النشيد الثاني

سياسة أغاممنون وإحصاء سفن الإغريق وبلادهم وقبائلهم ورؤسائها

مُجْمَلهُ

ظل زفس فاكرًا ليلته في التنكيل باليونان؛ إعلاء لشأن آخيل «فعن له إرسال طيفٍ مموهٍ» يحث أغاممنون على أن يشد بخيله ورجاله على الطرواد بغية أن يناله وجيشه الفشل فيرجعون إلى استعطاف آخيل، فاغتر أغاممنون وطمع في فتح إليون وآخيل بمعزل عن القتال، على أنه لم يكن على يقين من انقياد الجند إلى إشارته إذ كان مشفقًا من فتور هممهم على إثر الوباء والسؤم من طول مدة الحصار، وتثبط آخيل بقومه، فلما كان الصباح عمد إلى حيلة يختبر بها عزيمتهم، فجمع القوَّاد وكشف لهم عما داخله من الريبة، ثم قال لهم: إن في عزمه أن ينادي بالرحيل والانقلاب إلى الأوطان؛ ليرى ما يكون من أمر الجند؛ فإذا أنس منهم رغبة في معاودة الديار وترك الحصار بادر القواد إلى صدهم والهجوم بهم، فلما وافقوه على رأيه بلسان نسطور عقد المجلس العام، وخطب في الجند مناديًا بالقفول، وما انتهى حتى جرى كل فريق إلى سفنه يتأهب للإقلاع بها، فاعترضهم أوذيس عملًا بأمر أثينا، واجتر صولجان السيادة من يد أغاممنون وطاف فيهم يستنهض الهمم ويقوي العزائم بالوعد والوعيد، ولم ينثن حتى عاد بهم إلى مجلس شوراهم، فتصدى له ثرسيت السفيه بنفثات خبثه ولؤمه، فزجره أوذيس، وضربه ضربة أوهنت قواهُ، وغادره عبرة للمعتبر، والجمع يضج مستوصبًا العقاب، ولما انتظم عقد المجلس نهض أوذيس، فخطب وأطنب بذكر الأيمان ومواعيد الآلهة لهم بالظفر، ثم تلاه نسطور فشدد، وأرشد وأشار بحشد الجيش كتائب يزحف بكل قبيلة منها أميرها، ولما ثبتت قدمهم وذكت هممهم أصدر أغاممنون أمره بالتأهب للقتال، فضحوا بضحاياهم وتناولوا طعامهم، وقاموا إلى السلاح، وهنا أخذ الشاعر في سرد أسماء الملوك والأمراء وتعداد سفائنهم، وذكر بلادهم وقبائلهم، أما زفس فلم يكن غافلًا عما يعملون، فبعث بإيريس إلى فريام ملك طروداة توقفه على ما كان من عزم الإغريق، فعبأ هكطور جند الطرواد وأنصارهم على هضبة محاذية لإليون، وتربص فيهم إلى أن تلتحم الحرب، ثم ختم هوميروس نشيده بسرد قبائل الطرواد وحلفائهم.

لا يستغرق هذا النشيد إلَّا قسمًا من اليوم الثالث والعشرين، ومجرى وقائعه في معسكر الإغريق على جرف البحر ثم في معسكر الطرواد.

