النشيد السابع عشر

المعركة السابعة حول جثة فطرقل

مُجْمَلهُ

تحرق منيلاوس لقتل فطرقل فتقدم يدافع عن جثته وكان أوفرب يجردها من السلاح فقتله منيلاوس، وإذا بهكطور مقبلٌ بإيعاز أفلُّون فتقهقر منيلاوس واستعان بآياس، فأقبل آياس وهكطور يوشك أن يقطع رأس فطرقل فصده آياس فأقبل غلوكوس يؤنب هكطور لتخليه عن سرفيذون والتوائه أمام آياس، فشك هكطور بسلاح أخيل ونادى صحبه فانقضوا مع الإغريق وفزع لمنيلاوس الأبطال من قومه والتحم القتال حول القتيل، وكلهم طامع في الاستيلاء على شأوه، فالتوت الطرواد أمام إياس ولم يكن النبأ قد طار بعد إلى أخيل بمقتل حبيبه، ولما توارت جياد أخيل عن ميدان الحرب ذرفت الدموع حزنًا على فطرقل، فرَّق لها زفس وأهبط عليها قوة جديدة فانثنى أفطوميذ بها إلى ساحة القتال، ثم ألقى بالأعنَّة إلى رفيقه القيميذ وأخذ يقاتل راجلًا فاندفع هكطور وأنياس ونفرٌ من أبطال الطرواد في طلب تلك الجياد، واشتد الكر والفر وجرت جياد أخيل مسرعة فتوارت بالمركبة عن الطرواد، وأخذت أثينا بيد منيلاوس وأفلُّون بيد هكطور وأرعد زفس فأرعب الإغريق فاستظهر عليهم الأعداء، وأرسل منيلاوس ينمي إلى أخيل موت فطرقل ونكبة الإغريق، وظل الأياسان يدفعان العدو عن جثة القتيل فسار بها منيلاوس ومريون إلى المعسكر، وانهزمت الإغريق إلى ما وراء خندقهم.

وغادرت في الحاف والحفير
ما انهال من سلاحها الكثيرِ

وقائع هذا النشيد في مساء اليوم الثامن والعشرين.

النشيد السابع عشر

لم يخف إلف آرسٍ منيلا
هلاك فطرقل الفتى قتيلا١
فخف في صدر السرى إليه
بعدةٍ تألقت عليه
ودار حوله العدى يباري
كأنه ثنيَّةُ الصوار٢
قد نتجت بكرًا عليه حنت
وانعطفت من حوله وأنت
قناته وجوبه الثقيلا
مدَّ يروم للعدى تنكيلا
لكن أوفرب الفتى ما زال في
فطرقل فاكرًا بذاك الموقف
لذا على مقربةٍ منه وقف
يخاطب الشهم منيلا بصلف:
«يا إلف زفس سيد القبيل
تخل لي عن شلو ذا القتيل
إذ كنت في الطُّرواد والأحلاف
أوَّل طاعنٍ له حذَّاف
فخلني أحرز جميل الشَّرف
أولًا فأيقن بوبيل التلف»
فنفس أتريذ ذكت توقُّدا
وصاح: «يا زفس الأب المسوَّدا
ما أقبح الغرور بالنفوس
فما حكى كِبر بني فنثوس
لا خيلاء اليبر والليث ولا
رت الفلا المغوار روَّع الملا
لكِنَّ هذا الكبرَ والغرورا
ما وقيا الفتى هفير ينورا٣
لم تهنه غضاضة الشباب
لمَّا تصدَّى لي بالسباب
وقال إني ساعةَ الإبلاء
أجبن من في زمرة الأخاء
غدًا ولا عرسًا وأما وأبا
يبتهجون بلقاه طربا
فدن إذن وولِّ من أمامي
فليس يغني العجب من إقدامي
ولذ إلى قومك من قبل اللقا
أولًا فوقع الخطب يشفي الحمقا»
فلم يزد أوفرب إلا حنقًا
وصاح: «يا أتريذ أدركت الشقا
غرَّك أن بات أخي صريعا
لتؤخذن بدمه سريعا
فعرسه الهدي في أقصى الغرف
أرملة باتت وما كادت تُزَف٤
وقد أذقت أبويه غصصا
ظلَّ بها عيشهما منغصا
لكن سأروي غلَّةَ الحدادِ
حين بعيد العود للبلاد
لدى فرنثيس وفنثوس يرى
رأسك والسلاح في تلك الذرى٥
والآن فصل القول فالبدارُ
يعقبهُ الفوز أو الفرار»
وأطلق الرُّمح ففي الجوب وقع
لكن عن النحاس في الحال ارتدع
فزفس أتريذ دعا وشهرا
نصلًا وأوفرب يسير القهقري
وزج زج واثقٍ عميد
فقطع النَّصلُ حبال الجيد
فصل لما خرَّ والنقع جرى
يكسو بديع الشعر ثوبًا أحمرا
غدائر كشعر حورا العين
ضفرن بالعين وباللجين٦
كأنه فرخٌ من الزَّيتون
غضٍّ على مجتمع العيون
ينعشه النسيم والزهور
بيضاء في فروعه تمور
لكنما الإعصار فورًا هبَّت
فاستأصلته من زوايا العزلة٧
فخر أوفرب يحاكي مذ وثب
عليه أتريذ لإحراز السلبْ
ولم يكن في قوم أوفرب أحد
يلقى منيلا وهو يخلو بالعدد
كأنه ضيغم غابٍ وثقا
ببأسه وفي الصوار اندفقا٨
ففرس الغرة منها وسحق
عنقها ما بين نابيه ودق٩
ومزَّق الأحشاء وامتص الدما
والناس والكلاب عجت في الحما
لا تستطيع الذود عنها فالجزع
من رؤية الليث قلوبها خلع
وكاد أتريذ يفوز بالمنى لكن
ذكت غيرة فيبوس هنا١٠
كقيم الكيكون ميتيس نهض:
«وصاح يا هطور أخطأت الغرض١١
جريت تبغي خيل آخيل ولا
يبلغ منهنَّ سواه الأملا
ألا ترى أتريذ عن فطرقل ذب
وأبسل الطرواد أوفرب ضرب»
ثم مضى عنه وفي الجيش ذهب
وقلب هكطور من البث التهب
سرَّحَ ما بين الجموع النَّظرا
وثمة القرمين حالًا أبصرا
ذاك صريعٌ دمه ينفجر
وذا إلى تجريده مبتدر١٢
فثار يحكي نار هيفست التي
ما إن خبت قطُّ إذا ما هبَّتِ
وانقض في صدر السُّرى مدججًا
بهدَّةٍ لها منيلا اختلجا
فهاج بثًا نفسه يناجي:
«ما حيلتي في القدر المفاجي
أأبرح الآن وذا فطرقل من
في الذود عن عرضي وافته المحن
فمن من الإغريق لو رآني
أحجمت عنه الآن ما لحاني
وإن دعتني عزة النفس إلى
كفاح هكطور الذي قد حملا
فخلف هكطور بنو الطرواد
طرًّا على أني بانفراد …
لا كان ذا الهاجس من لاقى الأولى
