النشيد الرابع والعشرون

إعادة جثة هكطور إلى أهله

مُجْمَلُهُ

أرفض جيش الإغريق إلى سفنهم يستطيبون الزاد والرقاد.

وظل آخيل والكرى قاتل الأسى
بذكراه فطرقلًا يؤرقه السهدُ

ولما لاح الصباح دار ثلاثًا حول قبر فطرقل بجثة هكطور، فعطفت الآلهة على هكطور وسعت في إنفاذ هرمس لرفع الجثة، فعارضتهم هيرا وأثينا، فاستدعى زفس ثيتيس فحاسنها وأنبأها بأنه يود أن يعيد آخيلُ جثة هكطور إلى والده الشيخ، فذهبت ثيتيس بالأمر فاستمع آخيل مطيعًا، ثم أنفذ زفس إيريس إلى فريام يأمره بافتداء ابنه، فأخبر فريام امرأته بذلك فعارضته، ولم تذعن حتى اطمأنت برؤية نسر أرسله زفس، فركب فريام مركبته واستصحب أذيوس وأدركه هرمس في السهل ورافقه حتى أدخله إلى خيمة آخيل ولم يشعر به أحد، فقبل آخيل الفداء وسلم فريام الجثة ووادعه أحد عشر يومًا ليتسنى له القيام بمأتمه، ولما أظلم الليل أيقظ هرمس فريام وسار به قافلًا إلى إليون، ولما قارب البلد أبصرت كسندرة ابنته جثة أخيها يعود بها أبوها، فصاحت وناحت واندفع الناس أفواجًا لملاقاة ملكهم، فدخل فريام واستقبله الجمهور، ورثت هكطورَ امرأتُه أنذروماخُ وأمه إيقاب وامرأة أخيه هيلانة، ثم بادر الجمع إلى الاحتطاب وأضرموا النار وقضوا بالمأتم عشرة أيام، ثم جمعوا عظامه ودفنوها في قبر أعدوه له.

ولهم قسم المليك طعاما
كان في مأتم الفقيد ختاما

يستغرق هذا النشيد ثلاثة وعشرين يومًا منها اثنا عشر يومًا أثناء إقامة جثة هكطور خيمة آخيل، وأحد عشر يومًا مدة الهدنة ومجرى الحوادث في خيمة آخيل وإليون.