النشيد الثاني

دجا الليل والأرباب والناس نوَّمٌ
ولكنَّ زفسًا نابذٌ سنة الكرى١
بإعزاز آخيل وإهلاك جملةٍ
لدى سفن الإغريق ظلَّ مفكرا
فعنَّ له إرسال رؤيا خبيثةٍ
لأتريذ تغريه بأمرٍ تصوَّرا
فنادى أنيروسًا وقال: «ألا فطر
أيا أيها الطيف المداجي مبشرًا٢
إلى سفن الإغريق لج خيمةً بها
أقام أغاممنون أنبئ بما ترى٣
أعد كلَّما أُلْقِيْه: فليمض مقدمًا
على الحرب وليعدد لذاك المعسكرا
تآلفت الأرباب طرًّا وفوزه
على بلد الطروادة اليوم قُدِّرا
وهيرا استلانتهم فأجمع رأيهم
على رزء إليون وبالًا مكرَّرا»
فطار ولم يلبث أن اجتاز فُلْكهم
لخِيم أغاممنون بالغيب مخبرا
فألفاه فيمن حوله نوَّمًا دنا
لدى رأسه واحتاز هيئة نسطرا
وقال وقد حاكاه إذ كان عالمًا
لديه ابن نيلا خير شيخٍ موقرا:٤
«لم يا ابن أترا القرم تهجع ما
ذا شأن مولىً يملك الأمرا
من قد تولَّى أمر أمته
أنَّى ينام الليلة الحرى
فاحفظ كلامي زفس بي لك من
قاصي أعاليه لقد أسرى
مالت إلى الإغريق رأفته
فأراد أن تستدفع الضُّرَّا
في كل من والاك تزحف إذ
قد حان فتح البلدة الكبرى٥
أربابنا طرًّا قد اتفقوا
ولقول هيرا أذعنوا طُرّا
وعلى بني الطرواد زفس قضى
بالويل فاخبر أمره خبرا
وحذار أن تنقاد للوسن الـ
ـحالي فتنسى بعده قسرا»
كذا أغراه بالوعد احتيالا
وغادره يرى ما لن ينالا
فلاح له وما أغواه يعلو
بذاك اليوم إِليون احتلالا
ولم يعلم نوايا الرب لما
عليه قدر الحرب السِّجالا
أعَدَّ لجملة القومين بؤسًا
وأرزاءً إذا اشتبكوا اقتتالا
أفاق وصوت رب الطيف يدوي
حواليه فهبَّ وقام حالا٦
تدثَّر في شعارٍ ذي بهاءٍ
وأردف حلةً تزهو جمالا٧
وأوثق خفَّهُ الزاهي وألقى
على كتفيه سَيفًا قد تَلالا
وأمسك صولجانًا خالديًّا
لأهليه ونحو الفلك مالا٨
وأمَّت ربَّة الفجر المعالي
لزفس والميامين امتثالا٩
تبشرهم بطرِّ الصُّبح لمَّا
أغاممنون بين القوم جالا
ونادى في الدُّعاة بأن يصيحوا
بأعلى الصَّوت للشورى ارتحالا
فلبُّوه وأقبلت السرايا الـ
ـشكاة إليه تنتضل انتضالا١٠
وقد عَقَدَ الشُّيُوخ قبيل هذا
بجانب فلك نسطور احتفالا١١
بهم أتريذ نادى مستشيرًا
لما زعموا من الأمر احتمالا:١٢
«سمعًا أصيحابي رأيت دجىً
طيف الكرى والليل قد صرَّا
في شكل نسطورٍ وهيئته
متمثلًا لي قال مذ خرَّا:
«لم يا ابن أترا القرم تهجع ما
ذا شأن مولىً يملك الأمرا
«من قد تولى أمر أمته
أنى ينام الليلة الحرَّى
«فاحفظ كلامي زفس بي لك من
قاصي أعاليه لقد أسرى
«مالت إلى الإغريق رأفته
فأراد أن تستدفع الضُّرا
«في كل من والاك تزحف إذ
قد حان فتح البلدة الكبرى
«أربابنا طرًّا قد اتَّفقوا
ولقول هيرا أذعنوا طرا
«وعلى بني الطرواد زفس قضى
بالويل فاخبر أمره خبرا»
منْ ثَمَّ عني غاب محتجبًا
لكنني أهببت مضطرا
أو كيف نغري الجند في عجلٍ
حتى يكروا للّقا كرَّا
فأنا سأبلوهم وأدفعهم
بالقول فوق سفينهم فرَّا
وعليكم أنتم بجهدكم
تستنهضون العزم والصبرا»
فكذا انتهى واحتلَّ مجلسه
وبهم رقى نسطور منتصبا
هو ملك فيلوس التي رَكَمَت
برق الرمال ببشره خَطَبا:
«لو غير أتريذٍ رؤاه روى
يا معشر الحكَّام والنُّجبا
لرغبت عن تصديقه عَلَنًا
وزعمت أن بزعمه كذبًا
لكنَّ مولى القوم كلِّهم
بالنفس رؤيا النفس قد رقبا
هيُّوا نرى أنَّى يُتاح لنا
أن ندفع الإغريق كي تثبا»
ومضى من النادي كذاك مضى
بعصاه كل من ملوكهم١٣
دانوا لمرشدهم وأقبلت الـ
ـأجناد للشورى بحشدهم١٤
كالنحل من كهفٍ خشارمها
هرعت بجمع فاج مزدحم١٥
تحكي عناقيدًا علقن على
نور الربيع بزاهر الأكم
هم هكذا اندفعوا إليه زرا
فاتٍ فمن فلكٍ ومن خيم
وأمام جرف البحر قد طفقوا
متعاقبين لمجمع الأمم
ورسول زفسٍ شهرة انتدبت
فسعت تجوب بعزمها بهم١٦
فتهافتوا والربع مضطرب
والأرض تشكو ثقلة القدم
وعلا الضجيج وتسعة بعلا
أصواتهم نهضوا لكفهم
واسترعووا الأسماع للنبلا
ءِ محكمَّي زفسٍ قيولهم١٧
حتى إذا بالجهد قد جلسوا
والصمت يسمع وقعة الكلم
وافى أغاممنون منتصبًا
بالصولجان الفائق العظم١٨
«هو صنع هيفست وفيه حبا
زفس العظيم بغابر القدم
فأباحه زفس القاتل أر
غوص الرسول الأصيد الحكم١٩
وَفِلُبس أوْلى هِرْمِسٌ هبةً
فحبا به أترا أخا الهمم٢٠
فبموته أبقاه خير جدا
لثيستس المشهور بالنَّعم٢١
فإلى أغاممنون جاء به
يقضي به أحكام محتكم
في آل أرغوليذةٍ وكذا
بجزائرٍ وفرتْ بقربهم»
فعليه بين القوم متكئًا
خطب المليك بكل جمعهم:٢٢
«إليكم مقالي يا بني دانوٍ فقد
رماني زفسٌ في حبائل آتيا٢٣
وقد كان والاني بإيماء رأسه
بأَنَّا بإليونٍ نَدُكُّ المراميا٢٤
ولا ننثني للأهل إلا بسبيها
فمان وما أغْوَاه فيما رمانيا٢٥
فقدتُ صناديد الرِّجال وقد قَضى
عليَّ إلى أَرْغُوس أرجع خاسيا٢٦
نعم ذاك أمر شاءه الآمر الذي
يقوِّض أركان البلاد العواليا
ولا شك يسري ذكر خذلتنا إلى
بنينا ومن يحيا السنين الأواتيا
إذا علموا أنَّا بوَفْرَة جيشنا
وشدَّته جئنا نؤُمُّ الأعاديا
ولم نجن إلَّا خيبةً وعديدهم
قليلٌ وأغفلنا الصعاب التواليا٢٧
فلو عُدَّ إغريق وطروادةٌ على
تصافٍ وكلٌّ قومهُ أمَّ جاريا
وقسمت الإغريق بالعشرات والـ
ـكئوس بنو إليون أجرت ضوافيا
لداروا جميعًا بالمُدَام ولم ينل
كثيرٌ من العشرات منهم ساقيا٢٨
كذا دُوننا كانوا عدَادًا وإنَّما
بنجَّادهم يلقون عوْنًا مُباريا٢٩
فمن كل فجٍ كل أيهم فاتك
أتاهم وبالعزم الشَّديد التقانيا
فصدُّوا جُنُودي رَاغِمين تَجَلُّدي
وما لبثوا طروادةً لن أفاجيا
فتسعة أعوامٍ مضت لحصارنا
سفائننا كادت تُسام تَدَاعيا٣٠
ولم أدرك الأمر الذي جئت أبتغي
وأزواجنا لازلن عنَّا نوائيا
بأصرحنا بين البنين وأهلنا
يرمن ولا يبلغن منَّا التَّدانيا
فهيئوا أطيعوني الهزيمةُ مغنمٌ
بعودتنا إني أرى زفس قاضيا٣١
وأصدُقُكم وعدًا يقينًا فلن نرى
لإليون فتحًا فيه نلقى الأمانيا»
بلبل النطق قلب من لم يكونوا
بينهم في شورى الملوك حضورا
عج بالجميع منتداهم كما في الـ
ـبحر تبدي الأمواج عجًّا كبيرا
إذ بإيقارةٍ صبًا وجنوب
بهما غيمُ زفس عنفًا أثيرا٣٢
أو كما ترفع الدبور بأرضٍ
سنبل الزرع مائدًا موتورا٣٣
هكذا بلبلوا وراحوا شتاتًا
بين ماضٍ للفلك يجري مغيرا
بقوى صوته يصيح وتعلو
هُ غُيُومُ الغبار منه نُشُورا
وكذا بين راغبٍ هم يُدْنيـ
ـها إلى البحر ساعيًا مغرورا
وصديد الذين للعود تاقوا
خرق الجو بهجةً وحبورا
يعجلون التنظيف في تُرع الـ
ـفلك وجر الأركان عنها عُبُورا٣٤
ثم أولًا هيرا لعادوا وإن خطَّ
قضاء بفوزهم مسطورا
قالت لآثينا: «أيا ذات القُوَى
أسفًا أيا ابنة زفس رب الجُنَّة٣٥
أيُغادر الإغريق منهزمين فو
ق البحر للأوطان شرَّ هزيمة
يدعون فريامًا يفاخر معجبًا
بذويه في هيلانة المسبية٣٦
من بعد أن هلكت أراجلهم لدى
إليون هدرًا والمنازل شطت
عجلًا إليهم أمسكي كلَّا بليـ
ـن القول لا يمضي لهم بسفينة»
فبحينها اندفعت من الأولمب للـ
ـسفن السِّراع فبلغت في لحظة
وجدت عُبُوسًا أوذسًا من قد حكى
زفسًا بنور حجاهُ لم يُسْتَلفت٣٧
لم يعتمد مسودَّ مركبه ومنـ
ـه النفس غاصت في عباب الكأبة
وقفت ونادَته: «أيا ابن ليرتس
أكذا تؤمُّون الدِّيار بذلة
تدعون فريامًا يفاخر معجبًا
بذويه في هيلانة الأرْغِيَّة٣٨
مِنْ بعد أن هلكت أرَاجلُكم لدى
إليون هدرًا والمنازل شطَّت
عَجَلًا إلى الأجناد أمسكهم بليـ
ـن القول لا يمضى لهم بكتيبة»
في الحال أدرك صوتها طرح العبا
ءَ لأُوربات الفيج عالي الهمة٣٩
وإلى أغاممنون أسرع جاريًا
واجترَّ منه صولجان السَّطْوَة٤٠
ثم انبرى بين السفائن والجًا
بين الملوك وبين أهل الإمرة
ويبادر الأقيال إن مرُّوا به
مستوقفًا ومُحرِّضًا بالرِّقَّةِ:
«أو كيف صاح يليق كالأنذال تر
تعدون خوفًا فارتدع لنصيحتي
أرجع جُنُودك إن أتريذًا له
أربٌ ليبلونا بكل طريقة
ولقد جهلت مرامهُ ولسوف تلـ
ـقاهُ يُعَاقبنا بشرِّ عُقُوبة
فَتَرَوَّ واحذر غيظه إذ لم نكن
طرًّا لديه بين أهل الندوةِ
من كان مولى زفس ليس يذله
بل صانه بكرامةٍ ومَوَدَّة»٤١
وإذا رأى أحد الرَّعاع مصوِّتًا
بالصَّولجان عليه مال بضربة٤٢
وله يقول: «اجلس ولا تُبْدِ الحَرَاك
أيا جبانًا قد خلا من نَخْوَة
أفكنت من أهل الوغى والرأي فسـ
ـتمثل بمن يعلو وَعِندك فاثبتِ
أو جملة الإغريق أقيالٌ فلا
أشقى مآلًا من تَسَلُّط جُمْلةِ٤٣
لا يستقيم الأمر إلا إن يكن
فردٌ يُخوَّل صولجان الصَّولة»٤٤
فلنرضخن إذًا لِمَن زفس ارتضى
للملك والأحكام بين الأمة
فكذا بفصل القول خاطبهم وعا
د الجيش للشورى بأعلى ضَجَّة
تركوا السفائن والخيام مهروليـ
ـن بكل جمعهم ولم يتشتَّت
كالموج في جرف البحار يعجُّ والـ
ـلُّمج الدَّوِي به بقاصف عجّة
ثم استكانوا في مجالسهم سوى
ثَرْسِيت لم يذعن لذاك ويَسْكت
سفهٌ لَهُ قذف الشتائم ديدن
وخصومة الحُكَّام أقبح خطَّة
وقحٌ تجاوز كلَّ حدٍ وهو إن
يستضحك القوم استطال ببهجة
لم يَرْعَ قطُّ مقامه وغدا بهم
خُلْقًا خَلْقًا شرَّ أهل الحملةِ٤٥
قد كان أكبس وهو أحول أعرج
وشعوره كادت تعدُّ بشعرة٤٦
كتفاه قُوِّستا لضيق صدره
وبصدره لم يحو غير ضغينة
يختصُّ أوذس وابن فيلا حقده
أبدًا بكل تحاملٍ وشتيمةِ٤٧
والآن مال على أغاممنون بالـ
ـقذف الشديد مُعَنفًا بتعنُّتِ
فنفوسهم منه اشمأزَّت وهو لم
يعبأ وخاطبه بأهجن لهجة:
«قل يا أغاممنون ما تشكو إذا
ولقد جمعت لديك أجزل ثروة
وبدائع الغادات من سبيٍ بها
نحبوك إن نفتك بأيَّة بلدة
أطمعت في ذهبٍ يأتيك من
إليون مُلتمسٌ قبول الفدية
إن ما أتَيْتُك أو أتى غيري له
بابن يُكبَّل بالقيود الجمّة٤٨
أم هل تروم أسيرةً أخرى لها
تبدي غرامك إن خلوت بعزلة٤٩
لا لا فليس يليقٌ كلُّ الجيش للـ
ـبلوى يساق بميل رأس الأسرة
وأعاركُنَّ أيا نساءُ ولا أقو
ل أرَاجلًا فلنقفلنَّ بخزية٥٠
وليبق ذا الملك الغرور وذُخْرُهُ
فيرى بذلك ما لنا من عزوة
فقد اعتدى توًّا على من فاقهُ
بأسًا وآخيلٌ تقاعد بالتي
لو كان ذا قلبٍ لكنت لقيت في
أثر اعتدائك منه آخر حِطَّة»
فعلى أغاممنون راعي الشعب ثِر
سيتٌ أثار كذا أُوار نميمةِ
فله انبرى أوذيس يلهب صدرُهُ
غيظًا وخاطبهُ بقول مُبكِّت:
«صه يا رعاعة من تكون لتبتغي
لدد الملوك بنطق أخبث صيِّت٥١
فلأنت أوضع قادم في جُنْد أتـ
ـريذٍ لدى إليون فاخسأ واصمت
أفكنت كفأ للخطاب مندَّدًا
بالصيد تنتدب الملا للعودة٥٢
أو من ترى منَّا بقسمته دَرَى
أو ما يكون مآل تلك الرِّجْعة
وعلى أغاممنون فاك فَغَرت إذ
أبناء دانوسٍ حَبَتْه بتحفة٥٣
نبأي فخذ مُصَدَّقًا فلئن أر الـ
ـتهذار منك كما رأيت بمُقْلَتي
لا ظلَّ رَأسِي فوق كتفي عالقًا
لا كنت والد تيلماخ يتيمتي
إن لم أجرّدك العباءة والدِّثا
رَ إلى بقايا كُلِّ آخر سُترة
فتساق فوق الفلك مُختضبًا من الـ
ـشُّورى تردد أنةً في أَنَّة»
من ثمَّ بادره وأوهن ظهره
بالصولجان بضربةٍ دمويةِ
برزت بمنكبه دماء بثورها
فأكبَّ يبكي واستكنَّ برعدة
بسذاجة البُلَدَاء ينظر حوله
ويكفكف الدَّمع السَّخي بِتشمُّت٥٤
وجماعة الإغريق لم يتمالكوا
عن فرط قهقهةٍ لتلك الخيبة
يتداولون بقولهم: «لله كم
قد حاز أوذس من جليل مزية
بالحزم في الآراء والتَّدْبير في الـ
ـهيجاء أيَّان انبرى لمهمةً
لكنه لم يأت أجمل حكمةً
من ردعه سفهًا يصول بفتنة
لا شك أخمد نفسهُ بنكالها
عن أي تثريب الملوك بكلمة»
وأقام هدام المدائن أوذسٌ
بعصا السيادة واقفًا بعزيمة٥٥
وتليه آثينا بهيئة صارخٍ
يدعو جموعهم بكل سكينة٥٦
حتى جميع صفوفهم علمًا تحيـ
ـط برأيه فأتى بأفصح خطبة:٥٧
«تحمِّلُك الإغريق كُلَّ ملامةٍ
أأتريذ إمَّا اليوم خابت وعودها
لديك لقد آلوا قبيل ارتحالهم
لإليون لا يثنون عزمًا يُبِيدُها
وها هم كولدٍ جزَّعٍ وأرامل
تناهى حنينًا للبلاد هُجُودها
لتلك إذن بَلْوَى تفاقم ضرُّها
وما اليأس إلا أسها ومعيدها
ولا شك يغتمون إن يمض شهرهم
بفلكهم والنوء ظلَّ يُميدها
فكيف وقد باتت حئول اغترابهم
سنين طوالا تمَّ تسعًا عديدها
وأزواجهم عنهم نأين فلا أرى
ملامًا إذا البأساء شطت حدودها
ولكن كل العار في عودة السُّرى
بخيبتهم مهلًا فسوف نعُودُها٥٨
لنبلو صحبي صدق كلخاس منبئًا
بما قد علمتم آية وأعيدها:
شهدتم وما مُتُّم وفي الأمس خلت ذا
قديمًا سرايانا استتمَّت جنودها
وهيَّأت الأسطول في بحر أفلسٍ
لأمَّة فريامٍ يُعَدُّ وَعِيدها٥٩
إلى ساجةٍ عظمى لديها تفجَّرَت
من الماء عينٌ فاض سيلًا برودُها
رفعنا على طهر المذابح جُمْلة
مئات الضحايا واستطار وقودها
إذا أفْعُوَان هائلٌ قد بدا لنا
بمعجزةٍ من أمر زفس ورودها
من المذبح الدَّامي استطال مخضَّبًا
إلى السَّاجةِ الشَّماءِ وَثْبًا يريدها
وفي رأسها عصفورةٌ وفرِاخها
ثمانيةٌ ما كاد يَنْقُفُ عُودها
إليها سريعًا هَمَّ مُزْدَردًا على
تغاريدها والأم شُقَّتْ كُبُودُها
ترددت أنَّات الأسى وترف في
جوانبه حتى اشرأب يصيدها
ولمَّا فَرَاها تسعة صار صخرة
بحكمة مبديها استتب جُمُودها
فزدنا عجابًا والتشاؤم رابنا
ولكن لكلخاسٍ تجلَّت عقودها
فقال: «تولَّتكم من الأمر دهشةٌ
ولكن خفايا السَّرِّ وافت وفودها
«يرينا بهذا زفس معجزةً بها
لنا نصرةٌ في الغيب خُطَّ خلودها
«كما أفعوان الضير أمسك تسعةً
من الطير مغتالًا وأنتم شهودُها
«كذاك لدى إليون تسعة أخؤُلٍ
نخيب فيأتي عاشرٌ ونسودها»
وقد كادت الأنباءُ تكمل فالبثوا
يسيرًا وإليون تحط سعودها»
فهلهلت الإغريق والفلك ردَّدَت
هلاهل سرٍّ للسماء صُعُودها
فبادر نسطور الوقور مخاطبًا:
«هذرتم كولدٍ طال جهلًا قُعُودها٦٠
كأنكم لم تشهدوا قط مصرعًا
وأقسامنا هل تضمحل عهودها؟
فأين الضحايا والقرابين أحرقت
بأيمان صدقٍ موثقاتٌ بُنُودها
وأين مدامٌ قد أرقنا وأيمنٌ
بها قد تواثقنا أباد وجُودها؟
لقد طال منآنا وكلُّ قتالنا
ببطل أقاويلٍ بعيدٌ مفيدها
تقلَّد أيا أتريذ بالحزم مثلما
عهدتك وليعل الحروب وصيدها
ودع حانقًا أو حانقين تعمَّدا
مغادرة الهيجاء أنت عميدها
فلن يرجعا ما لم نخب أو تتح لنا
مواعيد رب التُّرس صدقًا يشيدها
وعندي يقين أننا عندما على
سفائننا للفتك جئنا نقُودُها
لنا سلفًا بالرأس أومأ مُعْلِنًا
بشائر نصرٍ قاصفاتٌ رعودها٦١
فلا تفكروا بالعود ما لم تقوَّموا
لهيلانةٍ ثأرًا لبؤسٍ يكيدها
فيظفر كلٌ منكم بسبيَّةِ
وتدمر إليون وتحرز غِيدُها
ومن تاق للأوطان فليأت فُلْكه
فيعلم أن النفس حان خُمُودها٦٢
فخذ بشعار الحزم أتريذ مُثْبتًا
نصائح أحكامٍ لديك أُجيدُها:
لتنتظم الأجناد بين قبائل
يُوَلَّى عليها بالمعامع صيدُها٦٣
فتعلم من منهم أشد تثبتًا
ومن قلَّ عَزْمًا إذ يدنَّى بعيدها
وتعلم ما إليون مَنَّع حصنها
أوهنٌ بجندٍ أم قضاءٌ يذودها
هنالك أتريذ قال خطيبًا:
«لقد فقت يا شيخ كل خطيب٦٤
فلو لي بنُصرة زفس وفالا
س ثُمَّ فيوس الإلاه الغضوب٦٥
بما بك من حكمةٍ عشرةٌ
لذلك إليون تحت ضروبي٦٦
ولكنما رافع الجوب يشقي
فؤادي بكل شقاق مريب٦٧
فبيني شبَّ وبين أخيل
خلافٌ وإني أصلُ الشبوب
ولو أننا في صراط سوي
لأرغمت طروادةً عن قريب
فقوموا إلى الزاد صحبي ومن ثم
للكرِّ نمضي ونشر اللهيب
أعدُّوا تروسًا وحدُّوا قنيًا
وزيدوا غذاء خيول الكروب
وبالعجل افتقدوا المركبات
فذا اليوم يوم إله الحروب
فهبوا ولا تفكروا بسواها
فلا فترة بعد ذاك الهبوب
إلى أن تحُول جيوش الدَّياجي
فيرفضُّ بالقسر كل صخوب
ورَشْحُ الصُّدور يَسيلُ على
مَجِنٍّ علا فوق درع خضيب
وتخدر أيديكم في قناها
وللخيل في ذاك مُرُّ النصيبِ
فتسبح من عيِّها عَرَقًا
بجرِّكم في عجال الخُطُوبِ
ومن يتناء فذاك حَذَار
طعام الكلاب وطير السُّغوب٦٨
فلما انتهى ضَجَّ الجميع تحمُّسًا
دويًّا كعج البحر بالجرف يقصفُ
كنوطس إذ من كل صوبٍ وهبَّةٍ
لأعلى حزيز الصَّخر بالموج يَقْذفُ٦٩
وساروا شتاتًا هارعين لخيمهم
بها أضرموا نارًا ولم يتوقفوا
طعامهم نالوا وزكَّوا تقادمًا
لأربابهم كل لمن كان يألف٧٠
وقد سألوهم كف رزءٍ وبينهم
إلى زفس أتريذ غدا يتزلَّف
فضحى بثورٍ مُربع بعد أن دعا
لأدبته صيد السرى فتألفوا٧١
وأوَّلهم نسطور ثم إذومن
وآياس آياسٌ قليلًا تَخَلَّفوا
تلا ذيميذ ثم أوذيس من غدا
بحكمة مولى الخالدين يعرَّفُ
وجاء منيلا القرم من غَيْرِ دعوةٍ
لما بأخيه من عنا النفس يعرفُ٧٢
لدى الثَّور قاموا ثم ذرُّوا شعيرهم
وفيهم أغاممنون يدعو يهتف:٧٣
«يا من تفرَّد في مجدٍ وفي عظمٍ
ياراكم الغيم يا من في الرَّقيع علا
لا تحجب الشمس والظلماء تعقُبُها
حتى بفريام نصرًا نبلغ الأملا
أدُكُّ شائق قصرٍ شاده وأرى الـ
ـلهيب يلتهم الأبواب محتملا
ودرع ذي البطش هكطورٍ أمزَّقُها
بصدره ونذيق القوم شرَّ بلا
وحوله فتيةٌ تنقضُّ ساقطةً
فتكدم التُّراب من أصْحابه النُّبلا»
لكنما ابن قرونٍ لم يصل أملًا
آوى الضحية لكن أثقل العملا٧٤
بل زاد محنتهم ويلًا وما عرفوا
دعوا وذرُّوا الشعير الرَّافع القُبَلا
والذَّابح الذَّبح أعلى رأسه وكذا
من بعد تجريده أفخاذه عزلا
بالشحم غشَّى حواشيها وأتبعها الـ
ـأحشاء داميةً من فوقها وشلا
وأضرموا النار خشبانًا مُقَطَّعةً
سعيرها بسفافيد الحشا اشتعلا
حتى إذا ذابت الأفخاذ واجتعلوا
باقي الحشا اقتسموا اللحم الذي فضلا٧٥
ثم اشتووه وهبوا للطعام ولم
يكن بهم قط شاك لم ينل جُعلا
لما اكتفوا قام نسطور الوقور على الـ
ـأقدام مُنْتَصبًا بالقول مُرْتجلا:
«أتريذ مولى الموالي فلنهُبَّ إلى
فعلٍ يخوَّلنا الرَّبُّ الذي فَعَلا
لِتَهْتَفنَّ دُعاة الحرب جامعةً
لدى السَّفائن أبطال الوَغَى عَجَلا
ولنجرينَّ جميعًا نحو فيلقهم
نهيج فتنة رب الحرب والجذلا»
في الحال لَبَّى أغاممنون منتدبًا
كل الدعاة لحشد الجند والعُمْد
بأجهر الصوت نادوهم وما لبثوا
أن أقبلوا مستتمي العَدِّ والعُددِ
والصيد من حول أتريذٍ مكتبةٌ
صفوفها وأثينا فوق كُلِّ يد
مُثِيرةً خطوات الجند نافخةً
بين النفوس اقتحام الهول والشدد٧٦
ترنو بمائيّ عَيْنَيها مُشَدَّدةً
قُلُوبهم وبدت بالمجوب الخلد٧٧
أهدابه مئةٌ كلٌ لقا مئةٍ
من العُجُول ولا تنحلُّ للْأبد٧٨
دارت عليه مُدَلَّاةً وَقَد سُبِكتْ
من عسجدٍ خالص بالنُّور مُتَّقدِ
حتى سعوا وأوَار الحرب لاح لهم
أشهى من العَوْد للأزواج والوَلدِ
تمضي فيالقُهُم في أدْرُعٍ سطعت
فوق الرَّقيع لأعلى قُبَّة الجلد
كالنار مُلْهِبةً غابًا على جبلٍ
والنُّور منبعثٌ منها على أمد
وغَادَروا الخيم والفلك السِّراع وفي
ذاك الفضا انتشروا في حُلَّةِ الزَّرَد
كما تكاثف طيرُ البر من بجعٍ
ومن أوزٍّ ورهوٍ بالغ الجيد٧٩
تَعَجُّ في مَرْجِ أسيُوسٍ بكيسطرٍ
من كل فجٍ عصاباتٍ على الجُدَدِ٨٠
تساجلت بعرارٍ خارقٍ فَدَوَت
تلك الرِّياض له في حشد مُحْتَشِد٨١
وللحوافر وقعٌ والنعال لها
خفقٌ يفتت جسم الجلمد الأجد٨٢
حتى بساحل إسكا مَنْدَرٍ وَقَفُوا
عداد أوراق روضٍ بالرَّبيع ندي
حَلُّوا بضفَّته في عدَّةٍ غمضت
يصلون نار انتقام داخل الكَبدِ٨٣
مثل الذُّباب إذا حان الربيع وقد
حامت بعُنَّة راعي العنز والنَّقَد٨٤
تهافتت تبتغي الألبان هاجمةً
على القصاع بلا حصرٍ ولا عدد
وَكُلُّ سَيِّد قومٍ قام منفردًا
بهم كراعٍ بما يستاق منفرد
في الحال يجمع شَتَّاهم إذا امتزجت
بين الألوف بأرض البر إن يُرد
وبينهم بشعار الفخر مُتَّشحًا
أتريذ قام بمجدٍ باذخ العَمَد
وقد حكى زفس عَيْنَيْهِ وهامته
فوسيذ صدْرًا وآريسًا قُوَى جَسَد
في ذلك اليوم قصَّاف الرعود قضى
أن لا يضاهيه بين الجُند من أحد
فكان كالفحل ما بين الصِّوار متى
يقم شموخًا على قطعانه يَسُد٨٥