صانتهم آل العلى لاقى البلا
بحكم آل الخلد هكطور هجم
فمن يلومني إذا ألوي القدم
آه ولو لي صوت آياس نمي
لاقتحمت دهم الرزايا هممي
أنا وآياس نخوض الشددا
حتى ولو ربُّ للقيانا بدا
بشلو فطرقل إلى أخيلا
نمضي فيمسي خطبنا محمولا»١٣
وبينما هاجسه يثور
وافى العدى في صدرهم هكطور
فغادر الجثَّةَ ثمَّ انصاعا
ملتفتًا إليهم ملتاعًا
كالليث للمربط يومًا لاحا
فقابل النباح والرماحا
وارتد مغتمًّا على الأعقاب
كما انثنى أتريذ باكتئاب١٤
حتى إذا في قومه حل وقف
مستشرفًا يطلب آياس وخف
لما رآه قام أقصى الميسره
مستنفرًا إلى الصدام عسكره
وهدهم فيبوس طرًّا رعبا
صاح: «ألا فورًا أياس هبَّا
نذود عن فطرقل حول جثته
فإن هكطور خلا بشكته
لعلنا وإن عرت عن العدد
لإلفه آخيل نمضي بالجسد»
فهاج آياس أسًى ثم انطلق
يجري وأتريذ إلى صدر الفرق
فألفيا هكطور ثم جرَّدا
شكة فطرقل وجر الجسدا
ليأخذ الهامة باقتضاب
ويدفع الجثة للكلاب
يجوبه كالبرج آياس جرى
فعاد هكطور إلى قلب السُّرى
ثم اعتلى وصاح: «ألقوا لي في
إليون ذا السلاح يسمو شرفي١٥
لكن أياس بسط الجوب على
جثة فطرقل وما تقلقلا
كلبوةٍ في الغاب بالأشبال
حلَّت فبالكماة لا تبالي
تقطب الجفن على مقلتها
صائلةً تحمي حما فتيتها١٦
وقام أتريذ لدى أياسا
يذكو حشاه كَأْبةً وباسا
فجاء هكطور غلوكس الفتى
قيل بني ليقيةٍ مبكتا
صاح به يرمقه ازورارا:
«ما كنت إلَّا هالعًا فرَّارا
يعزي لك البأس جزافًا إنما
حالك شفت عن فؤادٍ أحجما
ألك في جماعة الطرواد
من دوننا حماية البلاد
فقومنا في وجه أبطال العدى
لن يقفوا حول الحصون أبدا
إذ قد أطالوا الحرب والإبلاء
ولم يوافوا فيكم وفاء
ويحك أنى بك عرض الجند
خيرًا ترجي بعد هذا الصدِّ١٧
وضيفك الحبيب سرفذونا
غادرت غنمًا للأخائيينا
وقاكم من أزمة الدَّراهس
وما وقيته من النواهس١٨
فرأي الآن على أصحابي
بأن يعدوا أهبة المآب
عنكم إلى الأوطان ينثنونا
فينزل الويل على إليونا
فلو لكم بسالة الشجعانِ
في ذودهم عن ساحة الأوطانِ
لجملة صلنا ونحو البلد
سرنا بفطرقل بلا تردد١٩
بسرفذون والسلاح الأزهرِ
يؤمنا العدى بلا تأخرِ
إذ إن فطرقل أعزُّ الناس
لدى أخيل القرم رب الباس
لكن لآياس الذي تراهُ
وهنت عزمًا قبل أن تلقاه
هيهات هيهات فلن تنفردا
له وتدري أنه أسمى يدا»
فقال منعمًا حديد النظر:
«كفاك يا غلوكس أن تفتري
خلتك ذا عقلٍ رجيحٍ قد سما
فق بين ليقيةٍ إن حكما
لكن أرى الخلاف فيما تزعم
أني لدى أياس جبنًا أحجم
ما راعني الطعن ولا وقع خطى
جرد الوغى لكنما زفس سطا
وهو ولي الأمر قد يخذل من
يحث للإقدام في حر الفتن٢٠
فادن إليَّ الآن واشهد تنظر
ذا اليوم من هكطور حق المخبر
أكان مهيابًا كما تقول
أم هو محراب وغى يصول
يذلُّ قسرًا كلَّ صنديدٍ بطل
للذود عن جثة فطرقل حمل»
وصاح يعلو صوته بين الزمر:
«طرواد ليقيون أبناء الظفر
يا آل دردانوس هبوا وقفوا
ببأسكم فذاك ذاك الموقف
وإنني ماضٍ أشك مقبلا
بعدة القرم أخيل عجلا
تلك التي سلبت من فطرقل»
ثم انثنى يعدو حثيث الرجل
فصحبة أدرك من بعد أمد
من قبل أن تبلغ إليون العدد
فثم عن وقع القنا بمعزل
ألقى لهم شكته في العجل
يأمرهم أن يحملوها للبلد
وشك في سلاح أخيل وجد٢١
ذاك سلاحٌ ليس بعروه البلا
حباهُ آل الخلد فيلا البطلا
ولابنهِ مذ شاخ تلك العدد
ظلت ولن يشيخ فيها الولد٢٢
وعندما هكطور زفسٌ نظرا
معتزلًا بدرع آخيل انبرى
آجال رأسه بنجوى نفسه:
«واويحه شت الرَّدى عن حدسهِ
هكطور قد كاد يوافيك الأجل
وأنت في حلةِ روَّاع الملل
صرعت إلفه النبيل الأبسلا
ونلت عنفًا منه تلك الحللا
لكنني موليك نصري السامي
جزاء ما أوتيك من حمامي
إذ لن ترى في صرحك ارتياحا
عرسك كي تلقي لها السلاحا»
ومؤمنًا بجفنهِ زفس اعتدل
فناسبت أعضاء هكطور الحُلل٢٣
وحل آريس به فاحتدما
فتكًا وبالبأس حشاه اضطرما
فهبَّ بالأحلاف بالهديد
يسطع بالنحاس والحديد
يخوض في صفوفهم مشتدَّا
يحث للإيقاع فردًا فردا
كمستليس وغلوكس الجري
وثرسلوخ ثم ميدون السَّري
وعسطروف ثم هيفوثوسا
فرقيس ذيسينور إخروميسا
كذلك العرَّاف إينوموسا
يثير في أحشاهم النفوسا:
«سمعًا أيا قبائلًا عديده
أحلافنا والجيرة العميدة
لم أدعكم من دوركم طرًا أنا
لتلبثوا حشدًا بلا جدوى هنا
بل لتصولوا في لقا الأعادي
ذودًا عن النسوة والأولاد
أنفدت رزق الجند زادًا وجدا
لكم لتعملوا القنا المجرَّدا
فاندفعوا بالبأس في وجه العدى
والحرب إمَّا ظفرٌ إما ردى
فأيكم أياس صد وانثنى
بشلو فطرقل ولو ميتًا لنا
أحيوه نصف الغنم مني أجرا
وهو قريني شرفًا وقدرا»
فقوَّموا السلاح فوق الساعد
واندفعوا دفعة صفٍّ واحد
لينقذوا الجثة من أياس
وأويبهم في ذلك الوسواس
فكم كمي منهم سيمسي
من فوق فطرقل فقيد الحس
وبمنيلا صاح آياس: «ألا
ما خلت أنا قد بلغنا الأجلا
