النشيد الخامس

بطش ذيوميذ

مُجْمَلهُ

اندفع ذيوميذ إلى ساحة القتال بإيعاز آثينا، فقاتل قتال الأسود، وكان آريس إله الحرب عاملًا على نجدة الطرواد، فحملته أثينا على مغادرة ميدان الكفاح فاصطدم الجيشان، واستظهر الإغريق وجرح ذيوميذ بسهم أطاره عليه فنداروس، ولكن الجرح لم يكن قاضيًا.

فاندفع ثانية وفتك بالأعداء فتكًا ذريعًا، فاجتمع آنياس وفنداروس على قتال ذيوميذ، فجندل ذيوميذ فنداروس وكاد يفتك بآنياس لو لم تبادر أمه الزهرة، وتحلق طائرة به، وكانت أثينا قد جعلت لزيوميذ قوة التمييز بين الآلهة والبشر وأغرته بطعن الزهرة أيان تسنى له ذلك، فأطار عليها سهمًا وجرحها في يدها فأسرعت إلى الأولمب، وشكت إلى أمها ما نالها من تحامل ذيوميذ عليها، فطيبت قلبها ولأمت الجرح، وبادرت أثينا وهيرا فشكتا الزهرة إلى زفس حتى لا يتأثر لشكواها، وما لبث ذيوميذ بعد ذلك أن قصد الإيقاع بأفلون، فزجره أفلون ونادى بآريس لنجدة الطرواد فتزيا آريس بزي بشر وأسرع فاستنهض همم الطرواد فهاجت الحمية هكطور وعاد آنياس سالمًا، واصطدم الجيشان وجرت الدماء سيلًا من الفريقين، وكان أشدهم بطشًا هكطور بين الطرواد، وذيوميذ بين الإغريق، وكان آريس نصيرًا للطرواد في تلك المعمعة ففازوا الفوز المبين، ففزعت هيرا وآثينا للإغريق فصعدتا إلى السماء واستأذنتا زفس فأذن لهما بصد هجمات آريس، فحثت أثينا ذيوميذ على الفتك به فطعنه وجرحه، فصعد يشكو أمره إلى زفس فأنَّبه وعنفه ثم أمر بالتئام جرحه، وعادت من ثم أثينا وهيرا إلى مقام زفس.

مجرى وقائع هذا النشيد كالنشيد السابق، وهي حلقة من حلقات يومه أيضًا.

النشيد الخامس

حبت فالاس ذاك اليوم عزمًا
وبأسًا لابن تيذيُسٍ مَنِيعا١
ليعظُمَ في بني الإغريق شأنًا
ويبلغ فيهم الشرف الرَّفيعا
وفوق صِفَاح مغْفرِهِ أفاضت
وفوق مجنِّه قَبَسًا بديعا
فَشَبَّ بِرَأْسِه وبِمَنْكبَيْه
شعاعٌ فاض مندفقًا سطيعا
ككوكبة الخَرِيف قد استحمَّت
بلُجِّ البَحْرِ وامتطت الرَّقيعا٢
وألقته إلى حيث الأعادي
تُكثِّف من كتائبها الجموعا
«وكان بزمرة الطرواد شيخٌ
وفير المال لم يُدْنَس صنيعا
بذارس عرَّفوه وكان إلفًا
لهيفستٍ وكاهنه المُطيعا
كذا ولداه إيذيس وفيغس
ضروب الحرب قد بلوا جميعا»
فكرَّا فوق مركبةٍ عليه
وأقدم راجلًا يطس الرُّبوعا٣
وبادر فيغسٌ لمَّا تَدَانَوا
إلى مزراقه طعنًا مَرُوعا
فعن كتفيه مُنعطفًا يَمينًا
مضى ونبا ولم يسل النَّجيعا
فزجَّ ذيومذٌ بشحيذ نصلٍ
فشقَّ الصدر واخترق الضُّلُوعا
فَخَرَّ إلى الحضيض وَخَارَ عَزْمًا
أخوه ففرَّ مُنْهَزِمًا هَلُوعا
فغادر متن مركبه ولولا
إلهُ النَّار أدْرَكَهُ صَرِيعا
فَهِيفستٌ هُنا واراه حَتَّى
يُخَفِّف عَن حشا الشيخ الصُّدُوعا
وصاح ذيومذٌ بذويه هَيُّوا
إلى السفن الجياد خذوا سَرِيعًا٤
فَجَلَّ الخطبُ بالطرواد لمَّا
عَنَا بطليهما جُهدًا أُضِيعا
فذا مُلْقًى تخضَّب من دماهُ
وذا لاوٍ بخيبته رُجوعا
بَكَفِّ إله الحرب فالاس أمسكت
وقالت: «إلى مَ الفتك يا سافك الدِّما
ويا هادم الأسوار يا باعث الفنا
ألا ما تركنا الحرب للنَّاس مَعْلمَا
بشأنهم دَعْهُم ونحن بمعزلٍ
ومن شاء زفس فليعزَّ مُحكما
بذا نَتَوَقَّى غَيْظَهُ» وَمَضَت به
لضفَّة إسكامندر حيث أحجما
فَوَلَّت لدى الإغريق طروادة العدى
وكل زعيمٍ منهم اجتاح أيهما
فكان أغاممنون أوَّل فاتكٍ
بأوذيسٍ من للهليزونة انتمى
فألقى إليه طعنةً وهو مدبرٌ
بمركبةٍ يبغي الهزيمة مَغْنَما
فَقُوِّض مبتتًّا إلى الصَّدر ظَهْرُهُ
فَجُندِل مَصْرُوعًا على الأرض وارْتَمَى
فَصَلَّت عليه شكَّةٌ وإذُومنٌ
على ابن الميوني بورسٍ كرَّ مُقْدِما
فمن أرْض طَرْنا كان فَسْطُس قد أَتى
فَرَاحَ ونُورُ الطَّرف بالحتف أظْلَما
لقد كاد يعلو مَتْن مركبِهِ على
رجاء نجاةٍ والحمام تَقَدَّما
على كتفٍ يُمْنَى تولَّته طَعْنَةٌ
فألْقَتْه في تُرب الحضيض مُيَمَّمًا
فَبَادَرَ أصحابُ المَلِيكِ إذومنٍ
لنزع سلاحٍ عنه كسبًا مُسَهمَّا
ورام منيلا إسكمندر ستْرُفٍ
فبادره طعنًا برُمحٍ تَقَدَّما
«لقد كان بالأنضاد هَوْلًا مروعًا
لوحش الفلا والرَّمي بالنَّبل أَحْكمَا
وقد علَّمته أرطميس فنونها
فلم يغن بأسٌ فيه بالشُّمِّ قَدْ سما٥
فمن منكبيه أولج الرُّمح نافذًا
إلى الصَّدر لمَّا للفرار تَجَشَّما
أكب على وجه الحضيض بوجهه
ومن فوقه صوت الحديد تَهَزَّما
وأقبل مِرْيونٌ وراء فركلسٍ
وبادره طعنًا بردفٍ تهشَّما
فأنفذ تحت العظم نصلٌ مُمزَّقصا
مثانَتَه فانقض يجثو مُهَمْهِما
هو ابنُ السَّرِي هَرْمُوْنذَ الصَّانع الذي
أَجَلَّتْه فالاسٌ وزادته أنْعُما
وقد عَلَّمَتْه شائق الذوق وابنه
حكاه وأعمال اليدين تَعَلَّما
فأتقن صُنعًا فُلك فاريس جُمْلةً
فكانت عليهم وبل شرٍ مُعَممَّا
وفارقه نور الحياة ولم يكن
ليفقه أنباء السماء مُقَدَّما
وفيذيس وافاه ميجيسُ طاعنًا
فَذَالا بِمَسْقي السنان تفصَّما٦
فَمَرَّ سنانُ الرُّمح بالفَكِّ خارقًا
ثناياه واقتبَّ اللِّسان مُصَرَّما
فَخَرَّ يعضُّ النصل في التُّرب خابطًا
ومُهْجَة أنطيْنُور بالحزن أَضْرَما
«هو ابنٌ له من غير زوجٍ حليلةٍ
وعند ثيانو زوجه الحلِّ قد نما
فحُبًّا بأنْطِينُور مثواه أكْرَمَت
فَشَبَّ ربيبًا كالبنين مكُرَّمًا»
تلاه ابن ذولفُيون كاهن زنثسٍ
ومن كان كالأرباب فيهم مُعَظَّما
تأثَّرَه أوريفلٌ وهو قافلٌ
فلم يجده أن يُسْتذَلَّ وَيُهْزَما
فأدركه يبتتُّ بالسَّيْفِ كَتْفهُ
فَمَاتَ ولم يُدْرِك مَرامًا تَوَهَّمَا
لو تَرَبَّصْتَ والعَجَاج اسْتَطارا
ونجيع الدِّماء سال وفارا٧
وتَبَصَّرت بابن تيذيسٍ لم
تدر أيُّ الجيشين منهُ أغارا
مُسْتَشِيطًا ينقض فوق الأعادي
ينهب السهل بين عادٍ وغاد
كخليج يضيقُ بالسَّيل مَجْرَا
ه فيستأصل الجُسُور الكبارا
ويقضُّ السدود والزُّبد يدفع
ومباني الحُرَّاث منه تُزعزع
وتلاشى آمالهم بعبابٍ
ساقه زفس فوقه مِدْرارا٨
فصفُوُف العَدَى وإن زِدْنَ عَدَّا
ضِقْنَ ذَرْعًا عَنْ صَدِّهِ اليَوْم صَدَّا
شُتِّتُوا حيث ثار يُعْملُ سُمْرًا
فارياتٍ وصارمًا بتَّارا
ساء صنديد ليقيا أن رآه
يخرُقُ الجَيْشَ صَائِلًا بِقُواهُ٩
فَعَلَيْه مُسَدِّدا مد قوسًا
وإِلَيه أمَرَّ سَهْمٍ أطَارا
لخلايا الدُّرُوع سار وأُوْلِجْ
وَبِيُمْنَى الكتفين غار يُهَمْلِج
فَجَرَت تَخْضِب الدروع دماءُ
ودعا فندروس ينمي الفخارا:
«يا خيار الفرسان قوم الولاء
بادروا قد أدميت خير أخائي
إن يكن صادقًا دعاء ابن زفسٍ
لي فبالسَّهم سوف يَلْقى البَوَارا»١٠
إنما الجرح لم يكن قتَّالا
والجريح انثنى يروم العجالا
جاء أسْتِينْلًا وقال: «أخي با
دِرْ وأخرج سهمًا بكتفي غارا»
فإلى الأرض واثبًا مال يجتر
ذلك السَّهْم والنَّجِيع تَفَجَّر١١
قام يدعو ذيُومذٌ ودماهُ
صبغت حلَّةُ الزُّرُود احمرارًا:
«إن تكوني يا بنت ربِّ التُّروس
زدتني البأس يوم قَرْعِ البُئُوس١٢
وأبي قَبْلُ عنه لم تَتَخَلَّى
لا ترومي عن مبتغاي استتارا
قربي من مرمى حرابي غرورًا
صال وليلق من ذراعي الثُّبورا
قد رماني وظنَّ يَفْخر أَنِّي
من سنا الشمس لن أرى الْأنْوَارا»
فأصاخت وَجَدَّدت فيه حَزْمًا
ونشاطًا وشَدَّدَت مِنهُ عَزْمًا
وإليه مَالَت تَقُولُ: «ألا كـ
ـرَّ على موقف العِدى تَكْرارا
فيك أنزلت كُلَّ بأس أبيكا
وأزلتُ الغَمامَ حَتَّى أُرِيكا
فالحِجابُ انجلى فَتَعْرِفُ من تلـ
ـقى أإنسًا أم خالدًا قَهَّارا١٣
فلئن خِلْتَ خَالدًا جَاءَ يَبْلُو
فاجْتَنِبْهُ ما أنت لِلصَّدِّ أهْلُ
غير قبريس إن تلح لك فاطعنـ
ـها ولا ترهب انتقامًا وثارا»١٤
وتوارت عنه فهَبَّ مُغِيرًا
مذ أثارت للبطش فِيهِ سَعِيرا
ثَلَّثَت عَزْمه فَكَرَّ يُحَاكي
بأعاديه ضَيْغمًا هَصَّارا
كَهِزبر بين المراعي يفاجي
واثبًا فوق راتِعات النِّعاج
يبتليه الرَّاعي بسهمٍ فَتَزدا
د قواه وينثني لا يُجَارى
يَتَخلَّى الرَّاعي سحيق الفُؤَاد
ولمأواه يلتجي بارْتِعَاد
فَتُراع الشياه مرتمياتٍ
جازعاتٍ ينفرن منه نَفَارا
عائثًا عابثًا منى النفس يقضي
ثُمَّ عنهنَّ بالمفاوز يَمْضِي
هَكَذَا في العدى ذيُومِيذُ أَلْقى
رَوْعَه كالأُسُود لَيْسَ يُبَارى١٥
فبهيفيرنٍ وأسْتِينُوُوْس
بادئًا حام حَوْلَ قَتْلِ النُّفُوس
فَرَمى عُنْقَ ذاك بالسَّيْفِ والبأ
ديل بالرَّأس عن عُرى الجِيد طَارا١٦
وعلى ذا بالثَّدي مَدَّ قناه
فرماه ثم انثنى لسواهُ
وعلى ابني أفريذماسٍ أباسٍ
وفليذ كأس الحتوف أدارا
«لم يفده أن كان شيخًا خبيرًا
من رؤى الخلق يَفْقَه التَّعْبِيرا