القسم الجغرافي

وهو يتضمن أيضًا أسماء الملوك والرؤساء
يا قيان الأولمب لي قلن من كا
ن بذاك الوغى رءوسًا وجندا؟٨٦
فلأنتن بالخفا عالماتٌ
للإلاهات كُلُّ علمٍ أعدَّا
إنما نحن شهرة الأمر نروي
عن خفايا الأصول نَقْصُرُ حدَّا
ضِقْتُ ذَرعًا لو لي فؤاد نحاسٍ
وبصوتي مهما تعمدت جُهْدا
لا ولو لي تصيح عشرة لسنٍ
لم أطق للجموع ذكرًا وسردا
بيد أن القيان من نسل رب الـ
ـجوب يؤتينني إذا شئن رفدا
لست أحصي إذن سوى عدد الفلـ
ـك وكل القواد بالحرب عَدَّا٨٧
والبيتيُّون بأمر ليطس
إفروثوينورٍ وفينيلاوس٨٨
وأركسيلاس وإكلورينس
وبعضهم من أهل وعر أولس
إغْرَاي إسكُولس سَخينُس هِيريا
ومن هضابٍ زدن في إتيونيا
وثسبيا وسهل ميكاليسا
هرمة إيرثريةٍ إيليسا
وبعضهم من قوم إيليونا
أو كاليا هيلا وفيتيونا
وميديونا زاهر المقام
كذاك ثسبا مجمع الحمامِ
وكوفسٍ كُوْرُونيا أَتْريسس
وهاليرتا روضة المستأنس
وهيفثيبس المباني الشتَّى
ومن فلاطيا وإغليسنتا
وقدس أُنْخستا التي فيها زَكَت
غاب أفلُّون التي تباركت
وأرنيا ذات الكروم المخصبة
وميديا ونيسة المقرَّبهْ
ومنتهى البلدان أنثيدونا
وقد أتوا في سفنٍ خمسينا
كل بها عشرون شهمًا ومئه
من فتيةٍ مقدمةٍ مُلَبَّئهْ٨٩
وأسفليذون وأرخومين
من مينسٍ قَيْلُهُما يلمين
كذا أخوه عسقلاف جهَّزا
فلكًا ثلاثين عليها برزا
لآرس فَرْعان بالخفاء
وأستيوخا الغادة العذراء
بقصر أكتر بن آزيا هما
قد ولدا بعد القران لهما
من بعد أن ساق اشتداد الحُبِّ
لخدرها القاصي إله الحرب٩٠
وقوم فوقيا بأربعينا
سفينة يسرى البيوتيينا
جميعها سوداء فيها يرؤس
أفستروفوس وإسخيذيس
كلاهما ابنا ذي العلى إيفيتس
فرع نبُولس قد أتوا من دَولس
ووعر فيثُسٍ ومن فانوفة
وقدس إكريسا وقِيباريْسة
وأنموريا وهيمبولس
ومن قفيس الساحل المقدس
وفئة من نهر ليلايا أتت
وغادرت ضفافه بما أزدهت
وقوم لقريا بأربعينا
سفينة جاءوا مسلَّحينا
بأمر آياس بن ويلا الفائق
بطعنه كلَّ سرى الأغارق
وهو أخو الخفة في الشجعان
لأمته درعٌ من الكتَّان٩١
لكنه لدى أياس القرم
إبن تلامون صغير الجسم
وجنده من قينسٍ أوفنطة
قليارسٍ بيسا ومن إسْكَرْفِة
كذاك من ترفا ومن إثرونس
على ضفاف نهر بُوَّغْريس
وأوجيا ذات الرياض المؤنسه
ممَّا وراء أوبيا المُقدَّسهْ
وجند أوبيا بأربعينا
سفينةً سوداء هم آتونا
وهم جميعًا عصبة الأبانتهْ
ذوي القوى المجرَّبات الثابتهْ
موطنهم هستية الكرُوم
والبلد المعمور في ديوم
كذاك إيرترية وخلكس
وفرضة بحريَّةٌ قرنثس
ومن كرستةٍ ومن ستيرا
دانوا إلى أمر أليفينورا
وهو ابن خلكودون عالي الجنب
أميرهم من نسل ربِّ الحرب
وهم ذوو الغدائر المسترسلهْ
تلوه بالبأس وفرط العجلهْ٩٢
يبغون شَقَّ الصَّدْرِ بالدُّرُوع
بأسلٍ عالية الفُرُوع
وجهزت سفائنٌ خمسونا
مصبوغةٌ سوداءُ من آثينا
ألموطن البهي لابن الأرض
مريد آثينا وصافي العِرْض٩٣
ربيبها المأثور إيرخثاوس
في الهيكل المعمور بالنفائس
حيث بحول الحول فتيانهم
حبًّا بها يُذبحُ قربانهم
يرؤسها أمهر هادٍ يهدي
يوم النزال عجلات الجند
وينظم القوم ذوي التُّروس
وهو منستس بن فيتيوس
لم يحكه من دون نسطور أَحَد
بل فاقه نسطور سنًّا وانْفرد
وجُهِّزت مراكبٌ إثنا عشر
فيها أياس بن تلامون أَمَرْ
وقد أتت في قوم سالامينا
ووليت فلك الأثينيِّينا
وجند أرغس ماسس إيُّونا
وأترزينا ثم هرميونا
كذا ترنثا البلدة المسوَّره
وآفدورة الكروم النَّضره
كذاك إيجينا وآسينا التي
على خليج قدمًا شُيِّدت
جميعهم من فتية اليونان
قيولهم ذِيُومذ الطعان
وإسْتِنِيْل بن قفانوس الجري
كذاك أُرْيال بن ميكست السَّري
من نسبة يُعْزَى لطاليونا
وشدَّة يحكي المخلَّدينا
سفُنُهم سودٌ ثمانون وقد
ولَّوا ذيومذ الأمير المُعْتَمَد
ووافدو ميكينيا البهيَّه
وأرنيا قورنثس الغنيَّه
وقوم هيفيريسيا فلينا
وروض آريثيريا إجيونا
والجند من إكلُونيا النفيسه
كذاك من ديار غُونُويسه
وقُطر هيليقا وما قد جاوره
كذاك إغيالا البلاد العامره
وأرض سِكُيُونا التي فيها حكم
أذرست أوَّلًا على تلك الأمم
جميعهم جاءوا على فُلكٍ ميه
بهمَّةٍ على الجميع مُرْبيه
وهم أَجلُّ القوم بأسًا وعَدَد
بهم أغاممنون بالأمر انفَرَدْ٩٤
قد ماس بالشِّكة بافتخار
لما حوى من عظم اقتدار
بسفنٍ ستِّين جُنْدُ ميسه
أرض الحمام وكذا فاريسه
ووعر لقدمونيا العميقه
كذا سرى إسبرطة الأنيقه
بريسيا كذا هلوس البحر
وأوجيا ذات ابتسام الثَّغر
أوتيليا أمكليا ولاءس
دانت إلى أخيه مينيلاوس
في عزلةٍ يهيئون العُدَّه
ونفسه بينهم مُشْتَدَّه
يستنهض الهِمَّات والحَميَّه
للذب عن هيلانة المسبيَّه٩٥
جيرينيا بطلها المشهور
والفارس السامي النُّهى نسطور
سفنه كبيرةٌ تسعينا
كانت بها جاء مع الباقينا
بقوم فيلوس وإيفيجينيا
قيفارسٍ فتيليا آرينيا
وأرض مجرى ألفسٍ ثِرْيُونا
وآفيا العظمى هلس دُرْيُونا
حيث لنسلِ زفسٍ القيان
ثاميرسٌ قد لاح باطمئنان
يعودُ من منزل أفريتيس من
أُوْخاليا وغيظهن مكتمنْ
لأنه ادَّعى بإحسان النَّغَم
أكثر منهنَّ ومن كُلِّ الأمم
ضربْنَه بكيدهنَّ بالعمى
ثم استلبن من حجاه النَّغما
أنسينه نفائس الأشعار
ومهنة الضَّرب على القيثار٩٦
وقوم أرقادية الآتونا
من لحف طودٍ أجدٍ كيلينا٩٧
بقرب قبر أفتيس من فازوا
حيثُ بدا يوم الوَغى البِرازُ
وأهل أرخومينسٍ ذات النَّعم
كذا أنسفا حَيْث هَبَّاتُ النَّسَم
وريفيا سِتْراتيا وفينيا
كذاك إستمفالسٍ منتينيا
وتيجيا فرَّاسيا يقودهم
أغافنور أنكوس عميدهم
وهم صناديد محنَّكونا
جاءوا على سفائنٍ سبعينا
أرسلها أتريذ عونًا لهم
إذ جهلوا صناعة الفلك هُمُ٩٨
ومن بأرضٍ وليت هرمينيا
أليسيا والوعر في أولينيا
بفراسيا ثم الأليذا الواسعهْ
كذاك مرسينوس تلك الشاسعهْ
كُلُّهم من إيفيا قد ركبا
وقد أعدوا أربعين مركبا
لكل عشرةٍ أميرٌ يرؤس
إبنُ عمارنقا الفتى ذِيُورس
كذا ابن أقطياط ثلفيوس
وأمفماخ الفارس العبوس
إبن أريت المنتمي لأكتر
كذا فلكسين الحقيق المخبر
إبن أَغَسْتينَ بْنِ أفْغياسا
ذي الطَّول والكُلُّ تسامى باسا
وميجس الذي أتى مهزوما
قِدمًا إلى ديار ذو لخيوما
غيظًا على أبيه فيلاوس من
كان حبيب زفس في ماضي الزمن
بأربعين مركبًا سوداء
بقومِ من يلي أليذا جاء
من جزر قدسية الدِّيار
قاصية في شاسع البحار
بإيخناذة غدت مشهوره
ودُلْخيوم البلدة المعموره
ومن يحاكي زفس بالرَّأي الأغر
أذيس في مراكب إثني عشرْ
من صفحتيها صبغت بالأحمر
أتى بها بما له من عسكر
من قوم إيتاكا وكيفالينيا
ذات السُّرى البهم وإكروكيليا٩٩
ومن أغيليفا ومن زاكنثس
وعبرها ونيرتس وسامس
وأربعون مركبًا سُوْدًا أتت
بقوم إيتولية ممن حَوَتْ
من أولنس ووعر كاليْدُونا
والثغر خلكيس وإفلورونا
كذاك من مقاتلي فِيلينا
زعيمهم ثُوَاس أنذرمُونا
إذ وينس وولده الأمجاد
وميليغر كلهم قد بادوا١٠٠
وجند إقريطش ذات المئة
مدينةٍ بإيذُمِيْنٍ أَتَتِ١٠١
ملكيهم والطاعن الشديد
كذاك مريون الفتى العنيد
جاءوا من المدائن الكبار
غُرْطِينة المتينة الحصار
إغنوسة ميليتس ولكْتُس
ليكستسٍ ريتيةٍ وفستس
وقومهم من سائر البلاد
على ثمانين أتوا عِدادِ
وتسع سفن بجنود رُوْدُس
من لِنْدُسٍ إيليسس كامِيْرُس
من كل ليثٍ للوغى مُندفق
قد قَسِمُوا إلى ثلاث فِرَقِ
وابن هرقل قَيْلُها الكبير
أطلوفليم الطاعن المشهور
وأستيوخا أمه من إيفرس
سبى أبوه في ضفاف سلَّيس
لما غزا مدائنًا عظيمه
فيها بنو زفس العُلى مقيمه
فظل في صرح أبيه ممتعا
حتى إذا بعزمه ترعرعا
خال أبيه لكمنيوس قَتَل
وكان ذاك الشيخ قارب الأجل
ففرَّ من أبنائه وحفده
بالبحر في أتباعه وعُدَده
حتى إذا عانى مشقَّات الأسى
دفعه البحر لأرض رُوْدُسا
جعلها ثلاثة أقسامًا
بكل قسم فئة أقاما
وزفس رب الخلق قسام القسم
أولاهم الودَّ وأَجْزل النِّعم
وفي ثلاثٍ ببني سيما أتى
إبن شروفس وأغلايا الفتى
نيريس أجمل أهل الحملة
إلا ابن فيلا القَرْمَ عالي الهمة
لكنَّه طَبْعًا ضعيف الباس
ولم يكن إلا بنزر الناس١٠٢
وفي ثلاثين ملا فيلبُّس
وأنطفوس ولدي ثسَّالس
من كان من رهط الهرقليينا
من جُزْرِ كالِدْنيةٍ آتونا
ونيسرس إكرانثس كاسوس
كذاك أرض أورفيلس كوس
تتلوهم أرغوسة الفلاسجه
بسفنٍ خمسين سارت هائجه
قد عرفوا باسم الهلانيينا
أو مر مدُونٍ أو أخائيِّينا١٠٣
مع أهل آلوفا وإطراخينا
وإفثيا ثم الألُوسيّينا
كذا هِلَاس موطن الحسان
زعيمهم آخيل عالي الشان
قد غادر الحرب بما قد آلى
فاعتزلوا الكفاح والنزالا
وظل عند الفلك مشتدَّ الأرق
على بريسا مضمرًا كل الحَنَق
وكان من لرنيسةٍ سباها
بشرِّ حربٍ عمَّمتْ بلاها
ودَكَّ ثيبة وفرعي إيبنس
جندل مينيسًا وإيفسترُفُس
الباسلين من بني سيلفيس
فظل نائيًا بذاك المجلس
لكنه بعيد هذي المُدَّه
ينهض للحرب بكل شِدَّه
بني فلاقا وفراسا الخضرا
قدس ذميتيرا الرياض الغَرَّا١٠٤
وجند إفتيلُون ذَاتِ الزَّهر
وأنترون فوق جرف البحر
وأهل إيْتُونا الوفيرة النعم
بأربعين مركبًا سودًا نظم
إفروطسيلاس الفتى المحراب
لكنَّه قد ضَمَّهُ التُّرابُ
وهو ابن إيفكلوس صاحب الغنم
إبن فلاخس بن آريس النقم
قد كان أوَّل الصَّناديد الأولى
على العدى انقضُّوا فألفى الأجَلا
وفي فلاقا بيته لم يَكْمُل
وعرسه تبكيه ملء المقل١٠٥
وجنده بفرط حزنهم لقد
ولَّوا فذرقسًا أخاه المعتمد
لكنه أقل حسنًا وكبر
وإن يكن ممن ببأسه اشتهر
وأهل بيبيا وإغلاميرا
وهوربيبياس ثمَّ فيرا
سفنهم أتين إحدى عَشْرَهْ
أفْمِيْلُ أذميتَ وليُّ الإمره
وهو ابن ألكستا مجيدة النَّسا
أجملهن ببنات فَلْيَسا١٠٦
بسبع فلْكٍ أهل أوليزونا
ثوما كيا ميليبيا مثيونا
زعيمها فِيلُكتِتيس النَّابِل
كل بخمسين أتت تناضل
جميعهم فاقوا بضرب النبل
لكن مولاهم شَتِيت الشَّمل
يلقى بلمنُوْسَ عنا النَّكال
مُلْقًى بجرح حيَّة عُضال
وسوف يذكرونه طُرًّا على
سُفُنهم وهو يقاسي العللا
شقَّ عليهم أمره كثيرا
لكنهم راموا لهم أميرا
لذاك ولَّوا أمرهم ميدونا
إبن سفاح وِيلُسٍ ورينا
وجند إترمكاو إيتوم الأصم
أوخاليا حيث أريت قد حكم
بإمرة ابني أسقليب الآسي
مخاون وفولذير الباس
أشهر من أتقن علم الطب
على ثلاثين جروا للحرب
وجيش أرمينا كذا أستيريا
وأرض مجرى السيل في هيفيريا
وشامخ الطِّيطان مُبْيض القمم
بأربعين مركبًا سودًا عَزَم
وأورفيل بينهم زعيم
إبن أبيمون الفتى العظيم
وجند أرغيسا وأولوسونا
أرثا وغرتونا وإيليونا
فوليفت زعيمها ذو البأس
ابن فريثوّس سليل زفس
وهو ابن هيفوذاميا الحسناء
قد وَضَعته وأبوه نائي
يقتص من مردة القناطره
ويلتقيهم بالنبال الماطره١٠٧
طردهم من أرض فِيليُونا
إلى شوامخ الأثيكيِّينا
لم يَنْفَرد فُوليفت بالأمر بل
لِيُنتس ابن آرسٍ مَعْهُ استقل
إبن كرُولُنٍ سلَيل كينا
بسفنٍ سوداء أربعينا
وغُونِيُس بجند كيفوس على
مراكب اثنين وعشرين تلا
بفتية الإينان والفريبه
مما يلي دُودُونة القريبه
ومن ربى جدول طيطارسيُس
ذاك الذي ينصبُّ في فينيس
بموجه الفِضِّي لا يمتزج
إذ ذاك من لج الستكس يخرُجُ
«من الستكس مُثْقِل الأيمان»
لذا طفا كالزيت للعيان١٠٨
ثم فروثو بن تنثر يدونا
بمن أتى من غاب فيليونا
وجرف فيناوس من أهالي
مغنيسيا بأربعين تالي
فهذه أماثل البلاد
وجملة الملوك والقُوَّاد