النشيد الرابع والعشرون١

إلى الفلك لما ارفضَّ ذيَّالك الحشد
تفرق يبغي الزاد والوسن الجند
وظلَّ آخيل والكرى قاتل الأسى
بذكراه فطرقلًا يؤرقه السهد
ينوح على إقدامه وزماعه
وكل سجاياه لخاطره تبدو
ويذكر كم حربًا بها جُهدا معًا
وكم بعباب البحر نالهما الجهد
يكب فيستلقي يسيرًا فينثني
على صفحتيه والهواجس تشتدُّ
فينهض ملتاعًا تسح دموعُه
وفي الجرف يجري جري من فاته الرشد
فهام إلى أن أبلج الفجرُ ساطعًا
به يستضيء البحر والغور والنَّجد
لمركبه شدَّ الجياد وخلفه
لقد شدَّ هكطور على الترب يمتدُّ
على قبر فطرقلٍ ثلاثًا به جرى
وعاد ابتغاء النَّوم للخيم يرتدُّ
وغادر هكطورًا مكبًّا على الثرى
ولكن فيبوسًا به هاجه الوجد
فمدَّ عليه عسجدي مجنه
فلا مَسَّهُ ضرٌّ ولا مُزِّق الجلدُ٢
فساءت بني العليا مهانته لذا
لدى هرمسٍ طرًّا بإنقاذه جدُّوا٣
على أن آثينا وهيرا وفوسذًا
تصدوا ولكن ليس يجديهم الصد
(على قدس إليونٍ وفريام لبهم
وأقوامه ما زال يلهبه الحقد
ففاريس سام الرَّبَّتين مهانةً
بمرعاه قدمًا وهو غضُّ الصبا وغدُ
غدا قاضيًا بالفضل للرَّبة التي
أباحت له بئس المنى ومضت تغدو)٤
ومذ لاح ثاني عشر فجرٍ مقاله
أفلون ألقى يستشيط ويحتدُّ:
«بني الخلد آل الجور كم ساق سخلةٍ
وثورٍ لكم هكطور من قبل أحرقا
فها هو ميتٌ ليس من تستفزُّه
لإنقاذه نفسٌ تجيش ترفقا
فترمقه زوجٌ وأمٌّ ووالد
وطفلٌ وشعبٌ هام وجدًا ليرمقا
يقومون بالفرض الأخير وحوله
تألق نيران الوقود تألقا
فآخيل آثرتم وآخيل ما أرى
به أثرًا للدين والعدل مطلقا
كليثٍ غشومٍ فاتكٍ متغشمرٍ
دهى السرب منقضًّا وعاث ومزَّقا
فما هو ذو رفقٍ وقد غادر التقى
نعم والحيا أس السعادة والشقا
فقد يفقد المرء ابنه وشقيقه
وخِلًّا فيبكي ناحبًا متحرقا
فيسلو وللأقدار حكمٌ إذا مضى
رأيناه قلب الخلق للصبر شوقا٥
وهذا آخيل منذ قَتْلِ عدوه
يجرره حول الضريح معلقا
فما ذا ليجديه ومهما عتا فهل
بأمنٍ غدا من أن نغاظ ونحنقا
ونستاء من إفراطه بإساءةٍ
لجسمٍ فقيد الحس بالترب ألحقا»
فصاحت به هيرا: «ولو كفؤًا غدا
لآخيل هكطور مقالك صدقا
فذاك غذت إنسيةٌ بلبانها
وذا ربةٌ ربَّت وفي المجد أعرقا
بحجري قد أنشأتها وأبحتها
لفيلا الذي مرقاة وذكم رقى
حضرتم جميعًا للزفاف وليمة
بها كلكم حول الطعام تأنَّقا
وقد كنت بالقيثار في العرس عازفًا
أربَّ الخنى إلف الأولي نبذوا التقى»٦
فعارضها زفسٌ وقال لها: «قفي
أهيرا وأبناء العلى لا تعنفي
فهكطور لن نرى كآخيل إنما
بإليون لا مرء كهكطور نصطفي
مدى عمره لم يسه عن قرباته
لنا وعن التبجيل لم يتوقَّف٧
ولم يخل يومًا مذبحي من مدامةٍ
وشحمٍ وإيلامٍ بحسن تصرُّفِ
وما أنا باغٍ أن نواريه خفيةً
فما الأمر عن آخيل قط ليختفي
فثيتيس بالمرصاد في كل ساعةٍ
عليَّ بها أسترضها بتلطف
فيقبل من فريام آخيل فدية
ويدفع هكطورًا إليه ويكتفي»
فإيريس هبَّت كالرياح تغوص في
خضم عباب البحر يدوي لها الجدُّ
وما بين ساموس وإمبرسٍ مضت
إلى القعر حيث اليم في اللُّج مربدُّ
كما دون قرن الثَّور غاصت رصاصةٌ
لأسماكه فيها المنية تعتدُّ٨
فثيتيس ألفت في غيابة كهفها
وحشد بنات الماء من حولها عقد٩
تنوح على ابنٍ في بعيد اغترابه
من الموت في طرواد ليس له بد
فصاحت: «أثيتيس انهضي زفس ذو النهى
لقاءك يبغي فاستطيري إلى اللقا»
فقالت: «وماذا رام ذو الطَّول إنني
أنا أتحاشى مجلس الخلد والبقا
ولكن بنا سيري فمهما يهج أسًى
فؤادي ففي زفس الجلال تحقَّقا
ومهما يكن من نطقه ومقاله
بغير صوابٍ لن يفوه وينطقا»
وإيريس سارت وهي طارت وراءها
عليها نقابٌ حالك اللون مسودُ
أمامها انشقَّ العباب فهبَّتا
من الجرف للعلياء حيث ثوى الخلد
وحيث ميامين العلى منتداهم
به زفس رب المجد كلله المجد
لدى زفس فورًا أجلستها بعرشها
أثينا وهيرا أقبلت نحوها تعدو
وهشَّت تعزيها وألقت بكفتها
لها قدحًا يزهو بعسجده الوقد
ولمَّا قضت منه ارتشافًا وأرجعت
لهيرا فزفسٌ صاح يبلغ ما القصد:
«أثيتيسُ إني بالتياعك عالمٌ
وقد جئتني طوعًا فبغيتي اعرفي
سراةُ العلى شقَّ الشقاق لفيفها
لتسعة أيامٍ ولم تتألف
وهرمس حثثت أن يسير بخلسةٍ
بجثة هكطور الصريع فتشتفي
ومذ رمت أستصفيك ودًا وحرمةً
لآخيل أبغي فضل هذا التعطف
فطيري إليه بلغي غيظ قومنا
ومن فوقه غيظي وفرط تأسفي
فهكطورًا استبقى لدى الفلك حانقًا
ليرجعه خوف السخط إن يتخوَّف
وها أنا إيريسًا لفريام منقذٌ
ليمضي إلى الأسطول حق الفدا يفي
فيتحف آخيلا بما طاب قلبه
به من عتاد شائق ومزخرف»
فلبت وهبَّت من ذرى الطود تنثني
لخيم ابنها القته أكمده الكمد
وقد ذبح الأنصار إذ ذاك نعجةً
وداروا حواليه وزادهم مدُّوا
فخفَّت تحاذيه ومنها تزلفًا
تدور على أعطافه الكف والزند
وقالت: «إلى مَ القلب تقضم كأبةً
ولا زاد تبغي أو فراشًا منمقا١٠
ولا بأس أن تلهو آخيل بغادةٍ
فسهم المنايا موشكٌ أن يفوقا١١
بُنَيَّ وزفس اختصَّني برسالة
فحقدك أرباب السيادة أقلقا
فغيظوا وزفس اشتدَّ يلهب غيظه
لحفظك هكطورًا لدى الفلك موثقا
به ادفع وخذ عنه الفكاك بديله»
فقال: «قضى زفسٌ ولا ريب مشفقًا
ليات إذن من يبذل المال فديةً
فيرجع فيه شائقًا ومشوقا»١٢
فهذا حديث الأم في الفلك وابنها
وزفس دعا إيريس قال لها: «ادلفي١٣
بلاغي من شم الأولمب به اذهبي
وفريام في إليون بالأمر كلفي
ليذهب إلى الأسطول هكطور يفتدي
وآخيل يسترضي وبالغرِّ يتحفِ
ولا يمض معه غير فيجٍ معمر
لسوق بغال المركب الآن مسعف
ويرجع فيها قافلًا بابنه الذي
قد اجتاح آخيل بحد المثقَّف
ولا يضطرب خوفًا ولا يرهب الرَّدى
فقاتل أرغوصٍ نسير فيقتفي
فذاك دليلٌ معه يذهب آمنًا
لمنزل آخيل بآمن موقف١٤
وآخيل لن يغتاله متعسفًا
ويحميه ممن رامه بتعسف
فلا هو ذو جهلٍ ولا ذو حماقةٍ
ولا نابذ التقوى بشر التعجرف١٥
فإيريس مثل الريح فريام يمَّمت
فألفته وسط الدَّار من حوله الولد
ولم تلف غير النوح بلت ثيابهم
دموعهم والعزم بالحزن منهد
وفريام مما قد حثا متمرغًا
يدنسه خثي ويكنفه برد١٦
وفي صرحه كنَّاته وبناته
ينحن لبهم بعدهم عظم البعد١٧
تدنَّت إليه وهو منتفض أسًى
برعدته مما به برَّح الفقد
وقالت برفق: «يا ابن دردانسٍ فلا
تخف فبأنباء الأسى لم أكلف
ولكن بخير العلم زفس أسارني
نعم وهو أسمى مشفقٍ لك منصف
يقول امض للأسطول هكطورًا افتدى
وآخيل فاسترضى وبالغر أتحف١٨
ولا معك يمضي غير فيجٍ معمرٍ
لسوق بغال المركب الآن مسعفِ١٩
فيرجع فيها قافلًا بابنك الذي
قد اجتاح آخيل بحد المثقف
ولا تضطرب خوفًا ولا ترهب الرَّدى
فقاتل أرغوصٍ يسير فتقتفي
فذاك دليلٌ معه تذهب آمنًا
لمنزل آخيل بآمن موقف
فآخيل لن يؤذيك منه تعسفٌ
ويمنع حتمًا عنك كل تعسف
فلا هو ذو جهلٍ ولا ذو حماقةٍ
ولا نابذ التقوى بشر التعجرف
ولكنَّه يرعى ولا ريب حرمةً
لمن جاءه في ذلَّةِ المتزلف»
طارت وفريام لساعته أمر
أبناءه لتعدَّ مركبة السفر
ولها تشدَّ بغالها وتعلِّق الـ
ـزنبيل ثم لحجرة النوم انحدر
هي غرفةٌ عطريةٌ جدرانها
شماء بالأرز ازدهى بنيانها
قد كان ثم أعدَّ كل نفيسةٍ
وثمينةٍ يشتاق رؤيتها البصر
إيقاب نادى قال: «من شم العلى
زفسٌ إليَّ إلاهةً قد أرسلا
لأسير للأسطول وابني أفتدي
وآخيل أتحف ما يشاء من الغرر
فإذن بفكرك لي سريعًا صرحي
أما أنا فلذاك غاية مطمحي
والقلب يدفعني إلى فلك العدى
وجيوشهم» قالت ومدمعها انهمر:
«ويلاه أين حجى عرفت به لدى
طروادةٍ حتى وفي قوم العدى
أتسير وحدك للسفين إلى فتًى
لك كم فتًى بطلٍ همامٍ قد قهر
لا شك قلبك كالحديد ألا ترى
آخيل غدَّارًا عتا وتجبَّرا
فلئن رآك أتيت لا رفقٌ ولا
عطفٌ لديه وخلته فورًا غدر
فلنندبن بصرحنا في معزل
فسوى الهوان له القضا لم يغزل٢٠
وله الهلاك أتيح منذ ولدته
في البعد عنا لا تبلله العبر
وفريسةً للغضف ويلا يغتدي
بحما عتيٍّ ظالمٍ متمرد
من لي بذا السفاك أقضم كبده
قضمًا فلا أبقي عليه ولا أذر٢١
إن يقض هكطور فلا نكسًا قضى
لكن لكل كريهة متعرضا
في الذود عن طروادةٍ ونسائها
ما انتابه جزعٌ ولا عرف المفر»٢٢
فأجابها بجلال ربٍّ عُظِّما:
«خلي الملام فقد نويت مصمما
لن تصرفي عزمي فلا تقفي إذن
كوقوف طير الشؤم في هذا المقر
لو جاءني بالأمر عراف هنا
أو كاهنٌ أو عائفٌ متكهنا
لرغبت عنه وقلت ذلك كاذبٌ
وصرفت فورًا عن مقالته النظر
لكن تلك إلاهة أبصرتها
وسمعتها وبذا اليقين أطعتها
ولقد رضيت بأن يوافيني الردى
بين العدى إن كان ذا حكم القدر
فلئن أضم ابني الحبيب وغلتي
أشفي ليفتك بي آخيل بذلتي»
ثم الخزائن قام يفتح مخرجًا
من كل منضود بهنَّ اثني عشر
من بردها ونقابها وشعارها
وكذاك من زربيها ودثارها
وأعدَّ من ذهبٍ شواقل عشرة
وكذا جفانًا أربعًا كان ادَّخر
ومنصتين كذلك الكأس التي