ما جزعي لشلو فطرقل لدي
كجزعي الآن عليك وعلي
فإن فطرقل قريبًا يغتدي
للطير طعمًا وكلاب البلد
وذا غمام الحرب فوقنا انطبق
هكطور وهو حيثما حل حرق٢٤
فقم وناد صفوة الأبطال
لعلهم يسعون للنضال»
فصاح أتريذ بهم يقول:
«يا صحبُ يا رتوت يا قيول
يا من على موائد ابني أترا
من قسمة الجند رشفتم خمرا
ومن حباكم زفس عالي القدر
فقمتم بين السُّري بالأمر
كيف أراكم وعجاج القسطل
يستر عني كل جند الجحفل
فطرقل كاد الغضف والضواري
ينهشنه هبُّوا لدرء العار»
فما انتهى حتى ابن ويلوس عدا
أولهم ملبيًا ذاك الندا٢٥
تلاه إيذومين ثم القرم
مريون والكل تباعًا هموا
كماة باسٍ لا يحيط الفكر
بعدِّهم فانبثوا وكرُّوا
ونحوهم جند العدى تقدموا
في صدرهم هكطور ذاك الأيهم
بهدةٍ مثل عجيج البحر
يقذف بالموج لثغر النهر
فتدفع الأمواج فوق الجرف
منتشراتٍ بشديد القصف
ودون هاتيك الجيوش الوافده
تقدم الإغريق نفسًا واحده
حول القتيل كثفوا الأجوابا
وزفس ألقى فوقهم ضبابا
يستر برَّاق الترائك التي
أجت وأغراهم بصون الجثَّة
لأن فطرقل عزيزًا حسبا
لديه منذ لأخيل انتسبا
فكره الإغضاء عنه حينا
فيشبع الكلاب في إليونا
ودفع الإغريق بدء الأمر
فانهزموا عن ميتهم بالقسر
ولم يسمهم من الضر سوى
أن القتيل ظل في أيدي العدى
لكنما أياس في الحال انثنى
بهم وفي طليعة الجيش دنا
أياس من بعد أخيل كانا
أجملهم وجهًا وأعلى شانا
فانقض كالرتٍّ بغابٍ عربدا
والغضف والفتية طرًّا بدَّدا٢٦
كذا تبددت لديه الفرق
لما بفطرقل جميعًا أحدقوا
إذ يحسبون منتهى فخارهم
بحمله فورًا إلى ديارهم
وكان هيفوثوس الشهم الأبر
فرع الفلاسجي ليثوس الأغر
أدار حول قدم القتيل
حمالة وهم بالقفول
يجتره لداخل البلاد
تقربًا لسادة الطرواد
فكان ذا على الفتى وبالا
لم يملكوا لدفعه مجالا
إذ إن آياس على الفور زحف
ثم على الخوذة بالرمح قذف
فخرق الدماغ هول المضرب
فانهال بالدماء فوق الثعلب٢٧
فأفلتت من يده الحماله
وخر فوق الميت لا محالة٢٨
ويا لها عليه من مصيبه
في البعد عن لريسة الخصيبة
إذ لم يتح له إداء الشكر
لأبويه قصر ذاك العمرِ
فهبَّ هكطور وبالرُّمح حذف
لكنَّ آياس عن النصل انحرف
فحل في بأديل إسكيذيُّسا
همام فوقيا فتى إيفيتسا
قد كان يرعى أممًا كثيره
بالجاه في فانوفه الشهيره
فصلَّ مذ خرَّ صريعًا يرتجف
وبرز السنان من فوق الكتف
وهب إياس وفرقيس ضرب
إذ دون هيفوثوسٍ كان انتصب
فنفذ السنان في مهجته
بالدرع يلقيه على راحته
فانهزمت طليعة الطرواد
وبينهم هكطور أيضًا عادي
والأرغسيون وراهم عربدوا
وبالقتيلين خلوا فجرَّدوا٢٩
وكادت الطرواد تلوي ذعرا
ونحو إليون تفرُّ قسرا
ويظفر الأغارق انتصارا
وإن يكن زفس لهم قهارا
لكن فيبوس انبرى على الأثر
وفي مثال ابن إفيتوس ظهر
(ألفيج فبريفاس من شاخ لدى
أبيه ذاك الشيخ رغَّام العِدى
له انتمت إصالةُ الآراء)
فحث أنياس على الإبلاء:
«أما أتاك كيف تُحمى الدارُ
حتى ولو قاومت الأقدار
بالكر مثل كرة القوم الأولى
بلوت في طي زمانٍ قد خلا
بالعزم والإقدام جدُّوا الجدَّا
وباسِ أجنادٍ تقلُّ عدَّا
زفس لنا أحرز مذخور الظفر
وكلكم أحجم بالجبن وفر»
فلم يفت أنياس لمَّا أحدقا
بأنه رب السهام مطلقا
فصاح يعلو صوتُهُ الهدار:
«هكطور يا طرواد يا أنصارُ
العار كل العار أن نرتدَّا
تجاه إليون بعزمٍ هُدَّا
والآن لي لاحَ من الأرباب
رب تصدَّى لي بالخطاب
وقال: إنَّ زفس قيم الظفر
ظهيرنا إيهٍ فأحسنوا المكر
فطرقل ذا لا تدعوا الإغريقا
يلقوا به لفلكهم طريقا»
وانقضَّ في صدرهم ووقفا
والجيش من وراه طرًّا زحفا
فزجَّ عن ساعد باسٍ قاس
يردي ليقريط بن آرسباس
وكان ليقوميذ إلفُهُ يرى
فهاجه البث ونحوه جرى
وأرسل العامل رميًا يرمي
أفيسوون بن هفاس القرمِ
فحل في كبده فانطرحا
وكان من فيونةٍ قد برحا
ولم يكن من بعد عسطروف
فتًى حكاه في أولى الصفوف
فثار عسطروف ثم وثبا
فلم ينل من الأخاء مأربا
تدرعوا بشدَّة البؤوس
وراء معقلٍ من التروس
وبسطوا من حول فطرقل القنا
إذا بآياس يصيح علنا:
«عن شلو فطرقل إلى الوراء
لا تلتووا يا معشر الأخاء
ولا تهبَّنَّ إلى الأمام
بل حوله ذودن بالإقدام»
فاشتبكوا والنقع كالسيل جرى
فألبس الحضيض ثوبًا أحمرا
وانبسطت فوق الثرى الأشلاء
رُصَّتْ كثافًا ما لها إحصاء
أقلهم قتلى الأخائيينا
إذ هم قاموا متكاثفينا
يدرأ بعضٌ وافد المنون
عن بعضهم كراسخ الحصون
والتحم القتال كالأوار
وانتشرت سحابة الغبار
حتى كأن الشمس بادت والقمر
مما لدى فطرقل في الجو انتشر
لكنَّهم في سائر الأطراف
تلاحموا تحت رقيعٍ صافِ
لا غيم يعلو الأرض والجبالا
والشمس يزهو نورها جمالا
بينهم بونٌ فهم يبلونا
غبًّا وهول الحرب يتقونا٣٠
وظلمة النقع بحر الحرب
ما فتكت إلَّا بجند القلب
وولدا نسطور في الجناح
ما شعرا بالنبأ الفضَّاح٣١