•••

قَيْنَة الآن أنشديني وقولي
من سما في تلك السُّرى والخُيُول١٠٩
أجود الخيل عندهم تلك أحجا
ر لدى ابن ابن فيرس أفميل
قد تَساوَتْ فَدًّا وسنًّا ولونًا
وجرت كالطُّيور فوق الطُّلول
في ربى فيريا أفلُّون ربَّا
ها لنشر الهول الرهيب الوبيل
وأشد الأبطال بأسًا أياس ﺑ
ـن تلامون بعد بأس أخيل
فابن فيلا قد فاقه بكثير
ومن الخيل حاز كلَّ أصيلِ
ظَلَّ ما بين فُلكه فاكرًا في
كيد أتريذ لارتواء العليل
وذووه الكُرات يرمون والمز
راق والنبل فوق جُرْفٍ طويل
بعجالٍ قد سترت في خيام
وخيول في الحندقوق الجزيل
ورءوس الأجناد تاهوا شتاتًا
غير ملفين للوغى من سبيل
كفُّ مولاهم وزحف سواه
أثقلاهم بكُلِّ حُزْنٍ ثَقِيل١١٠
وكأن السهول طارت شرارًا
بمسير الإغريق فوق السهول١١١
رجَّت الأرض تحت وَقْع خُطَاهم
رجَّ آريم يوم هول مَهُول
عندما زفس بالصَّواعق يرمي
غاضبًا قبر تيفُس المَقْتُول١١٢
قوم طروادة شيوخٌ وفتيا
ن بشوراهم ببحث جليل١١٣
تحت أبواب قصر فريام قاموا
وإذا بغتة بأدهى رسول
من لدى زفس بالبلاغ أتَتْهُم
نفس إيريس كالنسيم العجول
وابن فريام فولت حارسًا كا
ن على قبر أيستيس النبيل
رامه الشَّعْب راصدًا ثمَّ يرعى
قوم أرغوس خارج الأسطول١١٤
لِيُوَافي مخبرًا إن رأى أمـ
ـرًا خطيرا بعدوه المكفول
شَابَهَتْه صوتًا وشكلا وقالت
لأبيه بأصدق التَّمثيل:
«أيها الشيخ والحروب شدادٌ
كمصافٍ تلهو بقالٍ وقيل
كم ولجت الهيجاء لكنَّما أعـ
ـداؤنا اليوم ما لهم من مثيل
هجموا كالرِّمال أو ورق الأشـ
ـجار هكطور هاك فاسمع مقولي
فسرايا الأحلاف عندكم مخـ
ـتلفاتٌ بألسنٍ وعقولِ
فليُكتِّب ذويه كلُّ نزيل
(ولك الأمر فوق كل نزيل)»
فعلى الفور فضَّ هكطور جمعًا
ولذا الصوت لم يكن بجهولِ
هرع الجند للسلاح جميعًا
وجميع الأبواب تحت القفول
فتحوها ساعين بين عجالٍ
ورجال بين القنا والنُّصول
زَعَقَاتٌ من دونهُنَّ صديدٌ
بعجيجٍ وهيعةٍ وصهيل
وتراموا بذلك السهل حتى
قنَّةٍ شرفت بمجدٍ أثيلِ
قد دعاها الأرباب قبر مرينٍ
والملا باتيا لجهل الأصولِ
ثم هكطور قام ينظمُهُم بيـ
ـن أصيلٍ بقومه ودخيلِ
وعلى رأسه تؤُج سَنَاءً
خوذة وهو صاحبُ التَّبْجِيل
آل طروادةٍ لديه أقاموا
لضرام الوَغَى بصبرٍ مَعُولِ
وَهُمُ أوفَرُ القبائل عدًّا
واقْتِدارًا أشدُّ كُلِّ قَبيلِ

أحلاف الطرواديين

وآنياس الدردنيين أمَر
وهو ابن أنخيس أخو الذكر الأغرْ
وأمه الزُّهرة المجيده
والت أباه فوق طور إيدهْ
وليه ابنا أَنْطنُور بالعَمَل
أرخيلُخ ثُمَّ أكاماسُ البَطَل
ومن بزيليا بلحف إيده
في منتهى طروادة الشديدهْ
من أغنيا أرض بها أيسيفُس
يجري أتوا يأمُرُهم فنذرس
ألنَّابل المرد ابن ليقاوُونا
وقوسُهُ من فَضْلِ آفُلُّونا
وساكنو أذرستيا وفيتيا
وآفسا وشامخات تيريا
بولدي ميرفس من فرقوتس
أمفيسٌ ثم الفتى أذْرَسْتُس
وجاء أمفيس للطعان
مستلئمًا درعًا من الكَتَّان
أبوهما عن مُلْتَقى الإغريق
نهاهما بعلمه الحقيق
لكن مقادير الرَّدى سُقْنهما
لذاك أصْمَمْن له أذنيهما
وقوم فرقوتس وآبيدوسا
وأرض إفرقطيم سستوسا
وَقُدْسُ آرِسبا التي سلَّيس
يجري بها أميرهم آسيس
وهو ابن هرطاقس فورًا لبَّى
على جياد الخيل من آرسبا
ومن لريسا زُمَرُ الفلاسجه
طعنة الرماح جاءت عارجه
بأمر فرعي آرس ابني ليثس
طفطام هيفوتٍ كذا فيلاوس١١٥
وأكماس والفتى فيرُوُّس
قد قدما من حيث هلّسبُنطُس١١٦
يحيط في قوم الثراقيينا
وأوفموسٌ بن إتريزينا
مريد زفس وابن كيَّس تالي
بقوم كِيْكُونِية الأبطال
ثم فرخمس بالفيُونيينا
حدب القسي قوم آميدُونا
حيث يرى أكسِيُس العريضُ
في سفح هاتيك الرُّبى يفيضُ
وفيلمين الشهم ذو البأس الأشد
بالبفلغونة الأنيتيِّين جدْ
ذوي البغال الشمس ملء البر
وجيش سيسامُوس معهم يجري
وجند أغيالة والبهيَّه
ضفاف فرثينيس الزَّهيَّهْ
كذاك إكرامنا وإيريثنس
وإيفستْرُوْفُ الفتى مَعْ أُدْيُس
بقوم هاليزونة القصيَّة
من أرض آليبا مقرِّ الفضَّة
وجاء بالميسة إخرُوميسُ
كذلك العَرَّاف أونُومُوسُ
وليس في عَرَافة الانباء له
نفعٌ يرى إذ سوف يلقى أجَلَه
ياكيذ يلقاه ووسط النهر
دماؤه بين الدماء تجري١١٧
وبالفريجة انبرى فرقيس
كذلك الكاهن أَسْكينُوس
من أرض أسكينيةٍ محمُولا
كلاهما للحرب صبرًا عِيلا
بوَلَدَي تاليْمَنٍ أنْطيْفُس
ومستل من قوم هور غيغس
أتت جماهير الميونيينا
في سفح إتمُولُوس ناشئينا
وقاريا ذات لسان البربر
جاءت أهاليها وفودًا تَنْبَرِي
من طود إفثيروس جمّ الغاب
وشامخ الميكال للسَّحاب
وضفتي ميندر ميليتس
بأمر أمفيماخس ونستس
من نسل نميُون وذاك الأوَّل
بِحُلل النُّضار جاء يرفل
تبرُّجًا في ساحة الهيجاء
لحمقه كالغادة العذراء
لكن ذا العسجد لا يقيه
من بطش آخيل إذا يأتيه
يصرعه مجندلًا بالنهر
مستلبًا منهُ جزيل التَّبر
وغايه النجدة لِيقيُّونا
قد فزعوا بأمر سَرْفِيدُوْنا
كذاك معصوم الحجى إغْلُوكُس
من برقٍ تروى بماءٍ زنثس١١٨