إثراقةٌ قدمًا إليه أهدت
وبها حبته وافدًا برسالةٍ
فأضافها لفكاك هكطور الأبر
وتكأكأ الطرواد في أبوابه
فمضى يعنفهم بمر خطابه:
«عني أيا قوم الهوان افرنقعوا
أفلم يبرح في مقامكم الكدر
أو ما لكم من تندبون بدوركم
حتى تزيدوني أسًى بزفيركم
أوليس حسبي أن يلظيني أسًى
زفس وأبسل فتيتي هكطور خر
ولسوف تلفون إلا ذي كل الأذى
إذ بتم مذ مات أسهل مأخذا
لا أبصرت عيناي دك معاقلي
من لي بزجي قبل ذلك في سقر»
واستاقهم بالصَّولجان فأدبروا
من وجهه وبنيه أقبل يزجر٢٣
هيلينسًا فاريس هيفوثوسًا
فمون ذيفوبًا أغاثون الأغر
أنطيفنًا فوليت سفَّاك الدما
وكذاك تاسعهم ذيوس الأيهما٢٤
ألقى أوامره عليهم ساخطًا
حنقًا وكلهم بحدته انتهر:
«عجلًا أولد السوء يا رهط الفشل
يا ليتكم طرًّا فدا ذاك البطل
ويلاه واعظم الشقاء فكم فتى
لي كان في إليون قرمٍ ذي خطر
لم يبق لي أحدٌ فلا لهفاه لا
مسطور ذاك القرن قرن بني العلى٢٥
وأبو الفوارس إطرويل ومنيتي
هكطور من ربَّا غدًا بين البشر
قد كان أشبه بابن ربٍ معرق
منه بمولودٍ لإنسيٍّ شقي
طرًّا أبادهم الوغى مستبقيًا
لي زمرة وأقبحها بين الزمر
رنَّامةً رقَّاصةً كذَّابةً
وبني البلاد سوامها سلَّابة٢٦
أفلا شددتم مركبي ونضدتم
هذا المتاع لكي أسير على الأثر»
جزع البنون لزجره وتألبوا
ولشد مركبة البغال تأهبوا
طيَّارةٌ صنعت حديثًا وازدهت
فبسطحها الزنبيل في الحال استقر
والنير نير البقس كان على الوتد
محقوقفٌ في ظهره حلق العدد
فأتوا به وكذاك بالسير الذي
فيه وتسعة أذرع طولًا قدر
بالنير رأس الجذع حالًا أدخلوا
والسير حوليه ثلاثًا حوَّلوا
من تحت ذاك الجذع أحكم عقده
من ثم كلهم إلى الصَّرح ابتدر٢٧
منه استقلوا يشحنون المركبه
بفكاك هكطور لآخيل هبه
قرنوا لها بغلين من ميسيةٍ
فريام نال هديةً وبها افتخر
من بعد ذا عمدوا إلى فرسين في
أكناف عنَّته غذا بتلطف٢٨
فبنفسه مع فيجه في صرجه
في الحال شدهما ولم يرع الكبر٢٩
وأتته إيقاب يحزقها النصب
بشهي صرف الراح في كأس الذهب
وقفت أمام الخيل تندبه إلى
صب المدامة قبل أن يلج الخطر
قالت: «إليك الكأس خذها واسكب
زلفى وحسن العود من زفس اطلب
من زفس من إليون يرمق طرفه
من طود إيذا حيث في علياه قر
تمضي على رغمي فسله يرسل
لك طيره الميمون ذا الطول العلي
فإذا أتاك إلى يمينك سانحًا
ورأيته جئت العداة بلا حذر٣٠
لكنما إن ظلَّ زفسٌ معرضا
وبذي الرسالة منه لم يبد الرضا
لا أغرينَّك أن تسير لفلكهم
مهما رغبت ولب مهجتك استعر»
فأجابها: «لن أعصينك يا امرأة
بسط الأكف لزفس نعم التوطئه
فلعله عطفًا يرق» وأمره
فورًا لجاريةٍ بخدمته صدر
فدنت بإبريقٍ وطسٍّ تذهب
ماء الطهور على يديه تسكب
والكأس من بعد الوضوء أراقها
فوق الحضيض لزفس دفَّاع الضرر
وإلى السماء أقام ينظر واقفًا
في وسط تلك الدار يصرخ هاتفًا:
«اأبا العوالم زفس من إيذا علا
يا من لأمر جلاله الكل ائتمر
سَكِّنْ آخيل فلي يرق وأرسل
لي طيرك الميمون ذا الطول العلي
فإذا أتاني عن يميني سانحًا
ورأيته جئت العداة بلا حذر»
فدعاءه زفس استجاب وأرسلا
في الحال أصدق كل أطيار الفلا
نسرًا زفيفًا كاسرًا ذا قتمةٍ
بالأسمر الفتاك في العرف اشتهر
جنحاه قد نشرا كصفقي حجرة
شماء في صرح الغنا مبنية
فتنسم الطرواد خير ظهوره
لما يمينًا فوق إليون ظهر
فهناك فريامٌ لساعته على
كرسيه بحميل بشراه اعتلى
واستاقها فمضت تغير بداره
ورتاجها من وقع ذاك الجري صر٣١
وأمامه حثّ البغال وأسرعا
إيذوس معتليًا محالًا أربعا٣٢
جريًا بإليونٍ وكل ذويه في الـ
آثار تندب ندب من ميتًا قبر
حتى إذا اجتازا بأسواق البلد
للسهل جدَّا لا يحوطهما أحد
وإلى ديارهم انثنى الأبناء والـ
أصهار مع كل الجماهير الأخر
لما رأى زفس والشيخان قد ولجا
في السهل رقَّ لفريامٍ وهاج شجا
نادى ابنه هرمس المحبوب قال: «لكم
أحببت بين بني الإنسان أن تلجا
وإن تشأ تستجبهم فاصحبنَّ إذن
فريام فهو إلى الأسطول قد خرجا
لا يعلمنَّ به بين الملا أحدٌ
حتى إذا جاء آخيلا فلا حرجا»
لبَّاه قاتل أرغوصٍ وفي عجلٍ
خفيه أوثق في رجليه مبتهجا
(خفان من عنبر صيغا ومن ذهب
في البحر والبر مثل الريح قد درجا)٣٣
والصولجان الذي يلقي السبات على
من شاء أو يوقظ الوسنان إن خلجا٣٤
به مضى مثل لمح الطرف ينزل في
تلك السهول بجرف البحر مدلجا
وراح يحكي أميرًا جدَّ نحوهما
عذاره خط في شرخ الصبا بلجا٣٥
وقبر إيلوس لمَّا جاوزا وقفا
وقد أغار على الغبراء جيش دجى
همَّا بأن يوردا للنهر خيلهما
مع البغال فهبَّ الفيج منزعجا
رأى الإله فنادى: «يا ابن دردنس
تروَّ وانظر وقفنا موقفًا حرجا
أرى امرأً جاءنا بالحتف هل هربًا
نلوي الجياد وفورًا نطلب الفرجا
أو فوق ركبته نحني ومرحمةً
نرجو عساه لنا أن يستجيب رجا»
فارتاع فريام خوفًا واقشعرَّ أسًى
وقد غدا مزبئر الشعر ملتعجا
لكن دنا هرمس يهوي على يده
يلقي السؤال بلين القول ممتزجا:
«علام يا أبتا والناس قد وسنت
بذي البغال وهذي الخيل ترتحل٣٦
هنا الأخاءة هلَّا خفت شرهم
وكلهم لك بالعدوان مشتعل
ما بالك الآن لو وافاك أيهم
بذا الرياش وستر الليل منسدل
ما كنت غضَّ ضبابٍ والرفيق أرى
شيخًا فما لك في دفع الأذى قبل
فلا تخف ضرري بل فالق بي عضدًا
لك انبرى وأباه فيك يمتثل»٣٧
فقال فريام يعلوه الجلال: «أجل
بني غير مقال الحق لم تقل
لكن أرى بعض آل الخلد قد بسطوا
عليَّ كفهم في الموقف الجلل
إليَّ أسروا بسيَّار نظيرك ذي
قد وحسن وعقل نادر المثل
أهلًا وطوبى لأهلٍ أنت فرعهم»
فقال: «يا شيخ خير القول ترتجل
فأطلعني طلع الأمر أين ترى
يساق في الليل هذا الحليُّ والحلل
أتطلبنَّ بقاصي الدَّار مؤتمنًا
لهنَّ أم كلَّ إليون عرا الوجل
فرمتم هجرها لما نأى وقضى
هول الأخاءة هكطور ابنك البطل»
فقال: «من أنت من أي الأرومة يا
من ذكر حتف ابني المنتاب يبسط لي»
أجاب: «يا شيخ هل ذاك امتحانك لي
إذ جئت خبري عن هكطور أمتثل٣٨
فكم بصرت به للفلك مكتسئًا
جيش الأخاء وسيف الحتف يمتشل٣٩
وكم رأينا وأكبرنا ومانعنا
آخيل غيظًا على أتريذ نقتتل
في قوم أعوانه وافيت منتظمًا
بفلكه وإلى المرميد أتصل
أبي فلقطور من أهل اليسار غدا
شيخًا حكاك بنوه سبعةً كملوا
فعنده ستةٌ ظلوا وسابعهم
أنا حملت مع الإغريق مذ حملوا
لما اقترعنا فسهمي دون أسهمهم
بدا فأمر آخيل جئت أمتثل
والآن أنفذني للسهل مرتقبًا
فقد عرا القوم من كف الوغى الملل
سيحملون على إليون من غدهم
والصيد عن ردعهم ضاقت بها الحيل»
فقال فريام: «إما كنت منتسبًا
إلى ابن آياك فاصدقني بلا مهل
أجسم هكطور آخيل رمى قطعًا
للغضف أم قرب تلك الفلك لم يزل»٤٠
فقال: «لا منسرٌ لا ناب عاث به
لكنَّ جثته للخيم قد حملوا
في القرب من فلك آخيل لقد بزغ اثـ
ـنا عشر فجرًا عليه وهو معتقل
فلا عراه فسادٌ أو تخلله
دود تخلل بهمًا في الوغى قتلوا
وكلما طر فجرٌ حول صاحبه
آخيل طاف به بالعنف يجتذل٤١
لتعجبنَّ إذا أبصرته ترفًا
لا تقع دنسه والجرح مندمل
كم طعنةٍ فهقت فيه قد اندملت
كأن آل العلى تلك الدِّما غسلوا
لا شك ودوه حتى بعد مصرعه
عن ذلك البطل القهار ما غفلوا»
فطاب قلبًا وصاح الشيخ: «وا ولدا
يا حبذا البر للأرباب من عمل
لم ينس ما عاش أرباب الألمب ولا
هم أغفلوه ولو بعد انقضا الأجل
فهذه الكأس خذ مني وكن عضدي
بعون آل العلى في هذه السبل
حتى لخيمة آخيل تبلغني»
فقال هرمس: «ليست شيمتي النحل
مهما أكن حدثًا ما أنت تطمعني
بنائلٍ عن آخيل خفيةً تصل
أخشاه والنَّفس تأبى أن تمدَّ يدي
لسلبه إن عقبى ذلك الفشل٤٢
لأصحبنك حتى لو بغيت إلى
بلاد أرغوس ذات الشأن تنتقل
وليس برًا وبحرًا ما ظللت على
عهدي تمسك من كف العدى الأسل»
وهب هرمس للكرسي واستلم الـ
ـعنان والسوط ثم استاق منتهجا
وهِمَّة الخيل أورى والبغال وبالـ
ـحفير حالًا لأسوار الحمى اتَّلَجا٤٣
ألفى العيون أعدَّت زادها فعلى
أجفانهم صب تهجاعًا بها اندمجا٤٤
وراح يفتح أرتاج الحصار بلا
عنا ويدفع أزلاجًا بها زلجا٤٥
وبالهدايا وفريامٍ ومركبه
أم الخيام وفي بطن الحمى زلجا٤٦
حتى إلى الخيمة الشما التي رفع الـ
ـمرميد لابن أياكٍ ملكهم عرجا
من أسؤق السر وشيدت تحت أغمية
من المروج بها البردي قد مرجا
وحولها الدار شيدت تحت أعمدةٍ
والباب مزلاج سروٍ واحدٌ رتجا٤٧
ثلاثة منهم بالعنف تدفعه
لكنما دفعه آخيل ما زعجا
بوجه فريام خفَّ الرب يفتحه
وبالهدايا إلى ذاك الفنا ولجا
وصاح من بعد ذا لما ترجل: «يا
ذا الشيخ هرمس من والاك لا رجل
أبي نصيرًا إليك اليوم أنفذني
وها أنا الآن ماضٍ عنك أنفصل
لن أظهرنَّ لآخيل فما لبني الـ
ـعلى جهارًا ولاء الإنس تبتذل
وأنت رح وانطرح من فوق ركبته
وسله رفقًا عسى يصغي لما تسلُ
وباسم فيلا وثيتيسٍ ونفطلمٍ
ناشده يرنُ لدمعٍ منك ينهمل٤٨

