النشيد الثامن عشر

تفجع أخيل على فطرقل ووصف الترس الذي صنعه له إلاه النار

مُجْمَلُهُ

جرى أنطيلوخ إلى أخيل فأنبأه بموت فطرقل، فبكى أخيل وانتحب، وأخذ منه الحزن كل مأخذ، فسمعت أمه ثيتيس أنينه وهي في لجة البحر، فصعدت إليه مع بنات الماء فأخذت تصبره وهو لا يتصبر، ولا يرى إلا الانتقام لرفيقه وحبيبه، وكان فطرقل قد ذهب بسلاح أخيل فبقي أعزل لا قبل له بالتقاء الأعداء على تلك الحال، فثبطته أمه ريثما تحضر له شكةً في اليوم التالي مع صنع إلاه النار، فصرفت زميلاتها وصعدت إلى الأولمب فتلاحم الجيشان حول جثة القتيل، وكاد هكطور يظفر بها لو لم تأت إيريس من قبل هيرا، وتأمر أخيل بالإقبال من بعيد على الطرواد، فأقبل إلى حافة الخندق وصاح ثلاث صيحات فارتاع الطرواد وانهزموا وخلا الإغريق بجثة فطرقل، وأتوا بها قبيل المغرب إلى خيمة أخيل، وعقد الطرواد مجلسهم فأشار فوليداماس بالتحصن في المدينة فأبى هكطور إلا البقاء خارجها، فقضوا ليلتهم متيقظين والإغريق وأخيل يندبون فطرقل فغسلوه وطيبوه، وأما ثيتيس فدخلت صرح إلاه النار فرحبت بها زوجته، ثم أتاها بنفسه فبثت له شكواها والتمست سلاحًا لابنها، فدخل معمله واصطنع الترس العجيب والدرع والخوذة والخفين وألقى بهن إليها، «فاندفعت بها اندفاع الصقر».

وقائع هذا النشيد في اليوم التاسع والعشرين وليلة الثلاثين، ومجرى حوادثه في مضارب أخيل وفي منزل إلاه النار.

