النشيد الثاني والعشرون

مقتل هكطور

مُجْمَلُهُ

لم يبق من الطرواد خارج الأسوار إلا هكطور، فانقض أخيل عليه فشهد فريام ذلك واستحلف ابنه أن يتقي الخطر ويدخل السور فلم يصغ هكطور إلى كلام أبيه، فأخذت أمه هيقاب تتوسل إليه وتنذره بالخطر المحدق به فلبث مكانه لا يتزعزع تتقاذفه الأفكار، وإذا بأخيل كاد يدركه فانهزم مرتاعًا، فجرى أخيل في أثره حتى دار ثلاثًا حول إليون، فرقَّ زفس لهكطور ومال إلى إنقاذه فعارضته أثينا وأبت إلا إنفاذ القدر المحتوم، فأذعن زفس لها فاندفعت أثنيا من السماء وحاول أفلون أن ينقذ هكطور، فأخذ زفس فسطاسه فوزن قدر الفريقين، فإذا بأجل هكطور قد حل فتخلى عنه أفلون، وتمثلت أثينا بصورة ذيفوب أخي هكطور فحسنت له التربص لملاقاة أخيل، ولما التقى البطلان رام هكطور أن يتواثق وأخيل، على أن القاتل منهما لا يدنس جثة القتيل، فأبى أخيل مواثقته على شيء فتبارزا فأطلق هكطور رمحه فلم ينل من خصمه إربًا، فالتفت إلى أخيه وإذا به قد توارى فعرف الخدعة واستبسل وقاتل حتى خر صريعًا، وقبل أن تفيض روحه سأل آخيل أن يعيد جثته إلى أهله، فشتمه آخيل فتنبأ له هكطور ساعة الموت بالحمام القريب، فاجتمع الإغريق حول الجثة ومثلوا بها، ثم ربطها آخيل إلى مركبته ودار بها حول البلد والطرواد ينظرون ويتوجعون والنساء يندبن وينتحبن، وكانت أنذروماخ امرأة هكطور غافلة لا تعلم بما جرى فسمعت عويل حماتها فصعدت إلى البرج تستطلع الخبر فرأت الجثة، فأغمي عليها ورثت زوجها رثاء تتفطر له الأكباد:

وكل نساء إليونٍ
ذرفن لنوحها العبرا

لم تنته حتى الآن حوادث اليوم الثلاثين.

النشيد الثاني والعشرون١

قضيض الجيش مذ ذعرا
هزيمًا كالظبا نفرا
إلى إليون حيث هنا
ك خلف حصاره انحصرا
يجفف في ظلال قلا
عه عرقًا به سبحت
كتائبه ويروي غلة
فيها قد استعرا
وراءهم الأخاءة والـ
ـجواشن في عواتقهم٢
جروا لكنَّ هكطورًا
تربَّص يرقب القدرا
لدى أبواب إسكيا
قضاء الشؤم ثبَّطه
وبابن أياك آفلون
أحدق يصدق الخبرا:٣

•••

«علام وأنت من بشر
جريت تجد في أثري
أتجهل أنني ربٌّ
فثرت بلاهب الشرر
تركت هناك طروادًا
تفرُّ إلى معاقلها
وجئت هنا فلالا أن
تفوز تعست بالظفر
فلست بمائتٍ أبدًا»
فقال آخيل متقدًا:
«أزجَّاح السهام وشرَّ
آل الخلد والكبر
أرى أنأيتني عن سو
رهم مكرًا وإلَا كم
فتًى عضَّ الحضيض قبيـ
ـل ما بحصاره استترا

•••

بغدرك للحمى دخلوا
ومجدي شابه الخلل
ولم تخش العقاب فآه
لو بك كان لي قبل»
ونحو السور راح بكبـ
ـره يسعى كلهميم
مجلٍّ بالعجال طوى
المجال وفاته الملل٤
وكان الشيخ فريامٌ
على الأبراج يرقبه
فلاح له بكرَّته
عليه تسطع الحلل
ككوكبة الخريف إذا
بديجور الدجى ظهرت
تخال الزهر لا نورٌ
حواليها لها ظهرا٥

•••

(دعوها الكلب جبَّارا
لما عن شؤمها دارا
تؤج وإنما يصلى الـ
ـورى من حرَّها نارا)
فأنَّ الشيخ ملتطمًا
ومدَّ يدي ضراعته
وهكطور الحبيب دعا
ووجدًا قلبه فارا
ولكن ظلَّ هكطور
لدى الأبواب محتدمًا
لحرب آخيل مضطرمًا
ليدرأ باللقا العارا
فمدَّ أبوه كفيه
إليه وصاح مكتئبًا:
حبيبي لا تقم فذا
«لآخيل فتندحرا٦

•••

نعم هو فائق عزما
فيؤتيك الردى رغما
نعم ويلاه ما أعتا
ه في سفك الدما ظلما
فلو آل العلى ودو
ه ودي خلت جثته٧
كلاب البر والعقبا
ن تنهش لحمها حتما
وفارق مهجتي ضيمٌ
يبرح بي لولدٍ في
أقاصي البحر وا لهفي
عبيدًا باع أو أصمى
وأين الآن ليقاوو
ن أين فليذر فهنا
فلول الجيش لكني
لذينك لا أرى أثرا

•••

أفي جيش العداة هما
لنجزل في فدائها
نحاسًا أو نضارًا في
خزائن منزلي ركما
فإن الشيخ ألتيسًا
حبا من قبل ابنته
لووثا عين أزواجي
جزيل كنوزه كرما
أم انحدرا بموتهما
إلى ظلمات آذيس
وثم البث والحسرا
ت تدهمني وأمَّهما
ولكن للعزاء ترى
سبيلًا كل أسرتنا
إذا لم يقض آخيل
بموتك ها هنا الوطرا

•••

فلذ للسور لذ عجلا
حبيبي واتق الفشلا
وذد عن جند طروادٍ
ونسوة جندها النبلا
ولا تتعرضنَّ إلى الـ
ـحمام بوجه آخيل
فتلبسه حلى المجد الـ
ـأثيل ويبلغ الأملا
ورقَّ لوالدٍ همٍّ
نصوحٍ زفس قدَّر أن
يبيد بعيد أن يدها
ه كل بلا وأيُّ بلا٨
إبادة ولده طرًّا
وذل بناته أسرًا
ونهب منازل فيها
العدو يعيث منتشرا

•••

وكنات بذلتها
تجرُّ على مرارتها
وأطفال بكفِّ الظلـ
ـم ترمي من أسرَّتها
هناك أبوك تهلكه
الحتوف وسوف تدركه
ببتَّار الأعادي أو
بسهم من كنانتها
فأطرح دون أعتابي
تمزقني كلابٌ قد
غذوت بظل أبوابي
حماةٌ لي بجملتها
دمي تمتصُّ ناهشةً
فتروي حرَّ غلَّتها
وثمَّ تنام ملأى دو
ن لحمٍ بينها انتثرا

•••

لئن مات الفتى الجلد
وفيه أنفذ الحدَّ
صريعًا ظل لكن جـ
ـل فيه الحسن والمجد
ولكن حيث شيخ العجـ
ـز حرمته قد انتهكت
كلاب دسن شيبته
وناصع لحيةٍ تبدو
فتلك النكبة الدهما
ء لا رزء يشاكلها
بمرء البؤس ما اشتدَّت
به أرزاؤه الأد»٩
وظل ينوح مصطلمًا
بكفَّي عجزه شعرًا
وهكطور يصد كأنـ
ـه بأبيه ما شعرا

•••

هنالك أمه اندفعت
بهاطل عبرة همعت
لديه صدرها كشفت
وثدييها له رفعت
وصاحت: «آه هكطورٌ
بنيَّ ارفق بوالدة
وهذا الصدر فارع فكم
بعهد صباك قبل رعت
وهذا الثدي فاذكر كم
رضعت فنحت مبتهجًا
تعال تعال فالأسوا
ر في وجه العدى امتنعت
إليها لذ وقاتل ذ
لك العاتي بسترتها
ولا تتربَّصن له
وحيدًا واتق الخطرا