هوامش

(١) أتينا على نهاية النشيد الأول، وقد خيَّم الظلام وتوسد كل مضجعه ونام، وإذا بنا في استهلال النشيد الثاني في مشهد من أجل المشاهد: نرى الناس وأربابهم نيامًا إلا زفس ممثل العناية الإلهية لا يهجع ولا يكرى بل يتدبر شئون الخلق.
وشتان على ما سنرى ما رب الوثنيين وربنا عز وتعالى الذي «لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ» فإن زفس يتنعم بلذيذ الرقاد إذا شاء، فنُئوِّل ذلك باستراحة البارئ تعالى من عناء الفكرة بأمر الخلق كما نصت التوراة عن استراحته في اليوم السابع على أنه من لنا بتأويل رقاد زفس في النشيد الرابع عشر، وقد استولى عليه الهجوع على غرة منه؟
(٢) أونيروس رب الطيف، وإن شئت فقل علم للطيف كما تقول ثعالة علم للثعلب، وذؤالة علم للذئب، لقد أسهب الشراح في الكلام على هذا التعبير، فمن منتقد مكفر لهوميروس، وقائل أنه لم يكن يجدر به أن ينزل زفس منزلة لا تليق بأبي الآلهة والبشر بإرسال طيف كاذب يخدع أغاممنون بما لا يكون، ومن مدافع يدرأ عنه تبعة هذا القول بشرح ما يلي من الوقائع، ونفي الخداع عن الطيف؛ لأن الحرب انجلت ذلك اليوم عن انتصار اليونان لا عن انكسارهم، أما نحن فلا نرى في السياق إلا وصفًا شعريًّا تقتضيه قوة الربط، وحسن التسلسل، وهب أن في إنفاذ الطيف الغرار منتقدًا أفلا ترى أكثر الأديان تعترف أن الخير والشر من خلقة البارئ عز وجل، فنستعيذ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وأن الله قد يسلط الآفات على البشر، وإذا أراد بقوم سوءًا خَتَمَ اللهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ أوليس في كتب اليهود والنصارى والمسلمين ما يقرب من هذا كتسلط الروح الخبيثة على نفس أيوب ليبلوه بها ربه؟ ولنا شاهد آخر من التوراة ذكره داسيه في شرح أرسطاطاليس، وغروت في تاريخ اليونان، وفيه من المماثلة لطيف الإلياذة ما يبعث على الظن أن هوميروس لم يكن مستنبطًا بل ناقلًا، وهو هذا: «فقال الرب من يغوي آحاب ملك إسرائيل حتى يصعد ويسقط في راموت جلعاد، فقال هذا كذا، وقال ذاك كذا، ثم خرج روح ووقف بين يدي الرب، وقال، أنا أغويه، فقال له الرب: بماذا؟ فقال: أخرج وأكون روح كذب في أفواه جميع أنبيائه، فقال: إنك تغوي وتقتدر فاخرج واصنع هكذا» ٢ أي ١٨: ١٩. هذا كلام رمزي قاله ميخا النبي على سبيل المجاز؛ ردًا على كذبة الأنبياء، فصاغه هوميروس بقالب الحقيقة كجاري عادة اليونان في تجسيم ما وراء الطبيعة.
(٣) كانت سفن اليونان مدناة إلى الشاطئ والخيام على مقربة منها يعبر منها مشيًا إلى السفن، فلم يكن ثمة فاصل يذكر وإلَّا لاستغربنا قوله: اذهب «إلى سفن الإغريق ولج خيمة بها أقام أغاممنون» فسفن الإغريق في الإلياذة عبارة عن معسكر اليونان كمضارب خيامهم.
(٤) كان ابن نيلا الشيخ نسطور أكثر الناس حرمة لدى أغاممنون، فظهور الطيف بهيئته زاده هيبة وزاد كلامه رسوخًا.
(٥) أي: إليون عاصمة بلاد الطرواد.
(٦) لا شيء أشبه من هذه الرؤيا بحالة الرؤى الطبيعية، فإن الطيف نزل على رأس الرائي متخذًا هيئة شيخ وقور، وكلمه كلامًا ينطبق كله على حدسه وأمانيه إذ كان يرجو رحمة زفس، فيعينه على فتح إليون، ويطمع في ما لهيرا زوجة زفس من الشأن في مجتمع الأرباب، ويعلم أنها ظهيرته ونصيرة قومه، فما كان أقرب ليقينه من أنها تستميل سائر الآلهة إلى نصرة الإغريق، ثم إن الطيف غادر أغاممنون فاستيقظ وما هو بمستيقظ؛ لأن دوي ذلك الصوت لا يزال في أذنيه وحواليه. وكان ذلك عند طرَّ الفجر كما سترى بعد أبيات، وهو كما تقول العرب ميقات أصدق الأحلام، كل هذا تمثيل صادق على خرافته بديع على بساطته.
(٧) إذا أتى شاعرنا على ذكر أمر رأيته وصفه على علاته، ومر على دقائقه بلا تكلف كما ترى هنا في وصفه أغاممنون يلبس ثيابه، ويشك في سلاحه بعد أن هب مذعورًا من رقاده، فإنه يشرح ذلك بإسلوب يخيَّل لك أنك تراه على تلك الحال، فيجعل لشعره في مواضع كهذه رونقًا لم يكن له شيءٌ منها لو شانته مسحة التكلف.
(٨) قال صولجانًا خالديًّا؛ لأنه من صنع الآلهة كما سيجيء عما قليل في هذا النشيد.
(٩) الميامين الآلهة.
(١٠) السرايا الشكاة: الجند المسلحة. تنتضل: تتسابق وتتفاخر.
(١١) الاحتفال الاجتماع،الشيخ باليونانية (Ιέροντος) ومعناه فيها الرجل المسن، وهي كلمة تطلق أيضًا على الأمير والزعيم كما تطلق في العربية والعبرية، وسائر اللغات السامية، وهو المراد بها هنا كما سترى بعد فض المجلس، فإنه استعاض عنها بالملوك كأنهما كلمتان مترادفتان.
(١٢) نهض أغاممنون من رقاده مصممًا على الائتمار بأمر الطيف، فبث الدعاة ينادون بعقد المجلس العام أي: الذي تحضره كل الجند، ثم عقد ريثما يحتشد الجيش مجلسًا خاصًّا مؤلفًا من الشيوخ؛ ليفاوضهم بما كان من أمر الرؤيا ويستشيرهم بما عسى أن يفعل، وسنرى في خطاب أغاممنون حيلة من حيل السياسيين الذين يعلنون ما لا يسرون؛ لينالوا ما يؤملون، قال ديونيسيوس: وأعجب بقوله الجم الغفير من الشراح.
«لم يكن أغاممنون يطمع في شيء طمعه في دفع الجيش إلى قتال عنيف، ومع هذا فقد كان يخشى أن تعييه الحيلة على أثر اعتزال آخيل، ويشفق أن تعصي الجنوب أمره لو أمر تشفيًا منه لما نالهم من الغيظ لاحتجاب آخيل عنهم، فعن له توصلًا لبغيته أن يعقد مجلس الشيوخ، ويسبر ضمائر الجند بحثهم على معاودة الأوطان ومغادرة الحرب، فينهض سائر الأمراء ويثنون عزمهم عن الرحيل، وإذا اعتُرض بأنهم لو تمسكوا بإنفاذ مضمون أمره لأخفق بمسعاه، فالجواب أنه يتطلع ببصيرته إلى وراء ما كانوا يبصرون، ولم يكن جل اعتماده على الخطاب الذي ألقاه لرد عزيمتهم بل خشي أيضًا إنهم ربما كانوا ناقمين عليه أمرًا كتموه إياه، فلم يكن له مناص من تبيُّن ميلهم قبل دفعهم إلى ساحة الحرب، ففتح لهم الباب لإعلان ما تكنُّه ضمائرهم، وأسرَّ بخفايا أفكاره إلى الأمراء؛ تلافيًا لسوء العقبى، ففاز فوزًا مبينًا، ولم تكد الجنود تهم بركوب البحر حتى أوقفها نسطور وأوذيس».
(١٣) لم يكد ينتهي نسطور من كلامه حتى فض مجلس الأعيان، وسار تتبعه الملوك إلى مجلس الشورى، ولم يفه أحد منهم بحرف لما كان له من هيبة التسلط بقوة الصدق والإقناع لا بقوة السيطرة وعلو المنزلة، ولا شك أن أغاممنون آثر عقد مجلسه بقرب مضارب نسطور توصلًا إلى تلك النتيجة.
(١٤) فرغ من وصف المجلس الأعلى، فشرع يصف اجتماع المجلس الشوروي العام، وحسبنا في الإشارة إلى ما أودع كلامه من التمثيل البليغ أن نستلفت نظر المطالع إليه منذ بعث أغاممنون دعاته إلى الجند إلى أن انتظم عقد المجلس، وما تخلل ذلك من اندفاعهم من الفلك والخيام كالنحل المتطائر من خلاياه، وتعاقبهم متهافتين زرافات إلى دار الندوة، وسعي الشهرة بين صفوفهم، وعلو ضجيجهم بادئ بدء، وقيام تسعة منادين يكفونهم عن الجلبة والغوغاء، واستتباب الهدوء والسكينة حتى باتوا كلهم آذانًا واعية، ووقوف الخطيب بصولجانه، وكل هذا بكلمات قلائل لا تتخللها لفظة حشو وترتسم في ذهن القارئ والسامع رسمًا يكاد يكون حيًّا.
(١٥) هذا أول تشبيه مفصل ورد في الإلياذة، وسترى في ما يلي من كثرة التشابيه وتنوعها، ودقتها وبلاغتها ما يدلك على أنه لم يقم بين الخلق شاعر سبر غور الطبيعة سبر هوميروس، ولك هنا الشاهد الأول على صحة هذا القول، وهو تشبيهٌ علق به كثير من الشعراء بعد هوميروس، وفي مقدمتهم ڨـرجيليوس. ولا أخال أحدًا من الشعراء رواة إلياذة هوميروس أبدع بهذا المعنى إبداع الشنفرى على خلو ذهنه منها، قال يصف نفسه وقومه:
… … … … … … … … … …
دعا فأجابته نظائر نحلُ
مهلهلةٌ شيب الوجوه كأنها
قداح بكفتي ياسر تتقلقلُ
أو الخشرم المبعوث حثحث دَبرهُ
محابيض أرداهن سامٍ معسل
مهرتهٌ فوهٌ كأن شدوقها
شقوق العصي كالحات وبسلُ
فضج وضجت بالبراح كأنها
وأياه نوح فوق علياء ثكلُ
(١٦) كان اليونان لعهد هوميروس يمثلون الصفات بموصوفات حية تحسب في مصاف الآلهة أو دونهم، ولكنها خالدة مثلهم كالفتنة والهول، والرعدة والشهرة، وهي أسماء تدل على مسمياتها، فشهرة هنا علم حي؛ ولهذا جردناها من أداة التعريف، ومنعناها من الصرف.
(١٧) أي: إن التسعة المنادين استرعوا سمع الجند للأمراء الذين حكمهم زفس عليهم.
(١٨) أطال الشاعر هنا الكلام على صولجان أغاممنون، وما أطاله عبثًا بل أراد أن يثبت فضلًا عن الرواية الخرافية علو منزلة أغاممنون؛ لأن الصولجان عنوان السيادة والملك على الإطلاق، فليس لأغاممنون إذن مزية على سائر الملوك بصولجانه إلَّا أن تكون ثمَّ مزية على كل صوالجهم، فذكر أنه صنع رب تناقلته الآلهة ثم حبت به أتراوس جد أغاممنون، فهو إذن ملك ورث الملك كابرًا عن كابر، وأدلي إليه بعصا السيادة من زفس ملك الملوك ورب الأرباب.
(١٩) قاتل أرغوص هو هرمس رسول زفس الوارد ذكره في البيت التالي، وهو عطارد العرب، أما أرغوص فهو شخص خرافي كان له مئة عين ناظرة إذا نام أغمض نصفها فقط، وقيل بل لم يكن يغمض إلَّا عينين إذا هجع، وحدث أن زفس هام بابنة أيناخوس النهر، فثارت عليه هيرا بغيرتها فاضطر إلى مسخ عشيقته بقرة، فعهدت هيرا بحراستها إلى أرغوص فاستماله هرمس يومًا بصوت قيثارته، وظل يعزف حتى استولى عليه سبات عميق، فقام إليه وقطع رأسه، فاقتلعت هيرا عيونه وألقتها على ذيل الطاووس، فآل أمر الطاووس إلى ما نراه عليه اليوم، إن بين أرغوص هذا، وأرغوس مملكة أغاممنون فرقًا ظاهرًا بالتهجئة اليونانية ولفظ الواو، ونظرًا لتعذر إبراز هذا الفرق في التعريب كتبنا إحدى الكلمتين بالصاد والأخرى بالسين.
(٢٠) فيلُبس أو أتراوس جد أغاممنون.
(٢١) ثيستس ابن فيلبس وأخو أتراوس، قلنا المشهور بالنعم، وفي الأصل الخراف.
(٢٢) يقول: إن أغاممنون قام يخطب واقفًا وهو متكئٌ على عصاهُ أو صولجانه، تلك كانت خطتهم في الخطابة، وهي خطة خطباء جاهلية العرب إذ كان يقف الخطيب على المنبر حيث يوجد منبر، وإذا خطب في العراء علا نشزًا من الأرض أو خطب على الراحلة، ولا بد له من أن يأخذ بيده العصا أو المخصرة أو القوس، وقد يخطب وبيده القناة، قال معن بن أوس المزني:
فلا تعطي العصا الخطباء يومًا
وقد تكفي المقادة والمقالا
وقال جرير بن الخطفي:
من للقناة إذا ماعيَّ قائلها
وللأعنة يا عمرو بن عمَّارِ
وقال كُثيّر:
إذا قرعوا المنابر ثم خطبوا
بأطراف المخاصر كالغضابِ
(٢٣) آتي (Λιζ) الداهية والنازلة والقدر جعلها بعض المترجمين نكرة، ففسروها بمعناها، وجعلها آخرون علمًا جريًا على عادة هوميروس في تجسيم الصفات، فنقلوها بلفظها وفعلنا هنا فعلهم، هذا خطاب ألقاه أغاممنون على مسمع كل الجيش، وكله سياسة ودهاء ينبئك بقوة الخدعة عند ذوي المقامات الذين يعلنون على رءوس الملأ عكس ما يذيعون بين خاصتهم، ويستندون إلى أوهن الحجج؛ ليفنَّد السامع كلامهم بكلامهم، فتقوم العامة إلى مخالفتهم، وهي إنما تقوم لتعضيد مطالبهم، وعندما يرجعون في ظاهر الأمر إلى القول بقول الجمهور يفوزون بمأربين: أحدهما: التظاهر بإرضاء أمتهم، والرجوع عن مآربهم لإبلاغها مآربها، والثاني: إنفاذ نفس رغائبهم المكتومة.
(٢٤) إذا كان زفس قد والى أغاممنون بدك إليون عاصمة بلاد الطرواد، فالواجب أن يقيم حتى يدكها لا أن ينادي بالقفول إلى الأوطان، فكأنه يقول لهم: إذا حثثتكم على العودة، فإنما أفعل عن جزع وسآمة لا عن تبصر وتروٍّ.
(٢٥) ذكرهم بطمع الكسب والسبي، ثم ادعى أن زفس مان عليه وخدعه، وهما حجتان أوهن من الأولى على صدق ظاهر الدعوى، فكأنه يقول: إذا غادرنا الحرب فاتتنا فرصة المكاسب، ثم إن تطاوله على زفس برميه إياه بالمين والخداع يقلل من ثقة الجمهور بكلامه، ويحمله على عدم الأخذ به، وهو الأمر الذي يرمي إليه ببصره.
(٢٦) لا دليل يؤيد نقض زفس لعهده، والقضاء على اليونان بالرجوع خاسئين، وهذا كلام آخر أتى به عمدًا غير سديد.
(٢٧) مهما اجتمع لديهم من الأسباب لمغادرة إليون وشأنها، فعار العودة وخلود المذلة إلى جيل فجيل موجبان ما فوقهما موجب للبقاء، وزد على ذلك ما رماهم به من الحين والإحجام بقوله: إن الأعداء قليل عديدهم؛ لأن رجوعهم عن فئة قليلة يزيدهم منقصة ومذلة، فهو يريد أن يحقر أعداءهم في أعينهم فلا يبقى لهم سبيل إلى الرجوع عنهم.
(٢٨) أي: لو قام الطرواديون في حالة أمن وسلم مقام السُّقاة لليونان لما نال كل عشرة من اليونان ساقيًا واحدًا من الطرواد، فهم إذن لا يبلغون عشرهم عدًّا.
(٢٩) قوله في ما تقدم أن الأعداء لا يبلغون عشر اليونان لا يشمل إلا الطرواديين؛ لأنه استثنى هنا حلفاءهم، وسيأتي ذكر عدد الجيشين بوجه التقريب.
(٣٠) هنا حجَّة أخرى واهنة على الإقلاع؛ لأن السفن المتداعية إلى الخراب لا تصلح لركوب الجند.
(٣١) بعد أن ملأ آذانهم بمهيجات الإقدام أمرهم بالإحجام، فأطاعوا أمره لسؤمهم، ولكنه هيأ لهم سبيل الرجوع عن عزمهم والإذعان لكلام أوذيس، وهو نوع من أنواع الإيهام البياني البديع.
(٣٢) أيقارة جزيرة بين ساموس وبتموس في الأرخبيل الرومي تدعى الآن نيكاريا، وريح الصبا أي: الشرقية، وريح الجنوب في شعر هوميروس (Ερνο) و(Νοτος) أفروس ونوطوس، وهما علمان أو كما تقول العرب ملكان يحملان الريح إلى حيث يدفعها زفس من الغيوم التي يركمها في الجو.
(٣٣) الدبور الريح الغربية، واسمها زفيروس (Ζέρυρο) وكثيرًا ما نراها في الإلياذة ريحًا عاصفة، وأما في الأوذيسة، فقد أشير بها أحيانًا إلى النسيم اللطيف بالنسبة إلى موقع البلاد التي ذكرت فيها؛ ولهذا صارت زفير (Ζύphyre) بالإفرنجية مرادفةً لمعنى النسيم على الإطلاق لا لمعنى الريح، شبه اندفاع الجند إلى السفن بعج الأمواج إشارة إلى الجلبة والضجيج، ثم بسنبل الزرع إشارة إلى اتجاههم وجهة واحدة، ولنا هنا مغزيان آخران، وهما: أولًا: اضطرابهم لخطاب أغاممنون إذ سمعوا منه ما لم يكن بحسبانهم، فكانوا كاليم الذي تتقاذفه الأمواج، ثم ارتياحهم إلى الرحيل، فمالوا ميلة الزرع الذي تحني رأسه هبة النسيم.
(٣٤) كانت حربهم في البر على مقربة من جرف البحر، وكانت سفائنهم لاصقة بالشاطئ ومستندة إلى عمد وأركان على ضحضاح رقيق من الماء، فكان لا بد لهم من عمل شاق قبل تهيئتها للإقلاع بها.
(٣٥) الجنة الترس، ورب الجنة لقب آخر من ألقاب زفس كراكم الغيم، وقاصف الرعد، إن في إرسال هيرا لآثينا سببين: أولهما: إن أثينا كانت من الآلهة الموالية لليونان، والثاني: أنها إلاهة الحكمة إشارة إلى أن الحكمة اقتضت أن يرجع الجيش عن عزمه؛ لأنه لم يكن من الصواب والحزم أن يغادروا إليون بعد أن حصروها تسع سنوات، وأفنوا الجم الغفير من مقاتلتها وجيشهم لا يزال كثير العدد وفير العُدد.
(٣٦) فريام: ملك طروادة.
(٣٧) أوذيس ملك إيثاكة، ووالد تليماخ، وهو بطل أوديسة هوميروس كان أدهى اليونان كما كان نسطور أحكمهم.
(٣٨) الأرغية نسبة إلى أرغوس أي: اليونانية.
(٣٩) الفيج: الرسول، والسفير، والساعي، كان أوربات أحد فيجي الإلياذة المشهورين، وهما: أوربات، وتلثيبيوس.
(٤٠) لا يستغربنَّ المطالع تجرُّؤ أوذيس على اجترار عصا الملك من يد أغاممنون، فإنه كان داهية اليونان، وبطلًا من أبطالهم المغاوير، وملكًا من ملوكهم فكان له على أغاممنون الدالة الكبرى، وكان في ذلك الحين يسعى في إنفاذ مأرب هو واحد في نفس كليهما، فلم يكن بالكثير على أغاممنون أن يلقي إليه بها من تلقاء نفسه؛ ليرى الجند أن أوذيس يخاطبهم بلسان داهيتهم من وجه وسطوة زعيم زعمائهم من وجه آخر، ثم إن الواقف على أحوال جاهلية الأمم يعرف ما لتلك العصا أو ذلك الصولجان من الهيبة في القلوب، ولقد يذكرني هذا بعصا شيوخ المنتفق في بادية العراق، وبعض حواضرها لعهد قريب لَا يتجاوز الثلاثين عامًا حيث كانوا إذا أرادوا قضاء لبانة أو جبي مال ألقوا بعصا من عصيهم تعرف بعصا الشيخ إلى أحد أتباعهم، فكان حاملها نافذ الأمر، مرعي الجانب كيف توجه، ولو كان عبدًا رقًّا.
(٤١) قال لبيد:
رأيت التقى والحمد خير تجارة
رباحًا إذا ما المرءُ أسبح ثاقلا
(٤٢) نرى أوذيس يجول بين الصفوف ويكيل لكل بكيله، فيكلم كرام القوم بما لا يمس كرامتهم، ويخاطب لئامهم بقرع العصا، فيجدح لكل من سويقه، ولله در أبي الطيب القائل:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
(٤٣) من كلام الأفوَه الأودي حكيم الجاهلية قوله:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة إذا جُهَالهم سادوا
تهدَى الأمور بأهل الرأي ما صلحت
فإن تولت فبالأشرار تنقادُ
إذا تولى سراة الناس أمرهم
نما على ذاك أمر القوم فازدادوا
(٤٤) قال ديونيسيوس: إن جميع ملوك اليونان لأول عهدهم كانوا مقيدين بمجلس شوروي سواءٌ اتصل إليهم الملك بالأرث أو الانتخاب كما يتضح من شعر هوميروس وغيره، فإن في ما رأيناه من نزاع آخيل وأغاممنون، وما سنراه من الوقائع المتوالية، ولا سيما استطالة ثرسيت على أغاممنون بعد أبيات من هذا النشيد حجة قوية على أن الملك لم يكن مستبدًّا بأمره ورأيه بين أصحابه وأتباعه بل كان «يشاورهم في الأمر» كما فعل خلفاء العرب في صدر الإسلام، وكما نَصَّتِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ، ولم يكن الملوك فضلًا عن هذا يأنفون من مخاطبة عامة الجند، وتلقي اعتراضهم وتحاملهم بالصبر الجميل كما لم يأنف الفاروق عمر من قوله على المنبر: «يا أيها الناس من رأى منكم فيَّ عوجًا فليقومه» ولم يغضبه قول واحد من عامتهم «والله لو رأينا فيك عوجًا لقومناه بسيوفنا» فقال: «الحمد لله الذي أراني من يقوّم عوج عمر بسيفه»، ومثل هذا قول أبي بكر الصديق في خطبته يوم بويع بالخلافة: «وإنما أنا متبع، ولست بمبتدع، فإن استقمت فتابعوني، وإن زغت فقوموني» ولقد زعم بعض الشراح استدلالًا بهذا البيت أن هوميروس كان يميل إلى الملك الاستبدادي المطلق، وهو زعم تؤيد فساده كل إنشاد الإلياذة، فإنه إنما عنى بحصر صولجان السطوة بيد فرد واحد زمن الحرب كما يستفاد من سياق الحديث، وهي خطة متبعة في كل الأزمان إلى يومنا حيث يكون القائد الأكبر واحدًا لا غير مهما تعددت أركان حربه بتعبيرنا الحديث، وحقيقة الحال أن أغاممنون لم يكن زعيم ملوك اليونان إلَّا أثناء الحرب لا قبل ولا بعد، وقد قام بأعباء قيادة الجند والرئاسة الدينية على ما يظهر من تولّيه شئون العبادات كما كانت الخلافة والإمامة بيد واحد عند العرب، وانحصار كلتا المزيتين بيده لم يغنه شيئًا من اعتراض المعترضين، والرضوخ لرأي سديد يبدو من غيره وإن كره، ولكننا نراه في ساحة القتال يتهدد الجبان النكس بالقتل مستبدًّا لا معارض له إذ يصبح حينئذٍ الآمر الناهي المطلق، وفي كل ما تقدم أدلة قاطعة على انتساق النظام العسكري عندهم، ووضع الحرية والانقياد موضعهما.
ويجدر بنا أن نبين في هذا الموضع أن تلك كانت طريقة العرب في تولية الزعامة الكبرى لواحد منهم إذا تعددت القبائل المتحالفة على الحرب، وسنذكر طرق تحالفهم في موضعها من النشيد الثالث، وحسبنا هنا أن نقول أنهم كانوا حيثما اجتمعت عدة قبائل منهم على حرب نهجوا هذا النهج، فرأسوا عليهم أميرًا واحدًا يأمر وينهى فيهم جميعًا، فإذا انتهت حربهم لم تبق له مزية على سائر الأمراء، وكان من عادتهم أن يقترعوا بين أهل الرئاسة، فمن خرجت عليه القرعة ولوهُ الإمارة كبيرًا كان أو صغيرًا، ولكن حيثما اتفق أن يكون بينهم أمير أحرز المقام الأول بمكانته وسنه ونسبه، وأقرَّ الجميع له بالسبق كانوا يولونه بالإجماع بلا اقتراع ولا نزاع، كما ولَّوا حرب بن أمية على قبائل قريش في حرب الفجار.
ثم إنه ليأخذنا العجب من إغفال العرب نقل الإلياذة إلى العربية مع إنها نقلت إلى لغات لم تكن شيئًا مذكورًا بجانبها، قال ابن العبري في «مختصر تاريخ الدول» طبع بيروت صفحة ٤١: «وخربت مدينة إليون الخراب الذي هو من أعظم الرزايا عند قدماء اليونانيين، وقد رثاها أوميروس الشاعر في كتابين نقلهما من اليوناني إلى السرياني ثاوفيل المنجم الرهاوي» (توفي سنة ٧٨٥م وكان منجمًا للخليفة المهدي). وقال صفحة ٢١٩–٢٢٠: «وكان ثاوفيل هذا على مذهب الموارنة الذين في جبل لبنان من مذاهب النصارى، وله كتاب تاريخ حسن، ونقل كتابي أوميروس الشاعر على فتح مدينة إيليون في قديم الدهر من اليونانية إلى السريانية بغاية ما يكون الفصاحة». ولقد أكثر العلماء من البحث والتنقيب، فلم يعثروا على أثر لترجمة الرهاوي، قيل: «إن العلامة السمعاني الماروني عثر على نسخة منها، فحملها في ما حمل إلى رومية من نفائس المخطوطات في أواسط القرن الثامن عشر، وأصابته عاصفة في البحر فطغت المياه على السفينة، فعطلت كثيرًا من تلك النفائس ومن جملتها منظومات الرهاوي» ولم يتصل بنا منها غير هذين الشطرين اللذين يؤلفان البيت الذي نحن بصدد، وهما منقولان عن السمعاني.
figure