النشيد الثامن عشر

صدامهم كأوار النار محتدم
وأنطلوخ به قد خفَّت القدم
ألفى أخيل لدى الأسطول يخبط في
بحرانه قلقًا ممَّا بدا لهم١
يئن وهو يناجي النفس مضطربًا:
«ويلا علام أرى الأرغوسة انهزموا
ولَّوا عباديد نحو الفلك شاردةً
هل جلَّ خطبٌ به الأرباب قد حكموا٢
خطبٌ به أوعزت ثيتيس قائلةً:
«بُهمُ المرامد يلقى الحتف خيرهم٣
«يغيب عنه ضياء الشمس فاتكةً
به الأعادي وحيٌ أنت عندهم»
لا شك فطرقل أودى ويحه أفلم
أقل له دونك النيران تضطرم
أخمد شرارتها وارتدَّ مجتنبًا
هكطور لا تنخرط إيَّاك وسطهم»
تلك الهواجس هاجت بثَّه فإذا
بأنطلوخ بدا والدمع ينسجم
قال: «ابن فيلا مصابٌ قد دهمنا به
يا حبَّذا لو بنو العلياء ما دهموا
فطرقل ملقى وهكطورٌ بشكتِهِ
والجسم عارٍ عليه النقعُ ملتحم»٤
فما انتهى أنطلوخٌ من مقالته
حتى محيَّا أخيلٍ غشَّت الغمم٥
وفوق طلعته الغراء وهامته
براحتيه سناجًا ذرَّ يلتطم٦
فاسود منه محياه وقد علقت
بطيب أثوابه آثاره السحم٧
أكب يشغل ميدانًا بقامته
تمرُّغًا وهو زاهي الشعر يصطلم٨
وحوله انطلقت تبكي مولولةً
تلك السَّبايا التي غصَّت بها الخيم٩
غيدٌ أخيلُ وفطرقلٌ ببأسهما
قد أحرزا سلمًا يا حبَّذا السَّلم١٠
لطمن بض صدورٍ والتوين أسًى
فسحَّ من أنطلوخ المدمع الرَّذم١١
ذرعيه أمسك حتى لا يثور أسًى
ونحره يلج الصَّمصامةُ الخذم١٢
فأنَّ عن ألمٍ من ضيمه فمضى
حتى لثيتيس ذاك الضيم والألم١٣
فصعدت من عباب البحر زفرتها
حيث استقرَّ أبوها نيرس الهرم١٤
وحولها ثم في الأعماق قائمةً
في اليم كلُّ بنات اليم تلتئم
غلوكةٌ قيمذوكا ثاليا وثوا
وآليا من بعين الحور تتسم
صفيةٌ نيسيا أكتا قموثوةٌ
لمنورةٌ ذروسٌ فانوب أمفنمُ
أمفيثوا ذينمينا ذكسمينا ذتو
غلاطيا الحسن من شاعت لها الشيم
وحولها ياريا ميليت آغبيا
فيروز قليانرا إفروط تزدحم
وأفسذيس نميريتيس قلينسا
أماثيا من بشعرٍ زانها وسموا
ياناسُ يا نير إقليمين أورثيا
ما يير والكلُّ ضمن الكهف ينتظم١٥
كهفُ لها أبيض حسنًا فارتكمن به
وفيه كل بنات البحر ترتكم
ولولن ولولة ثم التطمن معًا
وولولت عن فؤادٍ كاد ينفصم
صاحت: «أخيَّات سمعًا وانتبهن إذا
لنقمةٍ قد عرتني دونها النقم
ويلاه ويلاه من أمٍ لقرم وغى
عن شأوه قصَّر الأبطال كلهم
أنشأته مثل غصنٍ طاب منبته
في روضةٍ فإذا بالسادة اختصموا١٦
بالفلك أنفذته للحرب واحربا
والآن موطن فيلا دونه حَرَمُ١٧
ما زال حيًّا عليه الشمس ساطعةٌ
وفي حشاشتهِ من ضيمه ضرم
لا أستطيع له عونًا وها أنذا
فورًا لرؤيته ذا الحين أغتنم
أرى الحبيب فأدري ما ألم به
من محنةٍ وهو عن قرع القنا وجم»
وغادرت كهفها يصحبنها وغدا
أمامهنَّ عباب البحر ينقسم
حتى إذا ما بلغن السَّهل سرن إلى
حيث المرامد تلك الفلك قد نظموا
وحيث حوليه قد أرسوا عمارتهم
فأسمعت زفراتٍ هاجها السأمُ
دنت وأنت وضمَّت رأسه لهفًا
وكلمته تجاري دمعها الكلم:١٨
«بني ماذا الأسى ما الدمع تذرفه
بُحْ لي فبثُّك عني ليس يكتتم
ألا ترى زفس ذاك الوعد برَّ به
لمَّا بسطت له كفيك تظلم
ناشدته مذ عن الإغريق بنت إذن
في وجه فلكهم كيدًا يكيدهم»١٩
فأنَّ عن كبدٍ حرَّى وقال: «أجل
قد بر ويلاه فيما قد أذاقهم
لكن إذا اخترمت أبطال صيدهم
ما نالني والفتى فطرقل مخترم؟٢٠
فطرقل أرفعهم شأنًا وأعلقهم
بمهجتي لا تضاهيه قرومهم
بهامتي كنت أفديه فوا لهفي
عدمتُهُ مثلما كبارهم عدموا
من بعد مصرعه في صلد شكَّته
هكطور ذو القونس الطيَّار محتكم٢١
سلاح خلدٍ من الأرباب أهديه
فيلا فما حصرت تقويمه القيم
فيضًا أنالوه لمَّا كنت قسمته
يا حبَّذا لو له إنسيَّة قسموا٢٢
فلو بقيت ببطن البحر قاطنةً
ما نلت من إنس أهل الأرض ضيمهم
وما تألمت لابنٍ لن يأوب إلى
أوطانه وهو بحر الموت يقتحم
لا عيش لي فسناني اليوم تنفذه
كِفِّي لهكطور عن فطرقل أنتقم»
صاحت وسحَّت على الخدَّين عبرتها:
«إذا حياتك كادت آه تنصرم
هلاك هكطور يتلوه هلاكك لا
مرًى» فقال: «إذن يا حبَّذا الشبم٢٣
يا حبَّذا الموت إذ غلت يدي سلقًا
عن صون إلفي لمَّا اشتدَّت الإزمُ
فطرقل أودى ولم أبرز لجانبه
أقيه من صدماتٍ تحتها اصطدموا
فلم أصدَّ زؤام الموت عنه ولم
أرد عن فتيةٍ هكطور فلَّهم
فالموت فالموت لا عودٌ ولا وطنٌ
إذ لم أهبَّ إلى الهيجا أصونهم
حملًا على الأرض لا جدوى لثقلته
ظللت دون أساطيلي تجاههم
لئن يفق بسداد الرأي بعضهم
فإنني بقراع الصم فقتهم
فلتهلك الفتنة الدّهما التي عبثت
بالجن والإنس حتى افتلَّ شملهم
وليهلك الغيظ من بين الأنام فكم
أغرى وأوغر منقادًا حكيمهم
كالشهد في الصدر يجري وهو منتفخٌ
مثل الدخان به أهل العيون عموا
أتريذ حدَّ مني غيظًا وذاك خلا
فلنغض ولنمض مهما برَّح الأضم٢٤
نعم سأطلب هكطور الذي فتكت
كفَّاه في قمَّةٍ تعنو لها القمم
حتى إذا شاء زفسٌ في بطانته
موتي فإن حياتي تلك دونهم
هرقل لم يغن عنه بأسه وولا
زفسٍ فأودى وإن أولوه ودَّهم
أصابه كيد هيرا والقضاء إذن
فلأُلق ميتًا إذا كانت كذا القسم
وليس من شاغلٍ ذا اليوم يشغلني
إلَّا ادخار علًى تسمو به الهمم
والدردنيَّات بضَّات الصدور يرى
لهنَّ دمعٌ سخينٌ جريه ديم٢٥
يمسحن ما سحَّ عن غض الخدود وقد
هاجت تلهفهنَّ الأبؤس الدهم
يعلمن أن اعتزالي طال فاغتنم الـ
أعداء بوني وإني الآن بينهم
ما أنت مهما بذلت النصح مانعتي»
قالت: «أجل أحكمت في قولك الحكم٢٦
وافخر من عن سراياه وأسرته
أزاح بالبأس خطبًا جلَّ هالهم
لكنَّ شكتك الغراء فاز بها الـ
ـعدى وهكطور فيها الآن متسمُ
ما خلته يتمادى عهده زمنًا
علمت ساعته حانت وما علموا
فلا تلج لجج الهيجاء مقتحمًا
حتى تراني غدًا والفجر يبتسم
في شكةٍ من لدى هيفست شائقة
أعود فأبل بها وافتلَّ جمعهم»
وغادرتْه وقالت للحسان: «إلى
مَ الشيخ والدنا بالصبر معتصم
لجن العباب إذن بلغنه وأنا
هيفست أطلب فهو العهد يحترم»
فغصن وهي استطارت تبتغي مددًا
في الخلد حيث استقر المجد والعظم
ما زالت الطرواد تحت القسطل
من وجه هكطور المدمر تنجلي
بلغت على صلقاتها أسطولها
وقتيلها تحت النبال الهمَّل
كشرارة هكطور هب يرومه
بعجاله ولفيف ذاك الجحفل
أحنى ثلاثًا قابضًا قدميه وهـ
ـو يصيح يا جند الطراود أقبلي
وكذا ثلاثًا صدَّه عزم الأيا
سين المذلل عزم كل مذلل
لكنه ما انفك عن عزماته
متدرعًا بزماع قرمٍ قيلِ
متربصًا طورًا يهدُّ وتارةً
يلج العباب بكرَّة المستبسلِ
لم يبلغا أربًا به لكنَّه
من حول ذاك الشلو لم يتحوَّلِ
كالليث ضوره الطوى بفريسةٍ
يخلو ويزري بالرعاة البسَّل
ولربما بمناه عاد مظفَّرًا
لو لم تلح إيريس ترمح من عل
أمت أخيل من الألمب فأقبلت
كالريح تنذر بالوبال المقبل
هيرا أسارتها فلم يعلم بها
زفسٌ ولا أرباب ذاك المحفل
قالت: «أخيل وأنت مغوار الوغى
للذود عن فطرقل كرَّ وعجل
دون السفائن تحت مشتجر القنا
حوليه كم قرمٍ يخرُّ مجندلِ
ما بين حامٍ يستشيط وحائمٍ
بالشلو إليونًا يروم ويصطلي
وأشدهم هكطور يدفعه المرا
م لفصل هامته وبت المفصل
من ثم تعرض للهوان على القنا
أفتلبثنَّ عن الكفاح بمعزل
كرَّن أو فطرقل بين نواهسٍ
في ساحة الأعداء جثته تلي
فإذا بها عبثت فأيَّة حطة