لم ينل ما أغناه عن مصرع ابنيـ
ـه على حين للقتال أسارا»
بهما فاتكًا ذِيُوميذ أتْبَع
زنثسًا مع ثوُوْن وَانْسَاب يَهْرَعْ
بهما للهلاك ألقى وأَبْقَى
لِفنُبْسٍ أبيهما الإِدْبَارا
فَهُما عَزَّ عُمْرِهِ ومُنَاه
وارثًا كُلِّ ذُخْرِهِ وَغِناهُ
لم يُؤَمِّل سِوَاهُما من وَلِيٍّ
وبه العَجْزُ أنْشَبَ الْأظْفارا
بقي اليأس والتَّحرُّق فيه
حظَّه والأموال حَظَّ ذَوِيه١٧
وَذِيُوميْذُ حَظُّه الفتك فانقـ
ـضَّ على ابني فريام يُهِمي التَّبَارا
نَحْوَ إيخيمون وأخْرُ ميُوس
شَبَّ كاللَّيث فوق قَطْعِ الرُّءُوس
ذاك لما في الغاب يسحق عُنْقَ الـ
ـثَّور سَحْقًا وينثني مُمْتَارا١٨
هَبَّ يَرْمِيْهما بِمَرْكَبَةٍ قَدْ
رَكِباها وَعُدَّةَ الْحَرْب جرَّد
وإلى صَحْبِهِ أشار بأن سو
قوا إلى الفلك خَيلَها إلا حرارا
فرأى آنياس فَتْكًا ذَرِيْعا
منه بالقوم راح يجري سَرِيعَا١٩
تحت وقع القَنا وَوَقْع السِّهام انـ
ـساب يبغي ابْن لِيْقَوُوْن اغْتِرَارا
فأَتَاهُ مِن بَعْدِ جهدٍ جَهِيدِ
مستجيشًا بالبأس بين الجُنُود
قال: «يا فندروس حَتَّى مَ قَوْسًا
وسهامًا قد ادَّخرت ادِّخارا
وإلى مَ احْتويت مجدًا قديمًا
هلْ هُنْا مَن حكاك شَأْنًا عظيمًا
وأَشَدُّ الرُّمَاة فِي لِيْقِيا هَلْ
بكَ قِيْسُوا مَهَارةً واشْتَهَارا
دُوْنَك القَرْمَ ذا الذي غاب عنِّي
نور عرفانه أحقَّقت ظنِّي
وَلِزَفسٍ بسطت كفًّا وأنْفَذْ
ت له سهمك المريش اهْتِوارا٢٠
كم رقابٍ رمى وكم من ركاب
قد لوى من بواسل الأتراب
فعسى لا يكون ربًّا مغيظًا
لم نقدِّم له الضحايا الكثارا
إنَّ غَيظَ الأَرْبابِ أدْهى الشُّرُور»
قال: «يا آنياس خَيْرَ مُشِيرِ٢١
إن يكن صادقًا مَقَالي وظَنِّي
فأرى ذا ذِيُومِذَ الجَبَّارا
ذاك حتمًا مِجَنُّهُ والقَتِيرُ
هذه خَيْلُهُ السِّراع تُغِيرُ
هذه الخُوْذَةُ المُثَلَّثَةُ الأطـ
ـراف لكن لا أجْزِمنَّ ائْتِرَارا٢٢
فهو إمَّا ربُّ ذِيُوْمِيْذَ مَثَّلْ
أو إلى جانبيه في الغيم أقْبَلْ
فَيَلِيهِ ويدفع الصمَّ عنه
ويقيه ويرفع الأخطارا
كاد سهمي يُذيقه الحَتْفَ لما
غار في الكتف والدَّم الجَمَّ أهمى
خلْتُهُ للْجَحِيم يَمْضِي وَلكِن
كَرُّهُ الآن كَذَّبَ الأَفكارا
آه أين العجالُ أين جِيادي
راجلًا جئت طامِعًا باشتدادي
وعلى الرُّحب مَرْكَباني إحدى
عشرة فوقها سدلتُ السِّتارا
ولكلٍ مُطَهَّمان وأكثر
تقضم الدَّوم والشَّعير المُقَشَّر
لم أعِ النُّصح من أبي الهمِّ لمَّا
قد تجشَّمْت لِلْوَغَى الأسفارا
قال فاذهب وكُنْ بِصَدْر الكُمَاة
وعلى القوم كُرَّ بالمركبات
فهو بالحقِّ قد أشار ولكن
قد رأيت العُدُول عَمَّا أشارا
قلت تَضوَى الجِيادُ في تي الديار
لامتناع الكلاء تحت الحصار
راجلًا جئت أرئس القوم مغتـ
ـرًّا بقوسٍ منها لقيت الشنَّارا
قد رميت العميد أتْرِيذ عَنْها
وذِيُوميذ نَالَه الجُرْح منها
فجرت منهما الدماء ولكن
فيهما البأس زاد والجأش ثارا
ساد لا شك طالعُ السُّوءِ لمَّا
قد تناولتُ هذه القوس وَهما
ولإليون قُمْتُ حبًّا بهكطو
ر بقومي إلى الوَغى أمَّارا
فلئن جئت زوجتي وأليفي
وصروحي بعاليات السُّقُوف
لا تخلَّى عن قطع رأسي عدوٌّ
إن بخبري لم أنفذ الأخبارا
هذه القوس شرَّ سَحْقٍ سأسحق
ولجوف النِّيران ترمي فَتُحْرَق
راح كالرِّيح نَفعُها في لا تُجـ
ـدي ائتمارًا كما علمت اختِبارا»٢٣
قال: «يا فندروس مهلًا وهيَّا
بعجالي لكَبْحِه نتهيَّأ
فَهي أولى للصَّدِّ أقْبِل وبادر
نَتَرَبَّص لِمُلْتَقَاه ابْتِدَارا
فجيادي لسوف تَخبْرُ خُبْرا
جَرْيها في السُّهول كرًّا وفرَّا
وإذا زفس شاء نصر ذيوميـ
ـذ بها عن مناله نَتَوارى
فخذ السوط ثم أجر الخيولا
وأنا للكفاح أبغي سبيلا
وإذا تبتغي النزال فلي الخيـ
ـل فما شئت فاتَّخذه اختيارا»٢٤
قال: «يا آنياس عندي أحرى
أن تسوق الجياد مذ كنت أدرى
خشيتي لا تَنْقَاد لي ولصَوْتِي
إن دُفعنا إلى الفِرَار اضطرارا
جامحاتٍ تُغِير بين الجنود
فَيُوافي ذيومذٌ بالحَديدِ
وكلينا يَجْتَاحُ والخيلَ يَقْتا
د فسقُها فأنت أكْفى اختبارا٢٥
وليَ الطعن بالقنا والحراب»
ثمَّ ساقا بشدَّةٍ واصْطِخَابِ
لذيوميذ قال إستينلوسٌ
عند ما أقبلا يشُبَّان نارا:
«يا حليف الفؤاد نِدَّيْن أَلْقى
نهضا الآن يطلُبانك حقَّا
آنياس بن عفْرُذِيْتَ وأَنْخِيـ
ـس كذا فَنْدَرُوسًا المِغْوَارا
فاتَّقِ الآنَ فاجِعات المَنَايا
لا تكن في مُقدَّمات السَّرايا
وَخُطَى الجُرْدِ فَلْنُؤَخر» فَوَافَا
ه ذيوميذ بالمَقَال ازْوِرارا:
«لا تُحدِّثني بالفرار فإني
لا إخال المرام تبلغ مِنِّي
ليس شأني وشأن أهلي قبلي
أن نُوَلِّي يوم الوغى الإدبارا
لي عزمٌ لا ينثني للخطوب
جل عن سوق مركبات الرُّكوب
هاكها راجلًا أصول مكرَّا
وأثينا قد حرَّمت لي الفرارا
لن تُنَجِّيهما الجياد جَمِيعا
إن نَجا ذا فذَاكَ أُلْقِي صَرِيعا
إنَّما لي بالأمْر غير مَرامٍ
فادَّكِرْه إذا بطشت ادِّكارا
لَهُمَا إِنْ أَذَقْتُ كأْسَ الحِمَامِ
وأثينا بذاك أَعْلَت مَقَامي
ألقِ حَالًا صُرُوع خَيْلِي في مر
كبتي واجرينَّ منها ائتثارا٢٦
وامض وافتد مُطَهَّمِي آنياس
خير ما في الدنيا من الأَفْراس
نُتِجا من جياد زَفْسَ التِّي للمـ
ـلك أطروس أُهْدِيَت تَذْكارا
عن غنيميذٍ ابنه المَرْفُوعِ
عوضًا نال أصل خير الفروع٢٧
رام أنْخِيْسُ نَسْلَها فَبَغَاها
خِفْيَةً حيث أَلْقَحَ الأَحْجَارا
ستَّةً أَنْتجت فَزَوْجَيْن أبْقى
وإلى آنياس ذا الزَّوج أَلْقى
هاكَهُ يَنْهَب السُّهُول انْتهابًا
آه لو منه أبلغ الأوطارا»
هذا حديثهما انتهى وعليهما
بطلا الطرواد بالعجاجة أقبلا
حتَّى إذا وقفا على مرمى القنا
دُفع ابن ليقاوون يُنْشِدُ أوَّلا:
إن طاش سَهْمِي يا ذيوميذ ففي
ظبة السِّنان لك الحمام مُعَجَّلا»
ورمى القتاة فأولجت بمجنِّه
وتخلَّلته إلى الدُّرُوع تخلُّلا
فَغَرَ ابن ليقاوون فاه كأنَّه
رَعْدٌ دَوَى مستبشرًا مُتَهَلِّلا:
«ولجت حشاك فأنت حَتْمًا هالك
وأنا أنا نِلْتُ المَفَاخِر وَالعُلا»
قال ابن تيذيُس: «هنا ربُّ الوغى
يسقى الدِّما من جوف مفريِّ الكلى
إن فاز بعضُكُما وَفَرَّ مُوَلِّيا
من صولتي لا فوز لِلثَّاني ولا»
وعليه صوَّب طعنة قذفت بها
تفري وتيرته فلاس من العلى٢٨
خرقت ثناياه وجذع لسانه
للحي حيث بَدَت فَخَرَّ مُجَنْدَلا٢٩
فتصلصلت نثراته بسلاحه
والخيلُ شَبَّتْ تَقْشَعِرُّ تَجَفُّلا
فانْقَضَّ يَحْمِي آنياس رَفِيقَهُ
خوفًا عليه من العدى أن يحملا
متدججًا كاللَّيث حام عَلَيْهِ لا
يَخْشَى ولا تلويه جَمْهَرَةُ الملا
وعليه مَدَّ قناته ومجنَّه
بهديده متشوِّفًا مُتَبَسِّلا
عمد ابن تِيْذيُس لهائل صَخْرَةٍ
في عصرنا بطلان لَنْ يَتَحَمَّلا٣٠
حَنِقًا رماه بها بغير تَكَلف
بالفخذ يَسْحَقُ حُقَّهُ مُتَعَجِّلا
برز الأديم ومُزِّقت عضلاته
فجثا على وجه الحضيض مُثَقَّلا
مُسْتَقْبلًا وجه الثرى بذِراعه
والحتف إثر سقوطه مُسْتَقبلا
فَارْبَدَّ ناظِرُهُ ولولا أُمه
قبريس مُبْصِرَةٌ لأدركه البلى
عَشِقَت أباه قَبْلُ وَهْوَ بأَرْضِهِ
يَرْعى العُجُولَ فَرَاودته تَمَحُّلا
والآن عطف الأُمَّهَات على ابْنِها
عَطَفَت تبادر حيث مصرعه انْجَلى
ألقت عليه بضَّ أذْرُعها وقد
خشيت عليه طعن مطلب قلا
سترته في بُرْدٍ زَهِيِّ خُوِّلت
رصدًا يصدُّ العاليات الذُّبَّلا٣١
ومضت به من ساحة الهيجاء تحـ
ـمله عن الأعداء تطلُبُ مَعْزَلا
وَوَعى ابن قافانِيْس ذِيُومذٍ
فاستوقف الأفراس ثُمَّ تَرَجَّلا٣٢
وَسَعى إلى خيل الصريع يَحُثُّها
حَتَّى بها بين الأغارق أُدْخلا
وَدَعا أحب رِفَاقَه ذِيْفيلسًا
لِدَةٌ له حاكاه مَعْنًى مُجْمَلا
لِلْفُلْكِ سَيَّره بها وهو انثنى
لحثيث مَرْكَبَةٍ لَهُ مُسْتَعْجِلا
أخذ الصُّروع السَّاطعات بِكفِّه
واستاق بالعنف الجياد مُجَفِّلا
ومضى يروم ذِيُوْمِذًا وذيومذ
في إثر قبريس يشقَّ الحَجفَلا
مُتَقَصيًّا يَجْرِي ويعلم أنَّها
ليست على بأسٍ يَرُوْعُ مهوِّلا
ليست كإينيَّا مهدمة الفنا
أو مثل آثينا وربَّات البلا
وإذا بها في لُبِّ أوْزَاع العِدَى
فَعَدا إليها طاعنًا مُسْترسلا٣٣
نفذ السِّنان بِبُردها البهج الذي
نسجت لها البهجات حتَّى تَرَفلا٣٤
وجرى لمعصمها اللَّطيف فَفُطِّرَت
بَشَرَاتُهُ بِدَمٍ عليه تَهَيَّلا
بدم نقيِّ بل عصيرٍ رائقٍ
بِعُرُوق أرْبَاب العِباد تَسَلْسَلا
فهم ولا خبز ولا خمر لهم
خَلَدُوا وَمِنْ دَمِنَا وجودُهُمُ خَلا٣٥
صَاحَت وَأَفْلَتَ آنِياسُ فَقَلَّه
بيَدَيْهِ فِيْبُسُ بالسَّحابِ مُظلِّلا