•••

هكذا هرمسٌ أتم الخطابا
وتوارى إلى الألمب وآبا٤٩
فعدا الشيخ راجلًا وأنابا
إيذيوسًا فظل عند العجال
عانيًا في جيادها والبغال
ومضى يقصد ابن فيلا فألفا
ه تنحَّى وعنه أنأى الصحابا

•••

ما لديه غير الفتى أفطميذ
وكذا فرع آرس ألقميذ
كان عن زاده ورشف النبيذ
قام والزاد لا يزال لديه
وهما قائمان بين يديه
كلهم ما رأوه فانسل وانصـ
ـب على ركبتي آخيل انصبابا

•••

ويديه اللتين كم من فتى جل
من بنيه أبادتا قبل قبَّل
دهشوا عندما على الفور أقبل
دهشة القوم من وفود غريب
ساقه فادح القضاء المريب
قاتلًا من بلاده فرَّ يلجا
لديار امرئٍ تعلَّى جنابا٥٠

•••

فأجالوا الأبصار باستعجاب
وهو ألقى خطابه باكتئاب:
«يا ابن فيلا مقرَّب الأرباب
اذكر اذكر بشيبتي والدًا لك
درك العجز آه مثلي أدرك
ربَّ جارٍ أصابه ببلاءٍ
وهو لا عون صدَّ عنه المصابا

•••

إنما للسرور يلقى سبيلا
ذاك إن أبلغوه حيًّا آخيلا
فيرجي له معادًا جميلا
ليراه من بعد طول اغتراب
وأنا آه ألتظي بالتهاب
كم فتًى باسلٍ بإليون لي كا
ن فطرًّا بادوا وأضحوا ترابا

•••

عندما جاءت الأخاءة بحرا
حسبوا لي خمسين عدًّا وحصرا
من نساءٍ شتَّى وتسعة عشرا
عصبةً إخوةً أشقاء كانوا
جلهم بالجهاد للحتف دانوا
واحدٌ ظل منهم بذيادٍ
عن سرانا يقي البلاد الخرابا

•••

ذاك هكطور من قتلت أخيرا
وهو يحمي ذماره والعشيرا
ذاك ما ساقني هنا مستجيرا
فأممت الأسطول في ذا السبيل
ولقد جئت بالفكاك الجزيل
فسراة العلى آخيل اتقي وار
فق بحالي واذكر أباك اهتيابا

•••

لا جدير في الخلق بالرفق مثلي
لا ولا في الورى امرؤٌ ذُلَّ ذُلِّي
هذه الكف أس بؤسي وخذلي
وبها ابني أضحى قتيلًا جديلا
وأنا قد قبلتها تقبيلا»٥١
فبذا الشيخ هاج مدمع آخيـ
ـل لذكرى أبيه فيلا اكتئابا

•••

فبرفقٍ أنآه عنه وأجرى
عبراتٍ سحت على الفور حرَّى
فكلا القيمين ناح لذكرى
ذا لهكطور ساجدًا لآخيلا
وآخيل فطرقل يبكي وفيلا
لبثا ينحبان ثمة حتَّى
لهما اهتزت السقوف انتحابا

•••

وآخيل لما روى بنحيبه
غلَّه قام مغضيًا عن كروبه
أنهض الشيخ رافقًا بمشيبه
وله وجه الخطاب فقالا:
«إي نعم سامك القضاء وبالا
كيف قل لم تخف فجئت إلى الفلـ
ـك وحيدًا لمن بنيك انتابا

•••

لك قلبٌ مثل الحديد الصليب
فانهض اجلس ولنبق طي القلوب
غصص النفس لاشتداد الخطوب
ليس يجدي بكاؤنا والنحيب
فالرزايا لكل مرءٍ نصيب
ليس يخلو سوى بني الخلد من هـ
ـمٍّ ولكن لنا أعدُّوا العذابا

•••

فبأعتاب زفس قارورتان
ذي لخيرٍ وذي لشرِّ الهوان
فيهما كل قسمة الإنسان
فالذي منهما مزيجًا أنالا
زفس يلقي خيرًا ويلقي وبالا
والذي لا ينال إلَّا من الشَّـ
ـرِّ فتنتابه الخطوب انتيابا

•••

بطواه يطوي البلاد كليلا
تائهًا في عرض الفلاة ذليلا
من بني الخلد والورى مخذولا٥٢
فلفيلا الأرباب خير الهبات
أجزلوا مذ بدا لهذي الحياة
فاق جاهًا وثروةً وعلى المر
ميد أضحى قيلًا مطاعًا مجابا

•••

ولئن كان فانيًا وابن فان
أنكحوه إلاهةً ذات شان
وعلى ذا منوه بالأشجان
بحماه لم يعط قط بنينا
بعده في بلاده يحكمونا
فرعه واحدٌ سيقضي قريبًا
غير مجدٍ مشيبه حين شابا

•••

كيف أجدي وقد شططت ديارا
وبإليون قمت والهول دارا
لك أهمي وآلك الأكدارا
وكذا أنت فد روى الراوونا
لك يا شيخ طالعًا ميمونا
كنت ذا دولةٍ ومالٍ وأبنا
ءٍ بشرخ الصبا سموا أنجابا

•••

من ذرى لسبسٍ مقر مقار
لفريجا لجرف هذي البحار٥٣
سدت جم القوى رفيع المنار
إنما منذ ذا القتال الوبيل
لا ترى غير قاتلٍ وقتيل
فاعتصم بالعزاء لا تجعل الضيـ
ـم أسًى فيه تقطع الأحقابا