•••

فإن دمك السخين سفك
فلا نعشٌ يهيأ لك
تنوح أنا وعرسك حو
له والحتف قد صدعك
ولكن تغتدي عند الـ
ـسفائن نائيًا عنا
طعامًا للكلاب بذلَّـ
ـةٍ فيها الشقي هلك»١٠
كذاك كلاهما انتحبا
ولكن صم هكطورٌ
وظل بوجه ذاك القر
م لا يخشى عنا ودرك
كأفعى الشم حول الوكـ
ـر نقع السم في فمها
ترى ملتفة حنقًا
وتقدح عينها شررا

•••

وتلبث في انتظار فتى
عليها بالسلاح أتى
كما هكطور في وجه الـ
ـعدو بأرضه ثبتا
فأتكا جوبه للسو
ر يخبط في هواجسه:
«لئن ألح الحصار ففو
لداماسًا أراه عتا١١
يعنفني على منعي الـ
ـطراود عن معاقلهم
وسيف آخيل لاح لنا
بذاك الليل متصلتا
فلم أفقه نصيحته
وإن حسنت وسرت على
مرام النفس فامحقت
سرايا الجيش وانكسرا

•••

وربَّ معارضٍ جحد
أمام الغيد والعمد١٢
يقول: «عتو هكطور الـ
ـمكابر علة الشدد
فكلَّا لن أعود إذن
فإما قتل آخيل
وإمَّا مصرعي بالعز
في ذودي عن البلد …١٣
وما ظني إذا ألقي الـ
ـتَّريكة والمجنَّ هنا
وأتكئ عاملي للسو
ر منبعثًا بلا عدد
وأطمعه برد هلانـ
ـةٍ وجميع ما ذخرت
وما فاريس قبل أتى
به في الفلك وادَّخرا

•••

فتلك العلة الكبرى
ليخل بها بنو أترا
وممَّا في خزائننا
نبيح لهم كذا شطرا
وكبار الشيوخ يميـ
ـن صدقٍ يغلظون لهم
بأنهم عليها جمـ
ـلةً ما أسبلوا سترا١٤
شططت فتلك أضغاثٌ
بها قلبي يحدثني
فعذري لن يروق لعيـ
ـنه إن ألتمس عذرا
فيبطش بي بغير ترد
دٍ فأبيد كامرأةٍ
إذا عريت من عدد
تصد الخطب حيث عرا

•••

فما هذا المجال هنا
مجالٌ للحديث لنا
فأبذل في الخطاب له
عميق السر والعلنا
كما شاق الحديث فتًى
وغانيةً بلا حرج
لدى ملولةٍ أو صخـ
ـرةٍ في ظلها أمنا
فليس لنا سوى قرع الـ
ـنصال أجل بلا مهل
فيظفر من أبو الأولمـ
ـب زفس دماءه حقنا»١٥
كذلك ثار هاجسه
وآخيل بعامله
كرب الحرب هياج الـ
ـترائك للوغى ابتدرا

•••

بريق الدرع قد سطعا
عليه كبارقٍ لمعا
تألق أو كنور الشمـ
ـس في كبد السما طعلا
وهكطور لرؤيته
تقطع وصل عزمته
ففرَّ وخلفه آخيـ
ـل طيَّار الخطى اندفعا١٦
كباز يطلب الورقا
ء وهي تزف هالعةً
وما جارى بزاة الشم
طيرٌ في الفلا ارتفعا
تعقبها بصرصرة
تذيب لباب مهجتها
فراغت وهو منقضٌ
بنافذ مخلبٍ شهرا

•••

كذا الأبواب هكطور
تجاوز وهو مذعور
تطير به خطاه وهـ
ـو دون آخيل مدحور
فجازا مرقب الأرصا
د حتى التينة العظمى
على جدد العجال حيا
ل خط فوقه السور١٧
إلى أن بلغا الحوضيـ
ـن حيث الماء منبجسٌ
بينبوعين من زنثٍ
تؤم رباهما الحور
فينبوع سخينٌ والـ
ـبخار عليه منتشرٌ
وينبوعٌ بماء كالـ
ـجليد تخاله انفجرا١٨

•••

هناك مغاسل الصخر
لغسل ملابس غر
لها قد كانت الغادا
ت من قبل الوغى تجري
تعداها كلا البطليـ
ـن ذا عادٍ وذا تالٍ
شجاعٌ فرَّ ممن كا
ن أشجع منه بالكر١٩
وما انبريا بميدان الـ
ـرهان لجلد ثور أو
لذبحٍ يحرز العدا
ء يوم الفوز بالنصر٢٠
ولكن السباق هنا
على أنفاس هكطور
ثلاثًا حول إليون
إزاء حصارها عبرا

•••

كسباق القياديد
تغير بمأتم الصيد٢١
إلى غرضٍ على أمدٍ
يقام لهنَّ محدود
وجائزة المجلي تلـ
ـك إما خبر منضدةٍ
وإما غادةٌ مسبيةٌ
من صفوة الغيد
وآل الخلد قاطبةً
من الأولمب راقبةٌ
فصاح أبو سراة الخلـ
ـد والناس المناكيد:
«أرى بشرًا أحب تعقـ
ـبوه حول إليون
لهكطور الفتى الورع الـ
ـفؤاد أراه منفطرا

•••

فكم في إيذةٍ قدما
وفي أبراجها الشمَّا
بخير الثور لي ضجى
يسيل اللحم والشحما
وهاكم خلفه آخيـ
ـل منقضًّا بخفته
عليه فاحكموا فيما
عسى أن نصدر الحكما
أنرجعه سليمًا أم
ببأس آخيل نهلكه»
فآثينا انبرت تحتج:
«ذاك إذن غدا ظلما
أتنقذ من زؤام المو
ت من حتم القضاء له
فإن تفعل فما في الخلـ
ـد ربٌّ خلته شكرا»

•••

فقال لها أو السُّحب:
«بغيظك لأقضي أربي
فما شئت ابتغي عجلًا
وسيري وا أمني غضبي»
فثارت فوق ثورتها
وطارت عن منصَّتها
وهكطورٌ وراه آخيـ
ـل ظل يجد في الطلب
كأغضف رام ريمًا في الـ
ـكناس فهب منبعثًا٢٢
لديه ضاربًا في الطو
د بين مشاعب الهضب
فلا أزياف تحميه
ولا أيكٌ يواريه
وحيث جرى ففي أعقا
به داعي المنون جرى

•••

كذا هكطور ما وجدا
سبيلا للنجاة بدا
فآخيل على آثا
ره مستظهر أبدا
فكم من مرةٍ أبوا
ب إليون ومعقلها
بغى لتهال أسهمها
بوجه عدوه بردا٢٣
وكم من مرة آخيـ
ـل قام بوجهه فعدا
هزيمًا فوق ذاك السهـ
ـل عن إليون مبتعدا
كما لو في الكرى طيف
بغاك فم تطق هربًا
وإمَّا رمته فصَّر
ت عنه كيفما صدرا٢٤

•••

فلا هذا نجا هربا
ولا ذا مدركٌ أربا
وإنَّ بعدو هكطور
بذيَّاك المدى عجبا
ولا بدع فآفلو
ن أفرغ فيه قدرته
وخفته لكي لا يلـ
ـتوي بفراره تعبا٢٥
وآخيل بعزَّته إلى
الأجناد أوما أن
قفوا كي لا بهكطورٍ
يرى نصلٌ لهم نشبا
لئلَّا يحرز الشَّرف الـ
ـرَّفيع بقتله علنًا
سواه فلا ينال فخا
ر ذاك اليوم والظفرا٢٦