وَمَضَى به طَمَعًا بِحِفْظِ حَياتِهِ
وذِيُوْمذٌ بجهير مَنْطِقِهِ تَلَا:
«يا بِنْتَ زفسَ كفى فكُفِّي وارْعَوِي
لن تَخْدَعِي إِلَّا النِّسَاء الخُمَّلا
فلئن رجعت إلى الحروب فَذِكْرُها
سترين يُوْلِيك الوَبَال الأَثْقَلا»
مضت وفي قَلبها من غَلْبها غُصَصٌ
ما بين مضطرب أمسى وملتهب
وناصع الجسم دامٍ كادَ يُلْبِسُهُ
ثَوبَ السَّوَادا اشتداد الغَيْظِ والكَرَبِ
فبادرتها تُجَارِي الرِّيح طائِرَةً
إيريس تَدْفَعُها عن مضْرَبِ القُضُب
إذا بآريس يسرى القوم تحجبه
والرمح والخيل أرْكَام من السُّحُب
أحنت على رُكْبَتَيْهِ تَبْتَغِي عَجَلًا
خَيْلًا لَهُ مُلْجَمات خالص الذَّهَب
قالت: «أخي أعرنيها لتذهب بي
لِمَرْتَع الخُلْدِ إنَّ الجُرْح بَرَّح بِي
أنالنيه ابن إنسيٍّ أخُو قِحَةِ
لا يَنْثَنِي جَزَعًا حَتَّى لِزَفسَ أبي»
فقال: «دونك أفراسي ومركبتي»
حلت بها بفؤاد خار مكتئب
وإيرس وصُروع الخيل في يدها
تستاقها وهي أجرى من سنا الشُّهب
حتى إذا لذُرَى شُمّ الأُلمب عَلَت
فاستوقفتها وحلَّتها من القَتَب
وبادَرَتها بقُوت الخُلد وانْطَلَقَتْ
لأُمِّها قبْرسٌ تَحنُو على الرُّكَب٣٦
هَشَّت لها واسْتَضْمَّتها لمهجتها
ذِيُونَةٌ تَسْتَقِصُّ الأمر بالعَجَبِ
«وأيُّ رَبٍّ كما لو كنت جانيةً
جنى عَلَيْك كَمَا ألْقاك أيُّ غَبي»
قالت: «فَمَا كان رَبًّا جَلَّ بَلْ بَشرًا
ذاك ابن تيْذيسٍ مُسْتَمطِر النُّوبِ
لأنِّني آنياس رُمْتُ نَجْوَتَهُ
أعَزّما لي بأهل الأرْض من نَسَبِ٣٧
فالدَّانَويُّون بالطُّرواد ما اجتزءوا
حتى إلينا انْثَنَوا بالبيض والشُّهُبِ»
قالت ذيونة: «صبرًا كم لنا مَثَلٌ
بالناس يَبْلُونَ أهْلَ الْخُلْدِ بالنَّصَبِ
فإسوَةٌ لكِ آريسٌ وَهَيْبتُهُ
عامًا وشهرًا ثَوَى في السِّجْن لم يُهَبِ
أَلْقاهُ فيه ابن ألوِيسٍ أُتُوس كذا
أخوه إفْيَلْطُس بالذِّل والحرب
وكبَّلاه بأغلال الحديد وما
أجْدَاه من غضب يشتدُّ أو صخب
وكاد يَهْلِكُ لو لم تُنْم مخْبَرَه
إيريب إذ صانَهُ هِرْمِيس بالحُجُبِ٣٨
وهيرَةٌ فابن أمْفِترونَ أَلَّمها
بشرِّ سَهْمٍ بأعلى الثَّدي مُنتشب
ونفس آذيس ذاك القرم أورثه
مر العذاب بسهم عنه لم يخب
أطاره دون أبواب الجحيم له
عمدًا فنكص ملتاعًا على العقب
فأم صَرْحَ أبي الأرباب زَفْسَ أخا
بؤسٍ بِنَبْلٍ بِعَظم الكتف مُنْتَصِب
فذرَّ بَلْسَمَه فيُّون يبرئه
مذ كان من خالدي الأَدْهارِ والْحَقب٣٩
فيا لويل بني الإنسان إن حملوا
على بني الخلد عن حمق وعن غضب
فالاس أغْرت ذِيُوميذا عَلَيْك ولم
يعلم لصُنْعِ يَدَيْهِ أيَّ مُنْقَلَب٤٠
لم يَدْرِ أنَّ على الأرباب من كَسَبَت
يداه شرًّا إلى الْأوطان لم يَؤُبِ
فلا يَهُشُّ لَهُ من فَوْقِ رُكْبته
طفل يقول بلطف يا أبي أجب
فليخش بطش أخي بأس أشد قوًى
وصولة منك يستقريه بالطَّلَب
ولْيَفكِرَنَّ بأغْيَالا حليلته
ذات الجمال وذاتِ العَقْل والحَسَب٤١
وسنى تؤرِّقها الرُّؤيا فَتُقْلقها
فَتَستفيق بقلب ريع مُضْطَربِ
من ثَمَّ تُوقِظ في لهف جَوَاريها
وينتحبن بدمع فاض مُنْسَكب»٤٢
وطهرت بيديها الجرح فانفرجت
آلامها واستكنت ثِقْلة الوَصَب
لكن أثينا وهيرا مذ تَعَمَّدتا
إغضاب زَفس لما في النَّفس مِنْ أَرَبِ
قالت أثينا: «أبي هل لا يسوءك أن
أقول ما كان في ذا الجرح من سبب
لا شك قبريس رامت دفع غانية
وجد الصبِّ من الطُّرواد ذي نشبِ
فأنشبت بعرى الإبريز راحَتُها
فَمَزَّقتها فرامت نحلة الكَذِب»٤٣
أصاخ يَبْسم واسْتَدعى الجريح على
رفق وقال لها: «يا مُنْيَتِي احتسبي
دعي لآرس وآثينا الحروب ولا
تُعني بغير لذيذ الحبِّ والطَّرب»
لهم في السَّما هذا الحديث وفي الثَّرَى
ذِيُوْميذُ لا يَنْفَك إيْنَاس يَطْلُب
تَحَدَّم يبغيه ويعلم أنما
يقيه أفلُّون ولم يك يرهب
ثلاثًا عليه كر يأمل قَتْلَه
وشكَّته الغَرَّاء بالعنف يَسْلُب
وَلكن ثلاثًا ترسُ فيبُوس صَدَّه
ورابعةً قد كاد يسطو ويَضربُ
فقال له والصوت يدوي رَعيدُهُ
ويعلو مُحَيَّاه العَبُوس تَقَطُّب:
«مهٍ فتربَّص يا ابن تيذيس فَعَن
بني الخلد للإنسان قد عزَّ مَطْلَب
فَشَتَّان بين الناس والتُّرب أسكنوا
وقوم بني الإسعاد والنُّور ألهبوا»
فَكفَّ ذِيُوميذ وما كاد ينثني
مَخَافة يَشْتَد الإله ويغضب٤٤
وسار أفلون بأنياس مسرعًا
لمعبده في طود فرغام يذهب
فوافته أرْطَامِيْس في بلسم الشِّفا
وذيتا بإكسير المحاسن يسكب
وما شاء فيبوس يشيع انقلابه
فأرسل طيفًا مثله يَتَقَلَّب٤٥
ومن حوله بين الفريقين مُزِّقَت
مُسَرَّدة حصداء وافتُلَّ مجوب٤٦
وَمِن ثَمَّ فِيبُوس إلى آرس انثنى
يحُثُّ خطاه لِلْوَغى ويثرِّب:
«أيا ممطر الأهوال يا باعث الرَّدى
ويا هادم الأسوار حتَّى مَ ترقُبُ
ألا ما اندفعت الآن فوق امرئ عتا
يكاد على زفس يَصُول ويصخبُ
تأثَّرَ قِبْريسًا وأدمى يمينها
وأقبل نحوي بعد ذلك يَقْرَب»
فأغراه ثم اختار فرغام معزلًا
وآريس للطرواد راح يُؤنِّبُ٤٧
فماثل آكاماس شكلا وهيبةً
وصاح: «ألا فاسطوا على القوم واضربوا
إلى مَ التراخي والعدى فتكها أبدًا
أفالجبن حتى دكَّة الحُصْنِ تَرْكب
فأنياس والفتَّاك هكْطُور قَدْ حَكى
طَرِيح بسيَّال الدِّماء مُخَضَّب
ألا ما أخَذْتُم من عداكم بثأره
وأنقذتموه فاستجيشوا وصَوَّبوا»
فَهَاجَت بِهِم كُل النُّفوس حَمِيَّة
وأقبل سَرْفِيدون بالعنف يَخْطُب:
«أيْنَ هكطور هِمَّة لَكَ قِدمًا
أين بأسٌ وَبَاعُ عَزْمٍ متين
قد زعمت الحُصُون تَحْمي ولا أنـ
ـصار لا جيش بل بآل الحُصُون
أين هُم أين لست ألقى كَميًّا
كالكلاب التووا لأسد العَرِين
إنَّما نَحْن نَجْدَةٌ وَعَلَينا
أنت ألْقَيْت كُلَّ ثقل المنون
أنت تدري في أي بونٍ بلادي
ليقيا أرض زَنْثُس المَيْمُون
فبها زوجتي تخلَّيْتُ عَنْها
وغُلامي وذُخْرُ مالٍ ثمينِ
وهنا ليس لي متاعٌ ولا ما
ل فأخشى أنَّ العدى يَسلبُوني
كُلُّ هذا ما كفَّ بالبَطْشِ كفِّي
وأَرَاكَ اعْتَزَلْتَ بادِي السُّكون
فلماذا لا تُنْهِضُ العزْم والأَعْرا
ض تَحْمِي مِنْ هَوْلِ هُون مُبين
أفلا خِلْت أن ثَمَّ شراكًا
كامنات لكم وأيَّ كمون
وبها تؤخذون أخذًا ذَرِيعًا
وتُدَكُّ الحُصُون فوق المُتُون
زُعَمَاء الْأَنْصَار دُونَك فادْفَع
عنهم بالثَّبات سوء الظُّنُون
ذاكَ ذاكَ اعتبر نَهارًا وليلا
نُصب عَيْنَيك فليكن كُلَّ حين»
لمهجة هكطور الحديث مُؤَلِّمًا
جرى جري سهم بالمفاصل يَنْشَبُ٤٨
ترجَّل مُصطكَّ السِّلاح مُطَوِّفًا
وفي يده سُمْرُ القنا تَتَلَهَّب
يشدِّدُ همَّات الفَوَارس منهضًا
عزيمتهم حتى انْثَنَوا وتَصَلَّبوا
فَكَرُّوا ولكن الأغارق جملة
على صدهم بالعزم طرًّا تألَّبوا
فلم يك في القومين خامل همة
ولم يك فيهم من يراع فيهرب
وعند اشتباك الجيش بالقضب والقنا
جرت مقربات الحملة الأرض تنهب
وقد كست الإغريق ثوب عجاجة
فتحت الخُطى وقعٌ ومن فوق غَيْهَب٤٩
كأن مَذَاري ذِيمتير بِبَيْدَرٍ
تثير سحيق التِّبن والحَبُّ يرسب
فتذري السحيق الريح ثم تهيله
غبارًا كثيفًا وهو أبيض أشهب٥٠
كذا اندفع الإغريق من تحت قَسْطَل
علاهم وآرِس للعدى يَتَعَصَّب
أطاع أفُلُّونًا وشدَّد عزمه أحـ
ـتجاب أثينا فاستقر يُكَوْكب٥١
وأرسل من فوق الجُيُوش غَمَامَةَ
تُظَلّل دُرَّاع الحديد وتحجُبُ
وَلَمَّا علا وقع القنا انْقَضَّ عائثًا
إلى ساحة الهيجاء أنياس يلجب
به جاء فيْبُوس سليمًا من الأذى
شديدًا حديدًا يستجيش ويلغب
فخف وأحيا خفق أكباد قومه
وحف به من صفوة الصيد موكب
فلم يسألوا علمًا ولم يتساءلوا
ودون التَّحَرِّي من لظى الحَرْب أضْرُب
عَوَاصِفُ فِيْبُوس وَصَعْقَة فِتْنَة
وآرس ووبلٌ بالذَّوَابل صَيِّبُ
وآياسُ آياسٌ وأُوْذِس ذيُومِذ
يَهُزُّهم داعي الكفاح وَيُطْرِب
يُنَادُون بالإغريق لِلْحَرْب نَهْضَةً
إذا هم لِكَرٍّ أو لصد تكتَّبُوا
فَلِلصَّدِّ دُفَّاعُ الجُنُود تَثَبَّتُوا
صَنَاديد لم يخشوا ولم يَتَهَيَّبوا
كَأَنَّهم والجرُّ صافٍ رَقِيْعُهُ
غَمَائِمُ مِنْ فَوْق الشّوامخ تَقْطِب
وقد هَجَعَ الأنواء لا ثم ثمأل
تثور ولا الأنواء فيهنَّ تَلْعَب٥٢
يجوب أغاممنون بين صفوفهم
يصيح وأعقاب الخطى يتعقَّب:
«شدَّدوا عزمكم وكونوا رجالا
فوطيس الوغى عظيم الشُّؤون
وليقم بعضكم بحرمه بعض
فلكم بالوفاق خير قرين
والتَّأَخِّي بين النُّفوس نَصِيرٌ
ولحفظ الرُّؤوس أقوى ضَمِين
للجبان المهزوم موتٌ وعارٌ
والهُمام العَزُوم رَفْعُ الجبين»٥٣
قال هذا وانقضَّ يطعن ذيقو
ن بن فِرْغاسَ بادئًا بالهجوم
ترب أنياس كان وهو لديهم
كابن فِرْيَامَ ذُو مقامٍ قديمٍ