•••

ليس يجديك حزن هكطور نفعا
لن تقيمنَّه بذرفك دمعا٥٤
رب خطب إليك من بعد يسعى»٥٥
قال يحكي فريام آل الخلود:
«يا ابن فيلا لا تدعني للقعود
إن هكطور في خيامك لا قبـ
ـر يواريه في التراب احتجابا

•••

أعطنيه حتى بعيني أراه
وجزيل النفائس اقبل فداه
فبها قد أتيت أبغي شلاه
منك يا من حيا قد استبقاني
انظر النور ساطعًا بالأمان
فبها اهنا عساك ترجع للأو
طان من بعد ما نأيت اغترابا»

•••

عند هذا آخيل أحدق شزرا
قال: «يا شيخ لا تغظني قسرا
لك هكطور سوف يعطى فصبرا
بنت شيخ البحار أمي أتتني
من لدى زفس أمره بلَّغتني
وأنا عالمٌ بأن إلاهًا
بك حتَّى الأسطول جاء فغابا

•••

أي مرء ولو بشرخ الشباب
يخرق الجيش قاصدًا أبوابي
عن عيون العيون طيَّ الحجاب
أو أزلاجنا له يتهيا
دفعها اصمت إن شئت تلبث حيا
لا تهجني فزفس أعصي ولا أر
عى ذليلًا همَّا وشيخًا مصابا»٥٦

•••

جزع الشيخ للوعيد مطيعا
وآخيل كالليث هبَّ سريعا
غادر الخيم آمرًا متبوعا
معه من رفاقه تبعان
بعد فطرقل أقرب الفتيان
أفطميذٌ وألقميذ أخو العز
م جميعًا عدوا وجازوا البابا

•••

ذلك الفيج أدخلوا وأحلُّوا
مجلسًا والبغال والخيل حلُّوا
ومن المركب الرياش استقلوا
غير بردين شائقين جمالا
وشعارٍ مزخرفٍ يتلالا
رام آخيل أن يكفَّن هكطو
ر بها عندما يتيح المآبا

•••

والجواري لغسل هكطور نادى
ولتطييبه هناك بعادا
خشيةً أن يرى الأب ابنًا أبادا
فيثور الأوار ضمن فؤاده
وآخيل يشتد داعي اشتداده
وبه يعمل الظبي لا يبالي
أنهى زفس أم أنيل العقابا

•••

غسلته وطيبته الجواري
وببردٍ كفَّنَّه وشعار٥٧
وآخيل ألقاه خلف الدار
فوق نعشٍ وذان باستعجال
رفعاه لظهر كبرى العجال
عند هذا بكى آخيل وفطرقـ
ـل دعا قال: «لا تسمني عتابا

•••

لا تغظ إن بلج آذيس ينمى
لك أني أعدت هكطور رغما
فأبوه أدَّى الفكاك الأتما
وأنا منه سهمك المعتادا
سوف أبقي» وللصريفة عادا٥٨
حلَّ في عرشه البهي لدى الحا
ئط يلقي ألفاظ نطقٍ عذابا:

•••

«لك يا شيخ قد أعيد فتاكا
وهو في نعشه فنل مبتغاكا
فإذا الفجر بكرةً وافاكا
فمليًّا تراه عند المعاد
إنما الآن حان وقت الزَّاد
فنيوبا لم تسه عن زادها في
صرحها مذ أصابها ما أصابا٥٩

•••

ولدها اثنا عشرٌ بريع الخياة
فتيةٌ ستةٌ وستُّ بنات
فتكتْ أرطميس بالغادات
وبقوس اللجين فيبوس أردى
وأباد الفتيان غيظًا وحقدا
ذاك إذ فاخرت نيوبا لطونا الـ
ـحسن يومًا بضنوها إعجابا٦٠

•••

فلها اثنا عشر وتلك اثنان
إنما قد أفناهم هذان
أنهرًا تسعةً بموت الهوان
لبثوا لا قبر فزفس جهارا
مسخ الناس حولهم أحجارا
وسراة الخلود عاشر يومٍ
دفنوهم والأم تجرع صابا

•••

شعرت بالطَّوى بجهد البكاء
وهي للآن تلتظي بشقاء٦١
نالها من لدى سراة السماء
بعد أن أصبحت بسيفيل صخرا
بجبالٍ شمٍّ يروِّعن ذعرا
حيث مثوى الحور اللواتي على جر
ف أخلُّوسٍ لها الرَّقص طابا

•••

وكذا نحن زادنا نأتيه
وابنك القرم باكرًا تبكيه
عندما للبلاد ترجع فيه
فهناك الدموع ما شئت تهمر»
ثم شاةً بيضاء أقبل ينحر
وذووه من بعد أن سلخوها
أربوها وسفَّدوا الآرابا٦٢

•••

واشتووها بلاهب النيران
ثم مدوا الشواء فوق الخوان
والفتى أفطميذ للضيفان
وزع الخبز بالقفاع امتثالا
وآخيل اللحوم قسم حالا
والأيادي مدت إلى الزاد حتى
أنفوا الزاد جملةً والشرابا

•••

وابن دردانسٍ آخيل تأمَّل
يعظم القد والجمال المكمَّل٦٣
ومحيَّا الأرباب إن هو أقبل
وآخيل فريام أعظم قدرا
لوقارٍ ومنطقٍ زان فكرا
لبثا برهة وكلٌّ بكلٍّ
محدق مكبر له استعجابا

•••

ثم فريام قال: «آخيل دعنا
بلذيذ الهجوع ذا الحين نهنا
فأنا لم أغمض لعيني جفنا
مذ قضى هالكًا بساعدك ابني
بل ببثي ما زلت أشقى بحزني
أتلوَّى على الدمال بصحن الـ
ـدار أصلى لظى الأسى اللهابا

•••

إن أذق زادك الذي لي تهيأ
أو تراني رشفت كأس الحميَّا
فإلى الآن لم أذق قط شيئًا»
فآخيل في الحال أصدر جهرا
للحواشي واللسبيات أمرا
أن يعدوا في الباب فرشًا ويلقوا
لحف البرفير الحسان قشابا

•••

ويمدوا فوق الفراش الزرابي
وعليها مكثف الأثواب٦٤
فالجواري جرين للأعتاب
معهن المصباح للباب رحن
وفراشين في المجاز طرحن
ولفريام قال إذ ذاك آخيـ
ـل يريه مخافةً وارتيابا:

•••

«أيها الشيخ خارجًا نم قريرا
خشيةً أن تلقى بخيمي أميرا
قادمًا في الدجى هنا مستشيرا
فهنا في أبحاثنا نستفيد
ذاك عرف جرى عليه الصيد
فإذا ما رأوك في الليل أتريـ
ـذ درى والأمور باتت صعابا٦٥

•••

ولعل المليك يرجي الفكاكا
فقل الآن لي صريحًا مناكا٦٦
كم نهارًا تبغي لدفن فتاكا
قل فنفسي أصدُّ عن أهوائي
وأرد السرى عن الإبلاء»
فعلى ذا فريام وهو يحاكي
بوقارٍ ربًّا مهيبًا أجابا:

•••

«إن تبح أن حفلة الدفن تجرى
تلك آخيل منَّةٌ منك تترى
قد حصرنا تدري بإليون حصرا
والمدى شاسعٌ لقطع الوفود
بالرَّواسي والرعب هد جنودي
ولنا للبكاء تسعة أيَّا
مٍ بها نذرف الدموع انسكابا

•••

ثم يومٌ للدفن والإيلام
ثم يومٌ للرَّمس والإتمام
وإذا ما اقتضت دواعي الخصام
نتهيا للحرب إن نأت فجرا
بعد هذي الأيام ثاني عشرا»
قال: «ما شئت فليكن وبهذا الـ
ـحين نلوي عند الحروب الحرابا»

•••

ثمَّ يمنى فريام أمسك عهدا
لوفاقٍ جرى وأبرم عقدا٦٧
خشيةً أن يسومه الرعب جهدا
عند هذا فريام والفيج قاما
وبظل الرواق بالأمن ناما
وآخيل في عزلةٍ بحماه
وبريسا طيب الهجوع استطابا

•••

وجميع الأرباب والناس طرًّا
هجعوا والظلام أسبل سترا
إنما ظل هرمسٌ لا يكرى
فاكرًا في فريام كيف يبين
عن حمى القوم لا تراه العيون
فعلى رأسه استقرَّ ونادا
هُ: «أيا شيخ هل أمنت الطلابا

•••

نمت بين العدى بأمن آخيل
ولقد جدت بالعطاء الجزيل
لافتكاك ابنك الكريم النبيل
إن تلاقي هنا أغاممنونا
والسرى كدت ولدك الباقينا
عنك يعطونه ثلاثة أضعا
ف الذي قد أديت مالًا لبابا»٦٨

•••

قام فريام ينهض الفيج رعبا
ولشد العجال هرمس هبَّا
وبها جدَّ ينهب السهل نهبا
لا يراهم من ذلك الجيش رائي
فأتوا آمنين مجرى الماء
فوق جرفٍ فيه تدفَّق زنث الـ
ـمنتمي نشأةً لزفس انتسابا

•••

لأعالي الأولمب هرمس راحا
وبدا برقع الجساد صباحا
فهنا الشيخان استباحا النواحا
ثم حثَّا الجياد نحو البلاد
وبغالًا قلَّت جديل الجلاد
جريا لا يراهما بعد مرء
أو فتاةٌ في الأهل حيث اجتابا

•••

بهما ما درى بذاك المجال
غير كسندرا فتاة الدلال
من تجلَّت كعفرذيت الجمال
أشرفت من فرغام فوق الوهاد
فأباها رأت وذاك المنادي
وأخاها رأت على نعشه فيـ
ـه اذلعبَّت بغالهُ إِذْلِعْبَابا٦٩

•••

ولولت والدموع ملء المآقي
ثم جدَّت تصيح في الأسواق:
«يا رفيقات يا خيار الرفاق
إن تكونوا حييتم هكطورا
وهو حيٌّ بعوده منصورا
وجذلتم بملتقاه جميعًا
فانهضوا رحبوا به ترحابا»

•••

أكبروا الخطب والأسى والوبالا
وإلى الباب بادروا استقبالا
كلهم كلهم نسا ورجالا
وأمام الجميع زوجٌ حليله
أعظمت خطبه وأم جليله
بعويلٍ وقطع شعرٍ وندبٍ
جاءتا النعش تلمسان النطابا٧٠

•••

وحواليهما الجموع تبوح
بأساها وبالنحيب تصيح
أوشكوا كلَّ يومهم أن ينوحوا
بين تلك الأبواب من حول نعشه
إنما الشيخ صاح من فوق عرشه:
«افتحوا لي السبيل للصَّرح من ثـ
ـمَّ اسكبوا الدمع فوقه تسكابا»

•••

فله وسعوا الطريق فجدَّا
وأتى القصر خلفه القوم حشدا
وضعوا الميت فوق نعشٍ أعدَّا
وأقاموا حوليه نَدَّابينا
بشجي الأنغام توري الشجونا٧١
ينشدون الرثاء بين نساء
وفق ذاك النشيد نُحْنَ كئابا

•••

وانبرت أوَّلًا فعمَّ العويل
أنذروماخ والدموع تسيل
فعلى رأسه ترامت تقول:
«مُتَّ بعلاه بالشباب النضير
وأنا أيِّمٌ بهذي القصور
وهنا الطفل طفلنا ونتاج الـ
ـحزن لن يدركنَّ آه الشبابا