بل حسبا فطرقل في الصدور
حيًّا دهى الأعداء بالثبورِ
جيشُهما انحل فخلف الجحفل
ظلَّا يذودان اتقاء الفشل
بأمر نسطور الحكيم عملا
إذ بهما إلى الخلايا أرسلا
ودام حول جثة الجديل
مشتجر الرماح للأصيل
حتى وهت أعضاء تلك الفرق
من عيها وسبحت بالعرق
فالتوت الرُّكبة والشظيه
خارت تقلُّ القدمَ المضويَّه
وكفِّتِ الكفُّ وكُفَّ البصر
والجسم طرًّا سابحٌ معفَّر
تألبوا تألب الأتباع
بأمر سَيِّدٍ لهم مطاع
داروا حوالي جلد ثورٍ مدَّا
والشحم سيَّالٌ عليه امتدَّا
تجاذبوا حتى البلال نضحا
والشحم للجلد مليًّا رشحا٣٢
وهكذا تجاذب القومان
جثَّةَ فطرقلَ بجهد العاني
قومٌ به أسطولهم يبغونا
ولحما إليون آخرونا
بينهم قد حمي الوطيس
بهمةٍ ما عليها آريس
ولا رمتها آن الاحتدام
فالاس بالتثريب والملام٣٣
يومٌ به زفس على الأجناد
والخيل أورى جذوة الجهاد
والحرب في بونٍ عن السفين
أجت على مقربة الحصون
لذاك لم يحط أخيل علما
بما بفطرقل هنا ألمَّا
بل ظنه حيًّا أتى الابوابا
فينثني ويحسن المآبا
إذ لم يكن في الغيب أن البلدا
لبأس فطرقل يدين أبدا
حتى ولو أخيلٌ انقضَّ معه
ذلك سرٌ من ثتيسٍ سمعهْ
أوحت إليه غيب زفس في القدر
مخفيةً مصاب إلفه الأبر
هناك ظل نافذ السنان
يصمي فيصطكُّ به القومان
يشجع الإغريق بعضٌ بعضا:
«للفلك عود العار أنى نرضى
خيرٌ لنا يا قوم أن ينشقَّا
جوف الثرى وفيه طرًا نلقى
من أن نرى قتيلنا يغيبُ
بين العدى وسعينا يخيب»
وضجت الطرواد في الصفوف:
«لا تنثنوا عن موقف الحتوف
حتى ولو طرًّا أبادنا القدر
من حول فطرقل وفاتنا الظفر
وفي الرقيع طار فوق المعمعه
لقبَّة النحاس صوت القعقعه٣٤
هذا وصافنات آخيل انبرت
في عزلةٍ تذرف دمعًا مذدرت
بأن روَّاض متونها هلك
وفيه هكطور أخو البأس فتك٣٥
لم يجد أفطميذ سوط الجبر
على تلطفٍ بها أو زجرِ
وقد أبت تسير نحو البحر
للفلك أو نحو السرى أن تجري
بل لبثت صماء كالعمود
على ضريح سيد عميد
أو قبر ذات عزةٍ وشان
وأطرقت في الأرض بالبحران٣٦
وهي لدى المركبة العجيبة
بلا حراكٍ تندب المصيبه
والدمع من بين مآقيها جرى
من كبدٍ حرى إلى وجه الثرى
وانبسطت أعراقها المخضبه
مسدولةً من فوق عرش المركبه
فلأساها رق زفس وانعطف
وهاج رأسه على ذاك اللَّهف
وقال في نجواه: «أوَّاه لما
بكم حبونا الملك فيلا قدما
فهو مليكٌ لبني الموت انتمى
وأنتم لا هرمٌ ولا فنا
ويحكم أكان ذا في القدر
حتى تمنوا بشقاء البشر
إذ ليس فيما دب أو تنفا
أشقى من الإنسان بؤسًا وأسى
لكن مهٍ فلن يرى هكطور
بكم على مركبةٍ يغيرُ
فلن أُتِيْحَنَّ له هذا كفى
أن تاه في درع أخيل شرفا
وها أنا في هول ذياك اللجب
موليكم قوة قلبٍ وركب
لتنقذوا من ساحة الهيجاء
سائقكم للسفن الحدباء
إذ قد أتحت الفتك والتنكيلا
للقوم حتى يبلغوا الأسطولا
حتى يوافي الغروب المؤنس
من ثم يتلوه الظلام الأقدس٣٧
ونفخ القوة فيها فمضت
وعن نواصيها غبارًا نفضت
طارت وأفطميذُ منقضٌ بها
مثل العقاب البط في الجو دها
لم يثنه البثُ على الرَّفيق
عن موقفِ الطرواد والإغريق
كرًّا وفرًّا جُرُدُه تطير
وهو على غير هدًى يسيرُ
يهزمهم وليس يصمي أحدا
مذ ظلَّ في كرسيه منفردا
إذ لم يكن في حيز الإمكان
تدبر العنان والسنان٣٨
أبصره الشهم ابن لا يرق فهب
ومن ورائه على الفور انتصب
قال: «أأفطميذ من أغواكا»
وأي ربٍّ سالبٌ هداكا
دفعت مفردًا بصدر الفيلق
آه على إلفك فالتحف لقي
أورده الردى ابن فريام وظل
يعتز مذ بثوب أخيل رفل»
قال أألقميذ من في الجند
يثير أو يكبح جرد الخلد
سواك من بعد الفتى فطرقل من
آل العلى حاكى ذكاء وفطن
لكنما فطرقل أوَّاه مضى
ينفذ فيه الموت أحكام القضا
فدونك الصروع والسوط هنا
حتى على الأعداء أنقضُّ أنا»
فاحتلَّ ألقميذ بطن العرش
وأفطميذ انحاز عنه يمشي
فصاح هكطور لدى مرآه
ذاك بأنياس الذي حاذاه
وقال: «يا أنياس يا عضيدي
انظر فقد أبصرت من بعيد
مطهَّمي أخيل منقادين
لسائقين في الوغى غرَّينِ
فإن تكن أنت ظهيري في الطَّلب
أحرزهما غنمًا ويا نعم السَّلبْ
فما لسائقيهما من شدة
على لقائنا ودفع الصدمة»
فانقض آياس وما ترددا
واندفعا قرمين قد توقدا
بجننٍ فيها على سبت البقر
صفائح النحاس تبهر النظر٣٩
معهما استطار إخروميُّس
وذو المحاسن الفتى إريتس
طرًّا بغوا بالفارسين شرَّا
والعود في تلك العتاق ذخرا
ضلُّوا فما هم قطُّ راجعونا
ما لم يريقوا الدم خاسرينا
زفس دعا يضرع أفطميذ
فاشتد ثم صاح: «ألقميذ:
«بهذه الجياد قربي ظلَّا
بعاتقي أنفاسها تحلَّا٤٠
فإنما هكطور لا ينفك ما
لم ينل النصر ويسفك الدما
ويدفع الجياد والجنودا
يفلُّها مبددًا مبيدا
أو إننا في صدر جيش النبلا
نظفر فيه خاسرًا مذللا»
من ثم صاح: «يا أياس الأكبرا
ويا منيلا يا أياس الأصغرا
عن جثة القتيل عبء الصد
ألقوا به لخير بهم الجند
