربٍ جاءني الآن يسأل
فمن أنت قل هل كنت أمري تجهل
أياس وقد أقبلت أذبح قومه
بجلمودةٍ كالطود أقبل راشقي
فغيَّب إحساسي فضاق تنفسي
وأيقنت أني زائرٌ دار آذس»٢٣
فقال أفلُّون: «اطمإنَّ وطب وثق
فزفس إليك الآن بالبِشرِ سائقي
أنا فيبسٌ رب الحسام المذهب
فهل بعد ذا ترتاع من هول مضرب٢٤
فكم صنت إليونًا وصنتك فامتثل
وهبَّ لإعمال الطعان الموارقِ
أثر جملة الفرسان بالخيل يقبلوا
على موقف الأسطول والسيَّف يعملوا
أمامكم أجري أمهد سبلها
وأهزم أبطال الأخاء البطارق»
أفلون هاتيك العزائم مانح
وهكطور للإبلاء والحرب جانح
كمهرٍ عتيٍّ فاض مطعمه على
مرابطه يبتتها وهو جامح
ويضرب في قلب المفاوز طافحًا
إلى حيث وجه الأرض بالسيل طافح
يروض فيه إثر ما اعتاد نفسه
ويطرب أن تبدوا لديه الضحاضح٢٥
ويشمخ مختالًا بشائق حسنه
يطير وأعراف النَّواصي سوابحُ
وتجري به من نفسها خطواته
إلى حيث غصَّت بالحجور المسارح٢٦
كذا كان هكطورٌ بنصرة فيبس
يسوق سرى فرسانه ويكافح
كأن كلاب الصَّيد والصِّيد أقبلت
على سخلةٍ أو إيلٍ وهو سارح٢٧
وقاه ببطن الغاب جلمود صخرةٍ
وما خطَّ في الأقدار يصميه ذابح٢٨
فأقبل في إثر الصديد غضنفرٌ
فولَّوا ولم تغن النفوس الطوامح
كذا كانت الإغريق خلف عداتها
بسمرٍ وبيضٍ باتراتٍ تكاشح
فلما بدا هكطور في حومة الوغى
بهم قلقت رعبًا تجيش الجوانح
فهب ثواس الفضل من زانه النُّهى
ونطقٌ فصيحٌ بالحصافة راجح
ثواس الذي ما بالإتولة عده
إذا هو بالبتَّار أو هو رامحُ
وما فاقه بين السَّراة بلاغةً
سوى النَّزر إن فاضت تسيل القرائح
فصاح: «أجل ربَّاه لاح لناظري
عجابٌ فذا هكطور ذو البأس لائح
حسبنا أياس اجتاحه بصفاته
فها هو وافى تنقيه الجوائح٢٩
فثم إلاهٌ صانه لتروعنا
به مثلما قبلًا عرتنا المذابح
فهاكم سداد القول فأتمروا له:
لتمض إلى الفلك الجموع الجوامح
ونحن أولي العزم الصحيح نصده
عسى في عوالينا له اليوم كابح
فمهما عتا واشتد ظني يرعوي
وتثنيه عن خرق الجيوش الجوارح»
أصاخوا ولبُّوا واسجاش أولو العزم
يعبُّون أبطال المقاتلة البُهم
وحول أياس استبسلوا وإذومنٍ
وطفقير مريونٍ وميجيس ذي الحزمِ
بصد العدى آلوا وأعراض قومهم
مضت تتوارى فوق لفلكهم السُّحم٣٠
وأبناء طروادٍ تكثَّف جيشهم
رصيصًا وهكطورٌ يحثُّ خطى العظم
ومن دونه فيبوس وسط غمامةٍ
يعد مغازي ذلك الفيلق الدهم
وفي يده الجوب المروع الذي بدت
حرابيهُ من تحت هدَّابه الضخم٣١
هي الجنة الكبرى لزفس أعدها
هفست لإرعاب الخليقة والنقم
تكاثفت الإغريق يلتف جيشهم
وفي ملتقى الجيشين عجٌ إلى النجمِ
طعانٌ مضت عن كل ساعد أيهم
ووبل سهامٍ عن بطون الكلى يهمي٣٢
فمن نافذٍ في صدر كل مدججٍ
من المرد فهاقٍ سريَّتُهُ تصمي
ومن ناشبٍ في التُّرب قبل بلوغهم
وإن طار غرثانًا على العظم واللحم٣٣
تساوت مرامي الطعن والفتك ما استوت
بغير حراكٍ جنة النوب الدهم٣٤
ولما على الإغريق فيبوس هاجها
وصاح بهم صوتًا يهد قوى الجسم
تخلعت الأحشاء في مهجاتهم
وولَّوا يزيد الرعب وهمًا على وهمِ
كأنهم الأبقار والضأن أجفلت
يفاجئها ليثان في الدجن القتمِ
فتذهب أشتاتًا وفي كل مهمةٍ
تضلَّ ولا راعٍ يدافع أو يحمي
وفيبوس في أعقابهم دافع العدى
وفي كل قرمٍ قد أحلَّ قنا قرم
فهكطور إستيخيسا كرَّ قاتلا
زعيم البيوتيين مدَّرعي اللأم
وثنَّى بأركيسيل عد منستس
وإيناس وافاهم مدون الفتى يرمي
(مدون بن ويلوسٍ لغير حليلةٍ
بفيلاقةٍ قد كان في غربة السَّأم
بها ظلَّ في منفاهُ مذ راح قاتلًا
أخا إريفيسٍ زوج ويلوس ذي الحكم)
وثنَّى بياسوس بن إسفيل بوفلٍ
زعيم الأثينيين والبطل الشهم
وفوليدماس اجتاح ميكست صادرًا
بصدر السُّرى يرمي وقلب العدى يُدمي
وفوليت إخيوسًا وكرَّ أغينرٌ
فجندل إقلونيس الشيم الشم
وذيوخس ولَّى ففاريس زجَّه
بمزراقهِ في الكتف ينفذ في العظم
وأقبت الطرواد للسلب مغنمًا
وهزمن الإغريق في ذلك الهزم٣٥
فولَّوا فلولًا للحفير فسدهم
إلى السور والأعداء لاهون بالغنم
فصاح بهم هكطور صيحة حانقٍ:
«إلى الفلك فالأسلاب من رامها خصمي
ومن غادر الأسطول أوليته الردى
وأهليه والإخوان غادرت باليتم
فلا يضرمون النار من تحت جسمه
وللكلب يبقى مطعمًا شائق الطعم»٣٦
وساط جياد الخيل فاندفعت به
ليستنهض الهمَّات في العسكر الجم
وفي إثره كرَّت عجالهم على
هديدٍ نما للجو عزمهم ينمي
أمامهم فيبوس في خفَّة الطرف
يهدم حافات الحفير بلا عنف
برجليه هاتيك التلال تساقطت
إلى جوفه حتى استوى الجوف بالجرف
سبيل لهم إن يقذف السهم نابلٌ
فما اجتازه ذيَّالك السهم بالقدف٣٧
عليه مضى يجري صفوفًا خميسهم
وبالجوب فيبوسٌ أمامهم يكفي
فقوض ذاك السور لا متكلفًا
كطفلٍ بجرف البحر يلهو بلا إلف
بنى لاعبًا بالرَّمل تلَّا وسامهُ