للنِّجاد السِّنان أوْلج يفري الـ
ـتُّرس حَتَّى حَشا الفُؤَاد الصَّمِيم
فالتوى تحت طعنةٍ وكُلُوم
وصليل السِّلاح فوقَ الكَلِيم
كر نحو الإغريق يطلب ثأرًا
آنياس كرور ليث غشوم
ثم أردى أرْسِيلُخُوس وإكريـ
ـثُوتًا ابني ذِيُوكَليس الحكيم
وحفيدي أرسيلُخُوس الذي كا
ن أخا صولة وملك جسيم
وهو ابن للنَّهر ألفاس أبقى
لابنه ثروة الغنا المركوم
نشأا في فيرس وألفاس فيها
فاض في فيليا بخير عميم
توأما شدة حديثان لكن
بلوا بالنزال كل العلوم
ركبا لجة البحار انتصارًا
لمنيلا وعرضه المثلوم
سدل الموت فوق عينيهما السـ
ـتر بحكم المَنَيَّة المَحْتُوم
شبه شبلين قد غذت لَبْوَةٌ في
أكم الغاب فوق طود عظيم
عبثا فيه في شياه سِمانٍ
وعُجُول بمنعة ونعيم
واستطالا حتى الرُّعاة أعدَّت
لهما الحتف بالسِّنان القَوِيم
هويا مثل أرزتين على التُّر
ب بجذع مقوَّض محطوم٥٤
فمنيلا انبرى يُجيل قناه
شائكًا في سلاحه الموسوم
ساقه آرس لأنياس يبغي
لمنيلا شرًّا لسبق الغَرِيم
بيد أن ابن نسطر أنطِلُوخًا
هبَّ في إثره هُبُوب النَّسيم
خشية أن يمس بالضيم والآ
مال تفنى بقتل ذاك الزَّعيم
فمضى والقرنان كادا اشتباكًا
يقرنان القنا بصدر الجُسُوم
فالتوى ثمَّ عَزْمُ أنياس لَمَّا
لقي اثْنَيْنِ فانْثَنَى للتُّخُومِ٥٥
دفعا جثة القتيلين للقو
م وعادا بصولة وهزيم
جندلا قيل بفلغونة فيليـ
ـمين روَّاع كل شَهْمٍ عَزُوم
فمنيلا عليه مال بطعن
وأقرَّ السَّنان بالبلعوم
وابن نسطور صدَّ خادِمه ميـ
ـذون مذ رام نجوة المهزُوم
وَرَماه بفهر صخر شديد
فتوارى بزنده المقصوم
فاستطارت أعِنَّة الخيل منه
سابحات تخُبُّ فوق الأديم
فعليه بالسَّيف بالصُّدغ ثنَّى
فثناه للأرض حد الصَّرُوم٥٦
ناشرًا للهواء رِجْلَيه لكن
رأسه تَحْتَ رَمْلِها المركُوم
ظل حتى جِيَاده بِخُطاها
طرحته للأرض دَامي الكُلُوم٥٧
وابن نسطور ساقها لحماه
مَغْنَمًا من أجل أصلٍ كريمِ
تَحَدَّم هكطُورٌ لما هُوَ باصرُ
فصاح مغيرًا واقتفته العساكر
وفي صدرهم ربُّ الوغى يستحثهم
وإنْيُو تثير الشَّغب والشَّغب ثائرُ٥٨
وآريس هكطُورًا يلي فَهْوَ تَارَةً
ظهير وطورًا دُونه مُتَظَاهِرُ
يجيل قناة أثقلت كُلَّ كاهل
وَيَفْعَل ما لا تستطيع القَساوِر
ولكن ذيوميذ الإله له انجلى
فأحجم كرَّات الإله يُحاذر
كطاو بُطُون البِيد صَدَّتْهُ عَنْوَة
سُيُول غَثَت عنها تزوغ النواظر
فيعلوه إشفاق وتغشاه خشية
فينكص مُنْهَدَّ القوى وهو حائرُ٥٩
قال صَحبي: «هَكطور هولا ظَنَنْتُم
بِقَناه وَالعاسل المسنون
فاتَكُمْ أَنَّهُ أوان الوَغى لم
يخل يومًا من مُرشدٍ ومعينِ
هاكم آرِسًا بهيئة إنس
حوله حام كالنَّصير الأمين
فارجعوا والصُّدور مُنْقَلِباتٌ
للعدى واتَّقوه واتَّبعوني»٦٠
وخفَّت بنو الطرواد زحفًا بصدرِهم
يصادم هكطور العدى ويُصَادِر
فَأَرْدى مَنَسْتيسًا ونَخْيالسًا معًا
بمركبة قلَّتْهما وهو سائر
فهاجت بآياس العواطف فانبرى
يطير قناةً فَرْعُها مُتَطاير
فاصمى ابن إسْلاغُوس أمفيُّس الذي
بفيسوس قد فاضت عليه الذَّخائر
بَغَى نصرة الطرواد والحتف ساقه
إلى حَيْثُ شكَّت بالنِّجاد الخَوَاصر
فأهوى وأهوى طامعًا في سلاحه
أَيَاس فَصَدَّته السِّهام المواطِر
على جثة المقتول أثبت رجله
يجر سنين النصل والفتك دائر
وكف يباري بالمجنِّ نِبالَهُم
مَخَافَة أن يلهو فَتَدْها الجَماهرُ٦١
وعند التحام الحرب ساقت يد القضا
لسرفيدن إطلوفُلِيم يُبادر
نظيران في زفس ابنُهُ وحفيده
سليل هِرَقْل والقرين المناظر
وَلَمَّا عَلَى مرمى القُنِّي تدانيا
عليه الهِرَقْليُّ استطال يفاخر:
«أيُّ جهل مشير ليقية أغـ
راك حتى استهدفت أيُّ جنون
أنت والكر فيه مذ كنت غرًّا
قد تَوَرَّطْتَ وَرْطَةَ المَغْبُون
مان من قال أنت من نسل زَفْسٍ
أين أبناء زفس من سرفدون
بهرقل أبي كفاك مثالا
قلب ليث وهول كل القرون
قبل أنبئت كيف جاء قديمًا
طامعًا في جياد لوميذون٦٢
بسفين ستٍّ ونزرٍ قليلٍ
أمطر الويل في حما إليون
أين شتَّان أنت والحتف أفنى
منك قومًا وأنت بادِي الشُّجُون
ليس في رفدك الطراود جدوى
ولئن صلت فالرَّدى بيميني»٦٣
قال سرفيدون ومَيَّزه الغيـ
ـظ: «نعم بالحديث قد أنبئوني
فهرقل قد دك إليون لا بل
دكها حمق لَوْمِدون الرَّعون
لهرقل ما برَّ بالوعد لكن
متع الخيل عنه منع الضَّنين
ورماه وكان قبل دعاه
من بعيد بسهم شتم مُهِين
إنما أنت والسِّنان بِكَفِّي
سوف تُصْمَى بَرَأس نَصْلِي السَّنين
ولرّبِّ الجحيم نفسك تزجي
ولي الفخر بالمنار المصون»٦٤
وكلٌّ رمى بالزُّج يحكم رَشْقَه
فبالعنق مزراق وبالفخذ آخر
فمزق أفْطُوْلِيم بالنصل عنقه
فعض الثَّرى تَنْغَضُّ مِنْهُ النَّواظرُ
ومزق سَرْفِيدُون لِلْعظم حُقُّه
وَلَوْلا أبوه بادرته البَوَادِر٦٥
فأصحابه اجترُّوه مِن ساحةِ الوَغَى
لساعَتِهِم والنَّصل في الجسم غائر
وقد شغلوا عن نزعه لذهولهم
فأركب بالآلام والعَزْمُ خائر
كذاك ارتمى الإغريق فوق قتيلهم
يرومونه فيهم وأوذس ناظر
فَهَبَّ به الغيظ العنيف فهاجَهُ
وردَّد فكرًا ردَّدته الخَوَاطِرُ
أيطلب سرفيدون أم جُنْد قومِهِ
لِتَفْتُك فيهم من يديه البَوَاتر
فعن سرفدون أشغلته يد القضا
فمال إلى حيث التقته العشائر
وساقته فالاس لمجتمع العدى
وما راعه منهم نصال شَوَاجر
فَجَندل كِيرَانُس أَلَستر هلْيُسا
وإخْرُو ميوسًا وهو كالليث كاسِرُ
وألكندرا إفْرِيتنيس نويمنا
صناديد لبقيُّون صيدٌ جَبابِرُ
وكاد يزيد الفَتْك لو لم يثب إلى
طلائعهم هكطور والنقع فائر
رأى فجرى يلقى الصدور مدجَّجا
فضاقت بهم عن مُلْتَقاه المَعَابِرُ
وعن سَرْفِدون غُصَّة الكرب انجلت
فنادى برفق والدموع بوادِرِ:٦٦
«أغثني ابن فريام ولا تُوْقِع العِدَى
عَليَّ فإني بالمنية شاعر
ولن يتلقَّاني على الرحب مَوطني
وزوجي وطفلي والكرام الأكابر
فدعني بإليون أمت ذا كرامة
وثمة لي في لجة القبر ساتر»
فأعرض هكطور وفي القلب غُصَّة
تحث خطاه وهو للفتك طائر٦٧
تسير دعاة الموت طوع حُسَامه
ومن كَفِّه جَمْرُ الرَّدَى مُتَنَاثر
وأصحاب سرفيدون في الحال أسرعوا
لزانة زفس فيه والزَّانُ ناضرُ
فبادر فِيْلَاغُون إِلْفُ وَدادِهِ
وأخرج نصلًا أغفَلَتْه البَصَائر
فَغَشَّت على أبصاره ظُلم الرَّدى
وخُيِّل أن قد فارقته المَشَاعر
فَهَبَّت لبُرْياس من الريح نَسْمَةٌ
فأنعش وارفضَّت تَزُول المخاطر٦٨
ودارت على الإغريق في دارة الوغى
بآرس وهكطور الدَّوَاهي الدَّواثر
ولكنهم بالصبر طُرًّا تدرَّعوا
وكل على دفع العدو مُثَابِرُ
فلم يك فيهم ناكصٌ نحو فُلْكه
ولا لِلقا الأعْدَاء بالصَّدِّ جاسِرُ
وتحت الدِّفاع الثَّبْت مَهْلًا تَقَهقروا
يروعهم أن المهدِّم حاضر٦٩
فأثخن آريس وهكطور فيهم
فمن أوَّل القتلى ومن هو آخر؟٧٠
فأولهم تثراس نِدُّ ذوي البقا
فأورست روَّاض الجِياد المُكابر
فإتريخ أونومٌ هلين أُرسْبُسٌ
وكلهم ذاق الرَّدى وهو صاغر
فأورسبسًا لم يجد وافر ماله
وملك على أكناف كيفس وافر
ففي هيلةٍ قد كان حيثُ ثوَى الغنا
وبحر البيوتيين بالمال زاخر
فدارت عليه عندهم أكؤس الصَّفا
(ودارت عليه بالنِّزال الدَّوائر)
رأت هِيْرَةُ الفتك بالقوم دارا
وجيش الأغارق سيم البَوَارَا٧١
وصاحت بفالاس: «يا للمصاب
أيا بنت زفس وشر المآب
فإنا منيلا جزافًا غررنا
بوعد ولكننا ما بررنا
جزمنا بأن لا يعودن ما لم
ينل مبتغاه وإليون تهدم
نعم سوف يَحْبِط وَعْدٌ وعهدُ
إذا ظل رب الوغى يستبدُّ
فهيِّي الحقي بي له نَتَصَدَّى
فَمِنَّا يُلاقي اقتدارًا أشدَّا
وَفَالاسُ أحرَص من أن تُحرَّص
فَهَبَّت وَلَبَّت ولم تَتربَّص
وهيرة قامت على العجلهْ
تقود الجيادَ إلى العَجَلَهْ
وقد أوثقت ناصع العدد
على لبب ساطع العسجد٧٢
وقوَّمت الجِذْعَ هيبا إليها
تضم الدَّواليب من طَرَفَيْها
فذاك حديد متين صقيل
وهذي نحاس نقي جميل
تدور على عارضات ثمان
تطوقها حلقات ثمان
ومن فوق أطواقها الذَّهبيه
عصابات صفر بديع المزيَّه
لقد أحكمت دائرات عليها
تقرُّ العيون ارتياحًا إليها
ومحوَرُها من لُجين بديع
ومن فوق ذلك عرش رفيع
يقوم على حلق من نُضَار
وصافي لجين صُفُوفًا يدار
وفي الصدر قوسان حيث خرج
عمود بمضمده قد ولج٧٣
فذا من حلي الذهب اللامعه
وذاك من الفضة النَّاصعه
وشدَّت عصابات صافي الذهب
وهيرة تَصْلَى أوار الغَضَب
وفالاس أحشاؤها تتأجَّج
فقامت على فورها تتدجَّج
أماطت نقابًا لطيفًا عليها
بديع المحاسن صُنع يَدَيها
وألقته بالعنف في صرح زفس
بأعتابه عن حزَازةِ نَفْس
وقامت ومُهْجَتُها اضطَرَمَت
لدرع أبيها بها استلأمت