وأدركونا نحن حيَّان وقد
برَّز هكطور وأنياس وفد
بصفوة الطرواد طرًّا أقبلوا
ونحونا كل قواهم حولوا
لكنني أبلي ولا أبالي
على ولاء زفسٍ اتكاي»٤١
رمى ورمحه مضى يغلُّ
وفي حشا إريتسٍ يحلُّ
ما صدَّه المجنُّ بل منه مرق
إلى نجاده وأحشاه اخترق
فهبَّ هبةً ومن ثم انحرف
مسلنقيًا والنصل مرتجًّا وقف
كأنما ذو شدَّةٍ وبأس
قابل ثورًا بشحيذ الفأس
من منبت القرنين بت العرقا
فهبَّ ثم خرَّ ثم اسلنقى
فخف هكطور وفورًا طعنا
لكن أفطميذ في الحال انحنى
فذهب السنان من فوق الكتف
مرتكزًا في الأرض عنفًا يرتجف
وأوشك القرمان يصطكان
بالسيف دون الرمح والسنان
لولا إلا ياسان اللذان اندفعا
لرفد أفطميذ لما سمعا
فارتاع هكطور وصاحباه
وانقلبا والميت غادراه
منطرحًا ممزَّق الأحشاء
فهبَّ أفطميذ كالأنواء
وجرد العدة عنه وابتدر
يصيح: «عن قلبي انجلى بعض الكدر
وإن يكن فطرقل لا يقاس
بذا الفتى ولو بلاه الناس»
ووضع العدة فوق العجله
ثم اعتلى منتصبًا بالعجله
مخضب اليدين والرجلين
كالليث ثورًا رضَّ بالكفين
هناك عج حول فطرقل الوحى
يثير خطبًا فادحًا مبرحًا
وانحدرت فالاس من أعلى السما
بأمر زفس لإراقة الدما
أنفذها لتنصر الأخاء
إذ شاء أن يبدل القضاء
وسط سحابةٍ من البرفير
حلت على شأنٍ لها خطير
كأن في قلب السما قوس قزح
ألقاه زفس منبئًا بما سمح٤٢
ينذر بالحرب وقر العام
وأزمة الحارث والسوام٤٣
فانخرطت بينهم في السحب
تحثهم من طي تلك الحجب
ثم حكت فينكس شيخًا أكملا
تخاطب الشهم منيلا أولا:
«العار والشنار أن تمزقا
غضف العدى خل أخيل الأصدقا
قم لا يزعزعك هزيع الحرب
وصل مثيرًا بأس كل الشعب»
قال: «أجل يا أبتا الشيخ ألا
ليت أثينا عضدي في ذا البلا
حتى تبين وابل النبال
عني ففطرقل أقي في الحال
فإن موته فؤادي فطرا
لكنما هكطور كالنار انبرى
ولم يزل يعمل باري الحدِّ
لأن زفس خصَّه بالمجد»
فطربت إذ ذاك مما وجَّها
دعاءه قبل بني الخلد لها
فشددت بالحزم منكبيه
وصلَّبت بالعزم ركبتيه
وحام حول الميت حيث انبعثا
كأنه الذباب غرثانًا عثا٤٤
يدفعه المرء فلا يظلُّ
يمتصُّ من دمٍ لديه يحلو
كذا منيلا الدم بالبأس سفك
بنصل رمحٍ حيثما حل فتك
وكان في الطرواد علجٌ يسعى
بفودس بن إيتيون يدعى
ذو دولةٍ وصولةٍ يجله
هكطور وهو ضيفُهُ وخلُّهُ
لم يرع مثله فتًى فذاكا
أورده أتريذٌ الهلاكا٤٥
ولى فغاص النصل في نجاده
لجوفه يمرق من فؤاده
فخر والعدة صلت وعدا
يجتره أتريذ من بين العدى
فجاء آفلون هكطور على
شكل ابن آسيوس فينفس العلا
من صرح آميدوسة قديما
ضيفًا لهكطور أتى كريما٤٦
فقال: «من هكطور يخشاك إذا
حاذرت من سطوة أتريذ الأذى
ما إن عهدت البأس فيه قبلا
وهو تراه قد جرى وأبلى
واجتر من بين سراكم مفردا
جثة فودس الذي أولى الردى»
غشَّى ابن فريام غمام الغم
فانقضَّ يجري بالسلاح الجم
إذ ذاك زفس هزَّ للإرهاب
مجنَّه الباهر ذا الهداب
فغشيت إيذة دهم السحب
بالبرق والرعد المخوف المرهب
يشير للطرواد بالغنيمه
ولبني الإغريق بالهزيمه
ولَّى فنيلاس البيوتي أوَّلا
مذ كان في صدر السرى مستقبلا
فزجه فوليدماس الباسل
فشق حتى العظم منه الكاهل
وانقض هكطور وليطوس ضرب
بقبضة الكف فولَّى وهرب
ملتفتًا من كل صوب يئسا
من ملتقى العدى بزند يبسا
في إثره هكطور كالبرق ركض
لكن إيذومين في الحال اعترض
بطعنةٍ بالثدي كادت تنشب
لكن ببطن الدرع قض الثعلب
فصاحت الطرواد والمطعون
زجَّ فما أصيب إيذومين
قد كان واقفًا على مركبته
فمال والنصل مضى بشدَّته
إلى فتى مريون قيرانوسا
تابعه الأمين من لقطوسا
كان إذومين من الخيام
قد جاء عاديًا على الأقدام
وأوشك الطرواد يحرزونا
بموته نصرًا لهم مبينا
لكن قيرانوس وافى بالعجل
إليه فامتطى على خير العجل
من العدى أنجاه لكن ما نجا
ونصل هكطور بفيه ولجا
في الفلك تحت الأذن والأسنانا
سحَّق ثم استأصل اللسانا
فَخرَّ والعنان من يديه
أهوى فمريون انحنى عليه
تناول الصرع وإيذومينا
دعا: «ألا سط واطلب السفينا٤٧
أما رأيت النصر عنَّا ولَّى
فما إليه من سبيل أصلا»
فخفَّ نحو الفلك بالجياد
مرتعدًا منخلع الفؤاد
رأى منيلا وأياس حالا
أنَّ العدى زفس إليهم مالا
وقد حباهم ببتات النصر
فصاح آياس بضيق الصدر:
«ذو العلم ويلا والجهول أبصرا
زفس اجتبى اليوم العدى ونصرا
فكلٌّ سهمٍ منهم طار قتل
سيَّان إن رماه نكسٌ أو بطل
فإنما زفس هو المصوب
وسهمنا يطيش حيث يذهب٤٨
فلنفكرن الآن مهما كانا
برد فطرقل إلى حمانا
لعل جندنا تسر طربًا
بعودنا فيه وإن ساء النَّبا
هدَّهم لا شك فرطُ الحزنِ
لما رأوا من هول هذي المحن
فما يخالون بنا من شدَّة
لصد هكطور بهذي الشدة
بل حسبوه لن يكفَّ حتى
يعلو الخلايا والسرى يبتتا
آهًا ألا نلقى لنا رسولا
يطير بالأنباء لابن فيلا
ظني به لا زال يجهل الخبر
بقتل إلف ودَّ من فوق البشر