•••

وإذ بلغا متابعةً
إلى العينين رابعةً
موازين النضار أبو الـ
ـعباد أقام ساطعةً
بها قدحي ردًى ألقى
لذا سهمٌ وذا سهمٌ
ولاحت كفُّه في وسـ
ـطها في الحال رافعةً
فهكطورٌ أميلت للـ
ـجحيم هناك كفَّته
وفيبس صدَّ عنه وبا
درت فالاس هارعةً٢٧
أتت آخيل قالت: «يا
حليف المجد حان لنا
بأن نحبو الخميس بنصـ
ـرةٍ ما مثلها انتصرا

•••

فهكطورًا بشدَّته
نميت بوجه أسرته
فيهلك دون أسطول
الأخاءة في مذلته
ولن يجد المناص ولو
أفلُّون ارتمى وجلًا
على قدمي حفيظ الجو
ب مزدلفًا لنجدته٢٨
هنا قف واسترح حتَّى
أوافيه وأغريه
بحربك فانثنى آخيـ
ـل مبتهجًا بجملته
وقام إلى القناة هنا
ك مستندًا وآثينا
أتت هكطور في زيٍ
به ذيفوب قد شهرا٢٩

•••

وصاحت: «يا أُخَيَّ كفى
أرى آخيل زاد جفا
وسامك بالهزيمة والـ
ـفرار أمامه الضعفا
فقف تتربصن له
فيرجع خاسئًا عنَّا»
فسكن روع هكطورٍ
وقال لها وقد وقفا:
قدرتك فوق سائر ولـ
ـد فريامٍ وإيقابٍ
فأنت شقيق هكطور الـ
ـشفيق ومن به كلفا
وكيف وقد شهدت الخطـ
ـب والطرواد طرًّا في
معاقلهم قد انحصروا
أتيت إليَّ منحدرا»

•••

فقالت: «يا أُخَيَّ أبي
وأمي قبَّلا ركبي
وكل الصحب حولهما
بقلب هد مكتئب
يروعهم روزي خا
رج الأسوار فالتمسوا
سكوني في معاقلهم
بدمعٍ سحَّ منسكب
أبت نفسي البقاء وأنـ
ـت منفردٌ لآخيل
فأقبل نشحذنَّ له
صقيل النصل والقضب
إخال دماءه هدرت
برمحك أو لأسرته
مضى في جثتينا ظا
فرًا ودماءنا هدرا

•••

وراحت تحت سترتها
لنعمل كل خدعتها
تسير أمامه فخطا
يجدُّ وراء خطوتها
وحين تقابل البطلا
ن صاح يقول هكطور:
آخيل هاك نفسي الآ
«ن جاشت في حميَّتها
أبت من بعد أن تنصا
ع هالعةً كما نفرت
ثلاثًا حول إليونٍ
أمامك في هزيمتها
وإن الآن حد الفصـ
ـل لكن فلنقم علنًا
ونعقد عقد ميثاقٍ
ونقسم ها هنا جهرا

•••

ونستشهد بني الخلد
على الأيمان والعهد
فهم خير الشهود على
الورى في القرب والبعد
لئن أوتيت نصرًا من
لدى زفس فحسبي أن
تموت وأن تجرَّد من
زهي سلاحك الصلد
ولكني أزدك للـ
ـأخاءة لا هوان ولا
أذى عدني إذا في مثـ
ـل هذا صادق الوعد»
فأحدق فيه شزرًا يلـ
ـتظي آخيل قال: «صهٍ
ولا تذكر وفاقًا لا
وفاق بينا ذكرا

•••

أبين الناس والأسد
وفاقٌ محكم العقد
وهل خلت العهود تصح
بين الذئب والنقد٣٠
فكلٌّ قلبه بضغا
ئن الأحقاد مُتَّقدٌ
كقلبٍ بيننا في غلـ
ـة الأضغان متقد
ولا عهد لنا إلَّا
نصال الصم نعملها
فيجرع آرس دم من
ثوى في هاته الجدد
فأبرز بالبراز لنا
قواك ولا مناص هنا
وقوِّم رمحك العالي
وأعمِل سيفك الذَّكرا٣١

•••

أثينا الآن تبتدر
برمحي منك تثئر
لبهمٍ قد أبدت وأنـ
ـت بالهيجاء تستعر»٣٢
وأطلق رمحه فمضى
وهكطور انحنى حذرًا
فجاوز رأسه للأر
ض لا ينتابه ضرر
ولكن بادرت فالا
س تنزعه على عجلٍ
وترجعه لآخيل
وعن هكطور تستتر
فصاح فتى الطراود: «قد
شططت وتدَّعي زورًا
بعلمٍ من لدى زفسٍ
بما لي في القضا سطرا

•••

ألفت المين والكذبا
لتثني همَّتي رعبا
فلست بطاعنٍ ظهري
ولست بمنثنٍ هربا
ودونك للقا صدري
إذا زفسٌ بذاك قضى
وذا رمحي عسى ألقا
ه في أحشاك منتصبا
فوا طرب الطراود إن
تمت فلأنت آفتهم
وبعدم حربهم لا أز
مةً فيها ولا حربا»
وزجَّ فطار عامله
لقلب مجن آخيل
وعنه ارتدَّ لا يلـ
ـقى العدو بنصله الضررا

•••

فهكطور التظى قهرا
لنصلٍ زاهقًا طرَّا
فصاح يروم ذيفوبًا
ويطلب صعدة أخرى٣٣
ولا أثرٌ لذيفوب
يلوح لديه فاضطربت
جوارحه وأدرك كنـ
ـه ذاك النكر والمكرا
وصاح يقول: «وا لهفا
أرى الأرباب قاضية
عليَّ فخلت ذيفوبًا
إليَّ مسارعًا جهرا
فلم يتعدَّ أسوار الـ
ـحصار وتلك فالاس
على عيني غشت والـ
ـحمام أراه منتظرا

•••

فلا نجوى وزفس قضى
وآفلون ما اعترضا
وكم قد أولياني قبـ
ـل ظلَّ حماية ورضا
ولكن القضاء أتى
فأهلًا بالقضاء فلا
مرد وخلته ما حط
من هممي ولا خفضا٣٤
أموت بعزةٍ تترى
لأجيال فأجيال
ومجدٍ باذخ بي فو
ق أبراج العلى نهضا»٣٥
وسلَّ حسامه من غمـ
ـده بلباقةٍ ومضى
بقلب لا تغيره الـ
ـخطوب ولا يرى الغيرا

•••

كنسرٍ من على السحب
يزف إلى رُبى كثب
على حملٍ يرى أو أر
نبٍ في مشعب الهضب
وآخيل انبرى متضر
مًا غيظًا بعزمته
بجنته التي في الكو
ن أضحت آية العجب
وخوذته التي من صنـ
ـع هيفست بهامته
تهيج منيرةً ويهيـ
ـج فيها قونس الذهب
وصعدته تؤج كما
بليلٍ حالكٍ سطعت
تفوق الزهر كوكبة الـ
ـمساء وتبهج النظرا٣٦

•••

فسرَّح طرف مقلته
بهكطورٍ وشكَّته
ليبصر منفذًا فيه
يواري حد صعدته٣٧
وهل تمضي النصال بعد
ة فطرقل كرَّ بها
وما هي قط غير سلا
ح آخيل ولأمته
فأبصر بعد حين نحـ
ـره برزت مفاصله
فبين الجيد والكتفيـ
ـن بادره بطعنته
فغاص سنانه في مخـ
ـرج الأرواح منتصبًا
ولكن في مجاري الصو
ت والأنفاس ما صدرا

•••

فخر وللثرى ضرجا
وصاح آخيل مبتهجا:
«أخلت تعست فطرقلًا
يبيد هنا ولا حرجا
أغرك أنني قد كنـ
ـت يا هكطور معتزلا
ولم تعلم لفطرقلٍ
ظهيرًا يقحم اللججا
فتًى وافاك محتدمًا
من الأشراع منتقمًا
فبدت ولم تزعزعه
قواك ولا لها اختلجا
فرح طعم النواهس والـ
ـصقور وثم فطرقلٌ
بمأتمه لفيف الجيـ
ـش سار بحرمةٍ وسرى»