برجليه أو كفَّيه خسفًا على خسف٣٨
كذا يا أفلون نقضت معاقلًا
بتشييدها كان العنا فائق الوصف
وسقت بني أرغوس للفلك حيثما
دنوا فاستجاشوا ثم صفًّا غلى صف
وصاحوا يمدون الأكف تضرعًا
إلى زمر الأرباب للرفق واللطف
ونسطور قوَّام الأخاءة رافعًا
ذراعيه للزرقاء صاح على لهف:
«لئن كانت الإغريق قبل توسَّلت
إليك أيا زفس بعودٍ لدى الزَّحف
وسوق سمان الضأن والثور أحرقت
وأومأت بالإيجاب إيماءك العرفي
فلا تنس يا مولى الألمب وصنهم
من الحتف واصرف عنهم فادح الصرف»
فأُسمع زفسٌ صوت نسطور ضارعًا
وأسمع رعدًا في الفضا داوي القصف
وأما بنو الطرواد فاشتدَّ عزمهم
وكرُّوا بجيشٍ ثائر الجأش ملتف
وجازوا على الخيل الحصار بنعرةٍ
لفلك العدى فاصطكت الكف بالكف
كأنهم الأمواج والنوء ساقها
فتعلو صفاح الفلك تعبث بالسجف
فمن حاذفٍ فوق العجال بعاملٍ
تذلَّق حدَّاه وأنفذ بالحذف
ومن قاذف بالفلك في أسل ثوت
هناك لحرب البحر تنذر بالحتف
ظل فطرقل أورفيل يجاري
بينما النقع ثائرٌ بالحصار٣٩
برقيق الحديث يلهيه حينًا
ويداوي كلومه ويداري
إنما عندما رأى الطروادا
عبروا السور بالعجال طرادا
وجيوش الإغريق ولَّت شتاتًا
بصياحٍ وذلةٍ وانكسار
صاح بالويل لاطمًا فخذيه
بدموعٍ تنهال من عينيه:
«أورفيلٌ لا بد لي أنثني عنـ
ـك وإن كنت لي بفرط اضطرار
بك فليعن من صحابك غيري
وأنا ذاهبٌ بخفَّةِ سيري
جل وقع البلا فعلَّ أخيلًا
إن أهجه يهج لدفع الشَّنار
رُبَّ رَبٍ أنالني منه سمعا
فكلام الصَّديق يحسن وقعا»
ثم جدَّ المسير يبغيه والإغـ
ـريق ظلَّت بفلكها بانحصار
فخميس العدى وإن قلَّ عدَّا
ما استطاعوا إليه دفعًا وصدَّا
وهو لم يلق للسَّفين وللخيـ
ـمِ سبيلًا بكشفةٍ وانتصار
بل تساوت بهم مرامي الكفاح
كاستواءِ الخطوط في الألواحِ
سطرتها كفٌ أنارت أثينا
بذكاء لوشرِ فلك البحار٤٠
هكذا حول ذلك الأسطول
قد تساوى اشتداد تلك القيول
وترامى هكطور قرب غرابٍ
وأياسٌ رمى الأسودِ الضَّواري٤١
لا أياسٌ يطيق دفع كمي
كرَّ يسطو بعون ربٍّ قوي
لا وهكطور لم يكن للخلايا
من سبيلٍ يلقى لدس النَّار
وقليطور هم في مقباس
فتلقَّى في الصَّدر رمح أياس
خرَّ تحت الصَّليل والنار فرَّت
من يديه والنقع في الترب جاري
فتلظى هكطور لمَّا رآه
ودعا كالرَّعيد يذوي نداه:٤٢
«آل طرواد يا بني ليقيا يا
دردنيين دافعي الأخطار
إيه ضاق المجال كرُّوا جميعا
فابن إقليطيوس خرَّ صريعا
بادروا لا تجردنه الأعادي
واحملوه فاليوم يوم البدار»
ورمى طاعنًا أياس فخابا
إنما الرمح لقرفون أصابا
لأياسٍ قد كان خيرَ رفيقٍ
ونزيلٍ له برحبِ الدَّارِ
من قثيرا مهاجرًا جاء قبلا
مذ لقيلٍ بها تعمَّدَ قتلا
لم يزل في ولاء آياس حتَّى
صرعته نوافذ الأقدار
خر مستلقيًا أمام الغراب
يتلوَّى تمرُّغًا في التراب
وظباة القناة هامته شـ
ـجَّت وآياس صاح في طفقار:
«أي قرمٍ أخي أجل أي قرم
جاء هكطور بيننا الآن يصمي
ابن نسطورَ من أقام لدينا
مثل آل القربى عزيز المنار٤٣
أين قوس فيبوس قبل حباكا
أين تلك النبال تنمي الهلاكا»
هم طفقير بالحنيَّة والجعـ
ـبة يهمي السهام كالأمطارِ
ورمى ينفذ القضا المقدورا
بقليطوسٍ بن فيسينورا
كان بين الجيوش ساق مغيرًا
جرد فوليدماسٍ المغوار
حثَّها حيث ثارَ يعلو العجاج
وجيوش الطرواد هاجوا وماجوا
طامعًا منهم ومن لدن هكطو
ر بكسب الثنا ونيل الفخار
خرقَ السهم جيده يرديه
ورمته المنون رغم ذويه
خرَّ للأرض والجيادُ أغارت
جامحاتٍ بين العجال الجواري
جدَّ يجري فوليدماس سريعًا
ولأستينووس ألقى الصُّروعا
قال: «لا تنأيا ابن إفروطيا عـ
ـني فإني ماضٍ أثير أواري»
ثم ألقى طفقير في القوس نبلا
يبتغي في نفس هكطور قتلا
لو رماه وأنفذ السهم فيه
لانتهت حربهم بذاك النهار
إنما زفس وهو بالغيب أدرى
لم يشأ أن ينال طفقير نصرا
كان طيَّ الخفاء هكطور يرعى
فوقاه شرَّ المنون الطواري
هم طفقير راميًا فتبتت
وتر القوس وهي للأرض فرَّت
ومضى السهم طائشًا فتلظَّى
مستشيطًا وصاح بالإدبار:
«ثم رب أياس يأبى القلاحا
تلك قوسٌ أوترتها ذا الصبَّاحا
كم بها رمت خرق صدر عدوٍ
وأراها مفتلة الأوتار»
قال: «دعها فإن ربًّا حسودًا
نبلها افتلَّ راغبًا أن تبيدا
خلها واحتمل مجنًا ورمحًا
ثم كُرَّنَّ بالقنا الخطَّار
ناد في القوم يثبتوا في الجهاد
ويذودوا لكبح جيش الأعادي
لا ينيلوهم السفائن إلا
بعد قرع القنا وفتك الشفار»
كر طفقير للخيام فألقى
قوسه والسلاح فورًا تنقى
خوذةً أرسلت لها عذباتٌ
سابحاتٌ يفرعها الطيَّار
ومجنًّا ألقى على عاتقيه
وجلود الأبقار دارت عليه
وقناةً شحيذة الحد وانقـ
ـض يجاري أياس في المضمار
فرآه هكطور ألقى النبالا
فعلا صوته الجهور وقالا:
«آل طرواد يا بني ليقيا يا
دردنيين سادة الأمصار
حول هاتي السفائن الحدباء