أوَّاه لكن كيف بالوصول
فما إلى الرسول من سبيل
فحجب الظلام بانسدال
على السرى والخيل والعجال
يا زفس أيها الإلاه الأكبر
أَنِرْ على الإغريق حتى يبصروا
من جوك امحق حندس الديجور
ثم امحهم إن شئت وسط النور»٤٩
فرق للدموع زفس وانصدع
وبدد الضباب والغيم قشع
وسطعت في ساحة الكفاح
شمس العلى بنورها الوضَّاح
فصاح آياس: «منيلا هيَّا
علَّك أنطيلوخ تلقى حيَّا
فقل له بالخبر المشئوم
يمضي إلى أخيل الغشوم»٥٠
لبى منيلا ومضى كالضَّاري
أجلي عن حظائر الأبقار
صدَّته غضفٌ ورعاةٌ ظلت
ترصده الليل وما تخلت
ولم تبح له سمين الشَّحمِ
فصدَّ غرثانًا لذاك اللحم
تهمي عليه في الظلام الدامس
شهب القنا ولهب المقابس
لم يجده الباس وقبل الفجر
ممتعضًا ولى بكيد النَّحرِ
كذاك فطرقل منيلا كرها
غادر يخشى وقع خطبٍ أدهى
يخشى إذا الإغريق هدَّ الجزع
ولَّوا وفي أيدي العداة يقع
فصاح: «يا أياس يا مريون
يا زعماء الجيش لا تبينوا
وادكروا أخلاق فطرقل وكم
برقَّة الجانب للكل اتَّسم
واويحه كم من يدٍ بيضاء
له قبيل الحتف بالقضاء»
ثم انبرى مستشرفًا حيث جرى
كالنسر أحدق الطيور بصرا
ذاك الذي من قلَّةِ السَّحاب
أبصر خرنقًا بوعر الغاب٥١
ومن عباب الجو كالبرق انحدر
وأنشب المنسَرَ في لمح البصر
كذا منيلا لحظك النقَّادا
سرَّحت ما بين السرى ارتيادا
عل ابن نسطور لديك يبدو
حيًّا فتجري نحوه وتعدو
إذا به ميسرةَ الأجناد
يستنهض الهمات للجهاد
فخف نحوه وصاح: «ادن ترى
يا أنطلوخ الصادع المفطرا
خطبٌ بنا يا ليته ما حلَّا
جل وظني بك تدري جلَّا
تدري لنا أعدَّ زفس العارا
وانحاز عنَّا للعدى انتصارا
فطرقل ذياك الهمام الأروع
ميتٌ وهدَّ القوم منه المصرع
طر لأخيل علَّه في حسرته
ينهض في طلاب عاري جثته
قل سوف يلقى جسمه مجردا
لأن هكطور استباح العددا»
أصاخ أنطلوخ واقشعرَّا
وظلَّ صامتًا يطيل الفكرا
ففاض دمعه وقلبه انخلع
وصوته الهدَّار في الحال انقطع٥٢
لكنَّه لبَّى منيلا وهرعْ
من بعدما سلاحه حالًا نزع
ألقى به للوذق الجواد
ظهيره وسائق الجياد
وغادر العسكر والدَّمع همى
بنبأٍ جلَّ وخطبٍ دهما
أبعدت أنطلوخ يا منيلا
ولم تقم مقامه بديلا
ساء بني فيلوس أن قد نزحا
عنهم وجهد العي فيهم برَّحا
أمَّر فيهم ثرسميذ المجتبى
ونحو فطرقل عدا منقلبا
ولم يقف حتَّى الأياسين أتى
فقال: «قد أنفذت للفلك فتى
أنفذت أنطلوخ بالأنباء
إلى أخيل المستبدِ الناءي
لكن على هكطور مهما اشتعلا
غلا فهل نراه يبلي أعزلا
إذن علينا عهدةُ التبصُّر
بحمل فطرقل إلى المعسكرِ
والعود عن مشتجر السيوف
تملصًا من داهم الحتوف»
قال أياس بن تلامون: «أجل
بمثل هذا القول من قال عقلْ
أنت ومريون احملا الفقيدا
واندفعا عنَّا به بعيدا
خلفكما نقارع الأعادي
صدًّا لهكطور وللطُّروادِ
إني وآياس الفتى قرنان
بالبأس واسمًا متشابهان
فكم كبحنا قبل علجًا أروعا
وكم تحالفنا على الكر معا»
وما انتهى حتَّى سريعًا عمدا
ورفعا الجثَّة ثم ابتعدا
فضجت الطرواد ثم اندفعت
كالغضف دون فتية الصيد سعت
تعقَّبت رتًّا جريحًا طمعت
فيه فمال نحوها فجزعت
وانهزمت يدفع بعضٌ بعضا
كعسكر الطرواد لمَّا انقضا
تأثروا الإغريق بالمغاول
نفحًا وخزًا بظبى العوامل٥٣
حتى إذا ضاق المجال انعطفا
كلا الأياسين لهم ووقفا
فامتقعوا لونًا وخاروا ووهوا
وجملة عن طلب الشلو سهوا
وذانك القرمان نحو الفلك
خفَّا به فثار نقع الفتك
كالنار شبت تحت قصف الريح
في بلدٍ جم الذرى فسيح
فالتهمت منازل السكان
وهدر النوءُ على المباني
ذلك عجُّ الجيش والخيول
خلفهما في طلب الأسطول
ولبثا بالشلو يجريان
كما من الشم جرى بغلان
جدَّا بجذع حملا متين
أُعدَّ فوق الغاب للسفين
توغلا بشدةٍ في الوغر
بعرقٍ في الجهدِ رشحًا يجري
أمَّا الأياسان فَمِن خلفهما
قد حكيا في بطنِ وادٍ علما٥٤
في وجه مجرى النهر جبارًا يقف
فصاغرًا عنه سريعًا ينعطف
كذا الأياسان بوجه الفرق
صدَّا سرايا جيشها المندفق
لكنما الطرواد ظلُّوا في العقب
أنياس يغريهم وهكطور يثب
قرمان ضجت لهما الجيوش
وانهزمت بالرُّعب تستجيش
حكوا سحابةً من الزرازر
ولَّت لدى منظر صقرٍ كاسر
رأت به موتًا لها زؤاما
فانهزمت من وجهه انهزاما
كذلك الإغريق في كشفتها
مذعورةً ولَّت على ذلتها
وغادرت في الحاف والحفير
ما انهال من سلاحها الكثير
وليس هذا منتهى القتال
وعبثِ الأزمة والوبال٥٥

هوامش

(١) كل هذا النشيد مصاولة وكفاح، لا تتخلله نكات وغرائب كسائر إنشاد الإلياذة فهو وحيد في بابه بهذا المعنى، ولقد افتتحه الشاعر بالتغني بأعمال منيلاوس؛ لأنه لم يكن يجدر بهذا الفارس وهو المستنفر إلى حرب طروادة إلا أن يستلفت الأنظار ببأسه وإقدامه وسمو صفاته حينًا بعد حين، وقد لقبه الشاعر بإلف آريس إلاه الحرب إشارةً إلى أنه لم يكن بالفتى الهيَّاب كما زعم بعض أعدائه.