•••

قبل ذاك الزَّمان خلت الديارا
أصبحت قفرةً وباتت دمارا
إن تمت لا سواك يحمي الذمارا
وجميع البنين والأطفال
والعذارى والمحصنات الخوالي
سوف يمسين في الخلايا سبايا
وأنا بينهنَّ وا أوصابا

•••

وكذا أنت يا بنيَّ ستمسي
حيث أمسي تعنو بذلٍّ وبؤسِ
لفتًى ظالمٍ عتا ذي بأس
أو عدوٍّ سيم الوبال الثقيلا
يتوخَّى لك الحمام الوبيلا
بك يلقي من فوق برج فيشفي
غلة كادت النفوس الغضابا

•••

بابن هكطور يشتفي في انتقام
لأب أو أخ رمى أو غلام
فهمامًا قد كان أيَّ همام
ولكم باسلٍ بجيش الأعادي
كدم الأرض دونه في الجهاد٧٢
فلهذا بكته طرواد طرًّا
وعليه الفؤاد بالبث ذابا

•••

جلَّ عن واجب التأسّي أساكا
ولقد هدَّ والديك رداكا
إنما لي فوق الجميع شجاكا٧٣
آه لو فهت لي ببعض الكلام
تبسط الكفَّ لي أوان الحمام
لتذكرته نهاري وليلي
ودموعي تنصب عمري انصبابا»

•••

ثم غصَّت بفائض الزفرات
والعذارى يجُدن بالعبرات
ثم صاحت إيقاب: «وا حسراتي
وا أعزَّ البنين وا هكطورا
كم رعتك الأرباب حيًّا قريرا
وهي من بعد فاجعات المنايا
بك تعني تجلة وثوابا

•••

بأقاصي البحار في إمبروس
أو بساموس أو ربى لمنوس
باع من فتيتي آخيل البئوس
كل من في يديه أضحى أسيرا
إنما أنت مذ رماك مغيرا
بك ما زال طائفًا حول رمس
لخليلٍ أنفذت فيه الذبابا٧٤

•••

كل هذا لم يحي ذاك الخليلا
وأمامي أراك رطبًا جميلا
مثلما لو ذا الحين رحت قتيلا
مثل من فيبسٌ أباد بسهم
دقَّ عن صولج الحنية يرمي»٧٥
وعلا النوح ثم هيلانةٌ ثا
لثةً ولولت تزيح النقابا:

•••

يا أحمَّ الأصهار إلف الوداد
أعلق الأهل كلهم بفؤادي
لم أر مذ عشرين عامًا بلادي
منذ فاريس مجتبى الخالدينا
ساقني قادمًا إلى إليونا
ليتني قبل أن أفارق شعبي
وبني أسرتي انشعبت انشعابا٧٦

•••

شأنك الرفق بي لقد كان دوما
قطُّ ما سمتني المهانة يوما
وإذا كادني سبابًا ولوما
أيُّ صهرٍ أو زوجه أو شقيقه
أو حماتي إيقاب تلك الشفيقه
(غير فريام من بدا كأب لي)
كنت رفقًا عني تزيح السبابا

•••

سوف أبكيك سوف أبكي شقائي
ليس لي راحمٌ وإلف ولاء
قد قلاني الجميع فوق بلائي»٧٧
وبكت والجموع ناحت جميعا
ثم فريام صاح فيهم سريعا:
«يا سراة الطرواد قوموا فسيروا
واجمعوا وافر الوقود احتطابا

•••

لا تخافوا من الأخاءة غدرا
فآخيل لي قال أن لن يكرَّا
قبل فجرٍ يلوح ثاني عشرا»
أسرعوا جملةً لشد البغال
وقوي الثيران حول العجال
ثم ساروا بهنَّ فورًا وجدُّوا
وإلى السور أقبلوا أسرابا

•••

أنهرًا تسعةً بجمع الضرام
لبثوا ثمَّ عاشر الأيام
رفعوا الميت والعيون هوام
فرق ذاك الوقود ثم النارا
أضرموها به تؤجُّ أوارا
ولهم حين لاح ورد بنان الـ
ـفجر من حوله أقاموا عصابا

•••

حيث هبت لواهب النيران
أخمدوها بصرف خمر الدنان
ولفيف الإخوان والخلان
جمعوا كلَّ أعظم الميت جمعا
بكئيب الفؤاد يذرون دمعا
أودعوها من ثمَّ حقَّ لجينٍ
وكسوة برفيرهم جلبابا

•••

أنزلوها في حفرةٍ حفروها
وبجلمود صخرهم طمروها
ثم شادوا الضريح إذ دفنوها
وحواليه أوقفوا الأرصادا
من سراة السرى قرومًا شدادا
خشيةً من عدوهم أن يفاجي
بغتةً حين غفلةٍ واحتسابا

•••

وإذ القبر أكملوا وأتموا
صرح ذاك المليك فريام أموا
حيث حوليه للعزاء انضموا
ولهم هيَّأ المليك طعاما
كان في مأتم الفقيد ختاما
ذاك ما كان من مناحة هكطو
ر الذي روَّض الجياد الصلابا٧٨

تتمة حوادث الإلياذة

يتشوف القارئ وقد أتم تلاوة الإلياذة إلى الإلمام بمآل الأعيان من أولئك الرجال، وهاتيك النسوة، وما كان من عقبى الحرب المضطرمة بين الإغريق والطرواد، مما هو مرويٌّ في الأثر.

بنيت الإلياذة على غيظ آخيل، فأخذ الشاعر بجميع أطراف ذلك الغيظ، حتى إذا قضى وطره استتم خبره ختم الكلام.

وإننا موردون الآن بأوجز عبارة ما كان من خاتمة الحرب ومصير كبار القوم.

لما انقضت الموادعة استأنف الفريقان القتال؛ وإذ أعيت الإغريق الحيلة في فتح إليون لجأوا إلى خدعة هيأها لهم داهيتهم أوذيس، فصنعوا حصانًا كبيرًا من خشب على شكل كبش مما كان يستعمل في الحروب، ونصبوه لدى أبواب البلد، وفيه الكماة المدججون بالسلاح، ومن جملتهم صاحب الخدعة وذيوميذ ونيفطوليم ابن آخيل، وكان قد لحق بقومه في أخريات أيام الحرب، وهو بعد صبي، ثم تظاهروا بالسأم والملل والتأهب للانصراف فانخدع الطرواد وخرجوا فأدخلوا الحصان، فلما كان الليل خرج منه رجال كمينه وقتلوا الحراس وفتحوا الأبواب، فدخل الإغريق البلد ودمروه واستباحوه نهبًا وقتلًا وسبيًا، ولم ينجُ إلا نفرٌ قليل ممن لاذ بالهزيمة.

أما آخيل فقتل قبل فتح البلد بسهم رماه به فاريس فأصابه بعقبه، فتنازع أوذيس وإياس الكبير على سلاحه ففاز به أوذيس فغيظ أياس وانتحر كيدًا.

وأما سائر الزعماء فتفرقوا وعادوا كلٌّ إلى بلاده ولكنهم تجرعوا مضض الأهوال وهلك معظمهم.

فأغاممنون غدرت به زوجته ومعشوقها اغَستوس، وكان قد استعملهُ أغاممنون على بلاده أثناء غيابه.

وأخوه منيلاوس رجع بامرأته هيلانة، فوصل بلاده بعد عناء ثمانية أعوام، ولم يقم طويلًا حتى مات.

وذيوميذ كاد يصيبه من غدر زوجته ما أصاب أغاممنون لو لم يلجأ على الفرار، فشخص إلى إيطاليا بشرذمة من أتباعه وبنى فيها عدة مدائن.

وإياس الصغير عصفت الريح بسفائنه، وهو راجع بها فأغرقتها، فلاذ إلى صخر وقف عليه، ثم ما لبث الصخر أن انشق تحت قدميه فمات غرقًا.

وأوذيس لعبت بسفنه العواصف فهام عشرة أعوام على وجه المياه في حديث طويل بنى عليه هوميروس منظومته «الأوذيسية»، وكانت امرأته بديعة الجمال طاهرة الذيل فطمع بها عظماء قومها، فحاولت وطاولت إلى أن عاد زوجها فشكت إليه أمرها فقتلهم جميعًا، ومات أوذيس قتيلًا بيد ابنه تليغون قتله في معركة وهو لا يعلم أنه أبوه.

ونسطور عاد إلى بلاده سالمًا فقضى بقية أيامه بأمن وسلام.

أما فريام ملك طروادة فذبحه نيفطوليم بن آخيل أمام الهيكل بعد فتح إليون، وابنه فاريس مات قتيلًا قبل الفتح.

وزوجه إيقاب كانت في سهم أوذيس عند اقتسام السبايا فاسترقها.

وابنته كسندرا كانت من سبايا أغاممنون.

وكنته أنذروماخ امرأة هكطور استأثر بها ابن آخيل، وعاد بها إلى بلاده وتزوجها ثم طلقها، وأزوجها هيلينوس أحد أبناء فريام، وأما ابنها استياناس فألقى به ابن آخيل عند فتح البلد من شاهق، كما كانت تقول متشائمة وهي تندب هكطور (ن ٢٤).

وهيلانة بقيت مع منيلاوس في إسبارطة إلى أن توفي فاضطرت إلى مغادرة البلاد، فذهبت إلى رودس فشنقتها إحدى أرامل الأبطال الذين هلكوا بحصار إليون.

وأوفر رجال القومين حظًّا وأحسنهم منقلبًا كان أنياس بطل منظومة فرجيليوس، فإنه تمكن من الفرار وأسس دولة كبيرة كما تقدم (ن ٢٠).
figure
رسم وهمي للحصان الخشبي الذي اصطنعه أوذيس.