وألقت على منكبيها يميد
مجنًّا يبيد قلوب الحديد
وأهدابه الدُّهم فيه تحوم
وفيه من الرُّعب كلُّ الرُّسُوم
وفيه الشِّقاق وفيه القُوَى
وفيه اللَّحاق مَهُولًا ثوى
وفيه كذا هَامَة المارد
أبي الهول والأروع الواحد٧٤
وألقت على الرَّأس أعظم مِغْفر
لزفس نضارا تألَّق أحمر
له طرر أربع باتَّقاد
يقي مئة من جيوش البلاد
ولما استَتَمَّت عَلَت تَرْكَبُ
براحتها عامل أشْهَبُ
طويل ثقيل متين القناة
يحطم فيلق قوم العُتاة٧٥
وهيرة ساطت جياد الأَثير
فراحت بلبِّ الرَّقيع تطير
لأبواب أقصى السَّما سَبَحَت
فمن نفسها لهُما انفتحت
وأعلت صريفًا يَهِزُّ الجبال
وثمَّة ساعاتُها باتَّصال٧٦
وقوف بها أبدًا حضَّر
على كل ذاك الفضا تَخْفُر
فَتَركم غيمًا فيعلو القتام
وتقشعه فيبيد الظلام
فشقَّ السحاب وبُلِّغتا
مقامًا به زفس قد ثبتا
بأعلى الألمب على ذروته
يجلله المجد في عزلته
هنا وقفت هيرة بالجياد
وراحت إلى زفس تُنَمِي المراد:
«إلى مَ تُرَى يا وليَّ الخلود
مظالم آرس تَجُوز الحدود
ألست ترى كم دما قد سفك
وكم بالأغارق ظُلْمًا فَتَك
وهذا دمي كاد حزنًا يفور
وقبرس وفِيْبُس بملء السُّرُور٧٧
لقد بلواه أليف النفاقْ
يسوقانه وهو طبعًا يُسَاقْ
ألا فا أذنَنَّ بأن أتأهَّب
وأدفعه بالدماء مخضَّب»
فقال: «عليك بفالاس تَكْبَح
مظالِمَهُ فَهْيَ أولى وأصلح
فتلك التي عوَّدته النكال
ومُرَّ العذاب بيوم النزال»٧٨
فسُرَّت وَسارَت بأحداسها
تشق الرقيع بأفراسها
سراعًا تطير كَبَرْق أَضا
لأدنى الثَّرى مِن أعالي الفَضا
فما نظر النَّاظر المعْتَلي
على صخرة فوق بحر جلي
من الجو حتى الحصى الرَّاكِدَه
تَخَطَّاه في عدوة واحده٧٩
فما لبثت أن رَسَتْ بالمَقَر
إلى حيثُ سِيقَت كَلَمح البَصَر
وحلت لدى الحُصن بالرَّبَّتين
على ثغر مُجْتَمَع الجدولين
هنا هيرة استوقفتها وحلت
وتحت ضبابٍ كَثيفٍ أحلَّت
وسِمْوِيسُ أَخْرَجَ من تُرْبَتِه
لها خَالِد النَّبْتِ في ضَفَّتِه٨٠
وسارت على الأثر الرَّبَّتان
تَرُفَّان رَفَّ حمام الجنان٨١
ترومان في خَفَّة السَّيْر عن
جيوش الأغارق دَرْءَ المحن
فَبَادَرَتا نَحوَ أوفى السَّوَاد
إلى حيث أبسلُهُم باشتِداد
وحول ذيوميذ كُلٌّ يذود
ببأس ولا بأس جيش الأسود
وعزم ولا عزم خرنوص برْ
يَصُول ويَسْطُو ويُبْدي العِبَرْ
فهيرا عليهم هنا أقبلت
وهيئة إستنتر مَثَّلَت
بصوت جهير كقرع الحديد
له صوت خمسين صوتًا شديد٨٢
وصاحت: «فواعار جيش جبان
وجيه الوجوه ضعيف الجنان
نعم حين كان أخيل يقف
بكم كان جيش العدى يرتجف
ولم يك من منهم يجسر
إلى باب دردنس يعبر
وهاهم وراء الحُصُون انْبَرَوا
لكم وإلى فلككم قد جَرَوا»
ففيهم نيار الحَمِيَّة ثارَت
وفالاسُ نَحْوُ ذيُومِيذَ سارَت
فوافته معتزلا بالجياد
يرطِّب جرحًا قواه أباد
على صدره عرق يرشح
به كله جالسًا يسبح
يزيح على عيه بيديه
حمائل ترس ثقيل عليه
ويمسح جرحًا به فَنْدَرُوس
رماه بأثناء قرع البؤوس
فمدت إلى نير مركبته
يدًا ثم مالت لِتَخْطِئته:
«أذا بابن تيذيس عُلِمَا
فشتان شتان بينهما
نعم ذاك كان قصيرًا صغيرا
ولكَنَّه كان صلبًا جسورا
تهيج به نفسه للقتال
ولو عنه يومًا حظرت النِّزال
فلم يك بين بني أرْغُس
سواه يؤم بني قَدْمُس
إلى ثَيْبَةٍ وَحْدَه أرسلا
سفيرًا فراح وما هُوِّلا
فقلت اتقي بأس تلك القُرُون
وكن بالمآدب إلف سكون
فلم يملك النَّفس عَمَّا تَعَوَّد
وَرَاحَ برازهُمُ يتعمَّد
وفاز عليهم بنصر مبين
وكنت له خير عون مكين
فذاك أبوك وأنت بعكسه
كأنك أنتجت من غير جنسه
فإما العَيَاء أباد قَوَاكا
وإما جَزِعْتَ لبأس عَدَاكا
أقيك الرَّدى وأليك وأُنْهِض
قَوَاك وأنت عن الحرب مُعْرِضْ»
فقال: «نعم كل ذا أعلمُ
وعنك الحقيقة لا أكتمُ
فلا عَيَّ لا جُبْنَ قَلْبي يُخَامر
ولكِنَّني قَد أطَعْتُ الأوَامِر
أما قلت إن تلق قبريس فاضرب
وعن غيرها من بني الخلد أضْرِبْ
وهاك إله الْوَغى أبدا
يقاتل بالنَّفس صَدْرَ العِدى
لذاك أمَرْت الجُنُود تَقَهقر
ويبقى هنا للدفاع المعسكَرْ٨٣
فقالت: «إذا يا أعز البشر
إليَّ فَدُونَك فصلَ الخَبَرْ
فلا تَخْشَه الآن حيث استقرَّا
ولا غيرَ رَبّ وكل لي أمرا
تقدم إليه لقرب المجال
بخيلك واطعنه غير مُبَال
ولا تَرْعَ ربًّا عتا لا يَبَرُّ
وليس على حالة يستقرُّ٨٤
فَمِن قبلُ واثقنا بالعُهُود
بصدر سراياكم أن يذود
وها هو بين الطراود قاما
يصول ولم يَرْع ذاك الذِّماما»
ومن بعد ذا دَفَعَت إستنيل
فَهَبَّ إلى الأرض حالا يَمِيل٨٥
وقامت بمجلسِهِ مُغْضَبَه
حذاء ذيوميذ بالمركبه
فأثقل يرتج جذع يميد
بربة بأس وقرن شديد
مضت بالأزِمَّة والسوط تجري
تروم لربِّ الوَغَى شَرَّ قَهْرِ
وكان ابن أوْخسيوس البطل
بريفس أَشَدَّ الأتُول قتل
وبادر والدَّم يخضبه
يصول وفالاس ترْقُبُه
فخوذة آذيس ألقت عليها
لتخفَى عليه وَيَبْدو لَدَيها٨٦
وغير ذيوميذ ما نظرا
فأبقى القتيل طريحَ الثَّرى
وكرَّ كذاك ذيوميذ كر
وكل سلاح البراز شَهَر
فأرسل ربُّ النزال السنان
يَمُرُّ على النِّير فوق العنانِ
ولكن فالاسَ مدَّت يدا
وعنه أطَاشَتْه فابْتَعَدا٨٧
وذوميذ بالرُّمح حالا طعن
فألقته في خصر رب المِحَن
فتحت الحِزَام الأديم تخضَّب
وهم ابن تيذيس الرُّمح يسحب
فصاح أريس بصوت دَوَى
يزعزع أركان ذاك الفضا
كعشرة آلاف قرنٍ يصيح
معًا فوق ذاك المجال الفسيح٨٨
فخار الفريقان واضطربا
وآريس بالسُّحُب احتجبا
رآه ذيوميذ وهو يطير
بقلب الغمائم بادي الزَّفِير
بُخارًا تَقَتَّم تحت الغُيُوم
تَهُبُّ به عاصفاتُ السَّمُوم
فأدرك أولمبسًا بالعجل
وجاء إلى زفس جم الوجل
وقَرَّ لديه يريه دماه
يبثُّ له حَنِقًا مشتكاه:
«أترضى ولي البرايا بما
ترى من فظائع آل السَّما
على بعضنا بعضنا يفتري
جزافًا لأجل بني البشر
ولوم الجميع عليك استقر
لأنك أنتجت رَبَّة شَرْ
أليفة حمق حَلِيفة نكر
وليست لغير المفاسد تجري
فكل أهالي السَّما لك تخضع
أنت لها كلما شئت تردع
سوى فالس عن مجازاتها
تجاوزت تُغْفل زلَّاتها
فلست لها أبدًا تنتهر
ومن نفسها هي لا تَعْتَبِر
وتطمع مغترة بأبيها
لأن قواه الشداد تقيها
فها هي تغري ابن تيذيس أن
يصول علينا ويرمي ويطعن
فأقبل يطعن قبريس باليد
وصال عليَّ كربٍّ مخلد
ولو لم أطر بخفيف القدم
لألقيت بين رفات الرمم٨٩
وإلا وعني الحمام منع
لعانيت آلام من قد صرع»٩٠
فأطرق زفس مغيظًا وقال:
«عتوت ولا تستقر بحال
فلا تشك أمرك بعد إليا
فإنك أبغض ربٍّ لديا
فدأبك ما زال بين الأنام
شقاقًا ومفسدة واختصام
فأمك هيرا وعرق العناد
سرى لك منها وهذا الفساد
يثقلني ردعها وإخالك
تقفَّيتها وبذاك وبالك
ولكنني لست أرضى عذابك
لأن لزوجي وصلبي انتسابك
فلو كنت ما أنت من غير رب
لأهبطت من قبل أدنى الرتب
وسفلت بالذل والهون عن
بني أورنس من قديم الزمن»٩١
وفيون نادى فبلسمه
على الجرح ذر فألأمه
ففي الحال والموت لا يعتري
بني الخلد في لحظ طرف بري
كما يخثر اللبن المختلج
عصير من التين فيه مزج
وهيبا على عجل غسلته
وفاخر ملبسه ألبسته
وبالعُجب والتيه والكبر أقبل
إزاء أبيه لدى عرشه حل
ومذ أخمدت نار فتنته
وخفت شرارة وطأته
أثينا وهيرة أسرعتا
ونحو أعالي السما علتا٩٢

هوامش

(١) إذا أراد هوميروس أن يبرز تصوَّره لسامع شعره وراويه، فإنما يبرزه بصورة رائعة ونهج يشوق، فإذا تعددت المواقع سلك في كل موقعة مسلكًا جديدًا، وأبرز كل بطل من أبطاله على ما يوافق صفاته التي آلى على نفسه أن يصفه بها ليتم التناسب بين كل أجزاء الأناشيد، فحيثما رأينا آياس مثلًا فهو كالطود الراسخ لا يتزعزع، وحيثما رأينا أغاممنون فهو ذو المقام الرفيع العلي الشأن، وأوذيس الداهية المقدام والنابغة الهمام، وذيوميذ السهم المنطلق والسيل المندفع، وهلم جرًّا، على أنه يربط كل ذلك بسلسلة تتماسك حلقاتها تماسكًا يجعلك لا تنسى واحدة منهنَّ، وينوّع لك الحوادث وتشابيهها مهما كثرت، فلا يكاد يقتل فارسين مقتلًا واحدًا أو يغير إغارتين متماثلتين كأَنَّه طمع في أن لا يدع لمتأخرٍ مجال الابتداع فوق ما ابتدع، وقد رأى هنا أن يميز ذيوميذ في واقعة هذا النَّهار، فأظهره بمظهر من البأس ليس فوقه مظهر، ولكي يقرّب كلامه إلى التصديق أفاض عليه عون فالاس أي: أثينا، فلم يبق من ثم محل للاعتراض إنه أتى أفعالًا تعجز عنها أفراد البشر، وهذا نتيجة أخرى من نتائج اعتقادهم أن المرء منفردًا غير مرموق بعين العناية لا يقوى على دفع ضرٍّ وإتيان أمر، وأن لتلك العناية غايات لا يدركها البشر، فالاستسلام لها واجب في كل زمان ومكان.