•••

فقال بغصة الحتف:
«بروحك مصرعي يكفي
بحرمة والديك وركـ
ـبتيك عليك باللطف
وخذ ما شئت من أبويَّ
من ذهب ومن صفر
فلا تخلو الكلاب بجثـ
ـتي في ذلك الجرف
وجد لهما بجسمي يذ
هبان به لصرحهما
فتحرق أعظمي وعليَّ
يهمر وابل الطرف»
فصاح آخيل: «ويلك لا
بحرمة والديَّ ولا
بقبلة ركبتيَّ تجا
ب يا ذا الكلب معتذرا

•••

وددت لو أنني غضبا
بلحمك أقتل السغبا
لما جرعتني غصصًا
وما أورثتني كربا٣٨
فلا غير الكلاب تشق
رأسك لو هم بذلوا
فداءك عشر أو عشريـ
ـن فدية ميتٍ ذهبا
ولو فريام أدى ثقـ
ـل جسمك عسجدًا صرفًا
فأمك حول نعشك لن
تفيض شجًى وتنتحبا»
فقال بزاهق الأنفا
س: «آه أجل بلوتك ذا
جنانٍ كالحديد فلن
يلين أسًى وينكسرا

•••

ألست الآن تخشى أن
يهال عليك غيث محن
وتنقم لي سراة الخلـ
ـد منك ولو عقيب زمن
وتنكب يوم فاريس
وفيبوس بإسكيا
بقتلك يخمدان صلى احـ
ـتدام بالفؤاد كمن»٣٩
وأسبل فوق مقلته
ظلام الموت سترته
وأمت روحه سقرًا
تطير على أسًى وشجن
وتندب بأسه وشبا
به ومصيره فثوى
هناك وصاح آخيل
بذاك الفوز مفتخرا:

•••

«ألا مت صاغرًا وأنا
أموت إذا الحمام دنا
وروحي حين يقضي أمـ
ـر زفس تفارق البدنا»
وجر سنانه من نحـ
ـره يلقيه في طرفٍ
وجرده السلاح فنا
ل أبعد بغيةٍ ومنى
وأقبلت الأخاءة حو
ل ذاك القرم مكبرةً
جمالًا زان طلعته
كلٌ طعنةً طعنا٤٠
يقول: «ألا اعجبوا ما كان
أروعه وقد أورى
سفائننا فها هو لا
يروع ولا صلاه يرى»

•••

وآخيل مذ انتزعا
جميع سلاحه هرعا
يصيح بذروةٍ من حيـ
ـث سائر جيشه سمعا:
«ألا يا صحب يا أقيا
ل فالأرباب قد دفعت
لكم من زاد هولًا عن
جميع الجيش مجتمعا
ألا ما رمتم إليو
ن بالبتار ندهمها
لنعلم ما عليه أهـ
ـلها والخطب قد صدعا
أينصاعون منحازيـ
ـن عن أبراج معقلهم
أم ارتأوا البقاء وثا
بروا في عزمهم كبرا

•••

علام العزم قد هجسا
بصدري الكرَّ ملتمسا
وفطرقل صريعٌ لا
يفيض عليه دمع أسى
ولا قبرٌ يواريه
ولا أحباب تبكيه
فنفسي آه لن تنسا
ه ما بي رددت نفسا
سأذكره ولو في منـ
ـتهى أعماق آذيس
ولو كلٌّ سلا كلَّ الـ
ـأنام هناك إن حبسا٤١
بنا يا فتية الإغريـ
ـق سيروا للسفين إذا
بهكطورٍ على نغم الـ
ـنشيد تفرج الكدرا:

•••

«قتلنا القرم هكطورا
وعاد الجيش منصورا
فأين فتى الطراود من
كربٍ كان مقدورا»٤٢
وبالغ في الهوان فشـ
ـق كعبيه يشدهما
بسير للعجال وظلَّ
رأس الميت مجرورا٤٣
وحل بعرشه وسلا
ح هكطور براحته
وساق الجرد فاندفعت
تثير النقع ديجورا
وحالك فرع تلك الها
مة الحسناء منتشرٌ
عليها وهي سائلة
دماها تلطم الحجرا

•••

كذلك زفس ألقاه
هناك لهون أعداه
يدنَّس حسن طلعته
بعثير أرض منشاه
وإيقابٌ ببرقعها
رمت تبكي مولولةً
تقطع شعرها وتصيـ
ـح نائحةً لمرآه
وفريام لجانبها
يئنُّ بغل حسرته
وحولهما علا وبكلِّ
تلك الأرض منعاه
وضج الجيش منتحبًا
كما لو كل إليون
سعير النار ألهبها
وكل ربوعها دمرا

•••

وكاد الشيخ ينهزم
من الأبواب رغمهم
فصدوه وما كادوا
وفي أحشائه ضرم
فخر على السماد تمر
غًا مستحلفًا هذا
وذلك مستغيثًا ثم
قام يصيح بينهم:٤٤
بحقكم دعوني أبـ
«ـرح الأبراج منفردًا
إلى فلك العداة ولو
بعادي الآن ساءكم
لدى ذيالك العاتي
بشيبي وانحنا ظهري
أذِلُّ فربما لهما
بعين عناية نظرا

•••

فإن له أبًا هِمَّا
نظيري يدرك الهَمَّا
ويا لخليفةٍ أهمت
علينا الأبؤس الدهما
ومهما نالكم من شر
ه فبلتي أدهى
فكم لي في الشباب الغـ
ـض أفنى فتيةً بهما
بكيتهم وأبكيهم
ولكن كل حسرتهم
جميعًا لا توازي حز
ن هكطورٍ فوا غما
أيا هكطور حزنك سو
ف ينزل بي إلى قبري٤٥
ألا ما بين أذرعنا
صرمت بموتك العمرا

•••

لكان هنا العزا دارا
فأشبع لاعجًا ثارا
بقلب أبٍ وأمٍّ يذ
رفان الدمع مدرارا»
وغص بفائض العبرا
ت والحسرات منتحبًا
ومن حوليه دمع القو
م بحرا فاض ذخارا
وبين نساء طرواد
بدت إيقاب نادبة:
بُنيَّ علام أشقى بالـ
«ـحياة وألتظي نارا
وأنت بني مت وكنـ
ـت في يومي وفي ليلي
فخاري وابتهاجي وابـ
ـتهاج جميع من حضرا

•••

وكنت ظهيرنا البرا
تشيد لقومك الفخرا
تكاد تكون بالإجلا
ل معبود السرى طرًّا
ودفَّاع البلا عن بهـ
ـم طرواد ونسوتها
فها قد غالك الحتف الـ
ـمريع بحكمه قسرا»٤٦
وأما أنذروماخ
فما إن جاءها نبأ
بأن القرم هكطورًا
وراء حصاره خرَّا
وكانت في أعالي القصـ
ـر تنسج ثوب برفيرٍ
تبطنه وتنقش فو
قه من وشيها غررا

•••

وقد قامت جواريها
لدى النيران تذكيها
وتحمي الماء في قدرٍ
ليسبح زوجها فيها
فيا لمصابها لم تد
ر آثينا به فتكت
بكف آخيل لا غسلٌ
لبعلٍ لن يوافيها
فقامت ضجةٌ في البر
ج بين بكًى وولولةٍ
فخارت بين بلبلة
وأشجانٍ تلظيها
وكفَّاها الوشيعة منـ
ـهما سقطت بدهشتها٤٧
وصاحت بالحسان وشعـ
ـرهن جدائلًا ضفرا:

•••

«ألا منكن ثنتان
معي فورًا تسيران
لننظر ما جرى فبُكى
حماتي هاج أشجاني
فقلبي خافقٌ حتى
يكاد يطير فوق فمي٤٨
وثقلة ركبتي تكا
د تطرح جسمي العاني
أرى خطبًا فظيعًا دا
هيًا أبناء فريام
فلا طرقت نواعي الخطـ
ـب آه وآه آذاني
كأني بابن فيلا حا
ل دون قفول هكطورٍ
وفي آثاره في السهـ
ـل صال عليه مهتصرًا