هوامش

(١) يتضمن القسم الأول من هذا النشيد وصف حالة آخيل بعد أداء ما عليه من واجب الأخاء وقضاء حق الوفاء بمأتم فطرقل وانثناءه إلى جثة قاتله هكطور يسومها الذل والهوان، وقيام الآلهة للبحث في هذا الأمر. وقد جعلنا قوافيه مختلفة باختلاف السياق والموضوع.
(٢) مضى على مقتل هكطور اثنا عشر يومًا وهي مدة تنحل فيها أعضاء الجثث وتفسدـ، ولم يكن هوميروس ليجهل أنه يعترض عليه بمثل هذا فاستدرك بقوله:
أن أفلون حفظه «ومد عليه عسجدي مجنه
فلا مَسَّه ضرٌّ ولا مزق الجلد»
وهو قول إذا أخذ على ظاهره يستفاد منه أن فيبوس وهو ربٌّ قدير حفظ الجثة من الفساد، وإذا لجأنا إلى التأويل قلنا: إن فيبوس (أو أفلون) ممثل الشمس ومن جملة مزاياه أنه ولي الطب والأطباء، وآخيل مريد خيرون رأس الأطباء، فأما أن يكون آخيل عالج الجثة بدواء يقيها الفساد ريثما يروي غلته بزيادتها هوانًا وتحقيرًا، وإما أن يكون بعض عبدة أفلون فعل ذلك، وعلى كل حال بطلت الغرابة ببقاء الجثة سالمة طول هذه المدة، وهي غاية الشاعر.
(٣) هرمس رسول الآلهة.
(٤) أراد بقوله: «الربة التي أباحت له بئس المنى» الزهرة وإن لم يسمها، وفي هذه الأبيات الثلاثة إشارة إلى خرافة قديمة. قالوا: إنه لما حملت إيقاب بفاريس رأت في الحلم أن في أحشائها جذوة نار تلتهب فتضطرم بها أسيا وأروبا، فقصت رؤياها على زوجها فريام فلما ولد الولد هم فريام بإهلاكه، فوارته إيقاب عنه وائتمنت عليه رعاةً في جبل إيذا، فشب بينهم يرى الأنعام، وفي تلك الأثناء حدث الخلاف المشهور في أساطيرهم بين أثينا وهيرا والزهرة، فتقاضين إلى فاريس ورغبن إليه أن يحكم في جمالهنَّ فاستمالته الزهرة ربة الهيام فقضى لها.
(٥) يجمع معنى هذين البيتين قول الشاعر العربي:
بليت وفقدان الحبيب بليةٌ
وكم من كريم يبتلى ثم يصبرُ
(٦) تقول هيرا: إن هكطور ليس كفؤا لآخيل، فلا يجب أن نحفل به وننزله منزلة آخيل؛ لأن ذلك إنسيٌّ ابن إنسية، وهذا وإن كان إنسيًّا فأمه من بنات الخلود، ثم أيدت قولها بذكر الحفلة التي أقيمت لزفاف ثيتيس إلى فيلا، ولا بأس من إيراد هذه القصة: كانت ثيتيس أجمل بنات الماء فهام بها الأرباب، وفي مقدمتهم زفس وأخواه أفلون وفوسيذ، وكادوا يختصمون عليها لو لم يروا في علم الغيب أنها ستلد أبنًا يفوق أباه سطوةً وجاهًا، فأحجم الأرباب عنها وقضوا بزفها إلى إنسي، فتولت هيرا الأمر واختارت لها فيلا بعلًا، فأبت ثيتيس بادئ بدءٍ أن تكون عرسه، ثم اضطرت إلى القبول في حديث طويل، وأقيمت للزفاف حفلة شائقة حضرها جميع الأرباب إلَّا «الفتنة»؛ لأن زفس كان قد أجلاها من السماء وأقصاها عن محافلهم، فنقمت عليهم وأضمرت السوء، ثم انتهزت فرصة غفلة منهم وطرحت بينهم تفاحة ذهبية نقش عليها: «هذه لأجمل الربات» فادعتها هيرا وأثينا والزهرة، وتخاصمن إلى فاريس فقضى للزهرة كما تقدم.
(٧) القربات جمع قربة، ما يتقرَّب به إلى المعبود من برٍّ وطاعة.
(٨) أي: إن إيريس غاصت في اليم كما تغوص الرصاصة المعلقة بالشص إذا طرح الشص في البحر لصيد السمك، وقرن الثور طافٍ على وجه الماء.
كان صيَّادوهم كصيادي هذا الزمان يربطون رصاصة فوق الشص لتغوص به في الماء، ولكنهم كانوا يتخذون قطعة من قرن أو نحوه بدلًا من قطعة الفلين، وما أشبهها مما يعلق الآن على مسافة من الشص ليبقى طافيًا على وجه الماء، ويستدل باضطرابه على نشوب الشص بالسمكة.
(٩) الغيابة: القعر.
(١٠) القضم: الأكل والكسر بأطراف الأسنان، وقضم القلب كأبة وحزنًا استعارة غريبة، ولكنها ذات وقع، ولم أر لها مثلًا في العربية منع ورود قضم الجمر وعض الأصابع غيظًا أو حزنًا، كقول أبي الطيب:
تقضم الجمر والحديد الأعادي
دونه قضم سكر الأهواز
أو كقول الوأواء الدمشقي:
واسترجعت سألت عني فقيل لها
ما فيه من رمق دقت يدًا بيد
وأمطرت لؤلؤًا من نرجس وسقت
وردًا وعضت على العناب بالبرد
(١١) زعم البعض أن هذه العبارة دخيلة في الإلياذة؛ لأن هوميروس أحرص الشعراء على أدب الأخلاق فلم يكن من شأنه أن ينطق والدة آخيل بهذه العبارة الدسمة، ولكن من تأمل في مجريات ذلك العصر عصر الزهرة، لا يعجب لورود عبارة كهذه، بل يعجب لإسباله الستار على الكثير مما هو أعظم وأدسم، ويعلم أن هوميروس كان أرقى أهل زمانه عفًّة وأدبًا، فثيتيس قد قالت قولًا مرت عليه وانتقلت منه مسرعة إلى بحث آخر، وليس الأمر كذلك عند رواة الأقدمين من الكلدان إلى المصريين إلى العبرانيين إلى اليونان إلى الرومان إلى العرب، فهوميروس بهذا المعنى أسبلهم سترًا وأحرصهم.
(١٢) هذا جواب مقتضب من آخيل يذعن فيه حالًا لإشارة أمه، إذعانًا لمطلب زفس فلا يطاول ولا يحاول بل يبادر إلى الرضوخ بلا ممانعة، فكأن نفسه طابت وروى معظم غلته بتدنيس جثة هكطور، والآمر زفس ولا مرد لأمره فأجاب صاغرًا لعلمه أن المكابرة لا تجدي، وقد أحسن الشاعر بجعل هذا الحكم صادرًا من زفس وإلا فلم يكن ثمة سبيل لحمل آخيل على إخماد سورة غضبه وإجابة فريام إلى طلبه.
(١٣) ادلفي: أسرعي.
(١٤) قاتل أرغوص هو هرمس سفير الآلهة كما قدمنا، كان علاوة على اختصاصه بالسفارة رب المنطق والفصاحة، وكانوا يمثلونه تارةً بصورة رجل تنبعث من فيه سلاسل تعلق بأذان السامعين، وطورًا بصورة فتى جميل الطلعة على رأسه قبعة وله جناحان على كاهليه، وجناحان بعقبيه، وفي يده صولجان الفيوج يلتف عليه أفعوانان — رأينا الشاعر في كل ما مر يرمي إلى إكبار آخيل وإعظام شأن اليونان، وهنا قد كادت الإلياذة تبلغ حد الختام، فأراد أن يبقى الأمران في ذهن السامع فاستنبط هذه القصة فبلغ بها مراميه، أما آخيل فلا أسمى لإكباره من جمع الآلهة للبحث في أمره واشتغال سكان السماء والأرض في استمالته وتسكين غيظه، وأما الإغريق فقد أبدى الشاعر ضمنًا ما كانوا عليه من اليقظة والانتظام حتى لم يكن مخلوق دون الآلهة يصلح أن يخترق صفوفهم، ويبلغ آخيل سالمًا وإن كانوا في زمن موادعة ومأتم عظيم.
figure
هرمس (عطارد) سفير الآلهة ورب المنطق والفصاحة.
(١٥) كانوا يقولون: إن أسبابًا ثلاثة تحمل الإنسان على إتيان الخطيئة، وهي الجهل والحماقة والكفر، أو قلة الورع، ولم يكن آخيل على شيءٍ من ذلك فلا بد إذن من أن يرضخ لأمر زفس.
(١٦) أي: إنه كان متمرغًا بالدمال ولابسًا مسحًا — راجع ما قلنا بهذا الصدد (ن ٢٢ ).
(١٧) البهم: الأبطال.
(١٨) أي: أتحفه بالهدايا الغر فكاكًا لهكطور.
(١٩) أي: لا يذهب معك غير فيج، أي: رسول مسن يعينك على سوق بغال المركبة
(٢٠) تقدم (ن ٢٠) ذكر غزل العمر، وغزل الهوان هنا من ذاك القبيل.
(٢١) تقدم لنا ذكر شواهد بهذا المعنى (ن ٢٢)، تمنت أم هكطور أن تأكل كبد آخيل، وقد فعلت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان تلك الفعلة بعد إيقاب بنحو ألفي عام، وكان ذلك في غزوة أحد التي تقدم ذكرها؛ إذ بقرت بطن حمزة بن عبد المطلب، وتناولت كبده فلاكتها ومضغتها فلم تقدر أن تسيغها فلفظتها، ومن قبيل تحرُّق إيقاب تحدم سلافة بنت سعد بن سهيل؛ إذ نذرت حين قتل عاصم بن ثابت ابنها يوم أحد المذكور لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحفه الخمر. قال عنترة:
وإني قد شربت دم الأعادي
بأقحاف الرءوس وما رويتُ
(٢٢) رسم الشاعر بحديث فريام وإيقاب صورة الزوجين أضعفهما كرور الأعوام، وانتابتهما الرزايا العظام، فيتشاكيان ويتشاوران، فالرجل قانطٌ من حياته لا يرى إلا أن يموت ببقية من سالف مجده قرير العين ببلوغ أمنية يتمناها، والمرأة وقد عدمت العون والنصير ترى حياتها بحياة ذلك الزوج، فبرزت إيقاب هنا بصورة المرأة الظنون والأم الحنون والزوجة الشفيقة على زوجها المشفقة على نفسها، علمت أنه متكل على زفس بذهابه إلى العدو، فلم تعبأ بهذا الاتكال، بل ربما توهمت أنها حيلة اختلقها فريام ليخفف عنها، فشكت وبكت ولامت وقامت تحول بينه وبين أمنيته، وأعظمت عليه الأمر حتى إذا أتت على ذكر آخيل قاتل ابنها ثار بها ثائر الغيظ، فنددت وعددت، فإذا به كله قبائح، ولما أتت على وصف ابنها أسبل الحنو ستره على بصرها فلم تر فيه إلا الجلال والكمال، وأنساها الحب الوالدي فراره من وجه آخيل، فوصفته وصف الخنساء بقولها:
يا صخر أنت فتى مجدٍ ومكرمةٍ
تغشى الطعان إذا ما أحجم البطلُ
كالليث يحمي عرينًا دون أشبله
ثبت الجنان إذا ما زعزع الأسل
خطاب أندية شهاد أنجية
لا واهن حين تلقاه ولا وهلُ
ضخم الدسيعة سهل حين تطرقه
لا فاحش يرم نكس ولا خطلُ
(٢٣) علمت أن فريام كان ملكًا رفيع الشأن عظيم السلطان كثير الولد قوي الجند، أخنى عليه الدهر فزعزع أركان مملكته، وضعضع أحوال دولته، وعاث العدو ببلاده، وبطش بأولاده، وأراه هكطور وهو مطمح أبصاره وحامي ذماره قتيلًا يسام شر الهوان، فلا بدع بعد ذلك أن يرى النور ظلامًا ويفقد الرشد وتنهال شتائمه على القريب والبعيد، كأن الأرض في عينه بقعة سوداء لا تحمل إليه إلا الأعداء وهذا منتهى الجزع.
(٢٤) عربنا كلمتي (Διον αγαυον) بذيوس الأبهم أو الباسل على ما جرى عليه الأكثرون، ولكن بعض النقلة جعلوا العلم الكلمة الثانية، فقالوا: أغابون الإلهي أو العظيم. وهكذا قال مونتي (Agavo di divina sembianza).
(٢٥) القرن: السيد، والقِرن المقارن الكفوء.
(٢٦) الرنام: المترنم.
(٢٧) يصف الشاعر عنا أجزاء المركبة وكيفية إعدادها، فالمراد بالزنبيل صندوق من القصب وما أشبهه يلقى على المركبة، إما مجلسًا للركاب، وإما محملًا للمتاع، والنير كنير الحرَّاثة وفي أعلاه حلق تمر به الأعنة منفصلة إلى فكي الحيوانين، والسير الذي يناط بالنير كان يبلغ طوله تسعة أذرع؛ لأنه كان يلف ثلاث مرار حول الجسر أو الجذع (العريش)، وهكذا فكانت الحيوانات تجر المركبة بالجذع وليس بالسيور.
(٢٨) العنة: الحظيرة.
(٢٩) لا بد من التنبيه هنا إلى أن فريام ذهب بمركبتين إحداهما تحمل الرياش والمتاع المعد لفكاك هكطور وتجرها البغال، والأخرى لركبوه وتجرها الجياد.
(٣٠) تقدم لنا ذكر السانح والبارح (ن ١٢).
(٣١) الرتاج: الباب الكبير.
(٣٢) المحال: الدواليب أو العجل، كانت مركبات الحمل على أربعة دواليب، ومركبات الركوب والحرب على دولابين.
(٣٣) العنبر: هو تلك المادة السماوية التي تقدم الكلام عليها (ن ١٤). والظاهر أنه يكاد يستعمل لكل غرض من أغراض الآلهة، فهو طعامهم كما ذكر في غير موضع، وطعام خيلهم كما مر في النشيد الخامس، وطيبهم الذي يتطيبون به؛ إذ تطيبت به هيرا (ن ١٤)، ودواؤهم؛ إذ استعملته ثيتيس (ن ١٩)، مضادًّا للفساد فأفرغته في منخري فطرقل وهو قتيل، وهو هنا داخل في ملبسهم، ولا يسهل علينا تأويل كل تلك المزاعم على اختلافها إلا إذا رجعنا إلى معنى اللفظة في الأصل وعرفنا أنها تفيد الخلود.
(٣٤) خلج: حرك، أشباه هذا الصولجان كثيرة في روايات القُصاص، حتى وبعض المؤرخين وليس هذا الصولجان الذي يتصف باليقظة والوسن بأعجب من خاتم المارد الذي يعمل كل نوع من المعجزات، أو القضيب الذي يحرك بساط الريح ويطيره، وهلمَّ جرًّا.
(٣٥) البلج: الطلق المحيا.
(٣٦) لا يزال شبان الترك وغيرهم من أبناء الشرق إذا خاطبوا شيخًا قالوا له: يا أبتاه، كما قال هرمس. فيقال لهم: يا بنيَّ، كما أجاب فريام فيما يلي.
(٣٧) يمتثل: يتصور.
(٣٨) أمتثل: أُبَيِّن.
(٣٩) امتشل السيف: استله.
(٤٠) لا غرو أن يشفق فريام من طرح جثة ابنه هكطور للغضف، أي: الكلاب لما كان يعلم من تحدم آخيل غيظًا عليه. في تواريخ العرب أن سليمان بن علي عم السفاح العباسي قتل بالبصرة جماعة من بني أمية، وأمر بهم فجروا بأرجلهم وألقوا على الطريق فأكلتهم الكلاب.
(٤١) يجتذل: يطرب.
(٤٢) كأني بهوميروس وهو ينظم هذين البيتين، قد ألقى بروح النبوءة أمثولة على الجم الغفير من عمال حكومات هذا الزمان ينبئهم بها، كيف كانت أداب الأمور في زمانه، وعظة يقيدهم بها إن كل صلة ينفح بها التابع، فتمد إليها يده خفية عن المتبوع تعد رشوة وسرقة، وكل رشوة تؤخذ إنما تعد اختلاسًا من بيت المال؛ لأنها توجب نقصًا في دخله؛ إذ لو قبل هرمس هدية فريام وأخذ منه الكأس لنقصت من التحف المهداة إلى آخيل.
(٤٣) أتلج: ولج.
(٤٤) أي: ألفى الأرصاد متأهبة لتناول الطعام، فصب الهجوع على أجفانها هذا التعبير الأخير من التعبيرات الهوميرية المألوفة.
(٤٥) الأرتاج: الأبواب، والأزلاج: الأقفال، وزلج الباب: أغلقه بالأزلاج. والمراد بالحصار: السور الذي بناه الإغريق وراء السفن.
(٤٦) زلج: خف وأسرع.
(٤٧) الأغمية: السقوف. والمزلاج: المغلاق، ورتج: أقفل. يصف لنا الشاعر خيمة آخيل أو صريفته؛ إذ لم تكن مصنوعة من القماش بل كانت مبنية من سوق شجر السرو ومسقوفة بالبردي، (وفي الأصل القصب ذي الزغب) المقطوع من تلك المروج تحيط بها دار متسعة قائمة على أعمدة. ويستفاد من هذا الوصف، ومما تقدمه في النشيد التاسع أنها كانت مقسمة عدة أقسام ففيها الحرم، وفيها المضيف، وفيها غرف أخرى، فلما أوفد أوذيس وجماعته لاسترضاء آخيل وبات فينكس عنده أفرزت له غرفة وبات فطرقل وحظيته بغرفة، وآخيل بغرفة أخرى هذا خلا منازل السبايا، والمضيف الأكبر، وهي أشبه شيءٍ بصرائف شيوخ العرب النازلين في البقاع الزراعية كبر العراق لأيامنا هذه إلا أن الغالب في هذه الصرائف أن يكون المضيف فيها منزلًا متسعًا منفصلًا عن الحرم.