وقد ذكر يعقوب برساخو المعروف باسم الأسقف ساوير «المتوفى سنة ١٢٤١م» وغيره من العلماء عبارات متقطعة ردها البعض إلى إلياذة الرهاوي، وهذا جل ما يعلم عنها.
(٤٥) كان زهير بن أبي سلمى مدَّاحًا لهرم بن سنان، فاشتهر أمر هرم وذاع ذكر محامده في مشارق بلاد العرب ومغاربها، ولا يزال كذلك منذ نيف وثلاثة عشر قرنًا، وقد سأل الخليفة عمر أحد أولاد زهير «ما فعلت الحلل التي كساها هرم أباك» فقال: «قد أبلاها الدهر» قال عمر: «ولكن الحلل التي كساها أبوك هرمًا لم يبلها الدهر». وهجا نصير الدين الطوسي المعروف بالفردوسي، والملقب بهوميروس الفرس السلطان محمود الغزنوي بقصيدته المشهورة التي مطلعها.
أيا شاه محمود كشور كشاي
زكس كرنترسي بترس أز خداي
وتعريبه:
أيا شاه محمود غازي البلاد
خف الله إن لم تخفك العبادْ
فبذل له الأموال الطائلة؛ استرضاءً له لعله يتوصل إلى إخفاء تلك القصيدة وإبادتها لئلا تخلد في بطون التواريخ، فخشي ذلك الغازي الفاتك بالألوف وآلاف الألوف، ورَيقة تنمي عنه خبر السوء، وهي خارقة من خوارق قوى الشعراء الفطاحل، وهذا شاعرنا لم يذكر أحدًا بمليح أو قبيح إلا خلد ذكره بل جعل اسمه مرادفًا للخلة التي ميزه بها، فصار آخيل مرادفًا للبأس، ونسطور للحكمة، وأوذيس للدهاء، ولم يكن هوميروس هجَّاءً بما اتصل إلينا من شعره، ولكنه جمع في هذا الموضع من المعايب في ثرسيت ما يجعل السامع يشمئز من مجرد ذكره حتى صارت هذه الكلمة في كثير من اللغات مرادفة لقبيح الوجه، وفاسد القلب، والسفيه الغرور السفيل الفخور، ويغلب إطلاقها على الحسود الذميم، والنمام اللئيم، والسليط الزنيم.
(٤٦) الأكبس من أدبرت جبهته، وأقبلت هامته، زاد على معايبُ خُلقه معايب خَلقه؛ ليزيده حطة في ذهن السامع، فيعلم موضع حقارته في عين الجند، والقبح أقبح ما يكون بصاحب الوجه القبيح، ولله در القائل:
أيا مليح الوجه كن محسنًا
لا تجمعن الزَّين بالشَّين
ويا قبيح الوجه كن محسنًا
لا تجمعن بين قبيحينِ
(٤٧) لا شيء أدل على بذاءة الطبع، والحسد من التحامل والتطاول على أبعد الناس همة كآخيل، وأوفرهم ذكاءً وعقلًا كأوذيس، وكلام الشاعر هنا توطئة لاشمئزاز الجند منه، ولكننا لا نرى ثرسيت مكترثًا لذلك بل جل همه أن يضحك القوم ولو هزؤًا به، وهذا يمثل لك حالة من نضب ماء الحياء الحياء من وجهه، فلا يبالي أساء الناس أم سرهم، وما أحسن قول أبي تمام بهذا المعنى.
يعيش المرءْ ما استحيا بخير
ويبقى العود ما بقي اللحاءُ
فلا والله ما في العيش خير
ولا الدنيا إذا ذهب الحياءُ
إذا لم تخش عاقبة الليالي
ولم تستحي فافعل ما تشاءُ
(٤٨) أي: هل لا تزال تطمع في الذهب يأتيك فكاكًا لأسير ألقيه أنا أو غيري بين يديك، إن في هذا الكلام لمنتهى القحة من رعاعه كثرسيت إذ ادعى بأسًا فوق بأس أغاممنون، ورماه بمذمتين طمعه في الكسب والنهب، وخلوه من الشأن في إحراز الأسرى إذ ليسوا لديه بشدة بأسه بل ببسالة جنده وأتباعه.
(٤٩) في هذا الكلام إبهام بل إيهام مقصود، فإنه أشار إلى سبية علق بها أغاممنون، ولم يقل أهي خريسا التي اعترف بشغفه بها أم بريسا التي لم يعلم أحد بعد شيئًا من منزلتها عنده، ولكن الظاهر من خبث النية أنه أراد كلتيهما، واتخذ من حب أغاممنون للأولى حجة على لزوم غرامه بالثانية متذرعًا بذلك إلى إثارة الغيظ بأفئدة أصحاب آخيل، وإلقاء الفتنة بينهم وبين أغاممنون، والفتنة محجة يسعى إليها الحسود بخيله ورَجْلِه، وسنرى في النشيد التاسع أن ثرسيت وجه إلى إغاممنون هذه التهمة زورًا وبهتانًا؛ لأن أغاممنون أثبت بالأيمان المغلظة أنه لم يدر في خلده قط أن يقربها.
(٥٠) لما كان ثرسيت ساعيًا بكليته إلى الغض من شأن الملك تناهت به القحة إلى رمي الجند بأعظم صفات الجبن، فخاطبهم خطاب النساء؛ ليهيجهم حنقًا على زعيمهم، ولكنه ساء فألًا بل هو دهاء عظيم من شاعرنا أن جعل لأغاممنون خصيمًا كثرسيت تثقل رؤيته كما يثقل منطقه على كل الجيش، ومن استقبحت صورته وفعله استقبحت رأيه، وإن كان صوابًا، فقد رأى الشاعر أنه لا بد من معارض يقف في وجه أغاممنون، فلو جعله رجلًا من ذوي المكانة وأصالة الرأي لوقع كلامه وقعًا سيئًا في نفس الجميع، فلم يكن أوفى بالمرام من نمَّامٍ حسود لا يشفع بأقواله شيءٌ من مظاهر أعماله.
(٥١) الصيت: الشديد الصوت.
(٥٢) الصيد جمع أصيد، وهو السيد والرئيس.
(٥٣) أبناء دانوس والدانويون اليونان.
(٥٤) التشمت الخيبة، لقد جمع الشاعر بثرسيت أقبح الصفات، ومثلها كلها أصدق تمثيل، فأبدع هنا بوصف حالة الجبان الرعديد الذي إذا استقوى شمخ وتمادى في الغرور والكبر، وإن استضعف ذل ذلة الأنذال، وهكذا فإن ثرسيت لما أنس من الجيش ارتياحًا لمغادرة القتال، والقفول إلى الأوطان بلغت منه القحة ما بلغت ظنًّا منه أن الجيش ظهيره والموقف نصيره، فلما تصدر له أوذيس ولم يكن في الجمع من يذود عنه بدأ جبنه بأقبح مظاهره، وقد ختم الشاعر هذا المشهد بقهقهة الجمع كما ترى في البيت التالي، وهي خاتمة تنبئك بما في طبيعة الجندي من الاشمئزاز من تشدق المتبجحين، وقلة العبء بفلسفة المتفلسفين، والشماتة بخيبة الغرور المختال، وفيها أيضًا إشارة إلى أن نفوسهم طابت عن الرحيل، فمالوا إلى القتال ترفعًا عن أن يقفوا منقادين لرأي حقير، ولسان حالهم يقول:
إذا وقع الذباب على طعام
رفعت يدي ونفسي تشتهيهِ
وتجتنب الأسود ورود ماءٍ
إذا كان الكلاب ولغن فيهِ
لا بأس أن نذكر هنا أمرًا تنبه إليه بعض الشراح، وهو أنه لم يرد ذكر لثرسيت بعد هذا الموضع في كل إنشاد الإلياذة كأن هذا الإضراب عن ذكر اسمه مقصود من الشاعر لوضعه في أدنى درك الحقارة، وأبلغ من هذا أنه لم يذكر نيريوس الجميل إلا مرة واحدة أيضًا، ثم تناساه كأنه نزَّل جمال الجسد إذا عرا عن محامد الأخلاق وعزة النفس منزلة قبح الصورة والسيرة وفساد السريرة، أفيفطن لهذا صاح الصور قباح السير؟
(٥٥) هدام المدائن لقب لأوذيس؛ لأنه كان يفعل بدهائه ما لا تقوى عليه حراب الجيوش، وهو الذي مكن اليونان من فتح إليون عاصمة طروادة.
(٥٦) كثيرًا ما نرى أثينا إلاهة الحكمة موآزرة لأوذيس إشارة إلى أن الرجل الرصين لا يأتي أمرًا إلا عن حكمة وتروٍّ.
(٥٧) لقد أسهب الشراح بوصف بلاغة الشاعر، وحسن تصرفه، ودقة سياسته في هذا النشيد، واستشهد علماء فن الخطابة بما ورد فيه من الخطب المتوالية، وكلها واقع في موقع ليس لشاعر أن يجعلها في أليق منه، فقد مر الكلام على ما حوى نطق أغاممنون من الحنكة والدهاء، ولم يكد ينتهي حتى انبرى أوذيس بدهاءٍ أعظم أتى به من وجه آخر، فشرع أولًا في استنهاض همم الزعماء، فحرضهم بالرقة واللين وغالى بخطارة موقفهم، فأصاب محل الضعف فيهم ونال بغيته منهم، وانثنى ثانيًا على عامة القوم وسفلتهم، فزجرهم زجرًا وردهم إلى سواء السبيل، وثلَّث بردع ثرسيت بدربة، وحذق أطلق بهما لسان الجميع بالثناء عليه، فكان له بكل ذلك أحسن توطئة لهذا الخطاب الرابع الذي يلقيه على مسمع الجمع كافة؛ ليحسن لهم المُقام ويوطد ثقتهم بالفتح المبين، وصدق النبوءات المشيرة إلى فوزهم في عامهم، ومن دهاء أوذيس في خطبه أنه إذا تطلَّع إلى بغية يتطلبها من الزعماء وجه كلامه إلى عامة الجند، وإذا قصد الجند خاطب أمراءهم فإنه لما قال للعامة: «لا يستقيم الأمر إلا أن يكن فردٌ يخول صولجان الصولة» أراد أن يفقه الرؤساء هذا القول فلا يتجاوز كل حده، ولما شرع هنا في ملامة أغاممنون قصد إبلاغهم جميعًا ما يترتب على خمولهم وتثبطهم من العار والحطة، وهذا منتهى البلاغة في الإيهام.
(٥٨) لا يخفى ما في كل هذا الكلام من حسن التدبر، فإنه تظاهر بعذرهم على سؤمهم وضجرهم، وقد استمهلهم من وجه ديني، فكأنه فرض عليه الثبات بحكم القدر المحتوم، وإن ساءهم حينًا، والرضوخ للأقدار يسهل احتمال الأزمات الشداد.
(٥٩) أفلس ثغر كان قديمًا في بيوتيا تجمعت فيه سفن الإغريق عند الحمل على طروادة، ومحله الآن بلدة مكروفاثي، أشار بذلك إلى تشاغلهم بالفتنة بين آخيل وأغاممنون.
(٦٠) لقد يتبادر إلى الذهن أنه لم يبق بالجيش حاجة إلى خطاب نسطور بعد أن هاج حميتهم أوذيس على أنه سيتضح للمطالع أن الشاعر نهج في كل هذا النشيد نهجًا بديعًا، فأنطق كلا من رجاله حكمة لا تصلح إلا له، ولا يصلح إلا لها فقضى كل منهم وطره، وتألبوا جميعًا على إدراك المطلب العام، وهكذا فإن أغاممنون استطلع ضمائر القوم فسبر غورها، وأوذيس شدد عزائمهم وقادهم بحبال دهائه إلى طلب القتال، فبقي على نسطور وهو صاحب القول الفصل، والشيخ الذي أجمع الناس على إجلال قدره أن يستفزهم براسخ هيبته إلى الإقدام عاجلًا على مهاجمة الأعداء، فكرر وذكر، ونصح وزجر، ونهى وأمر، ووعد وأوعد، وهي مقادة لم تكن لتلقى إلا إليه، وخطة لا يعول بها إلا عليه.
(٦١) كانوا إذا استوحوا خفية من زفس، وقصفت الرعود على أثر استيحائهم استبشروا بتحقيق أمنيتهم كما جرى لهم قبل أن حملوا على بلاد الأعداء كرر لهم نسطور ذلك لترسخ الذكرى.
التفاؤل والتشاؤم من غرائز البشر، وقد عجزت الحضارة والعلم من سمو مبلغهما عن استئصال شأفته، ولقد يحسب ذوو الأماني والحاجات حتى في عصرنا أنهم إذا ابتلوا بأمر أو راموا غرضًا تحوَّلت إليه أنظار القوى العلوية والسفلية، وعني به الحي والجماد فبات كل ما يحيط بهم رموزًا وأدلة تشير إلى ذلك الغرض، فلا لوم بعد هذا على جاهلية القوم إذا تفاءلوا أو تشاءموا بما يتراءى لهم من نجم وبرق، وطائر وحيوان، ذكر هوميروس في مواضع من إلياذته تفاؤلهم وتشاؤمهم بالرعد والبرق والطير، ولكن كل ما ذكره من هذا القبيل ليس إلا نذرًا قليلًا بجانب ما اتصل بنا من أسباب التفاؤل والتشاؤم عند قدماء العرب مما بادت آثاره وما لم تبد، من ذلك أنهم إذا كانوا حول مريض وسمعوا داعيًا يقول: «يا سالم» استبشروا بسلامة مريضهم، وإذا كان أحدهم طالبًا لحاجة وسمع قائلًا يقول: يا غانم أو يا ظافر أيقن بالفوز والظفر، وتلاعبوا بالألفاظ تيمنًا وإشفاقًا فسمُّوا الملسوع سليمًا، والتهلكة مفازة، والموت أبا يحيى وهلم جرًّا، واتخذوا من الأصوات والحركات دلائل ونبوءات، فقالوا: إن اختلاج العين يبشر بلقاء الحبيب ومنه قولهم:
ظلت تبشرني عيني إذا اختلجت
بأن أراك وقد كنا على حذرِ
وقالوا: إن اليد اليمنى إذا نبضت دلت على شيءٍ يدفع إليها فتأخذه، وإذا نبضت اليسرى دلت على شيءٍ يؤخذ من صاحبها، وإذا سمع طنين في الأذنين كان في ذلك إشارة إلى قرب بلوغ نبأ من الأنباء، وإذا كان الطنين في الأذن اليمنى دل على نميمة، وهو يدل في اليسرى على مدح وثناء، وهذا من المزاعم الباقية، وفيها يقول أهل العراق: «الأذن اليمين عدو مبين، والأذن اليسار صديق سار». وكان بعضهم يتطيرون بالأبل ومنه قولهم:
زعموا بأن مطيهم سبب النوى
والمؤذنات بفرقة الأحبابِ
ولكل ما تقدم وأمثاله أسبابٌ بعضها مجهول وبعضها معلوم، فالتشاؤم بالبوم شائع في أكثر بلاد الله، وسببه أنه يأوي في الغالب إلى المحلات الخربة، والتشاؤم بالعطاس عند العرب قيل: إن سببه دويبة مكروهة يقال لها العاطوس، وهو من المزاعم البائدة عند العرب، ولكنه شائع كل الشيوع بين فريق عظيم من عامة العجم، ويقيدونه بالعدد، فإذا أقبل تاجرهم مثلًا على شراء سلعة فعطس تشاءَم، فعدل عن الشراء فإذا عطس بعدها ذهب الشؤم وحل اليمن مكانه فعاد إلى عزمه، ولم تكن تخلو هذه الاعتقادات مع ما يخالطها من فاسد الوهم من أمور معقولة ترجع إلى حكمة ثابتة من ذلك تشاؤمهم من نومة الضحى، ويسمونها نومة الخرق يعتقدون أنها تورث الخوف والغم، ولا يكون صاحبها إلا بليدًا ومن نومة العصر ومن عواقبها في اعتقادهم الجنون ومنه قولهم:
ألا إن نومات الضحى تورث الفتى
خبالًا ونومات العصير جنونُ
ومما يُدرج في هذا الباب ما رواه ابن خلدون إذ قال: «زعم بعض الخواص من المسلمين أن المدينة إذا كثر فيها غرس التاريخ في الدور تآذنت بالخراب حتى أن كثيرًا من العامة يتحاشى غرسه فيها، وقيل مثل ذلك في الدفلى أيضًا، وسببه كونه من الترف الذي ينشأ عن زيادة الحضارة؛ لأن هذه الأشجار لا تكون إلا للزينة، وهي تسبب الخراب؛ لأن زيادة الترف تكون سببا للجبن والرخاوة اللذين يعقبهما الانقلاب وذل العبودية».
وقد أباد الإسلام كثيرًا من هذه الاعتقادات وأضعف كثيرًا، ولكنه لم يحرّم التفاؤل على إطلاقه ومن المرويات المأثورة: «تفاءلوا بالخير تجدوه» وهي حكمة لا تخفى على اللبيب، ومن هذا القبيل ما روي في الحديث: «توقع خيرًا تلق خيرًا، وتوقع شرًّا تلق شرًّا» أما الطيرة فهي محرمة، وفيها ورد الحديث: «لا طيرة في الإسلام» وسنأتي في النشيد الثاني عشر على بيان أمرها.
(٦٢) هنا يتهدد نسطور المتخلف منهم بالقتل، وإن كان شيخًا عاجزًا وهم لا شك يتلقون كلامه مكبرين لعلمهم أنه لا يعدم فتىً ذا بأس ينفذ أمره إذا أمر.