أبدًا تسومك ذلة المتذلل»
فأجاب: «إيريسٌ ومن أسراك لي»
قالت: «حليلة زفس ذي الطَّول العلي
لم يدر بي زفسٌ وسائر من ثوى
بذرى ألمبٍ بالثلوج مكلل»
فأجاب: «آه وكيف أقتحمُ الوغى
وأخوضُ لجتها براحة أعزل
ملك العدى عددي وأمي حتمها
أبقى هنا بتربص المتحمل
حتى أراها أقبلت في شكة
قد دقها هيفست أعظم صيقل
أولا فأي فتى بشكته أرى
غرضي خلاف مجن آياس الملي
وأياس من حول القتيل إخاله
قد حام يطعن في الخميس الأول»
قالت: «علمنا كل ذلك إنما
إن تبد للطرواد دون المعقل
ذعروا وصحبك يانسون بجهدهم
فعلى البروز لدى سراهم عول
ضاقت منافسهم وفي دار والوحى
هيهات تؤمل راحةٌ لمؤمل»
طارت فهبَّ فألبسته مجنها
فالاس في هدَّابه المسترسل
وعلى محيَّاه غمامة عسجدٍ
ألقت يفيض لها لهيب المشعل
فكأنما بلدٌ بقلب جزيرةٍ
حصرت علا منه الدُّخان المعتلي
خرجت بنوه إلى مبارزة العدى
وقضوا نهارهم بقرع الأنصل
حتى إذا برحت براح تألقَّت
نيرانهم من تحت ليلٍ أليل٢٧
أملًا بجيرتهم ترى فتمدَّهم
بعمارةٍ تجلي العدوَّ المبتلى
وكذا أخيل لهيب هامته سما
حتى الرقيع لمقلة المتأمل
فوق الحفير أقام لا يطأ الوغى
إذ عن مقالة أمه لم يغفل
بالقوم صاح وصوت فالاسٍ علا
فتقلقل الأعداءُ أيَّ تقلقل
كالصور خلف السور ينفخه العدى
تحت الحصار تبينوا الصوت الجلي
صدعوا وأعراف الجياد تطايرت
جزعًا وفرت خيلهم بتجفل
بعجالها انقلبت تفر بساقةٍ
ذعرت لذياك اللهيب المنجلي
من حول هامته أثينا أجَّجت
ذاك السعير يروع عين المجتلى
فوق الحفير علا ثلاثًا صوته
وكذا ثلاثًا أجفلوا بتبلبل
وتجندل اثنا عشر من أبطالهم
برماحهم تحت العجال العجل٢٨
فخلا بفطرقل الأغارق وانثنوا
نائين عن مرمى الرماح الدبل
وضعوه فوق سريره وتقاطرت
خلانه تبكي لهول المقتل
وافاهم آخيل منتحبًا على
إلفٍ به لعبت حدود المنصلِ
هو ساقه للحرب فوق جياده
لكنه وا ويحه لم يقفل
فهناك هيرا أنقذت شمس العلى
فتخللت بطن العباب لتختلي
فتثبَّط الإغريق عن هجماتهم
وتربَّصوا تحت الظلام المسبل
تخلفت الطرواد لما الدجى أربدا
مغيرًا وحلوا من عجالهم الجردا
وقوفًا قبيل الزاد حشدًا تألفوا
ولم يجلسوا رعبًا وإن أثقلوا جهدا
لقد هالهم أن ابن فيلا بدا لهم
وبعد اعتزال الحرب قد عاد مشتدَّا
بهم فولداماس الحكيم ابن فنثس
تبدَّى خطيبًا يفقه الحل والعقدا
نظورٌ لما يأتي خبيرٌ بما مضى
ولي لهكطور ومن رهطه عدَّا
لقد ولدا في ليلةٍ بيد أنَّه
بدا دونه بأسًا كما فاته رشدا
فقال: «أصيحابي اقتفنَّ نصيحتي»
هلموا إلى إليون ذا الحين نرتدَّا
لدى الفلك في ذا السهل للفجر لا أرى
مقامًا وعنا السور تدرون قد ندَّا
لقد كانت الأرغوس أسهل مأخذا
وآخيل مشتدُّ بعزلته حقدا
وكم شاقني إذ ذاك ليلي بقربها
على أملٍ بالقرب أن نبلغ القصدا
ولكنني أخشى وأدري بأنه
بحدَّته لن يرضينَّ هنا الحدَّا
يجوز مرامي الجحفلين مغادرًا
ليمتلك الأسوار والأهل والولدا
صدقتكم نصحًا فسيروا بنا فإن
يكفَّ فذاك الليل في وجهه اسودَّا
ولكن إذا ما أصبح الصبح وانبرى
بعدته أيقنتموه الفتى الفردا
لإليون من ولّى فمستبشرًا نجا
ويشبع طير الجو والغضف من يردى
فلا طرقت هذي النوازل مسمعي
ولكن علمي ذا وإن ساءكم جدَّا
إذا فلنقم في الليل حشدًا مكثفًا
بإليون أسباب الوقاية نعتدَّا
فأبراجها الشما وأرتاجها التي
بأصفاقها زلجن نجلي بها الوفدا٢٩
وعند بزوغ الفجر بالعدد الأولى
تألقن نبدو فوق معقلنا حشدا
فهيهات آخيل يفوز إذا بدا
بممتنع الأسوار مهما علا جهدا
يعود إذا ما أجهد الخيل حولها
مغارًا إلى أسطوله لاهبًا وجدا
ستفرسه غضف الكلاب قبيل أن
يحلَّ بهنَّ اليوم أو يعمل الحدَّا»
فأحدق شزرًا فيه هكطور صارخًا:
«لقد جئت أمرًا فولداماسنا إدَّا
أندخل إليونًا فهلَّا عييت من
مقامك من خلف المعاقل منهدَّا
لقد ملأ الأسماع ما أرضنا حوت
نضارًا بهيا أو نحاسًا بها صلدا
وقد نفدت جلى الكنوز وبددت
فلست لها تلقى بأفنائها عهدا
بإفريجيا بيعت وأرض ميونةٍ
على حين عنَّا زفس منتقمًا صدَّا
وها هو عني الآن راضٍ منيلني
من النصر ما للفلك يطردهم طردا
تعست فصه لا تخدع الجند لن يروا
برأيك نصحًا أو أردَّهم ردَّا
هلموا إذن للزَّاد لا تتشتتوا
وكل فتًى في حينه يحسن الرصدا
ومن بات في خوفٍ على المال فليقم
ويجمع لديه المال يطعمه الجندا
فخبرٌ لنا نلهو به جملةً ولا
نمتع بالأموال أعداءنا اللدا
وإن طرَّ وجهُ الصبح دجج جيشنا
فتعقد دون الفلك كرته العقدا
فإن كرَّ آخيلٌ إلى ساحة الوغى
رأى عجبًا من قبلِ أن يرد الوردا
أبارزه لا هالعًا أو موليًا
ولا بد منا ماجدٌ يحرز المجدا
لكل همام كانت الحرب منهلا
فكم بطل فيها يصدُّ العدى أصدى٣٠
فضجت له الطرواد جهلًا وما دروا
بأن أثينا قد أضلتهم عمدا
وهكطور طرًّا وافقوا يغفلون ما
لهم فولداماسٌ بحكمته أبدى
ومالوا وما زالوا بملء انتظامهم
لزادٍ لهم ما بين تلك السرى مدَّا
وأما بنو الإغريق آناء ليلهم
فقد لبثوا في مأتم هدَّهم هدَّا
وبينهم آخيل في زفراته
يحن لفطرقلٍ وقد أكبر الفقدا
على صدر ذاك الإلف ألقى أكفه
يحاكي إذا ما أحدق الأسد الوردا
كأن ببطن الغاب أشباله بها
خلا قانصٌ فاربدَّ واشتدَّ واحتدَّا
وهبَّ على آثاره بحزازةٍ
تحدره وهدَّا وتصعده نجدا
فصاح: «ألا ربَّاه واعظم موعدٍ
وعدت منتيوسًا ولن أصدق الوعدا٣١
بمنزله عاهدته لأفنطسٍ
أعيد ابنه من بعد أن يقهر الضدَّا
ويهدم إليونًا ويرجع غانمًا
وهيهات زفسٌ كلَّ آمالنا أسدى
بإليون قد خط القضاء بأنَّ من
دماء كلينا الأرض محمرة تندى
فلن يتلقاني أبي الشيخ عائدًا
وثيتيس أمي بعد أن أعظما البعدا
أفطرقل مذ سيقت لذا الترب أعظمي
وبعدك لي قد خط أن أنزل اللحدا
فلست متما مأتمًا لك قبل أن
أذيق الرَّدى هكطور قاتلك الجلدا
وشكَّتُهُ تلقى لديك ورأسه
فأذكي لك النيران مدَّخرًا حمدا
ومن حولها اثني عشر رأسًا بصارمي
أقضب من طروادة فتيةً مردا٣٢
فظل إذن ملقى لدى الفلك ريثما
أبرُّ فذا عهدي ولن أخلف العهدا
فكم ثمَّ طرواديَّةً دردنيَّةً
سبينا بدارٍ بأسنا فوقها امتدَّا
ينحن عليك اليوم والليل كله
ويلطمن بض الصدر والنحر والخدا»
وأوعز أن يعلى على النار مرجلٌ
وفي غسل جسم الميت من حينهم يبدا
فلبوا وفيه الماء صبوا وأشبعوا
له النار تذكو من جوانبه وقدا
ولما غلى في ساطع القدر ماؤهم
ففي غسله جدَّوا وقد أحسنوا الجدا
ونقوه من تلك الدماء وبادروا
لزيتٍ كثيفٍ يدلكون به الجلدا
وفي كل جرحٍ أفرغوا بلسمًا مضى
لتسعة أعوامٍ تقادمه عهدا
وألقوه من فوق السرير وأسبلوا
من الرأس حتى تحت أقدامه بردا
ومن فوقه سترٌ من النسج أبيضٌ
وناحوا وآخيل مدى ليلهم سهدا٣٣
فقال لهيرا زفس في قبَّة العلى:
«فلحت فآخيلٌ لقد أنف الصدا
فلا ريب في أن الأغارق قد نموا
إليك وأضحى منك طارفهم تلدا»٣٤
فقالت: «ألا يا ظالمًا قد هزأت بي
وللإنس تلقى الإنس قد أحسنوا العضدا
ولم يبلغوا من راسخ العلم علمنا
ولا مثلنا أوتوا بأرضهم الخلدا
وإني وإن ما كنت أسمى إلاهةٍ
وبعلي أخي من لا أقيس به ندا٣٥
فلم أعط أن أولي الطراود ذلةً
ولا قوم أرغوسٍ أنيل هنا رفدا»