(٢) مهما أخذ الشُّراح هذا الكلام على ظاهره، وقالوا إن النور كان يتدفق من ذيوميذ، فلا أرى في هذا التشبيه البديع إلا إشارة إلى لمعان شكته، وهو كثير في كلام الشعراء، ولكن المطرب في كلام هوميروس تخلصه بوصف تلك الكوكبة ممتطية رقيع السماء، وهي صاعدة من عباب البحر، ولم أر في شعر العرب ما يقارب هذا المعنى إلا قول دريد:
تقول هلالٌ خارج من سحابة
إذا جاء يعدو في شليل وقونس
«الشليل ثوبٌ يُلبس تحت الدرع والقونس بيضة الخوذة» والمراد بكوكبة الخريف الشعري اليمانية أو العبور كان لها شأن عظيم في مراقب الكلدان، وبنت عليها جميع الأمم القديمة خرافات كثيرة، وفي كتب العرب أنها هي والشعرى الشامية أو الغميصاء أختان أقبل عليهما سهيل من ناحية اليمن، وأقبلتا من ناحية الشام حتى انتهى الفريقان إلى شاطئ المجرة (المدعوة عند عامة سوريا بدرب التبَّان) وهي عندهم نهر السماء العظيم، فخطبهما سهيل فأجابتا فعبرت إليه الشعرى اليمانية؛ ولهذا سميت العبور ولم تستطع الشامية أن تعبر فجعلت تبكي حتى غمصت عيناها فسميت بالغميصاء، وأصل هذه الخرافة من الكلدان.
(٣) قوله: أقدم أي: ذيوميذ.
(٤) لما خلت المركبة من راكبيها؛ فيغس القتيل، وإيذيوس المنهزم باتت مغنمًا لذيوميذ، فأمر صاحبه بسوق جيادها إلى سفنه.
(٥) أرطميس إلاهة الصيد فهي أحكم الرماة.
(٦) القذال مؤخر الرأس.
(٧) قد نهجنا في الأبيات التالية أحد المناهج المبتكرة كما أسلفنا في المقدمة.
(٨) لما راق الشاعر أن يتغنى بذكر بسالة ذيوميذ في هذا النشيد تفنن بالوصف والتشبيه تفننًا لا يدرك شأوه، وحسبك تشبيهه إياه هنا بالسيل المندفق، وهو تمثيل مرَّ على قرائح الكثيرين من الشعراء الذين قرءوا الإلياذة، وقلدوا والذين تبادر ذلك إلى ذهنهم عن غير رواية أو تقليد، ولولا معلقة امرئ القيس لقلنا إنه لم يحسن شاعرٌ إحسان هوميروس بتهيئة ذلك السيل، وقد ضاق عنه مجراه في الخليج، فاستأصل الجسور الكبار المعترضة له، وقض السد ودفع الزبد، وكأن قريحة الشاعر نفسه فاضت فيضان ذلك السيل، فلم تقف عند ذلك الحد فجعلته يقوض مباني الزراع، ويستطرد إلى ذكر سببه المنبعث من زفس إشارة إلى أن كل قوة سماوية أو أرضية إنما تنبعث من قدرة القدير.
ومهما كان من بلاغة هذا الوصف فهو لا يفضل بشيء وصف امرئ القيس إذ إذ ألمَّ بمعاني هوميروس، وزادها رواءً وتفصيلًا، ولم يغفل منها إلا ذكر اليد العليا القاضية بكل أمر، وهو إغفال عامٌّ في الشعر العربي الجاهلي. قال:
أَصَاحِ تَرَى بَرْقاً أُرِيكَ وَمِيْضَهُ
كَلَمْعِ اليَدَيْنِ في حَبي مُكَلَّلِ
يُضِيءُ سَنَاهُ، أَوْ مَصَابيحُ رَاهبٍ
أَمال السَّليِطَ بِالذُّبَالِ المُفَتَّلِ
قَعَدْتُ له وصحبتي بَيْنَ ضَارِجٍ
وبَيْنَ العُذَيْبِ، بُعْدَ ما مُتَأَمَّلي
على قَطَنٍ بِالشَّيْمِ أَيْمَنُ صَوْبِهِ
وأَيْسَرُهُ على السِّتَارِ فَيَذْبُلِ
فَأَضْحَى يَسُحُّ حَوْلَ كُتَيْفَةٍ
يَكُبُّ على الأَذْقَانِ دَوْحَ الكَنَهْبُلِ
وَمَرَّ على القَنَانِ مِنْ نَفَيَانِهِ
فَأَنْزَلَ مِنْهُ العُصْمَ مِن كلّ مَنزِلِ
وَتَيْمَاءَ لَمْ يَتْرُكْ بِهَا جِذْعَ نَخْلَةٍ
وَلاَ أُطُمًا إلاّ مَشِيْدا بِجَنْدَلِ
وَأَلْقَى بِصَحْراءِ الغَبِيْطِ بَعَاعَهُ
نُزُولَ اليَمَانيْ ذي العِيَابِ المُحجلِ
كأَنَّ ثَبِيراً في عَرَانِينِ وَبْلِهِ
كَبِيرُ أُنَاسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلِ
كَأَنَّ ذُرَى رَأْسِ المُجَيمِرِ غُدْوَةً
مِنَ السَّيلِ والغُثّاءِ فَلْكَةُ مِغْزَلِ
كَأنَّ مَكَاكِيَّ الجِواءِ غُدَيَّةً
صُبِحْنَ سُلافاً مِن رَحيقٍ مُفَلْفَلِ
كَأَنَّ السِّباعَ فيهِ غَرْقَى عَشِيَّةً
بِأَرْجَائِهِ القُصْوَى أَنَابِيْشُ عُنْصُلِ
شرع في وصف البرق السابق للغيث، فقال: إنه يتألق ويميل وميضه كاليدين تتراوحان في حبي أي: سحاب متراكم صار أعلاه لأسفله إكليلًا، فينبعث منه النور انبعاثه من مصباح الراهب أشبع فتيلته زيتًا، قال: وقعدت وأصحابي أتأمله بين العذيب وضارج، ثم استطرد إلى ذكر السحاب والمطر المنهمر بعد البرق، فقال: إنه امتد من جبلٍ قطن يمينًا إلى جبلي الستار، ويذبل يسارًا فشمل مسافة عظيمة، وأخذ ينصب سيلًا من الجبال والآكام، فيقتلع أشجار الكنهبل العظام، ويلقيها على رءوسها لشدة تدافعه، ووقع على جبل الفنان مما تناثر وانتشر من رشاش هذا الغيث ما أنزل عنه الأوعال المعتصمة فيه لشدة انصبابه، ولم يغادر نخلة في قرية تيماء ولا بناءً فاستأصل النخيل، وهدم الأبنية الشماء إلا ما كان منها مشيدًا بالصخر، وكان جبل ثبير والمطر يتدفق عليه كسيد قوم ملتف بكساء مخطط لكثرة ما كان عليه من الغثاء والزبد، وكانت ذروة رأس المجيمر كفلكة المغزل لما أحاط بها من الإغثاء، ولما استتم وصف الغيث وسوابقه أتى على وصف لواحقه، فقال نزل بصحراء الغبيط نزول التاجر اليماني المحمل عبابًا أي: انبت فيها من الكلاء وضروب الأزهار وألوان النبات ما يشبه ضروب الثياب المختلفات الألوان التي ينشرها التاجر اليماني، وهو يعرضها للبيع، وانتهى بوصف ما في تلك البقاع من طائر وحيوان، فقال: إن طير المكاكي كانت (لحدة ألسنتها وتتابع أصواتها، ونشاطها في تغريدها) كمن شرب صباحًا أجود الخمر من الرحيق المفلفل الذي يشحذ الذهن واللسان، وأما السباع الغرقى فكانت كأصول البصل البري (لكثرة ما تلطخت به من الطين والماء الكدر)
(٩) صنديد ليقيا هوفنداروس بن ليقاوون.
(١٠) المراد بابن زفس أفلُّون؛ لأنه كان ولي فنداروس.
(١١) كان ذيوميذ راجلًا كما مر، فلهذا ترجل رفيقه حتى يجتر السهم من كتفه.
(١٢) بنت رب الترس هي أثينا التي هيَّأته لذلك اليوم؛ ولهذا وجه دعاءه إليها.
(١٣) كان الآلهة إذا اختلطوا بالبشر أو تمثلوا لهم بهيآتهم تشابهوا عليهم، فلا تنجلي حقيقتهم إلَّا لمن أرادوا أن يتجلوا له فلو لم تفتح أثينا أي: الحكمة عيني ذيوميذ لما تسنى له في ذلك العجاج أن يفرق بين العابد والمعبود، وإن من معتقد الإنسان في أكثر الأزمان أن عينيه لا تتفتحان للتمييز بين ما يعلم وما لا يعلم إلا بمشيئة فائقة وعناية خاصة، وقد جاء في التوراة من أمثال ذلك: أن الله عز وجل فتح عيني هاجر فرأت عين الماء، وفتح عيني بلعام فرأى ملاك الرب واقفًا في طريقه وسيفه مسلول بيده، وفي القرآن: يغشي الله على البصائر والأبصار ويفتحها أيان شاء.
(١٤) قبريس هي الزهرة، ولا بدع أن نرى أثينا ناقمة عليها؛ لأن قبريس ربة الهوى، وأثينا ربة الحكمة والتمادي بالهوى والحكمة أمران لا يتفقان، وإن كان مصدرهما واحدًا، كما أن قبريس هي أخت أثينا لأبيها، وكلاهما ابنتا زفس أبي الأرباب والبشر، فكأنها قالت له صن حكمتك، وانبذ هوى نفسك، وافتك به وببني جنسه.
(١٥) قد انتُقد على هوميروس كثرة تشبيهه بالأسود، وفات المنتقدين أن يروا تفننه في تلك التشابيه إذ لا تكاد تراه يشبه بالأسد مرة على مثل ما سبق له التشبيه به، وهذا التنويع يذهب بلا ريب بخطورة الانتقاد، ويعرب عن غزارة مادة قلما توجد في شخص واحد.
(١٦) البأديل ما بين العنق والترقوة.
(١٧) لا نكاد نرى قتيلًا يقتل حتى نرى له مصرعًا مؤثرًا في النَّفس، وأي تأثير يحصل لقارئ الشعر أعظم من تأثره لشيخ عاجز، واسع الجاه، كثير المال، عدم ابنين لا أمل له بثالث من بعدهما، وهذا أيضًا من حكمة الشاعر؛ تخفيفًا من التثاقل الذي يلم بالمرء لدى تلاوة فصول الوقائع الطوال التي تخر فيها الأبطال من كل جانب.
(١٨) هنا تشبيه آخر بالأسد وهو على ما ترى لا يماثل بشيء تشبيهه السابق.
(١٩) كان آنياس زعيم الدردنيين، وهو بين الطرواد وحلفائهم في المقام الأول لا يفوقه بالبسالة والهمة إلا هكطور، فشأنه في ذلك الفريق كشأن آياس وذيوميذ بين الإغريق إذ جمع بين ثبوت جأش آياس، وخفة ذيوميذ، وهو الذي بنى عليه ڨـرجيليوس منظومته الكبرى، وهيأه بالهيئة التي مثله بها هوميروس إلا أنه زاد في الإسهاب والإطناب، ومن عقب آنياس هذا كان في زعم بعض المؤرِّخين مؤسسو دولة الرومان.
(٢٠) الاهتوار: الهلاك.
(٢١) هذا أول كلام نطق به آنياس، وهو يشف عن ورعه وتقواه إذ أنه لما حثَّ فنداروس على إطلاق سهمه على ذيوميذ نبَّه إلى بسط كف الضَّراعة لزفس، ثم سأل مرتابًا ما إذا كان ذلك البطل المغوار من غير بني البشر.
(٢٢) ائترارًا أي: مجازفةً.
(٢٣) كان فنداروس زعيم الليقيين من أرمى الرماة في عصره؛ ولهذا دفعه آنياس إلى رمي ذيوميذ بسهم قد يكفيه مئونة الكر عليه، فيدخر بأسه لسائر الأبطال، وفنداروس هو مثال العاجز المتبجح، والبخيل المقتر الذي يلتمس عذرًا يستر به عيوبه، فهو ذو ثروة طائلة وسعة حال، أتى بنفسه راجلًا لئلَّا يسأم ثقلة خيله واعتذر بامتناع الكلاء، ثم لما لم ينل وطره من أغاممنون وذيوميذ إذ رماهما ألقى تبعة ذلك على قوسه، وتوعدها بالسحق والحرق، وهي حماقة لا يفوقها إلا حماقة الكسعي في جاهلية العرب إذ خرج لصيد المهى ليلًا فمرَّ أمامه سبعة منها، وكان كلما مر واحد رماه فيتطاير شرر سهمه من صخر يقع عليه، فحنق على قوسه وكسرها ظنًّا منه أنه أخطأ مرماه فلما رجع في اليوم التالي إلى ذلك المحل رأى أنه لم يخطئ شيئًا منها بل كان السهم ينفذ من الحيوان إلى الصخر، فندم ندامةً ضرب بها المثل، وأعظم من هذه الحماقة حماقة البفلغوني الذي روى أفستاثيوس أنه أخطأ مرماه مرارًا متوالية، فتمادى به اليأس حتى شنق نفسه.