لا تكلُّوا فاليوم يوم البلاء
هاكم النَّابِلَ النَّبيلَ وزفسٌ
كاده أحدقت به أبصاري
لم يكن في الأنام أمرًا عسيرا
أن يقولوا من زفس وإلى نصيرا٤٤
ففريقٌ لذروة المجد يرقى
وفريقٌ يشقى بذل البوارِ
صاننا اليوم والعدى سام قهرا
كثفوا للعمارة الجيش كرَّا
وليموتن بالجهاد سعيدًا
بطل الذود عن عزيز الذمار٤٥
فإذا أقلع الأراغس ذلا
في سفينٍ بها يؤمُّون أهلا
ظلَّ في الأمن زوجُهُ وبنوهُ
وبنوهم في سالمات الديار»
فاستجاشت بهم جميع النفوس
وأياسٌ نادى بوجهٍ عبوس:
«أي عارٍ قد أصبح اليوم فينا
محدقًا يا أراغسًا أيُّ عارِ
لا مناصٌ لنا فإمَّا المنايا
لا وإمَّا بالذود صون الخلايا٤٦
أفإن نالهنَّ هكطور خلتم
عودةً للديار فوق القفار
أفما جاءكم دويُّ نداه
وبحرق السفين يغري سراه
ليس للرَّقصِ قام يدعوهم بل
لاشتباك القناة بالبتَّارِ
ما لنا غير أن نكرُّ سريعًا
نرد الحتف أو نعيش جميعا
ذاك خيرٌ من جهد حربٍ سجالٍ
أجهدتنا بدار إيه بدار
فالعدى دوننا بقرع البئوس»
فاستجاشوا لدفع تلك البئوس٤٧
وتلاقوا وصوت هكطور يدوي
وأياسٍ كالضيغم الزءار
فرمى ذاك إسخذيُّوسَ مولى
فوقيا والحمام في الحال أولى
ورمى ذا لورذماس بن أنطيـ
ـنور رأس المشاة زاهي الشعار
والسري الفتى أطوس القليني
فولداماسُ ساقهُ للمنون
قيل إيفيةٍ وإلف محبيسٍ
فمحيسُ انثنى لأخذ الثَّارِ
ورماه لكنَّما الطروادي
صد والرمح غل بين الأعادي
قد وقاه فيبوس لكن مضى الرُّمـ
ـحُ إلى صدر فارسٍ جبَّار
ذاك إقرسمسٌ فخرَّ قتيلا
ومجيس احتاز السلاح الصقيلا
فدهاه ذو البأس ذو لفس لمفس
من بني لومذونٍ القهَّار
زجَّه طاعنًا بجوبٍ كبير
صدَّ عن درعه بصلد القتير
لأمةٌ تلك قبل صانت أباه
فيليوسًا في سالف الأعصارِ
تحفةٌ من أُفيت كانت سنيَّه
نالها فيليوس منه هديَّهْ
حين وافى إفيرة حيث يجري
سيلييس المغبوط في الأنهار
ومجيس انثنى وزج فمزَّق
قونس المغفر الذي يتألَّق
دفع الرمح للثرى عذباتٍ
قد كساها البرفير ثوب احمرار
وذلفسٌ ما زال بالفوز يطمع
ومنيلًا لرفد ميجيس يهرع
ما رآه ذلفس حين أتاه
وهو عادٍ عن عينه متواري
أنفذ الرمح فيه ظهرًا لصدر
فعلى الأرض خرَّ والنَّقعُ يجري
والمليكان ثمَّ ينتزعان الـ
ـعدد الشَّائقاتِ للأنظار
صاح هكطور في بني لومذونا
سيَّما ميلنيف هيقيطوونا
فارسٌ من فرقوط قبل الوغى قد
كان يرعى بها سوام الصوار٤٨
ثم لمَّا الأسطول حلَّ البلادا
فلإليون ثائرَ الجأشِ عادا
ولفريام كان ضيفًا كريمًا
ودَّه ودَّ ولده الأظهار
قال يرميه بالملام العنيف:
«أثوى الجبن في حشا ميلنيف
أفما مقتل ابن عمك يوري
في حشاك اللهيف ذاكي الشرار
أفما خلتهم تراموا عليه
لانتزاع السلاح من عاتقيه
فاتبعني لم يبق في الحرب بدٌّ
من وقوع الغرار فوق الغرار٤٩
نتبارى ليهلكوا خاسئينا
أو يدكوا بموتنا إليونا»
خفَّ يجري وخلفَهُ ميلنيفٌ
كإلاهٍ يجري على الآثارِ
صاح آياس في جيوش الأخاء:
«صحب صبرًا تدرَّعوا بالحياء
وليقم بعضكم بحرمة بعضٍ
وتوالوا في فادح الأدعار٥٠
متقي العار ذو الحياء يقينا
ظلَّ أدنى إلى النجاة أمينا
أنما لا فخار يبقى ولا أمـ
ـن لنكس يوم الوغى فرَّار»٥١
فبهم ثارت الخميَّةُ طرَّا
بفؤادٍ للذَّود يلهب جمرا
وأقاموا حول السَّفائن بالفو
لاذ حصنًا مؤلَّقَ الأنوارِ
إنما زفس دافع الطُّروادِ
ومنيلاسُ أنطلوخ يُنادي:
«أبغض الشباب والجري والبأ
س يجاريك بيننا من مجاري
أفما رمت في الطرواد قرما
بظباة القناة يرمى فيصمَى»
هاجهُ وانثنى فبرَّزَ كرًّا
أنطلوخٌ كالضَّيغم الهصَّارِ
مشرئبًا جرى وقد زجَّ زجًّا
وخميس العداةِ قد عجَّ عجَّا
فالتووا والقناة قد أنشبت في
ميلنيفَ المنتقض كالتَّيَّارِ
خرقت ثديهُ فخرَّ قتيلا
وعليه السلاح صلَّ صليلا
وابن نسطور همَّ ينتزع الشـ
ـكَّةَ لا ينثني لوقع الحرارِ
كالسَّلوقي ظبيةً رامَ غنما
وهي عند الكناس بالسَّهمِ ترمى
فرآه هكطورٌ فانقضَّ يجري
لا يُبالي بالعسكر الجرَّارِ
فلمرآة أنطلوخُ ارتاعا
ثم من ساحة القتال انصاعا
لم يقف لانقضاء كرَّتهِ بل
فرَّ من وجهه حثيث الفرار
مثلَ وحشٍ سطا بقلب المراعي
يقتل الكلب أو يبيد الرَّاعي
ثم ينصاع قبل أن تقبل النَّا
س عليه بفزعةٍ وانتهارِ
فتقفَّوا آثاره بالصَّديد
وبوبل من النبال شديدِ
وهو لا ينثني وما زال حتَّى
قرَّ في صحبة أمين القرار
زفس هذي أقداره المنويَّه
نافذاتٌ أحكامها مرعية٥٢
فترامى الطرواد للفلك مثل الـ
أسد تنقضُّ في طلاب الرَّميَّهْ
نالهم نصره وذلُّ عداهم
فرماهم بعاديات الرزيَّه
لابن فريام أحرز المجد حتَّى
يضْرِمَ النَّارَ في السَّفِينِ الرَّسيَّهْ
كلُّ هذا استجابةً لدعاءٍ
أنفذته ثيتيس أسُّ البليَّه
فقضى زفسُ بالنَوائب حتَّى
يبصر النار ألهبتْ بخليَّه