(٦٣) لما استتم نسطور الكلام في مخاطبة الجيش رجع فوجه الخطاب إلى أغاممنون قاضيًا بالكر العاجل؛ لئلا تفتر الهمم بطول الانتظار، ورسم لهم خطة الهجوم بكليمات جمعت من الحكمة شيئًا كثيرًا، وحسبنا قوله لتنتظم الأجناد بين القبائل يُوَلَّى على كل قبيلة منها زعيمها، ثم دفعه إياهم إلى التخاطر بالبسالة والإقدام بقوله: فتعلم من منهم أشد تثبتًا الخ، فإنه لم يكن يصلح في ذلك الموقف الخطير أن تكون زعماء القبائل إلا منها؛ لأن الجيش وإن كان واحدًا، فلم يكن مؤلفًا من ملة واحدة بل من ممالك شتى تجمعها جامعة الاتحاد، فلا يرتاح كل قبيل منهم إلا الائتمار بأمر أمير غير أمير بلاده، ثم إنه فضلًا عن المطمع العام كانت كل فئة منهم تطمع بالتميز ببأسها، فتحرز فضلًا صرفًا لها لا يمازجه منزع أجنبي، وهكذا كانت قبائل العرب قبل الإسلام إذا تحالفت بقيت تحت زعامة أمرائها كما سنبين بُعَيْد هذا عند تعداد قبائل الأحلاف، وقد ظلت العرب على هذا النهج إلى أن جاء الإسلام وجمعتهم جامعة الدين، فصاروا كأنهم قبيلة واحدة تسعى وراء مطلب واحد فلم يبق بهم من حاجة إلى مراعاة تلك الحال في كل حين.
(٦٤) لما فرغ أوذيس من خطابه صوَّب الجيش كلامه، فخرق صوتهم الجو، ولما انتهى نسطور صمت الجميع، ولم يكن ذاك الدوي بأجمل من هذا الصمت، فإن الشاعر قد وفى كلًّا حقه؛ لأن أوذيس كان على دهائه بطلًا مغوارًا، فتحمس الجيش لحماسته، ونسطور كان حكيمًا جليلًا وشيخًا يكاد يدركه العجز، فصمتوا هيبة وإجلالًا، وقام أغاممنون بأداء فرض الثناء عليه بعبارة تشف عن إعظامه قدره، وإكباره سداد رأيه، ولا يفوتنَّ المطالع ترقي بلاغة الشاعر في خطب رجاله من أغاممنون إلى أوذيس إلى نسطور إلى أغاممنون فكأنها سلسلة متماسك بعضها ببعض، كلما نظرت إلى حلقة منها شاقك حسنها، وإذا نظرت إليهنَّ جميعًا عجبت لحسن الارتباط، وتناسب كل واحدة مع أختها، ولا غرو فهذا شأن هوميروس في أكثر شعره.
(٦٥) فالاس آثينا إلاهة الحكمة.
(٦٦) يقول: إنه لو أتاح لي الآلهة أن يكون في جيشي عشرة حكماء نظيرك لكنت ذللت طروادة، حسبنا بهذا القول دليلًا على مكانة أصالة الرأي عندهم، فإن زعيم الزعماء آثر عشرة حكماء على فيلق جرار، وهذا الكلام وإن كان يخالف من وجه قول بعض الشعراء العرب كأبي تمام القائل:
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
فهو ينطبق كل الانطباق على قول الأكثرين ومنهم أبو الطيب القائل:
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أولٌ ولها المحل الثاني
وسنرى في النشيد التاسع بيتًا تكاد تجزم إذا قرأته أن أبا الطيب عرَّب بيته هذا عنه، وهو قوله:
فلم تؤت بأس الكف والبأس أولٌ
وأوتيت فخر الملك والعز ثانيا
(٦٧) الجوب الترس، ورافع الجوب زفس، أراد أغاممنون أن يُذهب بقية ما في صدور القوم من الوجد عليه لاعتدائه على آخيل، فاعتذر قبيل استنهاضهم للتأهب وألقى على زفس «أو القدر» تبعة ذلك الخصام كأنه اضطر إليه بقوة غالبة، ومن ثم استطرق إلى إصدار الأوامر وتخلصن بتوعد المتنبائي منهم بالقتل تأييدًا لقوة الزعامة وسطوة الملك، فوقف أولًا موقف الخطيب وتدرج منه إلى موقف القائد الآمر الناهي كما سترى من سياق الخطاب.
(٦٨) السغوب الجوع كالسغب.
(٦٩) نوطس ممثل الريح الجنوبية كما تقدم، وحزيز الصخر: مجتمع الصخور الغليظة، أي: إن اندفاعهم إلى مضاربهم كان كاندفاع الموج تقذف به الريح لأعالي الصخور.
(٧٠) لا يستفاد من هذا البيت أنهم كانوا على عبادات مختلفة، فإنهم كانوا جميعًا يدينون لجميع الآلهة، ولكن لكل فئة منهم ميلًا خاصًا لرب من الأرباب، وكل رب له ولاء خاص لفئة أو لبلاد، فاختلافهم بعبارة أخرى إنما هو كاختلاف بعض النصارى في تشفع قديس دون آخر في ظروف معلومة، وهم مخلصون الاعتقاد بصلاح الجميع أو كاختلاف المسلمين في الانتماء إلى طرائق ومذاهب مخصوصة مع إجماعهم غالبًا على أنهن جميعًا على صراط سوي.
(٧١) المربع من الثيران الذي بلغ الخامسة من سنه.
(٧٢) لما كان أتريذ أي: أغاممنون كبير القوم كان يجدر به أن يضحي لزفس كبير الآلهة، وأن يجتمع على مائدته كبار الأمراء بدعوة خاصة منه، فحضر نسطور وأيذومين والإياسان الخ، وقد رتبهم الشاعر ترتيبًا لم أر أحدًا من الشراح فطن له مع ما فيه من دقة المراعاة، فجعل أولهم نسطور إجلالًا لشيبه، وقفَّى بايذومين؛ لأنه كهل له حق التصدر على الفتيان إياس بن تيلامون، وإياس بن ويليوس وذيوميذ، أما أوذيس فإنما وضع بعد الشبان، وإن كان كهلًا يضاهي الأرباب بحكمته كما قال الشاعر؛ لأنه كان بمثابة أخ لأغاممنون لعظم ما له عليه من الدالة، وما لذاك به من الثقة، فكان يليق والحالة هذه أن يتأخر لغيره مجاملة كما تأخر منيلا وأغاممنون عن الجميع، ولا يسعني قبل الانتقال من هذا البحث وجل قُرَّائي عربٌ، ومن كرام العرب إلا أن أنتقد قول الشراح الذين عابوا هوميروس على جعله منيلاوس يحضر مأدبة لم يدعَ إليها، فقالوا: إن في قدومه طفيليًا غضاضة من شأنه، وهو قول لا يقوله إلا الناشئ بين قوم وهنت فيهم عرى الإخاء، وهو والعياذ بالله من شوائب التمدن الحديث، أما الواقف على أحوال جاهلية الملل وبداوتها حتى وعريق حضارتها في بلاد المشرق كجزيرة العرب يعترف معي أنه لو جعل هوميروس منيلاوس في عداد المدعوين لأتى شيئًا منكرًا، ولو فرضنا أن في إغفاله دعوته تقصيرًا فقد أبدى الشاعر نوعًا من العذر بقوله: إن منيلًا لم يكن ليطالب أخاه بتلك الدعوة؛ لعلمه بكثرة مشاغله، وهب إنه لم يقل ذلك وليته لم يقله، فلا محل للوم الشاعر، فإن نساء بادية العرب وحواضرها كانت تقول في انتياب الشدد «الزوج موجود، والابن مولود، والأخ مفقود» إشارة إلى أنه لا يقوم مقام الأخ مخلوق، أفإذا أولم الأب وليمة وابنهُ في ربعه كما كانت الحال في مضارب الإغريق يعد الابن طفيليًّا إذا قدم من حيث لم يُدعَ، فكيف إذن والأخ في بلاد المشرق وجاهلية كل الأمم أن لم يكن أكثر دالة من الابن فهو بمنزلته أو يقاربه؟ ولا يدخل هنا الحنو الوالدي بشيءٍ.
(٧٣) قد أتينا في شرح النشيد الأول على ذكر طرائفهم بالتضحية لآلهتهم فلا حاجة إلى الإعادة، وقد كرر الشاعر في ما يلي بعض أبياته من ذلك النشيد.
figure
التضحية عند اليونان.
(٧٤) ابن قرون زفس.
(٧٥) اجتعلوا: اقتسموا.
(٧٦) لم يكن يجدر بهوميروس وهو الذاهب إلى أن العون الإلهي، مصدر كل عمل خطير إلَّا أن يختتم هذا الباب بتوسط الإلاهة أثينا، وقد فعل، فبعد أن تثبطوا عن القتال وقدح زعماؤهم زناد فكرتهم ودهائهم، وأفرغ خطباؤهم جعبة نصاحتهم وبلاغتهم، فبلغوا منهم المرام لم ير الشاعر أصلح من ربة الحكمة ورقيبة المعارك للهبوب بهم هبة واحدة، فأبرز صورة من أبدع الصور الشعرية.
(٧٧) المجوب الترس، وقد لقبه بالخالد؛ لأن كل ما ينتمي إلى أبناء الخلود خالد لا يعتريه فساد ولا اضمحلال، ولا يخفى ما في إبراز أثينا على تلك الصورة من العظمة والسمو، وسنرى في النشيد الخامس وصف هذا المجن ببلاغة يقف لها الشعراء هيبة وإجلالًا، ولم ينزع الشاعر في هذا الموضع إلى بلوغ سمو ذلك الوصف؛ لأنه إنما وقف هنا بالإلاهة موقف المشير المثير لا كما وقف بها هناك موقف المغوار الجبار.
(٧٨) أي: إن كل هدب من أهداب الترس المدلاة من حواشيه تساوي قيمتها مئة عجل.
(٧٩) الحيد طول العنق. قال عنترة:
كأن السرايا بين قوٍّ وقارةٍ
عصائب طيرٍ ينتخين لمشربِ
(٨٠) الجدد الشواطئ. كيسطر أو كيسطروس نهر ينصب قرب أفسس في نواحي أزمير، واسمه الآن كوجك مندر.
(٨١) تساجلت الطير تسابقت، والعرار صياح بعض الطيور.
(٨٢) الأجد القوي.
(٨٣) في عدة غمضت أي: في عدد وافر لا يدرك قدره.
(٨٤) العنة الخظيرة، والنقد صغار الغنم، والمراد به هنا الغنم على الإطلاق.
(٨٥) الصوار القطيع من البقر، أتم الشاعر هنا تأهيب الجيش للقتال، وهبَّ بهم هبوبًا متتابعًا كالجذوة التي تضطرم عن شرارة، فتظل تلتهب حتى تلتهم نيرانها كل ما تناولت، وما كدنا نراهم على أهبة القفول حتى رأيناه يتذرع بألف وسيلة؛ لاستنهاض هممهم، وما زال حتى وقف بهم في ساحة القتال جيشًا منتظمًا متألبًا للكر بقلب واثق بالظفر غير هيَّاب، كل ذلك بنسق يشف عن مجرى طبيعي لا يشوبه تكلف ولا عناء، أما التشابيه المتعاقبة ولا سيما في الأبيات الأخيرة ففي كل منها مرآة تنعكس عن صور الطبيعة بأبهى المشاهد، فترى الشاعر يرسم للمطالع والسامع كل ما انجلى لحواسه فيشركه بلذة مرئياته ومسموعاته وتصوراته حتى لا تفوته منها فائتة، فإنه عند قيامهم مدججين بالسلاح شبه بريق أدرعهم بالنور المتدفق من غاب ملتهبة على رءوس الجبال بما يشبه نار عبيد بن الأبرص بقوله:
ودنا يضيء ربابه
غابًا يضرمه حريقهْ
وعند تهافتهم إلى المعسكر شبههم بالطيور المتساجلة بمرج أسيوس كما شبه سلعة ابن الخرشب الأنماري خيل قومه بالعقبان الخدارية بقوله:
ولو أنها تجري على الأرض أدركت
ولكنها تهفو بتمثال طائرِ
خداريةٍ فتخاء ألثق ريشها
سحابةُ يوم ذي أهاضيب ماطرِ
ثم شبه جلبتهم بعرار تلك الطيور وهو مشهد لا شك شهده فاثر في نفسه فما ضن به بل ألقاه إلى راوي شعره، وقد انتُقد عليه في هذا التشبيه؛ لأن الطيور المتساجلة على هذا النمط لا تكون على انتظام يليق بجيش زاحف على العدو، وفات المنتقد أن ذلك التهافت إنما كان قبل انتظام عقد الجيش، وأن تلك الطيور نفسها بعد هبوبها تنتظم أسرابًا، وكأني بالمنتقد لم يتأن بقراءته حتى يأتي على آخر هذه الأبيات، أو يبلغ أول النشيد الثالث حيث يصف الشاعر انتظام الجيش وسكونه ودربته بما يشف عن إلمام تام بمواقف الجند في ساحة القتال.
ثم ما عتم بعد هذا أن شبه كثرتهم بورق الربيع؛ زيادةً لهيبتهم هذه، وهنا أيضًا توطئة لتعداد فرقهم كما سترى.
وزاد بوصف أقدامهم فقال: إنهم كالذباب المتهافت على الألبان بحظائر الرعاة في الربيع، وقد عيب على هذا القول؛ لأنه وإن كان صادقًا في حد نفسه فهو دون سائر التشابيه سموًا خصوصًا؛ لأن المقام مقام مدحٍ وإعجابٍ، وهذا الانتقاد على هوميروس قديم العهد ذكره أفستاثيوس وغيره، على أن الشاعر كما تقدم كان يمثل الطبيعة على علاقتها وفي ذلك سر طلاوة شعره، أفلا ترى أن عنترة ترنم بذكر الذباب ترنم هوميروس، فأورد معنى الشعر اليوناني وزاد عليه بقوله:
وخلا الذباب بها فليس ببارحٍ
غردًا كفعل الشارب المترنمِ
هزجًا يحك ذراعه بذراعه
قدح المكب على الزناد الأجذم
ومن هذا القبيل قول الآخر في البعوض:
إذا البعوض زجلت أصواتها
وأخذ اللحن مغنياتها
لم تطرب السامع زامراتها
صغيرة كبيرة أداتها
تقصر عن بغيتها بغاتها
ولا يصيب أبدًا رماتها
رامحة خرطومها قناتُها
ورب تعبير تمجه الأنفس في عصرنا كان في أيامه مقبولًا ومستحسنًا، فمن منا اليوم إذا أتى على وصف أدبة أقيمت للغيد الحسان يتشبه بشيخ شعراء العرب بقوله:
ويوم نحرت للعذارى مطيتي
فيا حبذا من رحلها المتحملِ
فظل العذارى يرتمين بلحمها
وشحم كهداب الدمقس المفتلِ
مع أننا إذا تلونا شعر امرئ القيس أخذتنا هزة الطرب والإعجاب، ولا يفوتنك أيضًا أن ما يصلح للتعبير في لغة لا يصلح في أخرى، على أنه وإن ساغ للمترجم أن يلطف العبارة، فلا يسوغ له أن يبدل معنى بآخر أو يغفلها أصلًا، فإن بوب مثلًا استهجن لفظ «الذباب» فوضع موضعها الحشرات مع أني أرى «الحشرات» أثقل على سمعنا من الذباب في الشعر، وربما كانت أخف منها على آذان الإنكليز، وهو العذر الذي يلتمس له، وأما هبس الذي أغفل العبارة برمتها وأكل بترجمته الذباب كله، فأي عذر يلتمس له اللهم إلا أن يكن أراد التلخيص والتقليد لا الترجمة الصحيحة.
وبعد أن تكامل الجند شرع الشاعر في تنظيمهم كل فئة بإمرة زعيمها، وأي تشبيه أصدق من الرعاة التي تتبين خرافها من بين القطعان والقطيع الذي يحن إلى التحيز إلى راعيه، ولم يفته بعد كل ما ذكر أن يختم المقال بوصف القائد العام أغاممنون، فوصفه وصفًا بالغًا في الأبهة والكمال، وشبهه بأعاظم الآلهة، وانتقى له من كل إله أعظم صفة فيه وجسَّمها جريًا على سنن الميثولوجيا، فجعل له هامة زفس وعينيه، وزفس زعيم الآلهة ففي ذلك إشارة إلى الرئاسة، وفي الهامة والعينين رمز إلى الحكمة وبُعد النظر، وفوسيذ إله البحار والصدر إشارة إلى السعة، وفيه رمز إلى اتساع سلطته، وأريس إله الحرب اتخذ له منه قوة الجسد، وتشبيه البشر بالآلهة كثير في شعر اليونان، ومثله التشبيه ببعض صفات الأنبياء والأولياء بشعر العرب كقولهم في القصيدة المنسوبة إلى يزيد، وما أخالها إلا للوأواء الدمشقي صاحب الدالية التي مطلعها: نالت على يدها
لها حكم لقمان وصورة يوسف
ونغمة داوودِ وعفة مريم
ولي حزن يعقوب ووحشة يونس
وأسقام أيوب وحسرة آدم
واختتم الشاعر بتشبيه أغاممنون بالفحل القائم بين الصوار، وهو تشبيه مألوف لجاهلية الأمم، قال وحشي بن حرب الحبشي قاتل حمزة بن عبد المطلب: «وخرجت أنظر حمزة وهو في عرض الناس مثل الجمل الأورق يهد الناس بسيفه، فما ضرب واحدًا وأخطأ، فهززت حربتي ودفعتها عليه فوقعت بين كتفيه وخرجت من بين يديه» «قرماني»