•••

ذاك الحديث في السماء يجري
ونحو هيفستٍ ثتيس تجري
حيث بني الأعرج زاهي القصر
صرحًا من النحاس عالي القدر٣٦
في الخلد يسمو راسخًا للدهر
ألفته سح عرقًا فوَّارا
يدير منفخًا ويذكي نارا
مناضدًا عشرين قد أدارا
على الجدار تبهر الأبصارا٣٧
مرفوعةً على عجال تبر
حتى بها بأعجب العجاب
من نفسها لمجلس الأرباب
تسرع بالذهاب والإياب
تمت سوى مقابض الأجناب
مع عراها الشائقات الغر
أمامه قد حمي الوطيس
يشغله إذ أقبلت ثيتيس
فأبصرتها عرسه خاريس
فبادت بقرعها تميسُ
وصافحتها بعظيم البشر:
«يا ربة المقنعة المسدوله
ثيتيسُ يا خلتنا الجليله
علام أنت عندنا نزيله
على خلاف عادةٍ جميله
هيي بنا حيث الضيوف نقري»
وأجلستها طلقة الإيناس
عرشًا بديعًا محكم القياس
قتيره من اللجين القاسي
ذا موطئ لأرجل الجلاس٣٨
وزوجها نادت بصوت الجهر:
«هيفست قم ثيتيس عونك ابتغت»
فقال: «أهلا بإلاهةٍ سمتْ٣٩
تلك التي الكربة عني فرَّجت
لما من السماء بي أمي رمت
تكتم عاهتي بشرِّ الكبرِ
فهي وافر ينومة الإحسان
بنت المحيط الجازر الهتانِ
بالبشر والأنس تلقتاني
أولا فما كان إذن أشقاني
ووارتاني في عباب القعر
حللت كهفًا حوله قد دارا
مجرى الخضم مزبدًا هدَّارا
كم صغت فيه لهما سوارا
خواتمًا قلائدًا أزرارا
تسعة أعوامٍ بطي الستر
سواهما في الأرض والسماء
لا أحدٌ درى مقام النائي
هما هما قد خففا شقائي
والآن ثيتيس هنا إزائي
أني أأدي حق فرض الشكر
خاريس وافيها بواجب القرى
حتى أريح منفخي وأحضرا»
وغادر العلاة عنها مدبرا
تخمع ساقاه به فأخَّرا٤٠
منفاخه عن حر واري الجمر
وأودع العدة درج فضة
يعمد من ثم إلى إسفنجة
يمسح صدره وعالي الجبهة
كذا يديه ومتين الرقية
ثم اكتسى بردًا وعاد يسري
بصولجانٍ شائقٍ صلبٍ ذهب
معتمدًا على وصيفتي ذهب٤١
أعطيتا صوتًا وعقلًا وأدب
لخدمة الأرباب في كل أرب
كغادتين ازدانتا بالفكر
وليتا هيفست من حيث انثنى
حتى إلى ثيتيس بالجهد دنا
حل على عرشٍ بهيٍ معلنا
ترحابه لها ومن ثم انحنى
مصافحًا لها بقول الحر:
«يا ربة المقنعة المسدوله
ثيتيس يا خلتنا الجليله
علام أنت عندنا نزيله
على خلاف عادة جميله
مري فإنني رهين الأمر»
قالت تسيل الدمع: «هل مثلي ترى
شقية ما بين ربات الورى
دون بنات الماء زفس قدَّرا
علي أن أصيب بعلًا بشرا
فيلا وأمضى أمره بالقسر
فيلا لقد أقعده فرط الكبر
عجزًا وزفس كادني كيدًا أمر
أعطيت نجلًا فاق أبطال البشر
أنشأته كالغصن في روضٍ أغر٤٢
فثارت الحرب على ما تدري
أنقذته في الفلك للطعان
آه فلن يعود للأوطان
قصَّر عن إمداده بناني
حيًّا ولكن ثائر الأشجان
يرى سنا الشمس قصير العمر
حبته غادةً بنو الآخاء
جزاء حسن الذود والإبلاء
فرامها أتريذ بالدهاء
أقعده الكيد عن الهيجاء
فشهر الطرواد سيف النصر
ودفعوا الإغريق للأسطول
فهبت الصيد إلى أخيل
تطمعه بنائلٍ جزيل
أبى قبول تحفة القيول
لكن دعا فطرقل للمكر
ألبسه شكَّتهُ سلاحا
فهبَّ في أصحابه وراحا
فكافحوا عداهم كفاحا
لسور إليونهم اكتساحا
فأوشكت تعنو لهم بالقهر
لكنما فيبوس فطرقل قتل
لما رآه مزَّق الجيش وفل
وخوَّل النَّصر لهكطور البطل
لذاك بادرت إليك بالعجل
أبسط فوق ركبتيك عذري
أحسن إذن لولدي الحبيب
من سيلاقي الموت عن قريب
بخوذةٍ ومجوبٍ عجيب
ولأمةٍ مع حذًا قشيب٤٣
تحرز ثنائي وجميل الأجرِ»
قال: «اطمئني آه لو يوم القدر
يتاح أن أقيه أهوال الخطر
كما يتاح الآن في هذا المقر
إعداد عدةٍ له أي نظر
إلى سناها بسواها يُزري»
ثم مضى يدير نحو الكور
منافخًا دارت بلا مدير
فأجَّجت بمثل لمح النور
عشرين موقدًا لظى السعير
تفرغ ما يحتاجه بالقدر
تهب طورًا هبَّة الأنواء
وتارة تنفخ بالإبطاء
ثم رمى بالعسجد الوضاء
للنَّار فوق الفضة الغراء
فوق فلزه وصلد الصفر
وإذ دحى سندانه المهيلا
ففي يدٍ مطرقه الثقيلا
وفي يدٍ ملقاطه الطويلا
أعلى وقام شاغلًا مشغولا
يشرع في المجن بدء الأمر
ترسُ عظيمٌ شائق الأوصاف
وطوقه البهي فوق الحاف٤٤
يكنفه مثلَّث الأطراف
على حمائل اللُّجين الصَّافي
يزهو على خمس طباق الظهر
أودعه نقشًا به تحار
لحسنه الأنظار والأفكار
فالأرض والسماء والبحار
منهن لاحت فوقه الآثار
وساطع الشمس وتم البدر
وصاغ فيه جملة الدراري
مثل الثريَّا الجمَّةِ الأنوار
والدبران ولقا الجبار
دبٍّ دعوا مركبةً دوَّار
من دونها لا يرتوي بالبحر٤٥
وبلدتين غصتا بالناس
إحداهما بالبشر والإيناس
زف بها الزوجان بالأعراس
بين غناء وسنا مقباس
ورقص فتيةٍ لهت وصقر٤٦
ونغمة الرباب والشباب
تصدح والنساء في الأعتاب
وقفن للزَّفَّة بالإعجاب
وغير هذا الحشد بانتصاب
حشدٌ بشوراهم عسير الحصر
هنالك اثنان استطالا جدلا
لدية حقّ قتيلٍ قتلا
هذا ادعى إيفاءها مكمَّلا
يعلن ذاك الأمر ما بين الملا
وذاك منكرٌ أشد النكر
كلاهما يطلب حكم القاضي
والناس بين ساخطٍ وراضِ
ضجوا لأي ساعة التقاضي
أحسن والفيوج باعتراض
تأمر بالصمت لحسم الأمر
هنالك الشيوخ من ضمن حرم
على مقاعدٍ من الصخر الأصم
قاموا بأيديهم على مرأى الأمم
صوالج الفيوج يبدون الحكم
قاضين عن روايةٍ وخبر
فردًا ففردًا الأحكاما
أمام هاتيك السرى قياما
وشاقلان ذهبًا تمامًا
بينهم قد أودعت إكراما
لمن محا بالعدل شَـير الوزر٤٧
والبلدة الأخرى هفست رسما
جيشين حولها عليها هجما
جيشٌ لقد آلى بأن تُهدَّما
وذاك نصف المال يبغي مغنما
وأهلها تحصَّنوا بالسر
كمينهم بينهم أعدُّوا
وفوق سورهم أقام الولد
والأهل والشيوخ ثم امتدُّوا
أمامهم ربُّ الكفاح الصَّلد
كذا أثينا ملجأ المضطر
(كلاهما من ذهبٍ وضَّاح
بالجسم والملبس والسلاح
تراهما العين على البراح
أعظم قدًّا من سرى الكفاح
ما مسَّ آل الخلد شين الصغر)
فبلغوا جدَّة نهرٍ جاري
مورد غر الشاء والثيار٤٨
فوقفوا بالرُّمح والبتَّار
وأرصدوا عينين للصُّوار٤٩
ليرقبا عند ورود النهر
فأقبلت أمام راعيين
بنغمة المزمار لاهيين
عن ذلك الكمين غافلين
فوثبوا وقتلوا الغرَّين
ونحروا السوام شرَّ النحر
فارتفعت عجاعج الضوضاء
فبلغت مسامع الأعداء
فأقبلوا بغارةٍ شعواء
واشتبكوا وانهال باللقاء
غيثٌ من النصال فوق الثغر
بينهم فتنة والغوغاء
كذا مبيد الأمم القضاء
يعلو على كاهله رداء
تسيل من أطرافه الدماء
يفر عن هذا وذاك يفري
وآخرًا أمسك بالأقدام
يزيح عن مواقف الصدام٥٠
تلك رسوم بذكا الرسام
ترى على المجن كالأجسام
تسحب موتاها وبريًا تبري
ودون هذا الرسم رسم حقل
خصبٍ ثلاثًا حرثوا بالفعل
رجاله قامت بعبء الشغل
قد عمقوا الثلم بسطرٍ عدل
يرتشفون من لذيذ الخمر٥١
في منتهى الأرض انبرى غلام
إذا انقضى ثلمهم التَّمام
ناولهم كاسًا وهم قيام
فانقلبوا ونيرهم أقاموا
بكل وجهةٍ بملء الصبر
والأرض سوداء تلوح للنظر
وإن تكن من ذهبٍ تلك الصور
كأنما الفلاح في الحال عبر
نعم فذي معجزةٌ ممَّن قدر
أن يخضع العسر لأمر اليسر
وقربه يانع زرعٍ بادي
دارت به مناجل الحصَّاد
ومن وراها زمرة الأولاد
تجمع ما يُلقى على التمادي
وخلفهم ثلاثةٌ تستقري
تضم ما ألقوا لهم ضمن حزم
وثم رب الأرض ما بين الحشم
قد قام صامتًا يرى تلك الهمم
معتمدًا على عصاه فابتسم
ينظر بالبشر لوفر الذخر
وتحت سنديانةٍ قام الندل
يهيئون الزَّاد في ذاك المحل٥٢
قد ذبحوا ثورًا به الكل اشتغل
وعاونتهم النساء في العمل
على لحومه الدقيق تذري
كذاك كرمٌ بدوالي ذهب
قامت فمالت تحت ثقل العنب
سمكه من فضةٍ لم تشب
قد سطرت دون وشيعٍ أشهب٥٣
يكنفها وخندقٍ مغبر
ليس له إلَّا طريقٌ رسما
يعبره الكرام أيَّام النما
وللرد تبدي والعذارى الهمما
تجني وفي السلال تلقي كل ما
جنته من قطفٍ ذكا محمرِ٥٤
بينهم فتى بعود قاما
مرددًا بنقره الأنغاما
نشيد لينوس الذي تسامى
فرددوا النشيد والأقداما٥٥
في الأرض دقوا وفق ذاك النقر
ودون ذا سربٌ من الثيار
من الفلز ومن النضار
مندفعٌ يزار للبراري
يرى لدى نهرٍ على مجار
محاطةٍ بالقصب المخضر
رعاته أربعةٌ من عسجد
وتسعةٌ كلابه للرصد
وثم ليثان مروعا المشهد
قد فرسا ثورًا فكرَّت تغتدي
رعاته وغضفه في الإثر
قد مزَّقاه مغنمًا بينهما
وازدردا الأحشاء وامتصَّا الدما
فأوغر الرعاة من خلفهما
كلابهم فهالها بطشهما
هرَّت رهدَّها شديد الذعر
ودون ذا في مرجة خضراء
صرائفٌ محكمة البناء٥٦
لدى حظائرٍ تسرُّ الراءي
بين مراتعٍ لغر الشاء
كذا غياضٍ فوق روض نضر
وقرب هذا رسم مغنى طرب
كأنه نادٍ بديع العجب
ألف في أكنوس ذيذال الأبي
لحظ أريانا بماضي الحقب٥٧
من فتيةٍ ومن عذارى زهر
رداهم المنسوج كالزيت برق
وبرقع الحسان بالحسن نطق
وحليهم سيفٌ من التبر انطلق
على نجادٍ فضة هيفست دق
لكن حليهن تاج زهر٥٨
تعاضدوا بالكف والإبهام
فرقصوا بالعلم والإلمام
كأنهم بحقة الأقدام
محال خزَّافٍ رماه الرامي٥٩
ثم جروا سطرٌ وراء سطر
حولهم حشدٌ وفي وسطهم
قام مغنٍ بشجي النغم
إن نقر العود فمن بينهم
قرمان دارا بخفيف القدم
رقصًا يرددان لحن الشعر
وعند ما أتم هاتيك البدع
مجاري المحيط في الحاف وضع٦٠
فأكمل المجن من ثم ابتدع
درعًا سناها كسنا الشمس سطع
ما صلحت إلا لذاك الصدر
وخوذةً بقونسٍ جميل
من عسجدٍ ومحملٍ ثقيل
لاقت لذاك البطل الجليل
ومن نحاسٍ لينٍ مصقول
طرَّق خفين تمام البر
وإذ أتمَّ كل تلك الغرر
ألقى بها لأم آخيل السري
من لدن ربٍّ تحفةً للبشر
فانحدرت من الألمب الأزهر
واندفعت بها اندفاع الصقر

ترس أخيل

figure
(ترس أخيل).
مقسومًا إلى اثني عشر جزءًا
  • ثلثه منها لبلدة مسالمة: (١) حفلة زفاف، (٢) مجلس شورى، (٣) مجلس قضاء.

  • وثلثه لبلدة محاربة: (٤) حصار، (٥) رعاة وكمين، (٦) قتال.

  • وثلثه للزراعة: (٧) حراثة، (٨) حصاد، (٩) كرمة.

  • وثلثه لرعاية المواشي: (١٠) سباع وأنعام، (١١) خراف، (١٢) رقص وطرب.

هذا هو الترس العجيب الذي أطنب هوميروس بوصفه، وكأنه لم يكتف بجعله إسطرلابًا للأفلاك، فأودعه جميع مخلوقات الله من أجرام وسماء ويبس وماء، وأخالهُ اختار الترس مستودعًا لتلك البدائع دون سواه من قطع السلاح؛ لأنه كان من عادتهم أن يزخرفوا تروسهم رسوم ونقوش. وقد نسب لهسيودس الشاعر وصفٌ من هذا القبيل، ثم أنه فضلًا عن ذلك لم يكن يصلح سواه لرسم الكون بأجمعه، وهو سواءٌ كان بيضيًّا كما ذهب البعض أو مدورًا كما هو في الرسم يصح به تمثيل كروية الأرض والسماء.