فيزيح الطرواد عنها ويولي
قومَ أرغوسَ نصرةً علويَّه
فبهذا قضى وهكطور أغرى
للأساطيل واريًا بالحميَّه
كرَّ يحكي آريس ذا الرمح أو نا
رًا بغابٍ شبَّت بشمٍّ عليه
فمُهُ مزبدٌ وعيناه نارٌ
ثارتا من أجفانه الوحشيَّه
وحوالي صدغيه هاجت هياجًا
خوذةٌ بالبريق أجَّتْ بهيَّه
من عباب الرَّقيع زفس وقاه
ورعاه من دون كل البريَّه
إنما يومُهُ دنا وأثينا
بابن فيلا أدنت إليه المنيَّة
كرَّ حيث الصفوف رصَّت كثافًا
وتلالتْ مناصل السَّمهريَّه٥٣
وبغى خرقهم فصدَّته جندٌ
كالبناء المرصوص صفَّت سويه
لبثوا لا يروعهم منه كرٌ
لا ولا همَّةٌ وكفٌ قويَّه
كصفاةٍ بالثغْرِ ليست تُبالي
برياحٍ وموجةٍ مائيَّهْ٥٤
لاهبًا هب ناحيًا كل نحوٍ
بسراهم كجمرة محميَّه
ودهاهم كما دها الموج في اليـ
ـمِّ غرابًا بهبة نويه٥٥
بشراعٍ بالريح منتفخاتٍ
وصفاحٍ بغثيه مغشيَّه٥٦
فتلوح المنون منبعثاتٍ
دانياتٍ لأعين النُّوتيَّه
هكذا كانت الأغارق تنتا
بُ حشاها شجيَّةٌ وشجيَّه
ثار فيهم كالليث بين صوارٍ
راتعٍ في جدود هورٍ عذيَّه٥٧
لا تطيق الرُّعاة ذودًا فيجري
بينه وهي رعدة ضاويَّهْ٥٨
يقنص الليث منه ثورا وباقيـ
ـه فلولًا يفرُّ في البريه
هكذا فرَّت الأراغس منه
بل ومن زفس ذي القضايا الخفيه
فل هكطور منهم فارسًا فـ
ـذا فولوا بأضلعٍ محنيه
فيرفيت الذي أتى من مكينا
وابن قفريس الذميم الطويه
لهرقلٍ من لدن أفرستس الملـ
ـك مضى بالرسائل الوديه
لم يكن فيرفيت مثل أبيه
بل حميد الخلال ذو ألمعيَّه
فاق بين الأقران عَدوًا بأسًا
ثم حلَّته حكمةٌ ورويه
فلهذا قد نال هكطور في مقـ
ـتله المجد في السرى الدردنيه
همَّ في جنةٍ إلى قدميه
قد تثنَّت أهدابها المثنيَّه
حصنهُ في الكفاح كانت وصدَّت
عنه تحت القراع كل أذيَّه
ملفتًا كان فالتوى بخطاه
عاثرًا في أطرافها الملويَّه
خر مستلقيًا فصلَّت عليه
خوذةٌ كللته فولاذيه
خفَّ هكطور منقذًا رمحه في
صدره بين جند كل السريه
فتلظَّوا أسًى ولكنَّه لم
يبق فيهم لرفده من بقيه
لجأوا في صفاح أوَّل صفٍ
من خلايا العمارة الأرغسيه
والعدى في الأعقاب تضرب حتى
حصروهم حول الخيام الخليَّه
وقفوا ثم عصبةً أوقفتهم
خشية العار والمنايا الدنيه
وتوالوا بعضٌ يحرض بعضًا
بعجيج للجو أعلى دويَّه
وملاذ الكماة نسطور يستحـ
ـلف كلا بالأهل والعصبيه:
«صحب لا تشغلوا بالكم ألسن الخلـ
ـق وذودوا ذود الرجال الأبيَّه
واذكروا الولد والنساء وملكًا
لكم في تلك الديار القصيَّه
واذكروا أهلكم أماتوا بادوا
أم هم في قيد الحياة الرَّضيه٥٩
لا تزيدوا الشكوى بحق عيال
لبثت خلفكم ثبت الشكيه»
فاسجاشت نفوسهم وأثينا
قشعت عنهم الغيوم المليه
سحب صبها ركامًا عليهم
رب هولٍ دجنةً ليليَّه
بدَّدتها قفاض في السهل والأسـ
ـطول نورا أشعةٍ شمسيه
فلهم لاح ثائر الجأش هكطو
ر بجندٍ تكر طرواديه
ولهم لاح من توانى عن الحر
ب ومن خاضها بصادق نيه
وأياسٌ بعزة النفس يأبى
عزلة في المواقف العسكريه
غادر الجند ثم حثَّ خُطَاه
في سُطوح السفائن الصَّدريه
رمحه طوله اثنتان وعشرو
ن ذراعًا للكرَّة البحريه
نافذ النصل محكم الوصل زَاهٍ
بحرابيه الحسان الزَّهيه
كر يعدو كفارسٍ كر يعلو
أربعًا من عتاق جردٍ سويَّه٦٠
ضمها ثم حثها في طريق الـ
ـخلق في السهل حثَّةً سلهبيه
وضواحي البلاد غصت رجالًا
ونساءً تجل تلك المزيه
وهو في جريها بغير عناءٍ
واثبٌ من مطيةٍ لمطيه٦١
هكذا طار بالسفين أياسٌ
داوي الصوت للذرى الجويه
يستثير النفوس للفتك ذودًا
عن أساطيلهم بنفسٍ جريه
وابن فريام رامح مثل نسرٍ
شق أسراب طير برٍ شقيه
يدهم الرهو والغرانيق والبـ
ـط بأكناف جدةٍ نهريه
هكذا عن سراه برز هكطو
ر يؤم السفائن الدانويه
زفس أغراه دافعًا مستثيرًا
خلفه سائر الجنود الكفيه
فتلاقوا كأنهم ما تلاقوا
قبل ما بين عاملٍ وحنيه
لو رأيت النفوس كيف تلظَّت
قلت ذي كرةٌ لهم أوليه
والأماني هجن مختلفاتٍ
ففريقٌ يرى المنون جليه
وفريقٌ يرى الأعادي اضمحلت
والخلايا براسخ الأمنيه
وابن فريام كالشهاب انبرى يقـ
ـبض أطراف مركبٍ مرخيَّه
مركبٌ فيه جاء أفرطسيلا
س بلا عودةٍ عليه هنيه٦٢
حوله استحكم التلاحم لا تر
ويهم الشهب والحنايا الرويه
بل تراموا بمديةٍ وسنانٍ
رق حدَّه والسيوف الوضيه
كم حسامٍ أهوى بكف كمي
أو بكتف الفوارس المرميه
والثرى اسودَّ وابن فريام قد قا
م على الفلك صائحًا بالبقيه:
«دونكم ناركم وكروا كثافًا
إنما اليوم زفس يرعى الرعيه
إنما اليوم يوم قشع الرزايا
واحتلال السفائن المحميَّه
أوسعتنا مذ أوفدوها خطوبًا
رغم آل الميامن العليه
حال بيني وبينها بجنودي
جبن هيَّبة الشيوخ الغبيه
إن يكن زفس قبل أعمى حجانا
فله اليوم بالهجوم مشيه»٦٣
فاستشاطوا وأقبلوا وأياسٌ
حوله الرَّمي كالغيوث الحبيَّه