(٨٦) القيان جمع قينة المغنيات، كنَّ في اعتقادهم بنات زفس مقامهنَّ معه يطربن الآلهة في مجالسهم، وكان الشعراء يستوحونهن في إنشادهم، ويستمد المطربون عونهن في التلحين والتوقيع، فهن ربات الشعر واللحن والإنشاد، يخاطبهن هوميروس تارة بصيغة الجمع كما فعل في هذا الموضع، وتارة بصيغة المفرد كما سيأتي بعد أبيات من هذا النشيد، وقد لا يسميهن فيقول الإلاهة، ويعني بها إحداهنَّ كما مرَّ بنا في بدء الإلياذة، ولا يخفى أن كلمة موسيقى للفن المعروف مشتقة من موسا، وهو اسم القينة باليونانية.
fig8
شكل ١: القيان.
(٨٧) حيثما نظرت إلى شعر هوميروس رأيت فيه صدق الورع والحث على الاستغاثة بالقوى العلوية عند الإقبال على عمل خطير، وها هو قد أقبل على تعداد جيوش الإغريق وزعمائهم، وبلادهم وسفائنهم، وسرد مستطردًا مميزات البلاد من جبل وواد، وغور، ونجد، وروض، وغاب، ونسب كثير من القواد، وحسبهم وصفاتهم وسلاحهم، وفكَّه القارئ بشيءٍ من القصص الذي كانت تتداوله الألسن ويتناوله الاعتقاد من أساطيرهم، ذلك أمر جلل لم يقم بمثله أحد قبله حتى ولا بعده، ولهذا كان أثرًا تاريخيًّا فريدًا في بابه لا يزال يعوَّل عليه منذ بضعة آلاف من السنين، وكأنه أدرك ما سيكون له من الشأن، فأطال الاستغاثة وأبدع وأبان عجز البشر مهما أوتوا من الحكمة والقوة عن إتيان عظائم الأمور ما لم تبذل لهم العناية عونها، وهو إبداع في وصف عظمة الخالق وضعف المخلوق، وكَرَّم الله وجه علي بن أبي طالب إذ يقول:
إلهي لئن خيبتني أو طردتني
فما حيلتي يا رب أم كيف أصنعُ
إلهي لئن خيبتني أو طردتني
فمن ذا الذي أرجو ومن أتشفعُ
وما لبث بعد هذه الاستغاثة أن أفاض فيما أراد كأن وحيًا هبط على مدركته، فكتبت على ذاكرته وهو لا يكتب فرسم جغرافية بلاده رسمًا شعريًّا لم يُسبق إليه ولم يُلحق.
ولقد يجد المطَّلع على أيام العرب بعض الشبه بين هذا الترتيب في قبائل الإغريق والطرواد، وترتيب أخلاف العرب وعشائرهم بحسب نص كتبتهم ومؤرخيهم، وإن كان هوميروس يتعدَّاهم بمراحل بما أضاف إلى نبأ التاريخ والجغرافية من زخرف الشعر الذي يقتضيه موقفه، قال ابن الأثير في يوم الفجار الثاني: «ثم إن قيسًا جمعت جموعها ومعها ثقيف وغيرها، وجمعت قريش جموعها منهم كنانة جميعها، والأحابيش وأسد بن خزيمة، وفرقت قريش السلاح في الناس فأعطى عبد الله بن جدعان مئة رجل سلاحًا تامًا، وفعل الباقون مثله، وخرجت قريش للموعد على كل بطن منها رئيس، فكان على بني هاشم الزبير بن عبد المطلب، ومعه رسول الله «وعمره عشرون سنة» وأخوة الزبير أبو طالب وحمزة والعباس، وعلى بني أمية وأحلافها حرب بن أمية، وعلى بني عبد الدار عكرمة بن هاشم، وعلى بني أسد بن عبد العزَّى خويلد بن أسد … وعلى الأحابيش الحُلَيس بن يزيد وسفيان بن عويف هما قائداهم، والأحابيش بنو الحارث بن عبد مناة من كنانة، وعضل والقارة والديش من بني الهون بن خزيمة، والمصطلق بن خزاعة سموا بذلك لحلفهم بني الحارث والتحبش التجمع، وعلى بني بكر بلعاء بن ڨـيس … وكان على جماعة الناس «كلهم» حرب بن أمية لمكانه من عبد مناف سنًّا ومنزلة». ثم أتى على تعداد قبائل قيس ورؤسائها كما فعل بذكر قريش.
(٨٨) ليس في هذا المجال فسحة لتراجم أعلام هذا النشيد، وسنستوفيها إن شاء الله في كتاب نفرده للتراجم الهوميرية، وحسبنا هنا أن نبين للمطالع اللبيب مواقع البلاد على خريطة ذيلنا بها هذا الفصل، وحيثما وجد اختلاف بين الأسماء القديمة والحديثة فقد أشرنا إليه،
(٨٩) لما كان قصد الشاعر تفصيل المقال عن جند الإغريق قبيلًا قبيلًا شرع كما رأيت في أول هذه الأبيات فذكر البيوتيين، وأسماء قوَّادهم الخمسة ومدائنهم، ووصف بعضها بصفات عرفت بها توخينا أن لا نزيد فيها ولا ننقص منها شيئًا لضيق عبارة أو ضرورة شعر، ثم انتهى بذكر عدد سفنهم، فقال: إنها خمسون وفي كل منها مئة وعشرون، فيكون مجموعهم ستة آلاف، وقد أضرب عن ذكر عدد المقاتلة في سائر السفن إلا سفن فيلوكتيتس، فقال: إن في كل منها خمسين مقاتلًا، قال تيوكذيذس المؤرخ: إن هوميروس قد اكتفى بذكر عدد المقاتلة في أكبر السفن وأصغرها، فبناءً على هذا القول إذا أخذنا المعدل الوسط، وهو خمسة وثمانون «بين الخمسين والمئة والعشرين» وضربناه في مجموع السفن، وهو ألف ومئتان علمنا أن مجموع الجيش كان بالغًا مئة ألف وألفين.
(٩٠) من أساطيرهم أن يلمين وعسقلاف زعيمي جند أسفليذون وأرخومين من بلاد مينوس كانا ولدي أريس إله الحرب إذ هام بحب أمهما أستيوخا، وهي عذراء فاقترن بها خفيةً، وأولدها الولدين المذكورين، وأبناء أريس وغيره من الآلهة ليسوا بالنزر القليل في شعر هوميروس، وفي ذلك رمز إلى تميزهم بصفة من الصفات كالبسالة في هذا الموضع.
(٩١) درع الكتان كانت نسيجًا متينًا من الكتان يرجح أنهم كانوا يطلونها بالقير أو مادة نظيره، ولعلها دلاص العرب وغيرهم من أمم المشرق، روى الإبشيهي في المستطرف في قصة براز أبي الوليد بن فتحون مع العلج الرومي أنه قال للمستعين الساعة أكفي المسلمين شره، فلبس قميص كتان، واستوى على سرج فرسه إلخ.
(٩٢) كانت عادة تلك الفئة من الإغريق أن تقاتل صدرًا لصدر بالرماح، وأن يرسل أبطالهم شعورهم على كواهلهم من الوراء، ويقصُّوا النواصي من الأمام حتى لا تأخذهم بها الأعداء في الصراع، وفي إرسال الشَّعْر على هذا الوجه نزعة إلى إظهار البأس والشدة إذ لم يكن من شيمهم أن يولُّوا ظهورهم لعدو، فيمكنوه من القبض على نواصيهم. تلك عادة جرى عليها العرب في جاهليتهم، وظلت في البدو بعد الإسلام حتى أيامنا هذه شهدناها في كثير من القبائل.
على أن بدو العرب الآن يطلقون في الغالب كل شعر الرأس، ويضفرونه غدائر يسمونها قصائب يرسلونها وراء ظهورهم، فإذا أقدموا على الكفاح حلُّوها وأطاروها فوق رءوسهم، فتنتشر على هاماتهم كالرايات يعتزُّون بها ويتنافسون، وكأن في طيرانها فوق رءوسهم محمَّسًا يستفزهم للبطش وتكرار الكرة، وفي هذا المعنى يقول أحد شعرائهم:
ساق الكحيلا والبنات تصيح
فل القصايب واطعن الفرسان
(٩٣) المراد بأثينا في هذا البيت إلاهة الحكمة، وفي البيت السابق البلد المشهور، وقد دعيت المدينة باسم الإلاهة تبركًا، وبني لها فيها هيكل عظيم لا تزال أثارة قائمة، وكانوا يحتفلون كل عام بعيد عظيم يضحون لها فيه بالضحايا الكثيرة، وفي خرافاتهم أنه لما ألقت الأرض إيرخثاوس حملته أثينا إلى ذلك الهيكل، وعنيت بتربيته إلى أن شبَّ، فحكم البلاد.
(٩٤) لما كان أغاممنون زعيم الزعماء كان يجدر به أن يكون قائد أعظم فرقة وأبسلها، وهكذا فالتناسب ظاهر في كل شعر هوميروس.
(٩٥) مينيلاوس أخو أغاممنون كما لا يخفى، وزوج هيلانة التي من أجلها ثارت الحرب؛ ولهذا جعل الشاعر في وصفه ووصف قومه تحرقًا لم يجعله في غيرهم؛ لأنهم إنما كانوا قادمين للذب عن العرض، والأخذ بالثأر، ومن سواهم للنجدة وطلب الفخار.
(٩٦) قد رمى الشاعر بإثبات هذه الأحدوثة إلى ثلاثة مقاصد: أولها: إيراد حكاية مروية في زمانه، والثاني: تفكهة القارئ بعد أن أطال في سرد الأعلام، والثالث: أن يجعلها عبرة للغرور الفخور.
(٩٧) الأجد: القوي الشديد.
(٩٨) كانت مدائن أرقاديا بلادًا برَّية بعيدة عن البحر فلم يكن لهن عمارة بحرية، فأمد أغاممنون قومها بأسطول من عنده، وكان أغاممنون في زمنه أقوى الجميع عمارة؛ لكثرة جزائره، فولوه الزعامة لأنه كان سلطان البحار في زمنهم كما هي إنكلترا في زمننا هذا.
(٩٩) البهم: الأبطال الأشداء.
(١٠٠) ميليغر هو ابن وينيوس ملك كاليدونيا، وألثيا ابنة ثستيوس له قصة غريبة أوردها الشاعر في النشيد التاسع.
(١٠١) إقريطش هي إكريت أوردناها هنا بلفظها الوارد في ابن خلدون وغيره من مؤرخي العرب.
(١٠٢) صرَّح الشاعر أن نيراوس أو نيريوس أجمل الجند وأصبحهم وجهًا ما خلا ابن فيلا آخيل، ولكن شتان بين جمالٍ في وجه ذي بأس صنديد، وجمالٍ في وجه ذي عجز رعديد، وكأن الشاعر أنف من المقابلة بينهما، فذكر نيريوس هنا مضطرًّا عند سرد أسماء الزعماء، ثم أغفله في سائر إنشاده «راجع صفحة ٢٧٠ من الشراح»
(١٠٣) لم يكن اسم الهيلانيين لعهد هوميروس قد أطلق على جميع اليونان، وإنما كان يطلق على سكان أفثيا نسبة إلى هيلانة ابنة ذو قليون، لوپر يـڨـوست.
(١٠٤) ذيميتيرا إلاهة الزراعة، وهي سيريس الرومان، وكأن فراسا لنضارتها دُعيت قدسًا لها.
(١٠٥) يستفاد من قوله «بيته لم يكمل» إما أنه أراد الظاهر من مفاد العبارة طبقًا لعادتهم في ذلك الزمن من بناء بيت عند الزواج، وأما إن ذلك الفارس غادر امرأته إيّما، ولم يخلف ولدًا، تقول العرب بنى علي أهله وبأهله أي: عروسه إذا تزوجها وأصله أن الداخل بأهله كان يضرب عليها قبَّة ليلة دخوله بها، فقيل للمتزوج يوم زواجه بانٍ، ثم كثر فعم استعماله لكل ذي زوجة ولعل بنيان اليونان من هذا القبيل.
(١٠٦) ذكر الشاعر ألكستا أم القائد أفميل، ولقبها بالمجيدة تعظيمًا لما يؤثر عنها من حميد الخلال، وتفانيها بحب زوجها أذميت حتى أنها ماتت عن طيبة خاطر فداء عنه.
(١٠٧) القناطرة جمع قنطورس، وهو شخص خرافي أثبتنا رسمه (ن١) وللقناطرة وقائع كثيرة مع البشر في أساطيرهم، وسيأتي ذكرهم غير مرة.
(١٠٨) معنى هذه الأبيات الثلاثة أن جدول طيطارسيس ينصب في نهر فينيوس، ولا يمتزج بمائه بل يطفو عليه كالزيت لأنه «أي طيطارسيس» فرع من الستكس، ويستفاد من هذا الكلام أن الستكس نهر الجحيم من أنهر بلاد ثساليا كطيطارسيس مع أنه لم يعلم قط بوجود نهر بهذا الاسم في تلك البلاد، فيرجع إذن في الظن أنهم كانوا يعتقدون أن طيطارسيس كان متصلًا بالستكس تحت الأرض، وأما وصفه الستكس بكونه مثقل الأيمان؛ فلأنه فضلًا عما كان له من الرهبة في قلوب البشر كان أرباب السماء أنفسهم يعظمون الإقسام به ويتقونها.
(١٠٩) لما فرغ من تعدد السفن والجيوش أراد أن يستطرد إلى التنويه بأعظم الأبطال وأكرم الخيل، فاستنشد ربة الشعر كجاري عادته، ولقد يعجب المطالع العريق في الحضارة لجمع الشاعر بين الإنسان والحيوان أي: بين الفرس والفارس كما فعل هنا، على أن الملم بأحوال ذلك الزمان ينكر على شاعرها أن لا يفعل ذلك، وعندنا حتى اليوم في بادية العرب شاهد محسوس على ما تقدم، فالفرس في البادية روح الفارس، وقد يتخلى البدوي عن زوجه وولده، ويضن بفرسه؛ لأنه عونه على قضاء الحاجات، ورفيقه في الغزوات، وملاذه عند اشتداد الأزمات.
وسترى في ما يلي من شعر هوميروس ما كان للفرس من علو المنزلة عند اليونان، حتى لقد نراه في مقام الصديق الحميم يجذل لطرب صاحبه، ويتفجع لأساه، ويستبسل في سبيل إنقاذه، وزد على هذا أنه قد أنطقه بلسان البشر، وساواه بعليَّة الناس بأن جعل منه فئة من نسل الأرباب أنزل عليها شيئًا من أنباء الغيب.
(١١٠) قد صوَّر الشاعر في الأبيات الخمسة الأخيرة آخيل وجنوده وزعماء جيشه بصورة شائقة، فجعله معتزلًا ومستغرقًا في هاجسه حنقًا ناقمًا على أغاممنون، وجنوده، وهم معتزلو الكفاح لاهون بالألعاب الحربية التي يتأسى بها الجندي الباسل إذا تعذر عليه خوض معامع القتال، وهو يصبو إليها، ولم يفته أن يذكر العجال المسترة في ظل الخيام والصافنات الجياد الراتعات في مراعي الحندقوق النضرة، وأبدع من هذا كله وصف رؤساء الجند، واشتداد الأسى بهم لأنهم وهم أبناء الوغى باتوا «غير ملفين للوغى من سبيل» فتاهوا شتاتًا في ذلك الفضاء؛ لاتطربهم ألعاب الجند كأنهم يترنمون بقول عنترة إذ يقول:
واسمعاني نغمة الأسـ
ـياف حتى تطرباني
أطرب الأصوات عندي
رنة السيف اليماني
وصليل الرمح في يو
م طعانٍ أو رهانِ
وقد تقدم لنا ذكر ما يماثل هذا المعنى من قول عنترة (ن ١).
(١١١) قال يزيد بن مالك الغامدي:
يثرن بسهل الأرض مما يدسنه
عجاجًا وبالحرَّان نار الحباحب
(١١٢) تيفس هذا جبار أمه الأرض وأبوه طيطان، قيل كان له مئة رأس، وهو من الجبابرة الذين اعتصبوا على زفس، ولما أوقع بهم زفس نجا بنفسه ثم استأنف الكرة، ففتك به زفس تحت صخور آريم المذكورة في البيت السابق، وهو جبل في كيليكيا «من بر الأناضول».
وما أحسن قول عنترة في معنى هذه الأبيات الثلاثة:
وترى بها الرايات تخفق والقنا
وترى العجاج كمثل بحر مزبد
وبوارق البيض الرقاق لوامع
في عارض مثل الغمام المرعد
وحوافر الخيل العتاق على الصفا
مثل الصواعق في قفار الفدفد
(١١٣) بقي على الشاعر بعد أن وصف معسكر الإغريق أن يصف معسكر الطرواد، ويأتي على تعداد قبائلهم ففعل كما سترى.
figure
(١١٤) المراد بقوم أرغوس جميع اليونان كما تَقَدَّم.
(١١٥) ليثس مضاف إلى طفطام، وهيفوت بدل من ابني.
(١١٦) في الإلياذة أربعة أبطال باسم أكماس، وأكماس المذكور في هذا البيت هو الذي يقتله إياس بن تلامون في النشيد السادس.
(١١٧) ياكيذ كنية آخيل أي: ابن أياك وهو اسم جده، والمراد بالنهر نهر زفس الذي طغى على آخيل، وكاد يهلكه لو لم يغثه هيفست إله النار كما سيأتي في النشيد الحادي والعشرين.
(١١٨) لم يذكر الشاعر ما يشير إلى عدد الطرواد وحلفائهم كما ذكر ما أشار إلى عدد الإغريق، ولكنه استدرك ذلك في آخر النشيد الثامن حيث قال: إن نيرانهم بلغت الألف عدًّا، وحول كل منها خمسون، فمجموعهم إذن خمسون ألفًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