ولقد أصاب هذا الترس من نقد النقاد وهذر الحساد ما أصاب غيره من اللآلئ الهوميرية، كقولهم مثلًا: إنه لم يكن يعقل أن المناضد تدور من نفسها على عجالها، كأنه لا يسوغ لشاعر يروي أعجوبة لرب باعتقاده قدير أن يتصور أمرًا تقول الشعراء أعظم منه لبشر باعتقادهم قصير الباع مقيد الذراع، كقول أبي الطيب لسيف الدولة:

إذا كان ما تنويه فعلًا مضارعًا
مضى قبل أن تلقى عليه الجوازمُ

وقوله في محمد بن زريق الطرسوسي:

لو كان ذو القرنين أعمل رأيه
لما أتى الظلمات صرن شموسا
أو كان لج البحر مثل يمينه
ما انشق حتى جاز فيه موسى
أو كان للنيران ضوء جبينه
عُبدت فكان العالمون مجوسا

وإذا أردنا مجاراتهم وأتينا الأمر من حيث أتوه طلبًا لإثبات الممكن المعقول، أفلا يكون ذلك ممكنًا ونحن نرى من ألاعيب الصبية ما يسير بنفسه، والعجب أن الذين قالوا هذا القول صمتوا عن مغالاة الشاعر بارتجاج السموات، وزلزال الأرضين، وانفجار البحار بإشارة من أربابهم ذوي الهيبة والاقتدار، وكقولهم: إن الترس لم يكن ليتسع لكل تلك الرسوم والنقوش البارزة، كأنه لم يكن بوسع ذلك الصيقل العلوي أن يكبر ويصغر حسبما يشاء، وهي كما تراها بادية على رسم صغير مع أنه يؤخذ من نص هوميروس وغيره أن مجانهم كان كبيرها يستر الجسم من الرأس إلى ما تحت الركبة.

وقد أثبتنا هنا صورة الرسم الذي صنع لپوپ فأدرجه بترجمته الإنكليزية المطبوعة سنة ١٧٢٠ وإليك تفصيله تتمة للفائدة:

الظاهر من كلام هوميروس أنه شرع في بسط المعدن خمس طبقات فأكمل المجن وطوقه طوقًا.

يكنفه مثلث الأطراف
على حمائل اللجين الصافي

ثم أخذ يرسم وينقش فبدأ به من وسطه فرسم فيه الأرض، وفي دائرة من حولها القمر والكواكب، وفي دائرة أخرى الشمس والبروج، وجعل ما وراء ذلك دائرة أكبر أودعها المألوف من أحوال البشر فكانت اثني عشر جزءًا.

الجزء الأول: البلدة المسالمة

وبلدتين غصتا بالناس
إحداهما بالبشر والإيناس …

ترى في الرسم العروسين يتقدمهما حملة المصابيح ويكنفهما الراقصون والراقصات ووراءهما العزفة والمغنون.

ونغمةُ الرَّبابِ والشباب
تصدح والنساء في الأعتاب
وقفن للزفة بالإعجاب

الجزء الثاني: مجلس شورى الأمة

هنالك اثنان استطالا جدلا
لديةٍ حق قتيل قتلا …

رسم فيه والد القتيل والقائد والشهود والحضور، والمدعي والمتهم.

كلاهما يطلب حكم القاضي
والناس بين ساخطٍ وراض

وهذا الجزء مع الذي يليه في حلقة واحدة، وفيها المجال يتسع لتصور أمهر المصورين.

الجزء الثالث: مجلس الشيوخ أو القضاء

هنالك الشيوخ من ضمن حرم
على مقاعدٍ من الصخر الأصم

الشيوخ في وسط الرسم يتكلم أحدهم واقفًا وقد هم الآخر بالوقوف ليشرع في الكلام، والجمع محدق بهم بين سامع ومنفرج.

الجزء الرابع: البلدة المحاربة

والبلدة الأخرى هفست رسما
جيشين حولها عليها هجما
جيشٌ لقد آلى بأن تهدَّما
وذاك نصف المال يبغي مغنما
وأهلها تحصنوا في السر

يعبر عن البلدة بما يبدوا للنظر من مجموع الرسم وزعماء الجيشين أمام الأسوار، أخذ فريق منهم بمقابض السيوف وهم ينظرون إلى البلد إشارة إلى أنهم يرومون فتحه عنوة، والفريق الآخر يهون عليهم الأمر وينهاهم عن ذلك، أما أهالي البلد فقد ذعروا.

… … … …
وفوق سورهم أقام الولد
والأهل والشيوخ ثم امتدُّوا
أمامهم ربُّ الكفاح الصلد
كذا أثينا ملجأ المضطر

وقد ميز الشاعر بين رسوم الآلهة ورسوم البشر كما جرت به عادة أبناء ذلك الزمان، فأفرد لرب الحرب وربة الحكمة وصفًا خاصًّا وجعلهما أعظم قدًّا كما كانا أرفع قدرًا.

الجزء الخامس: الكمين

فبلغوا جدَّة نهرٍ جاري
مورد غر الشاء والثيار …

إن اعتراض هذا القسم بين الذي تقدمه والذي يليه يمثل أويقات الراحة والسكون في زمان الحرب، فإن فيه نهرًا وعلى إحدى ضفتيه شجر تتفيأ الجنود بظله، وعلى الضفة المقابلة رقيبان يرصدان الماشية.

فأقبلت أمام راعيين
بنغمة المزمار لاهيين
عن ذلك الكمين غافلين

الجزء السادس: القتال

فوثبوا وقتلوا الغرين …

في صدر الرسم الراعيان قتيلان والسوام منحورة وباقيه صدام وكفاح واهم ما فيه صورة «القضاء مبيد الأمم».

يعلو على كاهله رداء
تسيل من أطرافه الدماء

الجزء السابع: الحرث

ودون هذا الرَّسم رسم حقل
خصبٍ ثلاثًا حرثوا بالفعل …

في الرسم صورة الحرث والحارث وأرضه وآلات الزراعة، وأبدع ما فيه من مؤثرات النظم الهوميري ذلك الغلام الذي قام في طرف الأرض المحروثة.

… … … …
إذا انتهى ثلمهم التمام
ناولهم كأسًا وهم قيام
فانقلبوا ونيرهم أقاموا
بكل وجهةٍ بملء الصبرِ

الجزء الثامن: الحصاد

وقربه يانع زرعٍ بادِ
دارت به مناجل الحصاد …

فالحصاد في صدر الرسم محولون وجوههم نحو الجمع المحدق بهم، وخلفهم الفعلة والأولاد يجمعون ويرزمون، وفي وسط الرسم رب الأرض قام بينهم آمرًا مطاعًا يشير بعصاه وتليهم سنديانة قام تحتها الخدم.

… … … …
يهيئون الزاد في ذاك المحل
قد ذبحوا ثورًا به الكلُّ اشتغل
وعاونتهم النساء في العمل
على لحومه الدقيق تذري

الجزء التاسع: الكرمة

كذاك كرمٌ بدوالي ذهب
قامت فمالت تحت ثقل العنب …

هنا الكرمة بدواليها وقطوفها ووشيعها وسمكها وخندقها وفيها الغلمان والعذارى.

تجني وفي السلال تلقى كلما
جنته من قطفٍ ذكا محمرِّ

وبينهم فتى ينقر عوده وينشدوهم إذا غناهم صوتًا طربوا.

فرددوا النشيد والأقداما
بالأرض دقوا وفق ذاك النقرِ

ليس على المجن رسم أوقع في النفس من هذا.

الجزء العاشر: الحيوانات

ودون ذا سربٌ من الثيار
… مندفع يزأر للبراري …

سوام ورعاة وكلاب وسباع، فالأسود في وجه الرسم قبض أحدها على ثور والآخر آخذ في تمزيق ثور آخر، والرعاة تثير الكلاب للذود عن القطيع، وأمام هذا المشهد مشهد قطيع آخر منهزم رعبًا ووراءه رعاته وكلابه والنهر في ما وراء ذلك.

الجزء الحادي عشر: الخراف

ودون ذا في مرجة خضراء
صرائفٌ محكمة البناءِ
لدى حظائرٍ تسرُّ الرائي
بين مراتعٍ لغر الشاءِ
كذا غياض فوق روض نضرِ

لم يكن للشاعر بد بعد هول منظر الجزء السابق من إراحة المخيلة بمشهد عزلة وسكون، تسرح فيها الفكرة بين مناظر الطبيعة، فأتى بهذا التخيل البديع.

الجزء الثاني عشر: المرقص

وقرب هذا رسم مغنى طرب
كأنه نادٍ بديع العجب …

جعل هوميروس هذا المشهد خاتمة المشاهد التي نقشها على ظهر المجن، وحسب المطالع الرجوع إلى المتن شرحًا وافيًا للإعجاب بهذا المنظر الراقص المرقص، فالفتية والعذارى بأبهى الملابس، حلي الفتية السيوف وحلي العذارى أكاليل الزهر وقد:

تعاضدوا بالكفِّ والإبهام
فرقصوا بالعلم والإلمام
كأنهم بحقة الأقدام
محال خزافٍ رماه الرامي
ثم جروا سطر وراء سطرِ

وهناك على ربوة صاحب العود يضرب ويطرب ثم هو:

إن نقر العود فمن بينهم
قرمان دارا بخفيف القدم
رقصًا يرددان لحن الشعر

أفلا يليق أن تتخذ هذه خطة تتبع حتى في أيامنا هذه.