(٢٤) تعلم من كل كلمة ينطق بها آنياس ما كان عليه من الإقدام الصحيح، وقلة الأثرة وصغر الدعوى، فهو مع علمه بأنه أطول باعًا من فنداروس خيره بسوق الجياد أو الجلاد، ولم يجزم بالنصر لنفسه كسائر الأبطال؛ ولهذا مدح جياده بجريها كرًّا وفرًّا وربما أراد بذلك ايضًا أن يخفف من هيبة الملتقى على فنداروس.
(٢٥) يعلم من هذا الموضع وما أشبهه أن فصائل الفرسان كانوا يقاتلون ركوبًا على مركباتهم زوجًا زوجًا أحد الفارسين لسوق الخيل، والثاني للطعان والإبلاء، والقتال على هذا النمط أشبه شيء بقتال البدو في بلاد العرب إذ يمتطون الإبل أزواجًا، فالرَّادف يصاول والرَّديف يقاتل.
(٢٦) الائتثار: التأثر والتقفي.
(٢٧) في أساطيرهم أن غنيميذ بن أطروس ملك طروادة كان بديع الجمال طاهر الخلال، فخرج يومًا للقنص على جبل إيذا فنزل عليه زفس بهيئة نسر، واختطفه إلى السماءِ، فأقام في الأولمب، واتخذه زفس ساقيًا؛ ولهذا سمي الدلو وهو البرج الحادي عشر، ويقال في أصل تلك الخرافة أن أطروس كان قد أرسل ابنه غنيميذ إلى ليديا؛ ليضحي لزفس، وكان طنطال ملك تلك البلاد يلقب بزفس، فأساء الظن بغنيميذ وأصحابه وحسبهم عيونًا أتوا متجسسين فقبض عليهم، وأمر الغلام فقام يسقيه على الطعام.
fig14
شكل ١: زفس بهيئة نسر يرفع غنيميذ إلى السماء.
(٢٨) الوتيرة: ما بين المنخرين.
(٢٩) قلنا: إن هوميروس يكاد ينوع قتلاته بما يقارب عدد القتلى، وذلك من حسن التصور الشعري، على أنه لا بد من التنبيه إلى أمر آخر، وهو اعتناؤه بتطبيق الطعان على ما يوافق التصديق والحقائق، ولا نخال عالمًا من علماء الأقدمين كان أعرف منه بالتشريح إذ لو أخذت كل طعنة سواءٌ أصابت مقتلا أو لم تصب رأيته وصفها وصف الطبيب اللبيب الذي يلم بوظائف كل عضو من أعضاء الجسد.
(٣٠) تزعم عامتنا زعم عامة اليونان في زمن هوميروس من أنه كلما طال عهد الإنسان تراخت قواه، وصغر جسمه، وقل عرضه وطوله وهو زعم ينبذه علماء الجيولوجيا والإنثربولوجيا فإن بين حرب طروادة وهوميروس نحو خمسمائة عام، فإذا تناقصت في أثنائها قوة الرجل الواحد إلى رجلين، فمن البديهي أن لا تكون قوى رجالنا الآن شيئًا مذكورًا، ولا تفوق أعمارها أعمار الهررة وصغار الحيوان، أما المحاذفة بالحجارة فمن أقدم ما جرى عليه الناس من قبل عهد التاريخ، والظاهر أنه حينًا بعد حين تهزهم الفطرة إلى العود على البدء، وفي براز داود وشاول ما ينبئ أن الحجر كان من خيرة أنواع السلاح، قالت شاعرة بني حنيفة:
فإن تمنعوا منا السلاح فعندنا
سلاح لنا لا يشترى بالدَّراهمِ
جلاميد إملاءُ الأكف كأَنَّها
رءوس جبال حلَّقت بالمواسم
(٣١) لقد تساءل القوم كيف يصح أن هذا البرد يقي آنياس من طعان الناس، ولا يقي الزهرة نفسها كما سترى عما قليل، ولا جواب على ذلك إلَّا أنه كان حرزًا يدفع الموت، ولا يقي من الجراح.
(٣٢) ابن قفانيس هو رفيق ذيوميذ ورديفه.
(٣٣) لقد مر أن الزهرة غيبت فاريس عن موقع القتال، ولم يصبهما أذى وأما هنا فلم يكن الأمر كذلك بل أبصرها ذيوميذ، ولم يحفل بها بل تحامل عليها وطعنها؛ لأن أثينا فتحت عينيه فأبصرها وأثارت جأشه فرماها، وفي هذا رمز لطيف إلى أن المتذرع بالحكمة يقوى على كبح الشهوات مهما اشتد به الهوى.
(٣٤) أردنا بالبهجات الفتيات الثلاث المدعوات خاريتيس (Χαριτες) باليونانية وغراسيه (Gratiae) باللاتينية و(Graces) بالفرنسية والإنجليزي، قالوا: كنَّ بنات زفس وأفرينومة وفي رواية بل بنات أفلون والزهرة، وشأنهن ترويح النفوس وإجلاء البئوس، كنَّ يرئسن حفلات الولائم والأعياد، وكان اليونان يقسمون بهنَّ ويفتتحون الولائم بشرب نخبهنَّ، وكنَّ على الجملة مثال الجمال الباهر، والسرور الطاهر.
figure
البهجات.
(٣٥) لما كان آلهة اليونان بهيئة البشر بالمظهر الخارجي، والعواطف والإحساس والمطعم والمشرب كان لا بد لهم من مميزات تميزهم في كل هذه الأحوال، فهم يأكلون ولكنهم لا يذوقون الخبز، ويشربون وليس لهم خمر ولا مسكر كمسكرنا، ويجري الدم في عروقهم ولكن لا كجريه في عروق الإنس، فهم كائنات السماء، والسماء وسكانها لا يعتريها الفساد فلا تزول ولا تنقضي أيامها ولا أيام كائناتها، وهنا إشارة إلى أن الأرض وما عليها من حي وغير حي عرضة للزوال، ومجلبة للفساد والاضمحلال.
(٣٦) أم قبريس أي: الزهرة هي ذيونة المذكورة في البيت التالي، وهي ابنة الأوقيانوس وتيثيس، وأما أبو الزهرة فهو زفس، والانحناء على الركب لا يفهم منه أنها جثت، وإنما يراد به أنها انحنت على ركبتي أمها، وهي عادة ذلك الزمان في استعطاف الصغير للكبير، أما السجود للصلاة والتضرع، فيظهر أنه لم يكن معروفًا عندهم إذ لا نراهم يصلون ويدعون إلَّا باسطين أكف الضَّرَاعَة، وهم وقوف.
(٣٧) لأن آنياس كان ابنها على ما مرَّ.
(٣٨) ليس المراد بالهلاك الموت، وإنما العذاب الشديد، وهو تعبير شعري من وجه وديني من وجه آخر، وأمثلة ذلك كثيرة في التوراة والإنجيل والقرآن إذ يعبَّر بالهلاك عن العذاب.
(٣٩) كان فيون باعتقادهم في زمن هوميروس طبيب الآلهة، يزعم البعض أن الأصل في هذه الخرافة أنه كان نطاسيًّا ماهرًا نشأ في بلاد مصر، ويذهب آخرون إلى أنه لقب أفلون؛ لأن الشمس تبرئ السقام وتخفف الآلام وقد صار من ثم علمًا لكل طبيب، كل هذه إشارات إلى روايات كانت متواترة في أزمانهم، ومحل تفصيلها في كتاب التراجم، على أنه يحسن بنا هنا أن نذكر أنها جميعها رموز إلى أمور طبيعية، فقد ذكرت ذيونة هنا تسلط البشر تسلطًا وقتيًّا على ثلاثة من الآلهة وهم: آريس وهيرا وأذيس، فالأول إله الحرب، ويتسنى للناس كسر شوكته إذا كثرت رويتهم، وقلت نهمتهم، ثم هيرا امرأة زفس المعروفة بالخدعة والدل، وكلاهما يدينان ويذلان في بعض الأحوال، والثالث إله الجحيم وهو عبارة عن الشر، فيمكن كبح جماحه واتقاء جناحه، وليس لنا من جملة هذه الأمثال مثل لقهر أثينا ممثلة الحكمة وأشباهها؛ لأن الحكمة لا تضل ولا تذل.
(٤٠) علمت ذيونة أن أثينا هي التي أغرت ذيوميذ، وأَمَّا الزُّهْرة على كونها آلهة ففاتها عرفان ذلك؛ لأنها ممثلة الهوى والهوى فضَّاح تضطرب لديه الأفكار فلا تنفتح به الأبصار.
(٤١) لم تكن أغيالا كما قال الشاعر ذات عقل رجيح؛ لأنه مذكور في تواريخ تلك الأيام أنها خانت زوجها، وهامت بغيره أثناء غيابه، ولما ألقت الحرب أوزارها وعاد ذيوميذ على أمل أن يحظى بلقيا الزوجة الأمينة والرفيقة المعينة، فإذا بها قد ألقت بمقادة الحب إلى شخص غريب علق به قلبها، فاضطر ذيوميذ إلى الفرار من بلاده فكأن الزهرة انتقمت منه بما لها من السلطة على القلوب، فإما أن يكون هوميروس جاهلا لتلك الرواية لعدم شيوعها في زمانه، وإما أن يكون قال ما قال وهو يصفها قبل تلك الخيانة.
(٤٢) لم يكن لوالدة أن تسكن روع ابنتها بأرق من هذا الكلام، والشاعر كجاري عادته يسهب مكان الإسهاب، ويوجز موضع الإيجاز، فالمقام مقام تعزية وتسكين ولا يسكن جأش المصاب بكلمات قلائل، فلهذا أتت أولا على ذكر آلهة أعز جانبًا من ابنتها أصيبوا بأشد من مصابها، ولم تبق لها موضعًا للهفة والقنوط، ثم أعادت الكرة على ذيوميذ فتنبأت لها بما سيناله من العقاب الشديد، ولا سيما بحرمانه البنين لذة الحياة الدنيا، وتلك شر رزية يخشاها الآباء، وسنرى من كلام فينقس في النشيد التاسع شدة تلهفهم على العقب فكأنها ذرَّت لها بلسم الشفاء وفرجت عنها كربة العناء.
(٤٣) لا بدع أن تبادر أثينا وهيرا، فتسبقان قبريس إلى زفس فتكلمانه بما هو مأثور عنها من التحرش بالغلمان والفتيات لتخففا من غيظه إذا اغتاظ، وتلتمسان بالهزل طمس حقيقة لا تخفى عليه، وإنما يشوقه هزلهما فيصبر عنهما؛ ولهذا نراه باسمًا في البيت التالي كأنه تجاوز عنهما إلى ما هو أعظم شأنًا في تلك الحال.
(٤٤) لم يتحامل ذيوميذ على أفلون تحامله على الزهرة؛ لأنه إنما كان مندفعًا بصولة أثينا، وهي لم تأذن له إلا بطعن الزهرة، أما تصديه لأفلون فلم يكن بالأمر المعقول؛ لأنه إله ذو بطش شديد، وإذا نظرنا إلى الأمر من وجه رمزي، فذلك أيضًا غير معقول؛ لأن أفلون ممثل الشمس والقدر ومقاومتهما أمر محال في كل حال.
(٤٥) إن في إرسال هذا الطيف تعبيرًا شعريًّا لطيفًا يشير إلى أنهم لم يعلموا بتغيبه.
(٤٦) المسرَّدة الحصداء الدرع المحكمة، والمجوب الترس.
(٤٧) فرغام أو فرغاموس قلعة إليون، وقد تطلق على البلدة نفسها.
(٤٨) لم يتجرأ أحد من قوم هكطور تجرُّؤ سرفيدون عليه في هذا المقام، فعيَّره بما لم يكن يصبر له لو صدر من طروادي، ولكنه كلام مفحم لا يرد عليه، ولا يكذَّب ولا يعاب، وزد على هذا أن هكطور وصحبه كانوا في حاجة كبيرة إلى حلفاء يقاتلون معهم جنبًا لجنب، ولا مطمع يغريهم على الاستبسال، فإذا غادروا الحرب كان البلاء كل البلاء على الطرواد والحلفاء لا يمسُّون بأذى كما قال سرفيدون:
وهنا ليس لي متاع ولا ما
الٌ فأَخشى أن العدى يسلبوني
أو كقول الطغرائي:
فيم الإقامة بالزوراء لا سكني
فيها ولا ناقتي فيها ولا جملي
ولهذا لم يكن لهكطور جواب أوقع من الصمت والاجتزاء عن القول بالفعل.
fig16
شكل ٢: ذيميتر.