(٢) الثنية: البقرة الفتية.
(٣) هيفيرينور ابن فنثووس وشقيق أوفرب قتله منيلاوس (ن١٤).
(٤) العرس الهدي: العروس حين زفافها تُهدى إلى زوجها. وقوله: «في أقصى الغرف» إشارة إلى إقامتها في الحرم. راجع ما قيل بهذا الباب في حواشي النشيد السابق.
(٥) فرنثيس: أم هفيرينور.
(٦) العين: الذهب، واللجين: الفضة. ذكرنا في ما تقدم أن فتيان بعض قبائلهم كانوا يرسلون شعورهم أو يضفرونها كبدو العرب (ن:٢)، ولكننا لم نر قبل هذا أن غدائر الفتيان كانت تضفر بالفضة والذهب يتخذونها حلية كحلي النساء، على أن في جاهلية الأمم كثيرًا من أمثلة تحلي الرجال بالشنوف والخلاخل وسائر أنواع الحلي، ولا أخال الرجل في أول أمره إلا متخذًا الحلي لنفسه قبل المرأة؛ إذ كان يستأثر بقوته بكل ما يروقه ثم أخذ يتجاوز عنها إلى المرأة من باب الإثرة أيضًا؛ إذ جعل يأنس بالنظر إليها وهي رفيقته فوق ما كان يأنس بالتلبس بها بنفسه، وكان كلما تقدم في الحضارة ينبذ منها جانبًا إلى أن استبقى منها السهل الذي لا يزعجه حمله كالخواتم والسلاسل، وأبقى لها ما يوجب الحرص والأذى وثقب الأذان.
(٧) كثيرًا ما يشبه الشاعر البطل الخار صريعًا في ساحة القتال بالشجر الشامخ الفروع المتين الجذور كالأرز والملول، وأما تشبيهه أوفرب بفرخ الزيتون الغض فإنما كان لجماله وغدائره المسترسلة، وهي مضفورة بالفضة والنضار. قولوا: إنه كان لفيثاغورس شغف خاص بهذه الأبيات يتغنى بها على نغم القيثار حتى تمادى به هذا الشغف، فادعى أنه أوفرب بالذات قمصت إليه نفسه بعد موته.
(٨) الصوار: قطيع البقر.
(٩) غرة الشيء: خياره.
(١٠) يراد بأتريذ هنا: منيلاوس.
(١١) أي: إنه تشبه بميتيس زعيم الكيكونيين.
(١٢) أي: منيلاوس وأوفرب.
(١٣) أعجب كثيرون من الشراح بكلام منيلاوس في هذا الموقف وهو يناجي نفسه، ولا بدع فإن فيه من براعة تصرف الشاعر ما لا يكاد يتصوره شاعر آخر، أقبل هكطور تتبعه سرايا قومه فأوجس منيلاوس خيفة في نفسه فتردد في الاستواء أمام ذلك الجيش العرمرم، ولم يأخذه الرعب حتى مر على ذهنه أن لهكطور وجنده عضدًا إلاهيًّا لا تصده قوى البشر، ومع هذا كله فقد تمنى أن يكون إياس إلى جانبه فلا يبالي إذ ذاك بذلك الجيش الجرار ولو تقدمهم بطله المغوار وفيبوس الرب القهار، وفي هذا التدرج ما فيه من الفخر لمنيلاوس وإياس كليهما.
(١٤) يقال: رب انكسار خير من انتصار. وهكذا فإن ارتداد منيلاوس كالليث الملتوي أمام الرماح والنباح لا يغض من شأنه شيئًا.
(١٥) أي: سلاح أخيل. أرسل هكطور ذلك السلاح إلى إليون قبل أن يتقلده ليراه قومه ويكون نبأ لهم عظيمًا.
(١٦) قال عنترة:
ولي بأس مفتول الذراعين خادر
يدافع عن أشباله ويحامي
(١٧) عرض الجند، أي: عامتهم.
(١٨) الدراهس: الشدائد، والنواهس: الكلاب. يقول غلوكوس هذا القول؛ لأنه لم يكن يعلم ما كان من أمر سرفيذون وذهاب أفلون به ليدفنه بأمر زفس في وطنه.
(١٩) أي: نحو إليون.
(٢٠) قال بعضهم:
وما كل ما يخشى الفتى نازلٌ به
ولا كل ما يرجو الفتى هو نائلُ
فوالله ما فرطت في جنب حيلةٍ
ولكنه ما قدر الله نازلُ
وقد يسلم الإنسان من حيث يتقي
ويؤتى الفتى من أمنه وهو غافلُ
(٢١) ذهب القدماء إلى أنه كان من مهارة هوميروس أن أوقع سلاح أخيل مغنمًا بيد هكطور؛ ليتساوى البطلان، وإلا لما كان لأخيل الفخر بقتل هكطور، وسلاح أخيل صنع الآلهة وسلاح هكطور صنع البشر، وهنا أمر آخر يحسن التنبيه إليه وهو أن الشاعر وطأ بهذه المقدمة إلى الإتيان على الوصف البديع للسلاح الذي سيصنعه هيفست لأخيل في النشيد التالي.
(٢٢) أي: لن يبلغ سن الشيخوخة؛ لأنه سيقتل شابًا.