حاشية المجن

وعندما أكمل هاتيك البدع
مجاري المحيط في الحاف وضع

لم يزد الشاعر على هذا الكلام بوصف حاشية المجن، وفيه ما يغني عن الإطناب وقد استبقى المحيط إلى الحاشية تتكنف المجن كما تكنف المياه اليابسة، فكان مجنه جامعًا رسوم العالمين من علويات وسفليات.

هوامش

(١) الأسطول بمعنى الطائفة من السفن معرب Ζτολος (ستولس) باليونانية.
(٢) عباديد، أي: شراذم ذاهبين في كل وجه.
(٣) البهم: الأبطال ج: بَهمة.
(٤) يتخذ الإفرنج هذين البيتين مثالًا لبلاغة الإيجاز ودقة التعبير، فإن أنطلوخ أنبأ أخيل بمقتل فطرقل، وذكر اسم القاتل وفوزه بسلاح أخيل، وتجريد جثة القتيل والتحام الحرب من حولها، ذلك كله ببيت واحد وطأ له ببيت آخر هيأه فيه لسماع ذلك الخطب الجلل، ونبه إلى أن ذلك، إنما كان بمشيئةٍ لا مردَّ لقضائها فكأنه قال له فوق هذا بوجوب التَّأَسِّي والإذعان.
يتمثل اليونان بهذين البيتين كما يتمثل اللاتين بقول يوليوس قيصر veni, vidi, vici. ومعناها: أتيت فرأيت فظفرت. وهي كلمات ثلاث كتبها إلى مجلس الشيوخ برومية عندما حمل فائزًا من مصر على بلاد مثربداتس في آسيا فاكتسحها.
وعندنا في العربية أمثلة كثيرة لجمع المفاد الطويل بالكلام القليل، كقول امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
فإنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل بشطر واحد.
وقول بعضهم:
رأى فحب فرام الوصل فامتنعوا
فسام صبرًا فأعيى نيلهُ فقضى
فجمع الغرام من النظرة إلى الحسرة إلى الصبر إلى القبر.
وقول شوقي الشاعر العصري:
نظرةٌ فابتسامة فسلامٌ
فكلام فموعد فلقاءٌ
والإيجاز في محله كالإطناب في محله منتهى البلاغة، فالموقف موقف سرعة واهتمام، لا موقف بحث وكلام كما مر بنا في النشيد التاسع؛ إذ أوفد الوفود إلى أخيل، وأخذوا يتجاذبون أطراف الحديث يقضون به ليلتهم والحرب خامدة والأعين هاجدة بظلام الليل.
ثم إن في بلاغ أنطلوخ نكتة أخرى قَلَّ من ينتبه إليها، وهي أنه أخبر أخيل بمقتل حبيبه فطرقل بعبارة لا تثقل على السمع، فقال: «هكطور ملقى» ولم يقل: ميت أو قتيل؛ كقوله في سائر المواضع.
(٥) الغمم: جمع غمة، أي: الأكدار.
(٦) السناج: ما يعلق على الحائط من أثر الدخان، وفي الأصل «ذر رمادًا أسود» ولعلنا أصبنا بقولنا: السناج.
كان القدماء من أمم الشرق يذرون الرماد على رءوسهم عند حلول المصائب، ويتمرغون على التراب ويجلسون على المزابل، وسيرد ذكر ذلك ببيان أجلى في النشيد الثاني والعشرين.
(٧) السحم: السود ج: أسحم. تقدم ذكر الطيب (ن:١٤).
(٨) ليس في الإلياذة كلها ما يفيد أن أخيل كان جبارًا عظيم الجثة، كعمالقتنا وعليه فلا أرى بقوله هنا: «يشغل ميدانًا بقامته» إلا إشارة بغلوٍّ للفسحة التي كان يتمرغ عليها.
(٩) قالوا في سبب ولولة السبابا: إنهن فعلن ذلك؛ إما حزنًا على فطرقل؛ لأنه كان يعاملهن بالتؤدة والرفق؛ لما عرف به من الدعة والحنان، وإما لأنهن انتهزتها فرصة لندب حالهن وهن في ربقة الأسر. قلت: والأولى أن يقال: إنهن إنما فعلن ذلك جريًا على العادة المألوفة في ذلك الزمان، من ندب الميت والولولة عليه على ما هو جارٍ في زماننا في مصر وغيرها من بلاد الشرق، حتى لقد تُستأجر النادبات فينحن ويولولن وهن لا يعرفن الميت، وليس بهن عاطفة حنان عليه، وسنرى ذلك بأكثر إيضاح في النشيد الأخير بمأتم هكطور.
(١٠) السلم: الأسر والأسير.
(١١) الرذم: السيال.
(١٢) الصمصامة الخذم: السيف القاطع. أي: إن أنطلوخ أمسك بذراعي أخيل؛ لئلا يولج أخيل سيفه بنحره فيقتل نفسه من شدة الحزن.
(١٣) لما كانت ثيتيس والدة أخيل من بنات البحر — وهن كما علمت من زمرة الآلهة — لم يكن بالعسير عليها أن تسمع أنين ابنها، وهي في قعر البحر.
figure
بنت الماء.
(١٤) نيرس: هو الماء، ثم مثل شخصًا فجعل رب الماء أو ملك الماء — قلما تخلو أساطير أمة من قوم يأوون إلى قاع البحار، ويساكنون أسماكها ونيناتها، وعندنا في ألف ليلة وليلة من أخبار السمندل ملك البحر وقومه ما يربو على أقاصيص نيرس وبناته.
(١٥) يمثلون بنات اليم ممتطيات ركوبة يسمونها فرس البحر يرسمونه بصور مختلفة، والغالب إما أن يجعلوه بوجه إنسان أو يصوروه كما ترى في الرسم.
(١٦) المراد بالسادة: الآلهة.
(١٧) أي: حرم عليه الرجوع إلى موطن فيلا أبيه.
(١٨) يقال في هذا البيت ما تقدم في أول هذا النشيد عن خطاب أنطيلوخ، فقد جمع فيه عواطف الأمهات وحركاتهن بأبلغ ما يمكن من الإيجاز وصدق التعبير.
(١٩) جهلت ثيتيس أو تجاهلت موت فطرقل، وقالت له تخفيفًا لوطأة الحزن عليه: إن كنت تتضور لهفةً وأسًى على مصاب الإغريق، فقد كنت أنت المتسبب به؛ إذ توسلت إلى زفس أن يذيقهم مر العذاب، فها هو منيلك مرامك فتفجعك إذن عبثٌ وفضول.
(٢٠) ما: استفهامية.
(٢١) القونس: بيضة الخوذة، وذو القونس الطيار لقب من ألقاب هكطور، وقد عبرنا عنه في غير هذا الموضع بلفظ هيَّاج التريكة، أي: الخوذة.
(٢٢) أي: إن الأرباب أهدوا ذلك السلاح إلى فيلا والد أخيل إكرامًا لثيتيس لا لفيلا نفسه.
(٢٣) الشبم: الموت.
(٢٤) المصائب مرآة المعايب، يتصف المرءُ بصفة يمقته لأجلها الناس، فلا يبالي حتى إذا نالته من ورائها مصيبة أفاق، ورأى تلك الصفة بأقبح مظاهرها، وهكذا فإن أخيل لم ينثن لنصائح نسطور وفينكس وأوذيس، وعمي عن رؤية كل ما قالوه بشأن شر الفتنة ووبال الغيظ، فلم يفقه شيئًا من كلامهم حتى ضربته الرزية بحليف وده فطرقل، فتنبه من تلقاء نفسه وقال ما قال بوصف الفتنة والغضب.
(٢٥) يقول: إن الدردنيات أي نساء طروادة سيبتئسن لما أولاهنَّ من المصائب بقتل أزواجهنَّ.
(٢٦) أطال الشراح الكلام على ما حوى جواب أخيل لأمه في هاتين القطعتين من روائع الألفاظ وبدائع المعاني، فإن فيهما مرآة ناطقة بشعائر الشهم الأبي العظيم، والصديق الوفي الحميم، والابن الشفيق الكريم يتأفف ويلوم نفسه على تقاعده، وينسى ما كان من أذى أغاممنون ويغضي عن زلة منه مضت، ويلعن الفتنة والغضب، ويقدم على خوض ميدان القتال غير منثنٍ ولا هيَّاب، ولو علم أنه سيلقى حتفه يتمنى لو افتدى فطرقل برأسه أو مات عقابًا له؛ لتقاعده عن البروز مع صديقه كتفًا لكتف، يتفجع لغمة والدته ويتمنى لو لم يعرفها والدهُ؛ لأنها لو لم تلد ابنها الإنسي وهي جنِّية لما عرفت الضيم والأسى، ثم أنه لا يتمثل وهو البطل الباسل إلا بالبطل العظيم هرقل الذي طبقت شهرته الآفاق، وهو مع تلك الأنفة الشماء والشعور بطول باعه لا يأنف من الإقرار أن بين قومه أفرادًا يفوقونه حكمة وسدادًا، وهو إقرار يزيد قوله في الفخر وقعًا ورجحانًا.لم أر لأخيل في كل إنشاد الإلياذة كلامًا يشف عن دقة إحساس ورقة عاطفة واستسلام للقضاء المبرم كهذا الكلام حتى إنه لما استطرد إلى التهديد والوعيد لم يقل بجندلة الأبطال وصرع الأقيال بل أشار إلى ما يعقبها من نحيب النساء، وذرف العبرات ومسح ما سح منها على الوجنات. وليقل حساد هوميروس بعد هذا: إن أخيل لم يكن إلا بطل كر وقلب صخر.
معارضة
بين بعض ما جاء من قول بطل العرب موافقًا لقول بطل اليونان في هذا الموضع