سئم العيش لا يطيق ثبوتًا
فالتوى نحو مجلس البحريَّه
(مقعدٌ قاس سبع أقدام طولٍ
وعليه ملَّاحةُ الجنديَّه)
ظل مستطلعًا يصد برمحٍ
من ترامى منهم بنارٍ ذكيه
داويًا صوته: «ألا صحب كروا
يا بني دانووسٍ الآريه٦٤
حصنكم باسكم وليس سواه
خلفكم نجدةٌ بجندٍ عتيَّه
لا ولا معقلٌ يصد المنايا
إن ترامت به الجنود القميَّه
لا ولا بلدةٌ نلوذ إليها
وبها نبتغي عصابًا وليَّه
قد نأينا عن الديار وأضحى
دوننا البحر والأعادي العديه
فالأمان الأمان بين أكفٍ
فاتكاتٍ لا في الأكف البطيَّه٦٥
ثم هز القنا وهكطور يغري
صحبه بالمقابس الناريَّه
ما تصدَّى بها فتًى منهم حـ
ـتى تخلَّى بمهجةٍ مفريَّه
فأياسٌ برمحه أهبط اثني
عشر قرمًا للظلمة الأبديهْ

هوامش

(١) انتقل بنا الشاعر إلى مشهد جديد مثل به يقظة زفس بعد هجوعه تمثيلًا، يهيئ للسامع هيئة الصاحي من سكرته، المستفيق من غفلته، الحَنِق لسقوطه في أحبولة نصبت له خفيةً بيدٍ عجزت عن البروز لوجهه، فتستجمع حواسه لملاقاة ما فات والاقتصاص ممن ألقى عليه ذلك السبات. تلك كانت حالة زفس عند هبوبه من النوم جعلها الشاعر توطئة لإيراد حوادث أحيا بها جانبًا كبيرًا من آثار قومه كما سترى.
(٢) الأضرع: الجبان. والنجيع في البيت السابق: الدم.
(٣) لقد مرت الإشارة إلى هذه الأسطورة في النشيد السابق؛ إذ ذكرها «الرقاد» وذكر هيرا بما ناله من عقاب زفس، وزاد الشاعر هنا ما نال هيرا من ذلك العقاب، وقد تهافت الشراح على حل معميات ذلك العقاب حلًّا رمزيًّا بما يطول معه الشرح.
(٤) ما قرأت هذه اليمين مرة إلا تذكرت أيمان بني كعب في العراق العجمي لعهدنا هذا، فإن هيرا قد غلظت الحلف فأقسمت بالأرض والسماء والإستكس، وما يعد اليمين بهن يمين مغلظة، وكأنني بزفس مع هذا لم يجنح إلى التصديق إلا حين أقسمت برأسه والعقد، أي: عقد النكاح. وهكذا الكعبي إذا أقسم بالله فلا يزعم ولا يتوهم غيرهُ أنه صادق، ولكنه لا يقسم برأس شيخ عشيرته إلًّا صادقًا، فإذا اتهم بسرقة أو جناية وسيق أمام الشيخ واستحلف وأراد الإنكار قال: «والله وبالله لم أفعل.» فكأنه لم يزد على قوله لم أفعل، فإذا أعيد عليه السؤال قال: «والنبي والوصي.» أو «وحق محمد وعلي.» فإذا أراد إغلاظ يمينه قال: «وحق العباس.» وإذا بقيت شبهة في صدقه وأراد درأها أقسم برأس شيخه، وهو أعظم أيمانهم لا يقسمها أحدهم إلا صادقًا — والسبب في ذلك أنه إذا ظهر كذب الحالف برأس الشيخ كان عقابه القتل، فالشيخ يقتص لنفسه عاجلًا حالة كونه لو أقسم الرجل كاذبًا بالعباس ومن فوقه إلى الخالق جل وعلا، فعقابه مؤجل إلى يوم الحشر حيث يقتص صاحب القسم من الحانث بيمينه، والرهبة من الحد العاجل بيد المخلوق أوقع منها في النفس من الحد الآجل بيد الخالق، وقد كان أعظم الأقسام في جاهليتنا ذمة العرب لا يُحلف بها إلا عن صدق. قال متمم بن نويرة:
نعم القتيل إذا الرياح تناوحت
تحت الإزار قتلت يا ابن الأوزرِ
أدعوته بالله ثم قتلته
لو هو دعاك بذمة لم يغدرِ
(٥) تملصت هيرا تملص الداهية بيمينها، فلم تنكر علمها بما كان وأشركت فوسيذ بالذنب ولم تزده جرمًا؛ لأن موآزرته للإغريق كانت ظاهرة بل التمست له عذرًا بأن الرأفة هي التي دفعته إلى الأخذ بيدهم، فأقسمت ولم تكذب. ثم تزلفت إلى زفس ولم تلبث أن استمالته بقولها: إنها متأهبة لقضاء أوامره، وهي لا تزال تنوي إنفاذ مأربها كما سترى فيما يلي، وذلك منتهى الدهاء في النساء.
(٦) الحزائق: الجماعات.
(٧) الغرانق: الفتيان.
(٨) كان سرفيدون من أبناء زفس وستأتي تتمة سيرته في النشيد التالي.
(٩) يشير زفس في مقاله هذا إلى ما سيكون، وهو يلهج فيه لهجة العزيز القدير جل شأنه الذي «إذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون». وقد كثر الأخذ والرد بين الشراح في ما إذا كان هوميروس مخطئًا أو مصيبًا بالأنباء بما سيعقب تلك الحوادث، فزعم قومٌ أن علم المطالع بها ولو مجملًا يذهب بشيءٍ من طلاوتها عند وقوعها، وقال آخرون ونحن في عدادهم: إن الأمر بخلاف ما زعم الفريق الأول؛ لأن هوميروس لا يورد قصة غرامية لا يستوقف فيها نظر المطالع إلا في نهايتها، وإنما يقص على معتقد أهل زمانه تاريخًا مشهورًا، فإشارته هنا إلى ما سيقع ليست إلا توطئة يرتاح المطالع إلى الوقوف بها إجمالًا على ما سيقع تفصيلًا. وتزيد على ذلك أنها ليست بأول ولا آخر مرة رأينا فيها الشاعر يورد مثل هذه النبوءات، فهي على ما نرى من مزينات قصصه ومثبتات اعتقادات ذلك الزمان، وهي خطة اتخذها كتَّاب جميع الكتب القديمة منزلة كانت أو غير منزلة، ولا يخفى ما فيها فضلًا عما تقدم من شدة التأثير في النفس بإثبات عظمة الناطق بها واقتداره، وهي محسنة أخرى من محسنات الشعر.