ولا شك أن أمثال هذه الصرائف لم يكن يقام إلا للزعماء في أزمنة الحصار الطوال.
(٤٨) أي: ناشده باسم أبيه وأمه وابنه.
(٤٩) قضى هرمس رسالته وأبلغ فريام سلفًا إلى منزل آخيل، ثم توارى وقفل عنه راجعًا.
يرى حفظة التوراة لأول وهلة شبهًا غريبًا بين رسالة هرمس ورسالة الملاك الذي رافق طوبيا، وقد أرسله أبوه إلى غلبيلوس بمدينة راجيس بأرض الماديين، وهو يجهل الطريق: «فبينما خرج طوبيا إذا بفتى بهي قد وقف مشمرًا كأنه متأهب للمسير فسلم عليه، وهو يجهل أنه ملاك الله، وقال: من أين أقبلت يا فتى الخير؟ قال: أنا من بني إسرائيل. فقال له طوبيا: وهل تعرف الطريق الآخذة إلى بلاد الماديين؟ قال: أعرفها، وقد سلكت جميع طرقها مرارًا كثيرة، وكنت نازلًا باخينا غابيلوس المقيم براجيس مدينة الماديين». فدخل طوبيا بالملاك على أبيه فسأله أن يذهب بابنه دليلًا إلى راجيس على أن يؤدي له أجرته: «فقال له الملاك: آخذه وأعود به إليك؟ فقال له: أخبرني من أي عشيرة؟ ومن أي سبط أنت؟ فقال له رافائيل الملاك: أفي نسب الأجير حاجتك؟ أم في الأجير الذي يذهب مع ابنك؟ ولكن لكي لا أقلق بالك أنا عزريا بن حننيا العظيم». فرافق طوبيا وجرت المعجزات على يده ورجع به سالمًا إلى والديه، ولما سئل أن يأخذ أجرته قال: «إني رافائيل الملاك …، والآن قد حان لي أن أرجع إلى من أرسلني …، وبعد أن قال هذا ارتفع عن أبصارهم، فلم يعودوا يعاينونه بعد ذلك». (سفر طوبيا، فصل: ٥ – ١٢). وأمثال ظهور الملائكة للبشر كثيرة في التوراة والإنجيل والقرآن، ‏‏كقوله‎: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيٍّا. ‎‎ولهذا قال بعض الشراح: إن هوميروس أخذ هذه الرواية عن التوراة؛ إذ كان عالمًا بما تلقنه من اليهود أثناء إقامته بمصر أن الباري عز وجل قد ينفذ ملائكته رسلًا إلى البشر.
ولا أخال هذا الزعم صادقًا في كلياته، وإن أمكن صدقه في هذه الرواية؛ لأن الاعتقاد بالصلة بين الخالق والمخلوق عامٌّ لجميع الأديان منزلة كانت أو غير منزلة، فإنشاد هوميروس لا يكاد يخلو منها نشيد من مخاطبة أو رسالة بين الآلهة والبشر، وجميع الآثار الباقية من كتاب اليونان الذين أحاطوا علمًا بمعتقدات اليهود أو لم يحيطوا ملأى بمثل هذه الروايات، فضلًا عن روايات من هم أقدم منهم من المصريين والكلدان والأشوريين.
(٥٠) أي: إن آخيل وأصحابه دهشوا لرؤية فريام قادمًا عليهم، وليس بحسبانهم أنه قادم كما يدهش القوم في دار رجل ذي عزوة وشأن إذا دخل عليهم فجأة رجل جانٍ يطلب اللياذ، فهم على ما ترى كأبناء البادية؛ إذ كانوا ولا يزالون يحمون الصريخ وينزلونه منزلة الجار والنزيل، وإن عظمت جنايته وضعفت عزوته. قال الكميت:
وجيش نصير جاءنا عن جناية
فكان علينا واجبًا أن يزورا
أي: أن يكرم ويؤخذ بيده، ومثله قول سليم بن محرز:
ونمنع سرب الجار إن رامه العدى
جهارًا بخطي تهز سلاهبه
وقول عنترة:
وإني لأحمي الجار في كل زلة
وأفرح بالضيف المقيم وأبهجُ
(٥١) مهما رسم الرسامون من مثال لمنتهى الشقاء والذل، فما هم بآتين بمثل هذا المشهد المهيب: ملكٌ نبيلٌ، وشيخٌ جليلٌ يجرر شيبه على قمي فتى فتاك، ويقبل اليد التي سلبته نعيم الدنيا، وبطشت بولدٍ هم صفوة أبطال زمانهم، ومهما شحذت القرائح فما هي بمنتجة أبلغ من خطاب فريام لآخيل وأوقع منه في النفس حتى هاج مدمع ذلك القلب الصلب، فاجأ فريام آخيل وقومه وما أحسوا إلا أن هو بينهم، فبهتوا فانسل وأهوى على ركبتي آخيل، وأخذ يقبل يديه، وقبل أن يبسط مرامه افتتح كلامه بقول يلين الجلمود؛ إذ أمر على مخيلته بعبارة وجيزة ذكرى أبيه فيلا، وهو كما علمت أعز الناس على آخيل وقد أدركه العجز وكساه الشيب حلة الجلال، ثم قابل بين حالته وحالة ذلك الشيخ الناءِ، فإذا هو أجدر بالرفق بما لا يقاس، ثم مر عجلًا على ذكر مقتل أبنائه حتى إذا أنس من آخيل ارتياحًا أتى على ذكر هكطور ومقتله، ولم يذكر من مناقبه إلا أنه كان يحمي ذماره وعشيرته، وليست سواها منقبة تعلي قدره لدى آخيل وتعطفه عليه، وإن كان عدوه الألد ووطَّأ للختام بتكرار ذكر فيلا، واختتم بعبارة أخذت بجميع أطراف المذلة والتعاسة وهي قوله:
هذه الكف أسُّ بؤسي وذلي
وبها ابني أضحى قتيلًا جديلا
وأنا قد قبلتها تقبيلا
فلا بدع بعد ذلك أن ينتحب آخيل على عزة نفسه، وقد نصبت لعينيه كل هاتيك الرسوم.
(٥٢) يقول: إن في أعتاب زفس قارورتين (أو دنين)؛ قارورة جعل فيها شراب الخير، وقارورة شراب الشر، فيسقي الناس؛ إما من إحداهما، وإما من كلتيهما، فالذي يُسقَى مزيجًا من الخير والشر يلقى خيرًا ويلقى شرًّا، والذي يسقى من الشر لا يلقى إلا الشر والشقاء.
وفي هذا التوزيع حكمة صادقة قَلَّ من ينتبه إليها، وهي أنه لم يقل بوجود بشر يسقى من قارورة الخير وحدها إشارة إلى أنه لا راحة تامة لأحد من بني الإنسان.
هذه خرافة من خرافات القوم، ولكنها تتضمن حقيقة راسخة، وفيها استعارة لطيفة ورد أمثالها في التوراة؛ إذ ذكر صاحب المزامير كأسًا بيد الحق جلَّ جلاله، ونكاد نجد في كلام شعرائنا كأسًا لكل محمود ومكروه، قال عنترة:
لا تسقني كأس الحياة بذلة
بل فاسقني بالعز كأس الحنظلِ
وقال ابن الفارض:
سقتني حميا الحب راحة مقلتي
وكأسي محيا من عن الحسن جلَّتِ
ومن مرويات الزمخشري:
ما أرجي بالعيش بعد أناسٍ
قد أراهم سقوا بكأس حلاق
والمراد بكأس حلاق: الموت.
(٥٣) كانت مملكة فريام ممتدة من سواحل بحر هيلا (الدردنيل) شمالًا إلى لسبوس جنوبًا إلى فريجيا شرقًا، وذكر إسطرابون أنها كانت تسع ممالك منضمة جميعًا تحت لواء فريام، فقول هوميروس هنا قول عالم بجغرافية زمانه محقق.
(٥٤) قال أراكة:
لعمري لئن أتبعت عينك ما مضى
به الدهر أو ساق الحمام إلى القبر
لتفتقدن ماء الشئون بأسره
وإن كنت تمريهنَّ من ثبج البحر
تأمل فإن كان البكا رد هالكا
على أحدٍ فاجهد بكاك على عمرو
(٥٥) لقد أكبر الشاعر بطله آخيل بهذا العطف على فريام فوق إكباره إياه بسائر ما قال؛ إذ أبرزه هنا ذا عاطفة وحكمة وحنان فبات المستعطَفُ المستعطِف، وهي براعة من الشاعر نادرة المثال؛ إذ أضاف إلى مناقبه منقبة هي أعظمهن وأبعدهن عن ذهن المطالع، فلا يأتي على ختام الإلياذة إلا وقد رسخ في تصوره أن آخيل من أعاظم الخلق بأسًا وكرامة وعزة وشهامة، وهو وإن كان صعب المقاد صلب الجنان، فلا يخلو عنصره من أصفى جواهر الكرم والورع والإحسان.
(٥٦) عيون العيون: نواظر الأرصاد. هذه آخر شرارة قذفها آخيل عن زناد غضبه الذي بنيت عليه الرواية، وهنا خبت ناره فبات دعة وكرمًا بعد ذلك الاحتدام الوهاج.
(٥٧) قد علمت مما مر من التمثيل بجثة هكطور ووعيد آخيل وهديده، أنه كان ينوي لها شر النيات، أما الآن وقد انطفأت جذوة غيظه وارعوى إلى الصواب، فقد رجع إلى إجراء الواجب بعرفهم من رعاية جثث الموتى، فأمر بتكفينه وتطييبه على ما يليق بمقامه. تلك كانت حالة العرب في جاهليتهم فقد كانوا إذا اشتد بهم الكيد يمثلون بالقتلى مثلة قبيحة، ولكنهم كانوا فيما سوى ذلك يحترمون جثث القتلى ولو من أعدائهم. قد جاء في الأثر أن جسَّاسًا لما قتل كليبًا وضع على جثته حجارًا لئلا تأكلها السباع. والتمثيل بالقتلى مما نهى عنه الإسلام كما تقدم، وفي الحديث عن عائشة: «كسر عظم الميت ككسره حيًّا» أي: إنه لا يهان كما لا يهان الحي. ومن مرويات الحديث أيضًا: «لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خيرٌ له من أن يجلس على قبر» ومن هذا القبيل قول المعري:
خفف الوطء ما أظن أديم الـ
أرض إلا من هذه الأجساد
وقبيحٌ بنا وإن قدم العهـ
ـد هوان الآباء والأجداد
(٥٨) حبذا لو ذكر الشاعر في جملة خطاب آخيل لفطرقل أمر زفس بالتخلي عن هكطور؛ لأن ذلك يجمل عذره لديه، فهو أقرب إلى إظهار الاضطرار من قبول الفكاك واستبقاء سهم فطرقل منه.
(٥٩) أشار آخيل إلى قصة مشهورة في خرافاتهم مؤاساةً لفريام، وحثًّا له على تناول الزاد؛ ذلك أن نيوبا ابنة الطنطال وامرأة أمفيون ملك ثيبة كانت تعتز بكثرة أولادها، وهم ستة بنين وست بنات، ففاخرت بهم لاطونة عشيقة زفس، ولم يكن للاطونة سوى ولدين فيبوس (الشمس)، وأرطميس (القمر)، فحنقت لاطونة وأغرت ولديها فقتلا جميع أولاد نيوبا، فلبثوا تسعة أيام مجندلين على التراب بدمائهم لا يضمهم لحد؛ لأن زفس كان يمسخ كل من دنا إليهم حجرًا، ولما كان اليوم العاشر دفنتهم الآلهة، ثم مُسخت نيوبا، كما تحولت امرأة لوط نصب ملح على ما جاء في التوراة (تك ٢٦:١٩)، ولكن نيوبا بقيت على كونها جمادًا تتألم.
يقول آخيل لفريام: إن مصاب نيوبا بأولادها فوق مصابك، ومع ذلك فقد شعرت بالجوع وأكلت، فهذا وقت الطعام، وللنوح والبكاء وقت آخر.
figure
نيوبا وأحد أولادها.
(٦٠) الضنو: الأولاد.
(٦١) الطوى: الجوع.
(٦٢) أربوها: قطعوها، والآراب: القطع، وسفدوا: شكوا في السفافيد.
(٦٣) ابن دردانوس: فريام.
(٦٤) الزرابي: الطنافس والبسط.
(٦٥) يقول آخيل: إنه قد جرت عادة الزعماء (بعد مقتل هكطور) أن يجتمعوا لديه يتشاورون في أمرهم، ولهذا أمر أن يعد فراش فريام خارج الساباط لئلا يراه أحد، فيعلم به أغاممنون والجيش فيصعب عليه الخلاص بعد ذلك.
قصد الشاعر بقوله هذا أن يثبت مرة أخرى كرم أخلاق آخيل، وأن يعيد ذكرى ما له من علو المقام بين الرؤساء، وإن لم تكن الرئاسة له وأن يوطئ توطئة حسنة لما يلي؛ إذ لو كان فريام داخل الخيمة لما تيسر له الفرار ليلًا كما سيجيئ.
(٦٦) يرجي: يؤخر، وأراد بالمليك أغاممنون.
(٦٧) التواثق بالتصافح قديم العهد. راجع مطالعتنا بهذا الباب (ن ١٠).
(٦٨) أي: إذا درى بك أغاممنون وقومه بذلوا لآخيل ثلاثة أضعاف ما بذلت، وأخذوك فقتلوك فتزيد مصاب أبنائك الباقين بعد هكطور.
(٦٩) إذلعبت: جدت.
(٧٠) النطاب: الرأس، أي: رأس هكطور.
(٧١) يظهر من كلام هوميروس في هذا الموضع ومن مظان في التوراة وكتب العرب أن النياحة كانت مهنة تحترف بها طائفة من الناس، وهي من لوازم المآتم، وقد ذكر صاحب الأغاني جماعة كانت هذه مهنتهم كابن سريج وغريض وغيرهما، وفضلًا عن ذلك كان النساء يندبن الموتى صارخات ومغنيات وعازفات. ذكر ابن الأثير وغيره من مؤرخي العرب أن نساء المشركين خرجن بعد غزوة بدر وبأيديهنَّ الدفوف ينقرن عليها ويندبن الموتى، وقد قضت الحضارة على هذه العادة فتلاشت من أكثر البلاد، وهي مع ذلك لا تزال فاشية في الأقاليم المصرية وبعض البلاد الشرقية.
(٧٢) كدم الأرض للقتيل، وعض الثرى، وأكل التراب من المجاز المألوف في أكثر الألسنة، قال عنترة:
كم شجاع دنا إليَّ ونادى
يا لقومي أنا الشجاع المهيب
ما دعاني إلا مضى يكدم الأر
ض وقد شققت عليه الجيوب
(٧٣) لا غرو أن تقول أنذروماخ: إن مصابها بهكطور فوق مصاب أبيه وأمه وسائر ذويه، وهو قول يصدق على كل أيِّم، قالت جليلة بنت مرة ترثي زوجها كليبًا:
يا قتيلًا قوض الدهر به
سقف بيتي جميعًا من علِ
ورماني قتله من كثبٍ
رمية المصمي به المستأصل
يا نسائي دونكنَّ اليوم قد
خصني الدهر برزءٍ معضل
خصني قتل كليب بلظًى
من ورائي ولظًى مستقبل
ليته كان دمًا فاحتلبوا
دررًا منه دمي من أكحلي
(٧٤) الذباب: حد النصل، أشارت بقولها: لخليل إلى فطرقل.
(٧٥) الصولج: الفضة، والحنية: القوس، أي: لا أزال أراك رطبًا جميلًا غير مشوَّه بالجراح، ولا معفر بالتراب، كمن أماته فيبوس بسهم دقيق رماه به عن قوسه اللجيني، أو بعبارة أخرى كمن مات حتف أنفه.
(٧٦) انشعبت: مت.
(٧٧) لا حاجة بنا إلى إيراد مطالعة على مناحة زوجة هكطور وأمه وامرأة أخيه، فقد تقدم لنا كلام بهذا المعنى (ن ٢٢) يصدق مجملًا على هذا الموضع، وإنما تنبه إلى أن الشاعر لم يُنطق فريام هنا بشيءٍ مما أنطقه هناك؛ لأنه لم يكن لكلامه موضع بعد أن أفرغ كنانة حزنه في كل أجزاء هذا النشيد، ولم يكن بد من إنطاق هيلانة؛ لأنه لا يصح أن تختتم المنظومة وقد سدل عليها ستار النسيان وهي سبب كل هذا البلاء، وهكذا فإن الشاعر جعل الوصف كاملًا والحزن شاملًا واختتم هذا النشيد، وفيه ختام الإلياذة بمشهد من أشد المشاهد تأثيرًا في النفوس، فالأمة كلها قائمة قاعدة للاحتفاء بملقى هكطور ميتًا، وشقيقته كلها جزع وحزن قلقة على شرفات الأبراج، وأبوه الشيخ الهرم عائد به بعد أن خاطر بحياته لأجل جثته، وزوجه ترثي رثاء الأيم المتوقعة غدرات الزمان، وأمه تندب الجمال والكمال وتئن أنين الرءوم، وهيلانة تنوح نوح الفاقدة النصير الموقنة بسوء المصير، وعلى الجملة فإن الدنيا برمتها متمثلة للقارئ عناء وشقاء.
(٧٨) لم يطل الشاعر في وصف مأتم هكطور؛ لأنه لم يبق محل لذلك بعد أن أسهب ذلك الإسهاب في مأتم فطرقل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