•••

نعم هكطور آه لا
يذل لمحنة أصلا
ويقتحم المعامع في الـ
ـصدور ولا يرى ذلًّا»
ومن ثم انبرت تعدو
بغير هدًى ونسوتها
جرين وراءها حتى
علون المعقل الأعلى
فسرَّحت النَّواظر في
السهول فلاح هكطورٌ
به خيل ابن فيلا قد
طوت واويله السهلا
رأت وجفونها انطبقت
وفي أنفاسها شهقت
وهوت فوق وجه الأر
ض لا جبسًا ولا بصرا

•••

ومن فوق الثرى انتثرت
حليُّ الفرع وانتشرت٤٩
جدائل طرة وضفا
ئر في وفرة وفرت
وهُدَّاب الذوائب والـ
ـشباك وخير مقنعةٍ
لها من قبل عفروذيـ
ـت يوم زفافها ادَّخرت٥٠
وخفت وانبرت من حو
لها أخوات هكطور
وكلُّ نساء إخوته
تجلُّ الخطب مذ نظرت
على راحاتهن رفعـ
ـنها والنفس زاهقةٌ
وما لبثت أن انتعشت
وغيث دموعها انهمرا

•••

وصاحت تفطر المهجا:
«أيا هكطور وا وهجا
أطالعك الشقي بطا
لعي من يومه امتزجا
ولدنا أنت في طروا
د بين قصور فريام
وفي ثيبا أنا في صر
ح إيتين لعيش شجى
نشأت وليتني ما إن
نشأت بنعمةٍ لأبي
فيا لِشقا ابنةٍ وشقا
أبٍ بنشوئها ابتهجا
فأنت الآن يا هكطو
ر منحدرٌ إلى سقرٍ
وزوجك أيمًا تبقى
بصرحك تلتظي سقرا٥١

•••

وهذا الطفل في المهد
نتاج الغم والجهد
فلن تجديه نفعًا أنـ
ـت وهو النفع لن يجدي
فإن هو من خطوب الحر
ب ينجو كم بلا وبلا
يحيق به وكم عاتٍ
تجاوز خطة الحدِّ
تعيث به مطامعه
فيسلبه مزارعه
وما إن لليتيم يرى
صديقٌ صادق الود
فيطرق ذلة وتسيـ
ـل أدمعه ويذهب في
طلاب رفاق والده
إذا ما ذل وافتقرا

•••

يجر رداء ذا خجلا
ويسحب برد ذا وجلا
وإن ما نال منهم نا
ل كأسًا ما روت نهلا
يبلُّ بمائها شفتيـ
ـه ظمآنًا على ظمأٍ
وهيهات اللُّهاة على
صداها ترتوي بللا
وربَّ فتًى فخورٍ في
أبيه وأمه قحةً
على الأدبات يلطمه
ويصرخ فيه: «قم عجلا
لُعِنت فما هنا لأبيـ
ـك حظ في ولائمنا»٥٢
فيرجع أستياناسٌ
إليَّ ينوح منتهرا

•••

بحجر أبٍ وأي أب
يغذيه على الركب
على مخٍّ وشحمٍ من
سمين الضان قبل ربي
وإن أجفانه انطبقت
نعاسًا وارتوى لعبًا
على راحات مرضعه
ينام بفرشه القشب
فأضحى الآن وا ويلا
ه إذ يتَّمته طفلًا
أيا هكطور إلف عنا
عقيب اللهو والطرب
دعوه أستياناسًا
لذودك عن معاقلهم
وبتَّ الآن طعم الغضـ
ـف والديدان محتقرا٥٣

•••

وعريانًا لدى السفن
غدوت بزي ممتهن
وكم من حلةٍ لك في الـ
ـديار تجلُّ عن ثمن
سأطرحها جميعًا لـ
ـلهيب وليس لي أرب
بها من بعد أن حرمت
على ذيَّالك البدن
لتذهب حرمة لك من
لدى الطرواد محرقةً
لذودك طول عمرك عن
ذمار الأهل والوطن»
كذلك أنذروماخُ
بلاهب لبها ناحت
وكل نساء إليونٍ
ذرفن لنوحها العبرا٥٤