(١٠) لم يغادر هوميروس آبدة ولا شاردة من بدائع الطبيعة إلا أشار إليها ودونها، وهو هنا قد وصف السرعة بما لا سبيل بعده إلى مزيد، فقد رأيناه ورأينا سائر الشعراء يشبهون بسرعة الطائر والريح والبرق وما أشبه، ولكننا لو أضفنا إلى تشابيههم سرعة الكهرباء والنور لما كانت شيئًا بالنسبة إلى سرعة الفكر الذي يجوب السموات والأرض وما فيهن بلحظة من الزمن، وما بساط الريح بإزائه بالشيء المذكور، قال ابن المعتز بمثل هذا المعنى مع اقتضاب:
أسرع من ماءٍ إلى تصويبِ
ومن وقوع لحظه المريبِ
ومن نفوذ الفكر في القلوبِ
(١١) يؤخذ من هذين البيتين أن الآلهة كانوا في مجلس أنس وطرب. يشير هوميروس هنا إلى أن ثميس وهي إلاهة العدل هي التي كانت تتصدر في مآدب الآلهة وحفلاتهم، فما أحراها أن تتصدر في محافل البشر.
(١٢) اليلامق: التروس، لا تزال هيرا محفظة على زفس ناقمة منهُ، وهو الآن في يقظته فلا تستطيع أن تخالف أمرهُ فتغفل إبلاغ رسالته، فهي ستبلغها بعد أبيات مقتضبة اقتضابًا، ولكنها آلت على نفسها قبل ذلك أن تثير حقد سائر الآلهة عليه لعلها تبلغ منه مأربًا بوسيلة أخرى، وهي من وجه تشير إلى اقتداره وضعفهم ومن وجه آخر تبالغ في وصف استبداده وتعسفه؛ لتزيدهم نفرة واشمئزازًا وهو نوع من أنواع تشفي الضعيف من القوي إذا قصرت باعه عن مسه بسوءٍ.
(١٣) يمثل هوميروس الهول والرعدة بشخصين، وهما ماردان في خدمة أريس إلاه الحرب.
(١٤) الجباذ: القواطع. والمزالق: الزلات. لما كان آريس إلاه الحرب كان أقرب إلى الطيش ممن سواه، وهيرا تعلم ذلك فأرادت أن تهوره ووجهت مقالها إليه، وكاد يتهور بإغضاب زفس لو لم تقم أثينا وتصده، ولم يكن بين الآلهة أجدر منها بذلك؛ لأنها إلاهة الحكمة، ولا يخفى ما في كل ذلك من اتساع المغزى.
(١٥) يشير بذلك إلى أنه لم يكن بد من موت عسقلاف، قالت: ذلك تخفيفًا لألم أريس أبيه. وما أكثر هذا المعنى في الشعر. قال الإبيرد الرباحي:
وكل امرئٍ يومًا سيلقى حمامه
وإن نأت الدعوى وطال به العمرُ
وقال المتنبي:
كثير حياة المرء مثل قليلها
يزول ويبقي عمرها مثل ذاهبِ
ومثله قول الآخر:
وكل ابن أنثى لو تطاول عهده
إلى الغاية القصوى فللقبر ذاهبُ
(١٦) تسابقا، أي: أفلون وإيريس.
(١٧) كان ثالوث اليونان مؤلفًا من زفس وفوسيذ وأذيس وهم ثلاثة أشقاء، أكبرهم زفس ولهذا كانت له مزية كبيرة على أخويه بحق البكورة، وسترى من كلام فوسيذ بعد أبيات كيف اقتسموا حكم العوالم.
(١٨) أقرنوس أو قرونوس: هو زحل كما تقدم، يقول فوسيذ: إنه هو وزفس وأذيس ثلاثة إخوان أشقاء ضمهم النسب، فلا مزية لزفس على الآخرين إلا الرئاسة التي خولته إياها البكورة كما أشار زفس بنفسه. قال الشريف الرضي يخاطب القادر بالله الخليفة العباسي:
عطفًا أمير المؤمنين فإننا
في دوحة العلياء لا نتفرَّقُ
ما بينا يوم الفخار تفاوتٌ
أبدًا كلانا في المفاخر معرِقُ
إلا الخلافة قدمتك فإنني
أنا عاطل منها وأنت مطوَّقُ
(١٩) الودائق: ج وديقة، ومعناها: شدة الحر.
(٢٠) الموارد: جمع مارد. كانوا يعتقدون أن لكل بكر حرَّاسًا من الموارد يحرسونه، فيدرأون عنه الضيم ويعينونه على قضاء حوائجه. راجع ما قلناه بشأن البكورة (ن ١٣) قال عبد الله بن طاهر في أخيه الحسين يشكو شكوى فوسيذ من زفس:
يقول أنا الكبير فعظموني
ألا ثكلتك أمك من كبيرِ
إذا كان الصغير أعم نفعًا
وأجلد عنه نائبة الأمورِ
ولم يأت الكبير بيوم خير
فما فضل الكبير على الصغيرِ
(٢١) العارق: العرق.
(٢٢) الفلائق: الدواهي.
(٢٣) أي: أيقنت أني مائت لا محالة؛ لأنه لا بد لكل ميت من المرور بمملكة إذيس إلاه الجحيم.
(٢٤) فيبوس هو نفس أفلون كما تقدم.
(٢٥) الضحاضح: رقارق المياه.
(٢٦) أي: حيث غصت المراعي بإناث الخيل — إن هذا التشبيه بديع في نفسه كما لا يخفى، ولكن هذه الأبيات قد مرت في النشيد السادس، وهي أطبق هناك على فاريس منها هنا على هكطور. وقد ذكرنا في الحواشي وجه موافقتها لفاريس ولعل هذا التكرار دخيلٌ خصوصًا أن في ما يلي تشبيهًا لهكطور بالغضنفر لا يبقى معه حاجة إلى زيادة.
(٢٧) الصيد: جمع أْصَيد، وهو السيد. والسخلة هنا: العنزة.
(٢٨) تعلم من الشطر الأخير من هذا البيت أنهم كانوا يعتقدون أن العناية الإلهية ترمق بنظرها الحيوان الأعجم، وتعين أجله ونُعني به عنايتها بالإنسان، وهو اعتقاد نَصَّت عليه جميع الكتب المنزلة؛ ففي التوراة: إن رفق الباري عز وجل بالحيوان كان من جملة الدواعي لإرجاء خراب نينوى؛ إذ جاء في سفر يونان: «أفلا أشفق على نينوى المدينة التي فيها أكثر من اثنتي عشرة ربوة من أناس لا يعرفون يمينهم من شمائلهم ما عدا بهائم كثيرة» (يونان ١٤:١١)، وفي الإنجيل نص أصرح بقوله في أنجيل متى في الفصل العاشر: «أليس عصفوران يباعان بفلس ولا يسقط أحدهما إلى الأرض إلا بإذن أبيكم»، وفي القرآن نصوص شتى منها قوله:
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ۚ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَـٰنُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ.