قال أخيل:
وليهلك الغيظ من بين الأنام فكم
أغرى وأوغر منقادًا حكيمهمُ
وقال عنترة:
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتبُ
ولا ينال العلى من طبعه الغضبُ
قال أخيل:
وليس من شاغل ذا اليوم يشغلني
إلا ادخارُ علًى تسمو به الهممُ
وقال عنترة:
دعني أجد إلى العلياء في الطلب
وأبلغ الغاية القصوى من الرتبِ
قال أخيل:
والدردنيات بضَّات الصدورُ يرى
لهنَّ دمعٌ سخينٌ جريهُ دِيمُ
يمسحن ما سح عن غض الخدود وقد
هاجت تلهفهن الأبؤس الدهم
وقال أيضًا بعد أبيات:
فكم ثم طرواديةً دردنيةً
سبينا بدارٍ بأسنا فوقها امتدَّا
ينحن عليك اليوم والليل كله
ويلطمن بضً الصدر والنحر والخدَّا
وقال عنترة:
سلي عنا الفزاريين لما
شفينا من فوارسها الكبودا
وخلينا نساءهم حيارى
قبيل الصبح يلطمن الخدودا
وقال أيضًا:
ويل لشيبان إذا صبحتها
وأرسلت بيض الظبى شعاعها
وخاض رمحي في حشاها وغدا
يشك من دروعها أضلاعها
وأصبحت نساؤها نوادبًا
على رجال تشتكي نزاعها
وقال:
وحولك نسوة يندبن حزنًا
ويهتكن البراقع واللقاعا
قال أخيل:
يعلمن أن اعتزالي طال فاغتنم الـ
أعداءُ بوني وإني الآن بينهمُ
وقال عنترة:
سكتُّ فغر أعدائي السكوتُ
وظنوني لأهلي قد نسيتُ
قال ذلك وهو في موقف موجدة واعتزال كموقف أخيل؛ إذ خرج عن قومه غضبان فنزل على بني عامر وأقام فيهم، فأغارت هوازن وجشم على ديار عبس فأرسلوا يستمدون عنترة، فأبى وامتنع حتى إذا عظم الخطب على بني عبس خرجت إليه جماعة من نساء القبيلة، وطلبن إليه أن ينهض معهنَّ لمقاومة العدو وإلا تشتت شمل العشيرة، فاحتمس ونهض وأنشد أبياتًا استهلها بالبيت السالف الذكر.
قال أخيل:
حتى إذا شاء زفسٌ في بطانته
موتي فإن حياتي تلك دونهمُ
هرقل لم يغن عنه بأسه وولا
زفس فأودى وإن أولوه ودهمُ
أصابه كيد هيرا والقضاء إذن
فلألق ميتًا إذا كانت كذا القِسمُ
وقال عنترة:
إذا كان أمر الله أمرًا يقدرُ
فكيف يفر المرء منه ويحذرُ
ومن ذا يرد الموت أو يدفع القضا
وضربته محتومةٌ ليس تعبرُ
قال أخيل:
فطرقل ارفعهم شأنًا وأعلقهم
بمهجتي لا تضاهيه قرومهمُ
بهامتي كنت أفديه فوا لهفي
عدمته مثلما كبارهم عدموا
نعم سأطلب هكطور الذي فتكت
كفاه في قمةٍ تعنو لها القممُ
وقال عنترة في رثاء زهير بن جذيمة العبسي:
تولى زهير والمقانب حوله
قتيلًا وأطراف الرماح الشواجرِ
وكان أجل الناس قدرًا وقد غدا
أجل قتيل زار أهل المقابر
فوا أسفا كيف اشتفى قلب خالد
بتاج بني عبس كرام العشائر
وكيف أنام الليل من دون ثائره
وقد كان ذخري في الخطوب الكبائر
وإن من تصفح ديوان عنترة ليعجب من كثرة المشاكلة بين كلامه وكلام أخيل، وقد أوردنا شيئًا من ذلك في مواضعه، وأضربنا عن ذكر الكثير خوف الإطالة، وإننا مثبتون الآن أبياتًا قالها عنترة في رثاء مالك بن زهير العبسي صديقه، يرى المطالع اللبيب شبهها القريب برثاء أخيل لفطرقل في هذا النشيد، ومواضع أخرى من الإلياذة:
فلله عينًا من رأى مثل مالكٍ
عقيرة قوم أن جرى فرسانِ
فليتهما لم يجريا نصف غلوةٍ
وليتهما لم يرسلا لرهان
وقد جلبا حينًا لمصرع مالك
وكان كريمًا ماجدًا لهجان
وكان لدى الهيجاء يحمي ذمارها
ويطعن عند الكر كل طعان
به كنت أسطو حينما جدت العدى
غداة اللقا نحوي بكل يمان
فقد هد ركني فقدهُ ومصابه
وخلى فؤادي دائم الخفقان
فوا أسفا كيف انثنى عن جواده
وما كان سيفي عنده وسناني
رماه بسهم الموت رامٍ مصممٌ
فيا ليته لما رماه رماني
فسوف ترى إن كنت بعدك باقيًا
وأمكنني دهر وطول زمان
وأقسم حقًّا لو بقيت لنظرةٍ
لقرَّت بها عيناك حين تراني
(٢٧) برحت براح، أي: غابت الشمس. يقول: إن الدخان يعلو من الجزيرة نهارًا، فإذا غابت الشمس ظهرت النيران؛ لأن النار لا ترى عن بعد نهارًا، فلا يظهر اللهيب حتى تغيب الشمس، وذلك على نحو ما جاء في سفر الخروج: وكان الرب يسير أمامهم نهارًا في عمود من غمام ليهديهم الطريق وليلًا في عمود من نار ليضيء لهم ليسيروا نهارًا وليلًا (خر٢١:١٣).
وما أحسن ما قال أبو تمام وقد ذكر ضوء النهار وظلمة الدخان في الحريق:
ضوءٌ من النهار والظلماءُ عاكفةٌ
وظلمة من دخان في ضحى شحبِ
فالشمس طالعة من ذا وقد أفلت
والشمس واجبة من ذا ولم تجبِ
كانوا يتفاهمون بالإشارات النارية، كما يتفاهمون الآن على أسلاك البرق، والنار المقصودة هنا إنما هي نار الحرب، وقد كان لها شأن عظيم في جاهلية العرب وأوائل الإسلام، ومنها النار التي أوقدها سهل بن صباح العبسي في حصار بعلبك. قال: فطلعت إلى ذروة الجبل فعلوته، وأشرفت على العسكرين، وجعلت النظر إلى حربهم وقتالهم وقد طمعت الروم في العرب … فأسرعت إلى جراثيم الشجر، فجعلت أكسرها وأعبي الحطب بعضه على بعض، وعمدت إلى زناد كان معي فأوقدت النار وعببت حطبًا أخضر ويابسًا، حتى علا منه دخان عظيم، وكانت علامتنا إذا أردنا أن يجتمع بعضنا إلى بعض بأرض الشام في الليل وقود النار وإنارة الدخان. قال: فما هو أن علا الدخان وتصاعد إلى الأفق حتى نظر إليه سعيد بن زيد وأصحابه، وضرار بن الأزور وأصحابه، فنادى بعضهم بعضًا الحقوا الأمير أبا عبيدة (الواقدي).
لم أر في الإلياذة إلا نارين من النيران المعروفة عند العرب؛ وهما نار الحرب هذه، ونار القرى ذكرت تلميحًا غير مرة ولا ريب أنه كان لهم نيران أخرى لم يذكرها الشاعر، أما نيران العرب فكثيرة جمع جلها الشيخ ناصيف اليازجي بقوله:
أول نار عندهم نار القرى
وذكر نار الوسم بعدها جرى
ونار الاستسقاء والتحالف
والصيد والحرب لدى التزاحف
ونار غدر وسلامة تعد
ونار راحل كذا نار الأسد
والنار للسليم والفداء
فجملة النيران هؤلاء
فنار القرى كانت توقد للضيوف إذا حضروا أو إرشادًا لهم إلى محل الضيافة، ونار الوسم هي التي توقد ليحمى بها الميسم التي كانوا يسمون بها إبل الملوك لترد الماءَ أولًا، ونار الاستسقاء كانوا يوقدونها تبركًا طلبًا للمطر أخذًا عن المجوس، ونار التحالف توقد عن التحالف على أمر، ونار الصيد توقد للظباء لتعشى أبصارها، ونار الحرب توقد على جبل إعلامًا للأحلاف الأباعد كما ذكر هوميروس، ونار الغدر كانوا يوقدونها بمنى أيام الحج إذا غدر الرجل بصاحبه، ثم يقولون: هذه غدرة فلان، ونار السلامة توقد للقادم من سفر سالمًا، ونار الراحل توقد للمسافر إذا لم يحبوا أن يعود، ونار الأسد توقد عند الخوف من سطوة الأسد حتى إذا رآها ينفر منها، ونار السليم، أي: الملسوع توقد له ويكره على السهر على ضوئها، ونار الفداء توقد لنساء الأشراف كانوا إذا سبيت نساء الأشراف منهم وفد وهنَّ يخرجوهن ليلًا ويوقدون لهن نارًا يستضئن بها.
(٢٨) ذلك مبلغ ذعرهم رهبةً من أخيل حتى تبلبلت الرجال وانقلبت الجياد بالعجال، واختلط عليهم الأمر فباتوا لا يعون أمرًا، وكانت نصالهم تنفذ في صدورهم فتصرعهم بأيديهم وهم لا يشعرون.
(٢٩) الأرتاج: الأبواب، والأصفاق: المصاريع، وزلجن: قفلن.
(٣٠) أصدى: مات.
(٣١) منتيوس: والد فطرقل.