هوامش

(١) الأولى: أنه بيت قصيد الإلياذة يتضمن أهم حوادثها فكل ما تقدمه توطئة له وكل ماوليه ذيل. بنيت الرواية على غضب آخيل وكيده، ويتلو ذلك في الخطورة مقتل هكطور، وكلا الأمرين باديان فيه بأجلى بيان.
والثانية: أنه جمع بين السهولة والبلاغة والشدة والرقة، وأحاط بكل ما يتسنى للمخيلة أن تدركه في جميع الأبواب التي طرقها الشاعر، فبينا تراه يصعد إلى قمم الهام المنتصبة على الهمم الشماء، إذا به ينحدر إلى أعمال القلب فيثير العواطف ويهيج البكاء؛ ولهذا قال كثيرون: إنه أجمل الإنشاد.
ولست أرى نشيدًا يصلح مثله أن يكون منظومة مستقلة لا تفتقر في تلاوتها إلى ما قبلها وما بعدها، فأناشد المطالع اللبيب إذا وقع نظره على هذه الحاشية أن يتصفح هذا النشيد دفعة واحدة من أوله إلى آخره، فإذا صدق ظني به وظني أنه بصدق فليقل لله در هوميروس على هذا الاستنباط البديع الغريب، وإلا فليقل سامح الله الناقل فقد قصر في التعريب.
(٢) الجواشن: التروس.
(٣) إياك جد آخيل كثيرًا ما يعرفه الشاعر به.
(٤) اللهميم: الجواد المبرز في الرهان. والمجلي: السابق. وسيأتي وصف سباقهم في النشيد التالي.
(٥) كثيرًا ما يشبه العرب السيد العظيم بين السادة الصغار بنور كبير بين أنوار ضئيلة، كما قال هوميروس في هذا الموضع.
قالت مريم بنت جرير ترثي أخاها:
كنا كأنجم ليل بينها قمرٌ
يجلو الدجى فهوى من بينها القمر
وقال جرير في رثاء الوليد بن عبد الملك:
أمسى بنوه وقد جلت مصيبتهم
مثل النجوم هوى من بينها القمر
وقال أبو تمام:
كأن بني تمام يوم وفاته
نجوم سماء خرَّ من بينها البدر
على أن هوميروس يصف هنا آخيل حيًّا ويزيد تشبيهه بلاغةً ما استطرد إليه في البيت التالي بقوله:
تؤج وإنما يصلى الورى من حرها نارا
كأنه أراد أن يقول: إنه وإن شاق منظرهُ وعظمت هيبته ففيه النكال في الهيجاء والوبال على الأعداء.
(٦) فذًّا، أي: منفردًا.
(٧) يقول ودوه ودي تهكمًا، أي: أبغضوه بغضي.
(٨) أحس فريام بالخطر المحدق به، فتكلم كلام المتنبئ بما سيناله وبلاده من البلاء العميم بعد مقتل هكطور، وفوز الإغريق فسرد الدواهي الدهم التي تنتاب الأمة المغلوبة على بلادها، وقد سبق للشاعر مثل هذا المعنى في النشيد التاسع؛ إذ قال:
للمباني حرقًا وللقوم ذبحًا
والغواني والولد ذلًّا وأسرا
ولكن الشاعر زاد هنا في التفصيل فأكثر بلسان فريام من ذكر الملمات الشداد كبحًا لجماح هكطور.
(٩) مهما قيل في استعطاف أب لابنه لا يمكن أن يقال أبلغ من خطاب فريام لهكطور، ملكٌ كبير وشيخٌ هرم ذو بسطة وجاه وسلطان، برحت به الأيام فهدَّت أركان همته وعزيمته وقوضت دعائم مجده، وناطت بقية آماله بولد يراه على قاب قوسين أو أدنى من الموت الزؤام، ومن وراء ذلك دك البلاد والفتك بالعباد فتتوالى عليه الذكرى لما سلف، ويأخذه الإشفاق من الخطب الفادح القريب فيجمع بقية حواسه وينهض لدرء الخطب، وقلبه يتلظى تلهفًا على ابنه ومحط آماله، ثم على آله وبلاده ونفسه فيشرع في تحذير هكطور من خصمه الباسل، ولا يكد يذكر اسم ذلك الخصم حتى تتوارد على خاطره سوابق فتكه فيتوجع ويتفجع ويتمنى لو راحت جثته مطعمًا للطير والكلاب، وهو على كل ما ناله من المصاب يرى سبيلًا إلى العزاء إذا نجا هكطور من ذلك المأزق الحرج، ولما كان فريام على يقين أن هكطور لا يرضى عار الاحتجاب ولو انتصب له الموت التمس له عذرًا عظيمًا، بأن في لياذه إلى السور شرفًا أرفع ومجالًا أوسع لإبراز بأسه وقوة ساعده حيث يقيم مقاتلًا، فيذود عن البلاد والجند ويحفظ الأهل والولد، وشرح له بعد ذلك ما يكون من عقبى عناده لو بقي خارج السور، وأتى بكلام يخرق اللب على وصف ما يأول إليه أمر المنازل والمعاقل والبنين والبنات والأطفال والكنات، ثم أخذ في رثاء نفسه ووصف مآل أمره لما يعلم من حب هكطور له وبره به، واختتم بتلك المقابلة الفريدة بين هلاك الفتى قتيلًا خالد الأثر رفيع المنار، وهو يذود عن الأوطان، وموت الشيخ ذليلًا مغلول الذراع بأكناف الديار ميتة الضعة والهوان.
(١٠) لئن أتى فريام بأبلغ أقوال الرجال والآباء فقد أتت زوجته بأبلغ أقوال الأمهات والنساء، وكفى بكشف صدرها خطابًا ناطقًا لا تعادله بلاغة في مقال، ثم هي الأم الشفيقة لا تتفجع إلا على ابنها، وما تئول إليه حالها من بعده، فلا تتخطى بكلامها هذا الحد فناحت نوح النساء، وناح فريام نوح الرجال وحفظة الذمار والملوك الكبار.
(١١) يقول ذلك إشارة إلى الجدال العنيف الذي جرى بينه وبين فوليداماس في النشيد الثامن عشر، حيث أشار عليه فوليداماس باللياذ إلى المعاقل فأبى هكطور واستكبر.
(١٢) الجحد: قليل الخير، والمراد بالعمد: الرؤساء.
(١٣) هذه آخر مبارزة في الإلياذة وبها تنتهي وقائعها، والمبارزات في ما سلف وإن كانت تعد بالعشرات فليست بحصر المعنى من باب البراز البحت إلا في ثلاثة مواضع؛ أولها: وأجدرها بالذكر براز منيلاوس وفاريس، في النشيد الثالث؛ إذ كان يترتب عليه حقن الدماء وإخماد الفتنة لو بر الطرواد بميثاقهم، وهو من وجه آخر براز معقول لوقوعه بين زوج سبية وسابيها. والثاني: وإن لم يكن أقلها خطورة فهو أقلها تأثيرًا بمجرى الوقائع؛ لأنه من المبارزات التي تقع كل حين بين المتبارزين في الحروب، لا يترتب عليها عقد سلام وغمد حسام، نعني به براز هكطور وإياس في النشيد السابع، والثالث: هو أعظمها براز هكطور وآخيل هذا لوقوعه بين بطلين، كلٌّ منهما عماد جبينه على الإطلاق. وهو وإن لم يكن من لوازمه كف الكفاح ووضع السلاح، فقد كانت فيه الضربة القاضية على فريق من المتحاربين.
وفي كتب العرب من مثل هذه المبارزات أشباه لا تحصى ببعض خلاف. ذكر صاحب الأغاني (٨٠:١٠) برازًا لجميل وتوبة من أجل بثينة نورده لغرابته، قال: «كان توبة قد خرج إلى الشام فمر ببني عذرة، فرأته بثينة فجعلت تنظر إليه فشق ذلك على جميل، وذلك قبل أن يظهر حبه لها فقال له جميل: من أنت؟ فقال له: أنا توبة بن الحمير. قال: هل لك في الصراع؟ قال: ذلك إليك، فشدت عليه بثينة ملحفة مورسة فاتزر بها ثم صارعه فصرعه جميل، ثم قال: هل لك في النضال (رمي السهام)؟ قال: نعم، فناضله فنضله جميل، ثم قال: هل لك في السباق؟ فقال: نعم، فسابقه فسبقه جميل. وقال له توبة يا هذا إنما تفعل هذا بريح هذه الجالسة ولكن اهبط بنا الوادي فلما هبطا صرعه توبة ونضلهُ وسبقه»
وفي وقعة بدر الكبرى جرت مبارزات كثيرة بما يدل على شيوع تلك العادة في الجاهلية، ثم بقيت في الإسلام، وكان لها فيه شأن عظيم.
(١٤) أي: نعطيه علاوة على أموال هيلانة، وما أتى به فاريس يوم سباها نصف ما في خزائننا من أموالنا، ويقسم الشيوخ أنهم لم يخفوا شيئًا منها.