(سورة الملك)
(٢٩) الجوائح: الدواهي، أي: حسبنا أن أياس قتله بصخرته، فإذا هو حيٌّ يرزق.
(٣٠) أي: إن أبطال الإغريق وقفوا لصد العدو، وأما أعراضهم، أي: ضعفاؤهم فلجأوا إلى السفن، وهنا انعكست آية القتال فبات الغالب مغلوبًا، وحمل الطرواد على الإغريق حملةً أوهنت قواهم، فكانت موقعة أبدع الشاعر في وصفها إبداعًا، ومهد لها تمهيدًا ينطبق على معتقد أبناء ذلك الزمان ويلذ للمطالع بعدهم في كل زمان، لم يقل قولًا بسيطًا أنه لما اشتدت الأزمة بالطرواد لاحتجاب هكطور الجريح وهنت عزائمهم، وما زالوا يلتوون صاغرين أمام الإغريق حتى انتعش هكطور، وانثنى فيهم انثناء المستبسل فاندفع واندفعوا وراءه، حتى كان ما كان بل أفرغ ذلك بقالب شعري، فقال: إنه لما غادر فوسيذ ساحة الوغى مضطرًا بوعيد زفس صغرت نفوس الإغريق، وقدم فيبوس في صدر الطرواد، فغاب نصير الإغريق وقام للطرواد نصير يماثله فصار الأولون إلى مصير الآخرين، وقد تصرف الشاعر بكل ذلك تصرفًا يقرب الوهم من الحس وترتاح إليه النفس.
(٣١) الجوب: الترس. والحرابي: المسامير. والجنة في البيت التالي: الترس أيضًا.
(٣٢) الكلى: جمع كلية، ويراد بها القسي.
(٣٣) غرثانًا، أي: جائعًا ومفاد هذين البيتين أن السهام المتطائرة كان بعضها ينفذ في صدور الفتية المدججة بالسلاح فيفهق بالدم، وبعضها ينشب في الترب قبل أن يبلغهم، وقد وصف هنا السهام بالتضور جوعًا للحم الأبطال، وهي استعارة حسنة عندنا كثير من أمثالها كقول الجميح:
في كفه لدنة مثقفة
فيها سنان محرب لحمُ
يقول: إن سنان رمحه محرَّب، أي: مغيظ (قال الأصمعي: ومنها سميت الحرب حربًا؛ لأن أهلها يحرب بعضهم على بعض، أي: يغتاظ) ولحم، أي: قرم إلى اللحم، ومثله قول عنترة:
فدونك يا عمرو بن ودٍ ولا تحل
فرمحي ظمآن لدم الأشاوسِ
(٣٤) أي: إنه لم يظفر أحد الفريقين بالآخر قبل تحريك ترس زفس.
(٣٥) الهزم: السهل.
(٣٦) أي: لا تحرق جثته بعد موته، وهو عار عندهم كبير كما علمت.
(٣٧) أي: إن فيبوس لما ردم الخندق بمادة التلال القائمة على حافة ونساوى جوف الحفير بجرفه، فتح للطرواد طريقًا على مسافة أكثر من مرمى نبل.
(٣٨) لما فرغ فيبوس من ردم الخندق، وفتح للطرواد سبيلًا «عليه مضى يجري صفوفًا خميسهم» بقي عليه أن يهدم السور؛ لينفسح لهم المجال فقوض أركانه غير متكلف، كما يخسف الطفل كثيبة من الرمل يلهو لاعبًا برفعها ودفعها، وليس في الإمكان إيراد تشبيه كهذا التشبيه في هذا الموضع، ولا أصح منه معنى لتمثيل سور يتداعى فتتقوض أركانه بلحظة من الزمن، ويزيده رونقًا أن وجه المقابلة بالرمل مأخوذ مما يلوح لنظر المطالع؛ إذ السور قائم على الجرف فوق كثبان من الرمال، فالمقابلة مستعارة مما يلوح لدينا لأول وهلة.
(٣٩) الحصار: السور، انتقل بنا الشاعر إلى موقعة فريدة في بابها وهي ترامي الفريقين حول السفن وهي راسية، فلا هي بحرية ولا هي برية، وكأنه أشفق أن يمل القارئ طول هذه المواقع فرجع به إلى فطرقل الذي أتى أوريفيل مداويًا ومداريًا في النشيد الحادي عشر، فكانت بذلك فائدتان للمطالع أولاهما: التفكهة والاستراحة من عناء ذكر القاتل والمقتول فتمضي عليه برهة قبل أن يستأنف الشاعر وصف الموقعة التالية، فيتلقاها المطالع بلا عناء، والثانية: التذكير بفطرقل وأخيل وإعداد الفكر لتلقيهما والحين ساحة القتال.
(٤٠) أي: إن الفريقين تساويا في مرامي الكفاح كاستواء الخطوط في الألواح تسطرها كف صانع حاذق ببناء السفن، فلا ميل فيها ولا عوج، إشارة إلى أن كفة النصر لم تمل هنا أقل ميل إلى جهة دون أخرى.
(٤١) الغراب: السفينة.
(٤٢) يدوي صوت هكطور كالرعد دوي صوت عنترة إذ قال:
وصرخت فيهم صرخة عبسيةً
كالرعد تدوي في قلوب العسكرِ
(٤٣) عبارةٌ مطروقةٌ كثيرًا بوصف المبالغة بإكرام الضيف، قال العتبي يذكر الأمير أبا الفوارس لما قدم على السلطان محمود الغزنوي: وأقام عليه قرابة ثلاثة أشهر ضيفًا لا يتميز عن الأدنيين أرحامًا وشيجة وأنسابًا قريبة.
(٤٤) أي: إن ظواهر الحال تشير إشارة بينة إلى من يراعه زفس ومن الا يرعاه، أراد أن يقول كفة النصر راجعة لنا فتقدموا ولا تخشوا ضميرا.