(٢٣) لا يفوت الشاعر محل انتقاد إلا ويتنبه إليه ويتلافاه؛ إذ قد يمكن أن يعترض بأن عدة معدة لرجل لا تحسن لكبر أو صغر أو قصر أو طول لرجل آخر، فقال الشاعر: إن زفس جعلها كأنما صنعت لهكطور، وهو القدير على أكثر من ذلك.
(٢٤) يشبه هكطور بغمام الحرب، وهو تشبيه غريب؛ ولهذا ذهب بعضهم إلى أن هذا البيت دخيل. قلت: ولا أراه غريبًا بتصرفه به هذا التصرف.
(٢٥) ابن ويلوس هو إياس الأصغر، كان أول قادم، إما لأنه كان أعداهم كما تقدم، وإما لأنه كان إلف إياس الأكبر، فكان أول مجيب لندائه.
(٢٦) الرت: الخنزير. والغضف: الكلاب.
(٢٧) ثعلب الرمح: عوده.
(٢٨) أي: حمالة السيف التي أراد أن يجر بها جثة فطرقل.
(٢٩) أي: فرقيس وهيفوثوس.
(٣٠) غبًّا، أي: حينًا بعد حين.
(٣١) ترسيميذ وانطيلوخ.
(٣٢) يعلمنا هوميروس هنا كيف كانوا يبسطون الجلود، وهو أول من ذكر ذلك فيما نعلم.
figure
القتال حول جثة فطرقل.
(٣٣) أي: إن فالاس وهي آثينا ربة الحكمة لا تجد مرمى للوم والتثريب، وإن كانت مغيظة، تلك إشارةٌ إلى أن حدة الغيظ تدفع حتى البصير الحكيم إلى كشف معايب غيره، وهي طرفة من طرف هوميروس الكثيرة.
(٣٤) أي: إلى السماء.
(٣٥) لا عجب إذا مثل لنا هوميروس جياد أخيل تذرف العبرات أسًى وحزنًا على فطرقلٍ، وهي من الجياد الخالدة، فلقد روى الرواة في كل الأعصر أن الخيل تبكي وتتحرق لهفةً على فرسانها، ذكر أمثال هذا أرسطاطاليس ولبيناس، وذكر سولينوس مثله عن الفيلة إذا أخذت من مواطنها، وقال هذا القول عن الحيوان بعض المتأخرين، وقد حذا حذو هوميروس باستبكاء الجياد فرجيليوس فقال:
Post bellalor equus, Positis insignibus Æthon
It lacrymans, guttisque humectat grandibus ora
وأما شعراء الإفرنج فقد لطفوا المعنى؛ إذ أضربوا عن ذرف الدموع وعبروا عن جزن الخيل بجمود العين وتنكيس الرأس، وما أشبه كقول راسين في روايته فدر
Ľœil morne maintenant et la lète baissée
Semblaient se conformer à sa triste pensée
وممن استبكى الخيل من شعرائنا عنترة العبسي بقوله:
ولقد تركت المهر يدمي نحره
حتى التقتني الخيل ثاني جدعم
ما زلت أرميهم بثغرة نحره
ولبانه حتى تسربل بالدم
فازورَّ من وقع القنا بلبانه
فشكا إليَّ بعبرة وتحمحمِ
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى
ولكان لو علم الكلام مكلمي
وأما استبكاء الحمام والورق وما أشبه من الطيور فقد صار في لغتنا من المبتذلات السواقط.
(٣٦) إن عادة إقامة النُّصب على قبور الأموات رجالًا ونساءً قديمة جدًّا كما ترى. راجع النشيد السابق.
(٣٧) سبق لنا ذكر السبب في تقديس الظلام (ن١٤).
(٣٨) لما قتل فطرقل أصبح أفطميذ منفردًا في كرسي المركبة، فكان يغير بغير هدى على الأعداء فيهزمهم، ولا يقتل أحدًا منهم؛ إذ لم يكن بإمكانه أن يكافح ويطارد في آن واحد.
(٣٩) الجنن: التروس، والسبت: الجلد المصنوع.
(٤٠) يقول لا تبعد عني بالجياد بل سر دائمًا على مقربة مني حتى أشعر بنفسها على عاتقي.
(٤١) حيثما نظرنا إلى الإلياذة رأينا فيها الأدلة الساطعة على خالص الاعتقاد بالقضاء والقدر، ووجوب التسليم إلى العناية على حد قول المعري:
سلم إلى الله فكل الذي
ساءك أو سرَّك من عنده
(٤٢) قوس قزح هنا نذير سوءٌ لا يشير خير كما جاء في التوراة.
(٤٣) القر: اشتداد البرد، والسوام: الدواب والأنعام.
(٤٤) الغرثان: الجائع، وعثا: أفسد.
(٤٥) لعل الإتيان بفودس هنا ومقتله مقصودان من الشاعر بإزاء قدوم فطرقل ومقتله؛ لأن هذا خليل أخيل بطل الإغريق، وذاك خليل هكطور بطل الطرواد.
(٤٦) أي: أسيوس الذي تمثل أفلون بهيأته.
(٤٧) الصرع: العنان.
(٤٨) قال البحتري:
متوقد يفري بأول ضربة
ما أدركت ولو أنها في يذبلِ
وإذا أصاب فكي شيءٍ مقتل
وإذا أصيب فما لهُ من مقتلِ
(٤٩) لما كان الجو قد أربد واكفهر بما كثف زفس فيه من الضباب، وتصاعد من الغبار المتكاثف كالسحاب، سدت سبل البطش في أوجه الأبطال، فقال أياس في دعائه هذا القول البديع؛ إذ لم يلتمس نجاةً لنفسه ولقومه، ولا عونًا علويًّا يستمده من زفس، بل جل ما رام وتمنى أن تنقشع السحب فيتسع له المجال للكفاح، ولا حرج عليه بعد ذلك إذا مات قتيلًا وهو يجاهد ويطارد.
(٥٠) الغشوم: الظالم وقع اختيار أياس على أنطيلوخ بن نسطور؛ لكونه صديقًا حميمًا لأخيل.
(٥١) الخرنق: ولد الأرنب.
(٥٢) لا وصف أبلغ للحزن من هذا الوصف الوجيز: اقشعرارٌ، وصمتٌ، وفكرة، ودمعٌ، وانخلاع قلب، وانقطاع صوت.
figure
أياس الكبير يحمل فطرقل ليدفعه إلى منيلا ومريون.
(٥٣) المغاول: السيوف، وظبي العوامل: نصال الرماح.
(٥٤) العلم هنا الجبل.
(٥٥) إن التشابيه الشائقة متلازَّة متزاحمة في آخر هذا النشيد، تزاحم الفرسان في حومة الميدان، وحسب المطالع أن يعيد النظر عليها، فيرى بدائع التراكيب وغرائب الأساليب قد تطايرت من قريحة الشاعر بأبياتٍ قصار تطاير النبال عن سواعد الأبطال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