(١٥) تلك مناجاة هكطور لنفسه يتردد تردد الشاعر بقرب الأجل، ثم يؤثر الموت وهو يكافح العدو على النجاة نجوة الهزيمة والعار.
(١٦) قد كنت أود أن لا يشوه جمال هذا النشيد بفرار هكطور من وجه آخيل، ولا أراها إلا هفوة من أستاذنا هوميروس مهما أمكن أن يقال في الدفاع عنه، وسبحان المعصوم؛ لأن بطلًا كهكطور يتحرق نهاره وليله لقتال آخيل، ثم يناجي نفسه تلك المناجاة، ويعول على ورود كأس الحمام مؤثرًا ذلك على الهزيمة، ويتقدم لبراز خصمه، ثم ما هو أن رآه حتى فر منهزمًا، لا يجدر به أن يكون بمقام هكطور، ولقد التمس الشراح لهوميروس أعذارًا كثيرة منها قولهم: إنه لو لم يكن محل لهذا الفرار لما تحداه فرجيليوس، وجعل طورنوس يفر من وجه آنياس، ومع كل ذلك فما قرأت قط هذه الفقرة إلا وددت أن لا تكون.
(١٧) جدد العجال: طريق المركبات، ومرقب الأرصاد الموضع المشرف الذي كانوا يرقبون منه العدو.
(١٨) يظهر جليًا من كلام هوميروس أنه كان يجري إلى نهر زنثس ينبوع ماء حار، وليس كذلك الآن ولعل هذا الينبوع كان موجودًا في أيامه، فغار في الأرض بعد ذلك.
(١٩)
هزبرٌ مشى يبغي هزبرًا ومغلبًا
من القوم يغشى باسل القوم أغلبا
(البحتري)
(٢٠) أي: لذبيحة يضحي بها.
(٢١) القياديد: الطوال من الحيوان، والمراد هنا الخيل. والصيد الزعماء — كان من عادتهم أن يتراهنوا ويتسابقوا في المآتم، كما سترى في النشيد التالي بمأتم فطرقل.
(٢٢) الأغضف: الكلب، وكناس: الريم أو الظبي بيته.
(٢٣) أي: إن هكطور كان يحاول أن يدفع آخيل إلى الحصون، حيث يمكن أن تدركه نبال الطرواد، وآخيل يقف بوجهه فيصده عن الجري وجهة إليون.
(٢٤) قال أبو النجم العجلي:
طيف سرى يخبط أفنان السمر
أنى اهتدى مضجع حيران حسر
ولم يكن إلا كما ارتد النظر
كالكوكب انقضَّ أو البرق خطر
بقدر ما تفر وجدي ونفر
(٢٥) كان آخيل أعدى أهل زمانه، فلم يكن من المعقول أنه يعجز عن إدراك هكطور، ولهذا قال الشاعر: إن أفلون أفرغ في هكطور قدرته فبطل العجب ودُفع الاعتراض، قال هذا حتى لا يقول: إن المنهزم بطلب النجاة أجد في السير من الساعي للانتقام.
(٢٦) في المقطوعة السابقة يحاول هكطور أن يدفع آخيل إلى مرمى النبال، وهنا آخيل يومئ إلى صحبه أن لا يرموه بنصل ولا بنبل، فذاك سابق فار يطلب النجدة، وهذا لاحق كار يأباها بل يخشاها؛ لأن له ثأرًا يود أن يأخذ به بيده لا بيد قومه وطمعًا بفخار يضن به على غيره.
(٢٧) أبو العباد: زفس، أي: إن زفس ألقى قدحي موت في كفتي ميزانه الذهبي؛ ليرى بموت أي البطلين يقضي، فهبطت كفة هكطور دلالة على أفول نجمه وحلول أجله. راجع ما تقدم في حواشي النشيد الثامن.
(٢٨) حفيظ الجوب: رب الترس وهو زفس، أي: نقتل هكطور ولو توسط له أفلون فترامى على قدمي زفس.
(٢٩) ذيفوب من إخوة هكطور.
(٣٠) النقد: صغار الغنم، ويراد بها الغنم على الإطلاق.
(٣١) قال بعضهم:
وردوا إليك الرسل والصلح ممكن
وقالوا على غير القتال سلامُ
فلا قول إلا الضرب والطعن عندنا
ولا رسل إلا ذليل وحسامُ
(٣٢) لا غرو أن يكون هذا التباين بين كلام هكطور وآخيل، فهكطور الفتى الباسل الورع الغيور على حفظ مقامه حيًّا وميتًا، وليست في صدره تلك الحزازة على آخيل، بل قد روى غلته بالفتك بفرسان الإغريق، وآخيل المغوار الغضوب الواثق بالفوز عليه فلا يعاقده ويواثقه، ولا يبرد غله أن يظفر به حيًّا بل يسوقه الغيظ والثأر إلى أن يكسوه رداء الحطة والشنار ميتًا.
(٣٣) الصعدة: النصل
(٣٤) قال شبيب بن البرصاء:
دعيني أماجد في الحيوة فإنني
إذا ما دعا داهي الوفاة مجيب
(٣٥) لا كلام أشد تأثيرًا من كلام هكطور هذا، تخلت عنه جميع القوى العلوية، فغادره أفلون وصرف زفس وجهه عنه، وأيقن بدنو أجله وهو لا يفكر ساعة موته إلا أن يموت ميتة البطل الباسل، عظيم الأجر خالد الذكر.
(٣٦) يريد بكوكبة المساء الزهرة، ويدعوها أيضًا كوكبة الصباح، وكوكبة الراعي.
(٣٧) كانت على هكطور شكة آخيل التي ألبسها فطرقل فلم يكن من سبيل لاختراقها بضرب وطعن، ولهذا تشوف آخيل وأحدق ليرى له منفذًا بجسم هكطور يطعنه به.
(٣٨) السغب الجوع. قال عمر بن أبي ربيعة عن لسان عائشة بنت طلحة:
حتى لو أستطيع مما قد فعلت بنا
أكلت لحمك من غيظ وما نضجا
ويقرب منه قول ذو الأصبع العدواني:
لو تشربون دمي لم يرو شاربكم
ولا دماؤكم جمعًا ترويني
(٣٩) يتنبأ هنا هكطور ساعة موته بدنو أجل آخيل، كما تنبأ فطرقل وهو يحتضر بدنو أجل هكطور، وفي هذا دليل آخر على أنهم كانوا يعتقدون أن نفس المحتضر تنطق بالمغيبات — وكأن هكطور يقول لآخيل قول الحارثة بن بدر:
يا أيها الشامت المبدي عداوته
ما بالمنايا التي عيرت من عار
تراك تنجو سليمًا من غوائلها
هيهات لا بد أن يسري بك الساري
أو قول الفرزدق:
إذا ما الدهر جر على أناسٍ
كلاكله أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا
سيلقى الشامتون كما لقينا
(٤٠) يستفاد من هذه العبارة وما أشبهها أنهم كانوا يمثلون بالقتلى، كسائر الأمم في العصور الخالية — كانت المثلة كثيرة في جاهلية العرب، حتى لربما خرج النساء إلى ميدان القتال ومثلن بقتلى الأعداء أشنع مثله، قال ابن الأثير: «ووقعت هند وصويحباتها (في غزوة أحد) على القتلى يمثلن بهم، وقد اتخذت هند من آذان الرجال وآنافهم خزمًا وقلائد». ولكن الإسلام بعد تلك الغزوة نهى على المثلة، ذلك أنه لما قتل حمزة بن عبد المطلب عم النبي ، ووقف عليه النبي وقد مثل به كان منظره موجعًا لقلبه فقال له: «رحمك الله أي عم، فقد كنت وصولًا للرحم فعولًا للخيرات، فلئن ظفرني الله بالقوم لأمثلن بثلاثين رجلًا منهم». قال مؤرخو العرب: فنزلت الآية: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ فصبر النبي ونهى عن المثلة.
(٤١) أي: لن أنساه حتى ولو مت وانحدرت إلى أعمال الجحيم، حيث ينزل كل ميت وحيث ينسى كل إنسان جميع الناس — هذا آخيل ثمل بخمرة الانتصار يفتك بألد خصومه، وتذل له أعداؤه، وتبتهج به أحباؤه، فلم يبق من ثمة مانع يمنعه من دك معاقل الطرواد، وكلهم هالع رعبًا فيهم بالاندفاع إلى إليون مع جيشه المنتعش، وإذا بذكرى فطرقل تهيجه أسى فيرجئ ذلك إلى أن يتم الاحتفال بمأتم حبيبه، فيؤثر واجب الولاء على إبادة الأعداء، وهو تصرف من الشاعر بديع؛ إذ أسلف أن تدمير إليون لا يتم على يد آخيل فلم يكن يصح أن يخالف ماضي قوله، فالتمس لآخيل بالعودة عذرًا هو أجمل الأعذار.