(٤٥) أنشد المفضل الضبي إبراهيم بن عبد الله بن الحسين في المعركة يوم حمل فقُتل وكان آخر العهد به:
أقول لفتيان العشي تروحوا
على الجرد في أفواههنَّ الشكائمُ
قفوا وقفة من يحيى لا يخر بعدها
ومن يحترم لا تتبعه اللوائمُ
وهل أنت إن باعدت نفسك منهمُ
لتسلم فيما بعد ذاك لسالمُ
(٤٦) الخلايا: السفن، قال عنترة:
ولأجهدن على اللقاء لكي أرى
ما أرتجيه أو يحين قضاءي
(٤٧) بئوس الأولى: جمع بأس، والثانية جمع بؤس، أبرز لنا الشاعر هذين الزعيمين المغوارين هكطور وإياس كلًّا على قومه خطابهُ بما واقق موقفه، فهكطور وقد افتر له ثغر النصر ووثق برعاية زفس يستنهض الهمم ويمنِّي صبه بالحظ الأسمى والسعادة الكبرى للميت والحي، فالمقتول يخلف ذكرًا حميدًا ويموت سعيدًا ميتة «بطل الذود عن عزيز الذمار»، وله الحظ الأوفى أنه إذا هلك «ظل بالأمن زوجه وبنوهُ وبنوهم بسالمات الديار»، وذلك غاية ما يرى لقوم ضيق عليهم الأعداء وحصروهم ببلادهم، فلا حاث يحثهم على الاستبسال في ميدان النزال أعظم من الرجاء بنيل تلك الأمنية، وقد اجترأ الشاعر هنا بذكر عاقبة النصر لبلد المحصور؛ لأن الطرواد في موقف الفوز، ولا يخفى أنه أشار في النشيد التاسع أبلغ إشارة وأوجزها إلى عاقبة الخذلان إذ قال:
للمباني حرقًا وللقوم ذبحًا
والغواني والولد ذلًّا وأسرا
وأما أياس فقد جمع خطابه أبلغ ما يقال لدفع جمعٍ منكوب، وجيشٍ مغلوب، فإنه صور له الرزايا المحدقة به من كل صوب من حرمان العودة إلى الأوطان، والموت موت الذل والهوان وذهاب السفن طعمة للنار وخلود الخيبة والعار ولا أمل لقتيلهم الهالك بسيف الطرواد أسيرًا أو مهزومًا بحظ قتيل الطرواد الهالك كرًّا وهجومًا، فلا واقي لهم إذن وقد سدت في وجوههم جميع السبل ولا أمل لهم بمدد يأتيهم إلا التفاني في صد غارة العدو. وختم الخطاب بكلمة تبعث فيهم روح الحمية، وتستحث النفوس الخاملة، فقال: إن الطرواد دونكم بأسًا، فذكرهم سابق نصرهم بأوجز عبارة، وهو في الجملة خطاب لا يتصور أو في منه بالمرام في مثل هذا المقام.
(٤٨) الصوار: قطيع البقر.
(٤٩) الغرار: الحد.
(٥٠) الأدعار: جمع دعر، الشرور.
(٥١) أي: إن الجبان أقرب إلى النجاة؛ لأنه لا يقذف بنفسه إلى المخاطر ولكنه لا يخلف ذكرًا حميدًا. قال المتنبي:
إذا كنت ترضى أن تعيش بذلةٍ
فلا تستعدنَّ الحسام اليمانيا
ولا تستطيلنَّ الرماح لغارةٍ
ولا تستجيدنَّ العتاق المذاكيا
فما ينفع الأسد الحياءُ من الطوى
ولا تتقي حتى تكون ضواريا
(٥٢) سيشرع الشاعر هنا في وصف آخر موقعة من مواقع هكطور العظمى؛ ولهذا أبرزه بأعظم مظاهر البأس والإقدام، ودفعه إلى ساحة الصدام وعليه رهبة الظافر الفتَّاك، عيناه تقدحان شرارًا وفمه يزبد غيظًا واستعارًا كأنه إلاه الحرب قوة واقتدارًا، وكأن غضبه أوأر شرار، أو نوء آثار لجج البحار، وهو يعيث بجيش العدو عيث الأسد بصوار الأبقار، فلا يخفى أن الشاعر يرتفع بذهن المطالع مع تلك التشابيه المتعاقبة إلى حيث لا يبلغ التصور مع أي وصف كان لو خلا من هذا الزحف الخلاب.
زفس كبير الآلهة، يمثلونه غالبًا جالسًا على عرش من عاج، والصولجان بيسراه والصاعقة بيمناه وإلى جانب العرش نسر.
figure
زفس.
(٥٣) قال الطرماح:
كل مستأنسٍ إلى الموت قد خا
ضَ إليها بالسيف كل مخاضِ
وقال العباس بن مرداس:
أشد على الكتيبة لا أبالي
أحتفي كان فيها أم سواها
(٥٤) الصفاة: الصخرة.
(٥٥) الغراب: السفينة.
(٥٦) الغثي: زبد الموج.
(٥٧) الجدود: الشواطئ. والهور: مستنقع المياه.
(٥٨) بينه، أي: بين الصوار، وهو القطيع.
(٥٩) أي: اذكروا أهلكم من كان منهم حيًّا ومن مات فادِّكار الأحياء يهيج العواطف، ويثير الحنان فيبعث على الإقدام، وادكار الأموات يبعث على الأنفة من العار، وطلب الفخار، والحرص على استبقاء الذكر الجميل، وقد جمع نسطور بهذا الخطاب الوجيز كل ما يمكن أن يقال وعدًا ووعيدًا لبث روح الحمية في الجند.
(٦٠) أي: كفارس يركب أربعة من جياد الخيل.
(٦١) المطية: الظهر، إن هذا التشبيه فضلًا عما فيه من لطف التمثيل ينبئنا أن فن الفروسية كان بالغًا أعظم المبالغ في زمن هوميروس، حتى لقد كان يتأتى لبعض مروضي الجياد أن يثقفوها تثقيفًا يصعب الإتيان بمثله في هذا الزمن؛ إذ كان الفارس الواحد يسوق أربعة منها، ويثب من متن أحدها إلى متن الآخر وهي مغيرة، ويؤخذ من قوله: «حثها بطريق الخلق إلخ» أنهم إنما كانوا يفعلون ذلك كما يفعل فرسان الملاعب في هذا الزمن، ولعلهم كانوا يفعلونه للافتخار دون التكسب.
أورد الشاعر هذا التشبيه بلسانه لا بلسان المتحاربين، فلا يصح إذن أن يكون دليلًا على نبوغهم في ترويض الخيل إلى هذا الحد أيام الحرب الطروادية، وللشاعر أن يشبه مجريات الأعصار الغابرة بما شاء من أحوال زمانه ومكانه على شرط أن لا يرويها عن أبناء تلك الأعصار.
(٦٢) إنما أحل الشاعر هكطور بمركب أفروطسيلاس دون سواه لئلَّا يضطر إلى رمي أحد زعماء الإغريق بالجبن والخذلان، وأما أفروطسيلاس فقد قتل قبل حين ولا بأس على أحد منهم بحلول هكطور سفينته (أفستاثيوس).
(٦٣) إن خطاب هكطور مع ما فيه من نخوة القائد المعتادة في مثل هذه الحال يشف عن أمرين؛ أحدهما: شعور هكطور بموالاة زفس في كل مواقع النهار، وإعلان ذلك بملء الحمد والشكر. والثاني: رغبته في رد ما ربما يعترض عليه به من الإحجام عن مهاجمة السفائن حتى يومه، فتملص من تلك التبعة بإلقائها من وجه على عاتق شيوخ قومه الجبناء، وإحالتها من وجه آخر على مشيئة زفس.
(٦٤) الآرية: نسبة إلى آريس إلاه الحرب.
(٦٥) إن موقف أياس وخطابه منذرًا بالهلاك وممنيًا بالظفر لأشبه شيءٍ بموقف طارق بن زياد بعد أن انحدر من الجبل المنسوب إليه، قاصدًا غزو الأندلس بأمر موسى بن نصير، فقدم رودريغ لمحاربته بجيش جرار. قال ابن خلكان: فحث طارق المسلمين على الجهاد ورغبهم في الشهادة، ثم قال: أيها الناس، أين المفر والبحر ورائكم والعدو من أمامكم، فليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مآدب اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم غير سيوفكم … إلخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