(٣٢) هذا نذر ينذره أخيل قبل أن يقيم مأتم هكطور، وسير به كما سترى. وفي أخبار العرب كثير من أمثال ذلك في أيام الجاهلية والإسلام، روي أنه لما قُتل حمزة بن عبد المطلب في غزوة أحد، وكان قاتله وحشي مولى جبير بن مطعم، عظم قتله على صاحب الشريعة الإسلامية، فنذر أن يقتل به سبعين رجلًا من قريش وكبر عليه في الصلاة سبعين تكبيرة.
(٣٣) يبسط لنا الشاعر في الأبيات السالفة كيف كانوا يغسلون الميت ويطيبونه ويكفنونه.
(٣٤) نموا: نسبوا. والطارف: الحديث، والتلد: القديم. لا يخفى ما في هذا البيت من التهكم الظاهر والوعيد الخفي.
(٣٥) كان زفس بعل هيرا وأخاها. قالت: إني وإن كنت أعظم الآلهة وبعلي الذي هو أخي أسمى إلاه، فلم يسعني أن أنصر أوليائي الإغريق، ولا أن أخذل أعداءهم الطرواد، كأنها قالت: إنك لا تذخر لي رعاية ولا تحفظ لي حرمة. يمثل هوميروس تنافر الزوجين بخلوتهما وإن كانا في مصاف الآلهة.
(٣٦) الأعرج لقب هيفست، ويلقب أيضًا بالحداد، وهو إلاه النار، ومطرق الصواعق ومثير البراكين، لقب بالأعرج لأنه ولد قبيح الصورة فألقت به أمه من أعالي السماء كما سيأتي بعد أبيات — هذا سبب تلقيبه بالأعرج بحسب نص الرواية الميثوليجية، أما سبب تلقيبه بالحداد فمأخوذ من صناعته، على أن الباحثين في التعليل الرمزي لأصل العبارات ذهبوا في ذلك مذاهب نعتمد منها على رواية هرقليذس؛ إذ قال: إن هيفست ممثل النار، وأبوه زفس ممثل الأثير، وأمه هيرا ممثلة الهوا فالنار سقطت إلى الأرض من الهواء والرقيع، إما بفعل الصواعق، وإما بوجه آخر. لقب بالأعرج؛ لأن النار لا تشتعل بلا وقود كما أن الأعرج لا يستطيع المشي ما لم يستند إلى عضد يعضده. وأما قول هيفست عن نفسه في ما يلي: إنه لولا ثيتيس وأفرينومة لكان هلك، فتأويله أنه لو لم تقع النار في محل يمكن حفظها فيه لاضمحلت وتلاشت — قيل: أخذ اليونان عبادته عن المصريين حيث كان يسمى فتالي، وإلاه النار عند البلاسجة والطرواد، ثم الرومان تدعى فستا تطرقت إليهم عبادتها من الفرس. ومن الغريب أن يكون هذا التشابه بين المعبودين وأحدهما ذكر والأخرى أنثى، والأغرب من ذلك أن أول صيقل لجميع المصنوعات الحديدية والنحاسية في التوراة هو توبل قاين (تك٢٢:٤) وتوبال أو طوبال باللغات التترية، ومنها التركية الأغرج وقين باللغات السامية ومنها العربية الحداد وكلاهما لقب هيفست مع أن توبل قاين كان قبل عهد هوميروس بحسب نص التوراة بنحو ألفي عام، ولم أر من انتبه إلى هذا التفسير مع أنهم بحثوا فيه بحثًا طويلًا واستخرجوا أصل قاين السامي.
figure
هيفست إلاه النار.
(٣٧) تقدم لنا بحث وافٍ في المناضد ن٩.
(٣٨) قتيره، أي: مساميره.
(٣٩) مما يروى عن سبيل التفكه أن أفلاطون كان في صغره مغرمًا بنظم الشعر تحدثه نفسه بالتشبه بهوميروس، فينظم القصيدة، ثم يقابلها بمنظومات هوميروس فيظهر له البون الشاسع فيعدل عنها إلى غيرها، وهكذا إلى أن تحقق أنه لم يكن ذا سليقة شعرية سامية، فأخذ منه اليأس كل مأخذ، وجمع كل ما سطر من الشعر وألقى به إلى النار. على أنه لم يتمالك وهو على تلك الحال أن ذكر شيئًا من منظوم هوميروس نفسه فعلق بذهنه هذا الشطر، ولكنه عوضًا عن أن يقول:
هيفست قم ثيتيس عونك ابتغت
قال:
هيفست أفلاطون عونك ابتغي
قالوا: وهذا هو السبب في كراهة أفلاطون للشعر وتنديده به شأن من تقبح على الحسناء جمالها لاعتصامها عليه.
(٤٠) العلاة: السندان.
(٤١) الوصيفة: الجارية.
(٤٢) تشبه ثيتيس ابنها أخيل بالغصن. وما أحسن ما قالت الخنساء في نفسها وفي أخيها صخر:
كنا كغصنين في جرثومة بسقا
حينًا على خير ما ينمى لهُ الشجرُ
حتى إذا قيل قد طالت عروقهما
وطاب غرسهما واستوثق الثمرُ
أخنى على واحد ريب الزمان وما
يبقي الزمان على شيءٍ ولا يذرُ
(٤٣) المجوب: الترس. والأمة: الدرع. والقشيب: الجديد.
(٤٤) الحاف: جمع حافَّة.
(٤٥) أي: من دون تلك الدراري.
(٤٦) رسم بلدتين إحداهما دار سلم والأخرى دار حرب لتحسن المقابلة، ثم مثل أحسن ما يحصل أثناء السلم في الواحدة، وأقبح ما يحدث أثناء الحرب في الأخرى، فأخذ أعظم مزايا البلد الأمين، فأورد أفراح الأعراس وإقامة القسطاس للعدل بالناس كما سترى.
زعم الأقدمون أنه أشار إلى أثينا؛ لأنها كانت السابقة إلى وضع سنن الزواج وهي أول بلدة عندهم جُعل فيها عقاب القاتل القتل.
(٤٧) في الأبيات السالفة قطعة تاريخية بوصف هيئة تقاضيهم في تلك الأيام.
اختلف النقلة بقوله: «وشاقلان … أودعت إكرامًا لمن محا بالعدل شر الوزر». فقال بعضهم: إن ذينك الشاقلين يعطيان للقاضي الناطق بالحكم العادل، وقال الآخرون، وهو الأصلح: إنهما يعطيان لمن ثبت الحق في جانبه.
(٤٨) الجدة: الثغر.
(٤٩) العين: الرقيب. والصوار: القطيع.
(٥٠) لا فائدة من مجاراة الشراح على التخرص لمعرفة البلدة التي أشار إليها الشاعر دارًا للحرب، ولعله لم يشر إلى محل معين، ولكنه لا بد من الإشارة إلى براعة الشاعر بالإحاطة بأسباب الحرب ووقائعها ولواحقها بهذا الإيجاز البديع، وأبدع منه وصف القضاء قبل الانتقال إلى مشهد آخر، فلقبه «بمبيد الأمم» وهيأه بصورة شخص يعلو كاهله رداء تسيل الدماء من أطرافه، وهو بلا سبب معقول يفر عن هذا، ويفري ذاك ويمسك بقدمي الآخر يزيحه عن موقف الصدام، وأي: وصف يصدق عليه كهذا الوصف اللهم إلا أن يكون قول زهير:
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
ثمته ومن تخطئ يعمر فيهرم
(٥١) انتقل الشاعر إلى منظر آخر، أبان فيه أنه لم يكن بالقرع والصرع أعلم منه بالزرع والضرع فوصف الحالة الزراعية بدقائقها، كأنه آلى على نفسه أن لا يطرق بابًا إلا ويلج مكتشفًا كل ما بدا وراءه، وما استتر كأنه استجمع له في صدره كلُّ ما وسع زمانه من مكنونات العقل ومذخورات النقل.
(٥٢) الندل: خدمة الطعام.
(٥٣) السمك: الأوتاد. والوشيع: الحجار المعروف بالسياج.
(٥٤) القطف: العنقود.
(٥٥) لينوس في أساطيرهم أول من نطق بالشعر، أبوه أفلون أو هرمس (عطارد) وأمه قليوبا أو أورانيا، كان معلمًا لهرقل وثميريس وأرفيوس، فانتهر هرقل يومًا لتلاهيه فضربه هرقل ضربة كانت القاضية عليه، ويقول الثيبيون بوجود لينوس آخر أقدم من هذا كان يناظر أفلون بالإنشاد فاهلكه أفلون.
وكان من عادة اليونان أن يقيموا للينوس مأتمًا سنويًا ينحرون فيه عليه، كما يقام مأتم عاشوراء في هذه الأيام، ذلك ما أشار إليه هوميروس بقوله: «نشيد لينوس إلخ».
(٥٦) الصرائف: الأكواخ.
(٥٧) ذيذال: شخص خرافي ينسبون إليه كثيرًا من خوارق الأعمال، ويزعمون أن النساء لم يكنَّ يرقصن مع الرجال، فأخذ سبعة فتيان وسبع فتيات فعلمهم الرقص على النمط الذي يشير إليه هوميروس، ولا يزال مستعملًا في بلاد اليونان، وإني إخال الكدريل الإفرنجي ضربًا منه.
(٥٨) وأي حلي أبهج من تلك الحلي: للرجال السيوف، وللعذارى تيجان الزهر.
(٥٩) المحال: جمع محالة، وهي الدولاب.
(٦٠) إلى هنا انتهى الشاعر من وصف الترس، فأودعه من مكنونات الطبيعة ما لم يبق معه موضع لإسهاب، فأتى على سائر القطع موجزًا كل الإيجاز بعد هذا الإطناب الوحيد في شكله الفريد في بابه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