(٤٢) إن سير الجماعات على نغم الإنشاد عادة متبعة منذ القدم في جميع الأمم، ولا سيما إذا كانوا سائرين في مهمة لأمر جلد، يشبه غناء الإغريق هنا وهم راجعون إلى سفائنهم. تغني بنات إسرائيل عند رجوع داود من مقتل جلياد الجبار الفلسطيني؛ إذ هتفن وقلن: «قتل شاول ألوفه وداود ربواته» (١مل٧:١٨)، والغالب في هذه الأغاني أن تكون عبارات مختصرة تكرر وتردد مرارًا، كما هي العادة اليوم في بادية العرب، يقول واحد أو أكثر من المنشدين قسمًا منها ويردد الباقون ما بقي، وعلى هذا فلا أخال إلا آخيل منشدًا وحده قوله:
فنلنا القرم هكطورا
وعاد الجيش منصورا
والباقون يرددون قوله:
فأين فتى الطراود من
كرب كان مقدورا
وتعرف هذه الأناشيد عند عرب البادية لعهدنا باسم «الهوسة» يدعونها بهذا الاسم؛ لأنهم يتهوسون به لأمر خطير، ولكل عشيرة منهم هوسة خاصة بها، فهوسة عنزة «القلايع ياسبقة. خيال العشوة مطرفي» يتحمسون بذلك على أخذ قلائع الفرسان. وهوسة شمر «وصبيان زوبع يا هلي» يقولون ذلك من باب المنافرة والحماسة. ولهم فضلًا عن ذلك هوسات ينظمونها عند مسيس الحاجة، كقول عشائر الهندية وهي تحارب مدحت باشا والي بغداد بقيادة شيخها وادي: «قم وادي وبغداد ارتجت» وهي عبارة يرددونها مئات وألوفًا من المرات.
(٤٣) شق آخيل كعبي هكطور ليربطه إلى المركبة فيجره، كما كان يروى في جاهلية العرب عن ربط الأسرى والقتلى بأذناب الخيل، وهي مبالغة في الهوان وغير جديرة بمخلوق يدعي أنه إنسان، ولكنه لم يكن بد من ذكر ذلك استكمالًا لعتو آخيل وجريه على مألوف ذلك العصر، ولربما تنبه القارئ مما رأى قبل هذا أنه حيث اضطر الشاعر إلى ذكر شيء من الفظائع ذكرها استتمامًا للفائدة، ولكنه لا يلبث أن يستهجنها ويشمئز لها، كقوله في هذا الموضع: «وبالغ في الهوان» كأنه يريد أن يقول: إن الفظيع من الأعمال إنما يذكر تنفيرًا لناس منه وليس ارتياحًا لحفظ الرواية عنه.
(٤٤) كانت عادة الأقدمين إذا أصيبوا بمصيبة أن يذروا التراب على رءوسهم، ويجلسوا على الرماد والسماد، فإن أيوب لما ابتلي جلس على الرماد، ولما عاده أصحابه: «رفعوا أصواتهم وبكوا، وشق كلٌّ منهم رداءه، وذروا ترابًا فوق أرؤسهم نحو السماء، وجلسوا معه على الأرض» (أيوب ١٢:٢–١٣).
(٤٥) كثيرًا ما يقال هذا الكلام عند اشتداد الحزن على فقيد، قالت الخنساء:
فلا والله لا أنساك حتى
أفارق مهجتي ويشق رمسي
(٤٦) ما أشبه رثاء إيقاب برثاء أم بسطام بن قيس لابنها بسطام المقتول يوم الشقيقة بين بني شيبان وبني ضبة بن أدّ، قالت:
ليبك ابن ذي الجدين قيس بن وائلٍ
فقد بان منها زينها وجمالها
إذا ما غدا فيهم غدوا وكأنهم
نجوم سماء بينهن هلالها
عزيز المكر لا يهد جناحه
وليث إذا الفتيان زلت نعالها
وحمال أثقال وعائد محجرٍ
نحل إليه كل ذاك رحالها
سيبكيك عانٍ لم يجد من يفكه
ويبكيك فرسان الوغى ورجالها
وتبكيك أسرى طالما قد فككتهم
وأرملة ضاعت وضاع عيالها
مفرج حومات الخطوب ومدرك الـ
ـحروب إذا صالت وعز صيالها
فقد ظفرت منا تميم بعثرة
وتلك لعمري عثرة لا تنالها
(٤٧) الوشيعة: خشبة النسج.
(٤٨) راجع ما تقدم لنا بهذا المعنى (ن ٩). قال الشماخ:
وبات فؤادي مستخفًا كأنه
خوافي عقاب بالجناح خفوق
ومن هذا القبيل قول عنترة:
كأن فؤادي يوم قمت مودعًا
عبيلة مني هاربٌ يتفججُ
(٤٩) الفرع: الشعر.
(٥٠) يظهر من وصف هوميروس لحلي شعر النساء أنهنَّ كنَّ يجدلن شعرهن ويضفرن الوفرة التي في مقدمة الرأس، وحول الصدغين، ويلقينها مضفورة على قمة الرأس، ويجمعن إليها الذوائب، ويسبلن على كل ذلك شبكة تجمعه، ثم يضعن البرقع، أو القناع على الوجه، وفي ذلك من حسن الذوق ما لا يفوقه تفنن بنات عصرنا.
(٥١) من رثاء عاتكة بنت عمرو بن نفيل لزوجها عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق:
فآليت لا تنفك نفسي حزينة
عليك ولا ينفك جلدي أغبرا
فتى طول عمري ما أرى مثله فتى
أكرَّ وأحمى في الهياج وأصبرا
إذا شرعت فيه الأسنة خاضها
إلى القرن حتى يترك الرمح أحمرا
(٥٢) تتلهف أنذروماخ على ما سينال ابنها اليتيم من الذل في الولائم، وذلك مصداق قول العرب «أضيع من الأيتام في موائد اللئام» — الظاهر من مواضع كثيرة في الإلياذة أن مآدب القوم كانت كثيرة الأشكال مختلفة الأحوال، يعنون بها ويفخرون، ولكنه لم يفصل أنواعها كما جاء أكثرها مفصلًا في كتب العرب، وقد جمعها صاحب مجمع البحرين بقوله:
للنفساء الخرس والعقيقة
للطفل عند عارف الحقيقة
كذلك الإعذار للختان
وذو الحذاق حافظ القرآن
للخطبة المِلاك والوليمه
للعرس والميت له الوضيمه
وللبناء جعلوا الوكيرة
وهلال رجب العقيره
وقيل تحفة لزائر يرد
وشندحٌ لما يضلُّ إذ وَجد
كذا نقيعة القدوم من سفر
ثم القرى للضيف عندما حضر
وحيثما لم يك من ذاك سبب
فإنها مأدبة عند العرب
وإن تعم دعوة فالجفلى
تدعى وإن خصت فتلك النقرى
(٥٣) الغضف: الكلاب، ومعنى استياناس ملك المدينة، وهو الاسم الذي يسمي به الطرواد ابن هكطور، أما الاسم الذي كان يعرفه به أبواه فهو اسكمندريوس. (راجع ن ٦).
(٥٤) لا أحاول وصف بدائع المعاني بل معجزاتها في منائح أبي هكطور وأمه وامرأته، فقد تستحيل عليَّ توفيتها حقها، وإني مجتزئٌ باستلفات نظر المطالع إلى تصرف الشاعر، الذي لا يفوته جزئي ولا يغفل عن كلي فيضع كل شيء موضعه، كأن الشعر بين يديه طينة يجيل منها ما شاء لما شاء.
أبرز لنا بادئ بدء فريام الشيخ يستطلع طلع الأخبار شأن الملك الساهر على رعيته، فكان أول شاهد لمقتل ابنه فأخذه الجزع واليأس، وما بعد ذلك إلا أن يتمرغ على الأرض ويلتطم وينوح، ويهم بالإلقاء بنفسه إلى خارج الأسوار بغير هدى فرارًا إلى قاتل ابنه، يستوهبه إياه ميتًا ليحتفل بمأتمه قيامًا بواجب الملك القاضي بإجلال ذكر الأبطال، وواجب الأبوة القاضي بإعلاء ذكر البنين، ثم بدت لنا إيقاب تندب ابنها ندب الأمهات اللائي علمن بعجز رجالهن ورمين بكل أبصارهن إلى أبنائهن البارين بهن المشفقين عليهن، وإذ انتهى من ذلك مثل لنا أنذروماخ فكان بمرآها ومبكاها صورة ناطقة للمرأة الأيتم وبين يديها طفلٌ يتيم، لا يعي شيئًا من ذلك المصاب الأليم، وإنما ستكون حياته كلها ألمًا ومصابًا، فكان حزنها فوق حزن الأمهات والآباء، وبلاؤها فوق كل بلاء، ولم يوقفها مع من وقف على السور؛ إذ أراد أن يبين أنها أشغل بزوجها منه بسواه حيًّا وميتًا، فهي تنسج له (أو لابنه) ثوبًا من البرفير، وبين يديها الجواري يعدون له الماء ليغتسل من غبار المعارك، وله بذلك مأرب آخر وهو أن يوطئ تلك التوطئة ليبلغها الخبر فجأة، فيكون له في نفسها ذلك الوقع ليرسم الحزن بأشقى حالاته، وما هي أن بصرت بزوجها صريعًا حتى شهقت «وأهوت فوق وجه الأرض لا حسًّا ولا بصرا»، وما انفتح جفناها حتى أخذت تنوح تلك المناحة التي تتفتت لها الأكباد، ويتفطر الجماد بعبارة ترى على سذاجتها صاعدة من لب الفؤاد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