(٤٩) قال عنترة:
ويطربني والخيل تعثر بالقنا
حُداة المنايا وارتهاج المواكبِ
وضربٌ وطعن تحت ظل عجاجةٍ
كجنح الدجى من وقع أيدي السلاهب
(٥٠) ذيمتير إلاهة الزراعة والخصب وقد مر ذكرها، وهي سيريس اللاتين أو الإفرنج كانوا يمثلونها وبيدها سنبلة أو زهرة خشخاش وما أشبه، لم أر للغبار تشبيهًا أبدع من هذا التشبيه، ولعله وارد في شعر العرب وخفي عنا أو أنه لم يحفل به شعراؤهم لقلة اشتغالهم بالزراعة في باديتهم.
(٥١) احتجاب أثينا إشارة إلى شدة الالتحام واختلال النظام كما أن انسدال الغمامة فوق الجيش في البيت التالي إشارة إلى اكفهرار الغبار.
(٥٢) لما وصف الجنود المتثبتة في مكانها متهيئة للكفاح، وشبهها بالغيوم المتلبدة فوق الجبال هيأ للتصور منظرًا مهيبًا قلما يراه سكنة السهول، ثم استطرد فمثل للتصور ذلك المشهد أثناء هجوع الأنواء؛ لأنها في عرفهم كما علمت أشخاص مجسَّمة تهجع وتستفيق، فإذا هجعت فقد تبقى تلك الغيوم راسخة كالجبال فوق الجبال يتهيب لمنظرها الرائي، قال بعضهم: رمز الشاعر بقوله: «الأنواء فيهن تلعب» إلى ما سيكون من تمزق شمل الإغريق في تلك الواقعة، وهو تصور حسن قد يمكن أن يكون قصده الشاعر إلا أنه لا يبعد أن يكون من جملة المتممات اللاصقة بأكثر تشابيه هوميروس.
(٥٣) كل كلمة من هذا الخطاب على إيجازه تقوم مقام العبارات الطوال، والجمل الفخيمة في خطب الملوك والأقيال لا سيما أن الساعة ساعة حرب لا سبيل فيها إلى إطالة الكلام، ولم يكن غير أغاممنون لينطق بمثل هذا النطق، وإن وجد بين القوم من هو أبعد منه نظرًا وأوفر حكمة؛ لأنه ليس إلا للزعيم الأكبر بعد التلطف بالمقال أن يعد البطل المقدام بحسن المصير، ويتوعد النكس الجبان بالموت والعار، وهذا من مميزات شاعرنا إذ لا يكاد يصدق في كلامه منطق رجل إلا إذا كان من ذلك الرجل، وما أشبه خطاب أغاممنون هذا بكلام الإمام علي بن أبي طالب يوم قام يخطب في الناس قبل واقعة صفين، قال: «وَطَّنوا أنفسكم على المنازلة، والمجاولة، والمزاولة، والمناضلة، والمعانقة، والمكارمة، والملازمة، وأثبتوا ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين».
ولعنترة بمعنى البيت الأخير:
لعمرك إن المجد والفخر والعلى
ونيل الأماني وارتفاع المراتب
لمن يلتقي أبطالها وسراتها
بقلب صبور عند وقع المضارب
ويبني بحد السيف مجدًا مشيدًا
على فلك العلياء فوق الكواكب
ومن لم يروي رمحه من دم العدى
إذا اشتبكت سمر القنا بالقواضِبِ
ويعطي القنا الخطيَّ في الحرب حقه
ويبري بحدِّ السيف عرض المناكب
يعيش كما عاش الذليل بغصة
وإن مات لا يجري دموع النوادب
وكل ذلك يجمعه قوله في موضع آخر:
من لم يعش متعزّزًا بسنانهِ
سيموت موت النذل بين المعشر
(٥٤) لا يغفل شاعرنا هنيهة واحدة عن تفكهة القارئ بما ترتاح إليه النفس؛ ليرسخ في ذهنه كل ما أودع شعره من الحكمة وحسن التمثيل، ولو سرد تباعًا أسماء قاتليه ومقتوليه لكان نظمه خلوًّا من الطلاوة التي اشتهر بها، وإذا قص قصة أو روى رواية، فإنما يختار لها الوضع الذي لا يمكن أن تكون في سواه، ولنا على هذا مثالٌ مقتل الأخوين هنا فقص قصتهما بنسق مؤثر، وختمها بتشبيهين بالغين في الدقة والهيبة، فكأنما اضطر راوي شعره إلى حفظ تلك الذكرى.
(٥٥) مهما اعترض شعر الإلياذة من الأقاصيص الخرافية، فهو برموزه وحسن سبكه وارتباطه منسوج على منوال لا يأباه العقل، فإن منيلاوس لم يكن من أكفاء أنياس فلما انبرى له لم يكن ذلك إلا بسوق آريس إله الحرب أي: بثوران نار الحمية في رأسه، فغيبت عن بصره سوء المصير، فكان من ثم من الحزم أن يتقدم أنطيلوخ لمعاونته على أنياس خصوصًا أن الحرب أولاها وأخراها كانت انتصارًا لمنيلاوس، فلو قتل فيها لتصرمت الآمال، وضعفت عزائم الرجال وانتهت بنكبة الإغريق، ثم إنه لم يكن في ارتداد أنياس شيءٌ من العار؛ لأنه أصبح أمام بطلين مغوارين إذا قوي على أحدهما فلا قبل له بكليهما، قيل لعنترة العبسي: «أنت أشجع العرب وأشدهم بطشًا فقال: لا، قيل له: كيف شاع لك هذا الاسم بين الناس؟ قال: إني أقدم إذا رأيت الإقدام عزمًا، وأحجم إذا رأيت الإحجام حزمًا، ولا أدخل مدخلا إلا إذا رأيت لي منه مخرجًا، واعتمد الضعيف الساقط فأضربه ضربةً يطير منها قلب الشجاع، فأنثني عليه فآخذه والحرب خدعة».
(٥٦) الصروم: السَّيف.
(٥٧) الكلوم الجراح، يخطر على بال شاعرنا ما لا يدور في خلد شاعر، ولا تكاد تعجب بوصف أو تشبيه إلا ويبدو لك على الإثر ما هو أحسن منه أو مثله بحيث إذا خُيّرت في التفضيل لاحترت في الانتقاء، وحسبك شاهدًا هنا مقتل هذا الرجل الناشر رجليه للهواء، وحسن التخلص بطرحه إلى الأرض مدفوعًا بجياده.
(٥٨) أنيو زوجة آريس إله الحرب، وقيل: بل أخته كانت حوذيَّته تشد الخيل إلى مركبته، وترافقه أو تذهب منفردة لإثارة الحروب، فكانوا يمثلونها منتفشة الشعر ملتهبة البصر، تجري وبيدها سوطٌ مخضب بالدماء.
(٥٩) لما كان الفوز للإغريق في ما تقدم، وكان لا بد من إظهار بسالة هكطور وجيشه وانثنأهم على العدو، وتنكيلهم به لم يكن أجمل من تصرف الشاعر بإظهار هكطور في صدر جيشه يليه إله الحرب، ورفيقته القهارة وفيه توطئة حسنة لالتواء الإغريق التواء غير مذموم، وانجلاء الأمر لهم بواسطة ذيوميذ؛ لأن أثينا كما تقدم فتحت عينيه ليميز بين الآلهة والناس، فأحجم إحجامًا لا يشوهه عار كمن يطوي بطن البيداء فتصده سيول لا قبل له باجتيازها «فينكص منهد القوى وهو حائر».
(٦٠) لما انجلت لذيوميذ حقيقة الأمر كان من الحكمة أن ينذر قومه بالخطر المحدق بهم، ويحثهم على التقهقر غير منقلبين على أعقابهم بل موجهين صدورهم للأعداء كجاري عادة الشجعان في ذلك الزمان وفي كل زمان حتى لا تختل بوجوههم خطة الدفاع، ولا تنالهم طعان العدو في ظهورهم خشية العار، وقد كان من عاداتهم أن المطعون في ظهره ينبذ نبذًا من بين جماعته، وإذا مات لم يجز دفنه، وذلك عندهم منتهى العقوبة لما أسلفنا من شدة حرصهم على إحراز القبور ووصف معتقدهم فيها.
(٦١) كثيرًا ما نراهم في ساحة القتال يعكفون على الأسلاب في ثوران المعمعة طمعًا بالمال والفخار؛ لأنها كانت الدليل القاطع على بأس صاحبها، وسنرى ذلك بأوضح بيان في النشيد الثالث عشر أثناء مفاخرة أيذومين ومريون بما حوياه من سلاح الأعداء، ولم يكن ذلك شأن العرب كما قدمنا (ن ١). قال العبسي:
ونشرت رايات المذلة فوقهم
وقسمت سلبهم لكل غضنفر
(٦٢) لوميدون هو ابن إيلوس وأبو فريام تولى طروادة ثلاثة وعشرين عامًا، وهو الذي حصنها بالحصون المنيعة، وأقام السدود وقاية لها من موج البحر، وفي أقاصيصهم أن أفلون أعانه في بناء المعاقل، وفوسيذ إله البحر في بناء السدود، ولما انتهى عمل الإلهين، ولم يبر لوميدون بوعده لهما فشا الوباء في المدينة، وطغى عليها البحر، فلجأ الطرواد إلى استخارة الآلهة، فأوحي إليهم أنه لا مناص لهم ولا نجاة ما لم يعدّ ملكهم ابنته فريسة للنون العظيم أو التنين، فرضخ الملك مضطرًّا ففزع له هِرَقْل وقتل التنين، فنجت الفتاة على ما يقرب من قصة مارجرجس، وحنث لوميدون بيمينه وأخلف وعده مع هرقل، فلم يعطه الجياد التي وعده بها، فانتقم هرقل ودمر البلدة.
(٦٣) بدأ أطلوفيم خطابه بالتهكم على سرفيدون إذ دعاه مشير ليقية إشارة إلى أنه كان قوالًا أكثر منه فَعَّالا؛ لأنه كما نقل پوپ عن سبوندانوس كان زعيم قوم مضت عليهم أزمان وهم راتعون بأمن وسلام لا يلجون الحروب ولا تفاجئهم الخطوب، وانتقل الخطيب من ثم إلى المفاخرة بحسبه ونسبه، وأشار إلى خراب إليون للمرة الأولى إذ دمرها هرقل انتقامًا من لوميدون ملكها.
(٦٤) لم ينكر سرفيدون مقال ندِّه، وإنما أنكر عليه أن ما جرى جرى ببأس هرقل، فألقى التبعة غضًّا من شأن هرقل على لوميدون نفسه كأنه أصيب بما أصيب عقابًا من الآلهة.
(٦٥) أبوه زفس كما تقدم، والمراد أنه لو لم تحط به العناية فيبادر صحبه إليه لهلك.
(٦٦) لقد صدق من قال: إن الشاعر لا يكون شاعرًا إلا إذا كان عالمًا، وإن لم يكن ذا علم وافر، فلا أقل من أن يلم ولو إلمامًا قليلا بعلوم زمانه، ويلوح لك من شعر هوميروس أنه كان طبيبًا وجَرَّاحًا، وفلكيًّا وصانعًا، ومؤرخًا وجغرافيًّا، وبالجملة فإنه وعى في صدره كل علوم عصره، ولك هنا مثال بأنه لم ينطق بلسان سرفيدون عند ما أصابته الطعنة بل لام قومه إذ لم يبادروا إلى إخراج النصل من حُقِّه، ثم صمت برهة وجعله يشعر بشدة الألم، ويستغيث وكل هذا ينطبق الانطباق التام على حالة الجريح الذي يشتد به الألم بعد فترة.
(٦٧) إن في سبب إعراض هكطور عن جواب سرفيدون خلافًا في نظر الشراح، ولعل الأقرب إلى الصواب أن الساعة ساعة كفاح لم يكن له أن يضيع منها لحظة في الكلام، ولم يكن بوسعه أن يزيد على ما فعله أصحاب سرفيدون بإسراعهم به إلى الزانة.
(٦٨) وهذا أيضًا من دقائق مطالعات الشاعر إذ أن الجريح يشعر بأشد الألم عند انتزاع السهم من جرحه، فإذا لم يكن الجرح قتالا فنسمات الريح تنعشه وتخفف آلامه.
(٦٩) المهدم إله الحرب.
(٧٠) يكثر الشراح من التساؤل كلما انتزع هوميروس مخاطبًا من نفسه فمن قائل: إن السؤال موجه إلى إلاهة الشعر، ومن قائل غير هذا القول، ولا أخاله إلا نوعًا من التجريد البياني كان يستحسنه اليونان كما يستحسنه العرب حتى جعلوه من أنواع البديع. راجع (ن ٤).
(٧١) لما طال على القارئ مشهد القتال ثنى الشاعر نظره إلى ما كان بين الآلهة من الفزعة للفريقين، فشرع في تهيئة هيرا زوجة زفس وفالاس أي: أثينا ابنته على ما يأتي، سنبين في أول النشيد السادس مطالعتنا بشأن هذا النسق من النظم.
(٧٢) اللبب ما يشد من السيور في صدر اللبَّة من صدر الدابة، والمراد به هنا السيور على الإطلاق، يخال لك لدى كل وصف من أوصاف هوميروس أنه إنما يصف علمًا وقف نفسه له أو صناعة دأب عليها حياته بطولها، ولنا هنا في وصف العجلة ما يكاد يدلنا على أنه صانع عجال مع كونه شاعر ما تقدمه وما تأخر عنه من القرون الطوال.
(٧٣) المضمد النير تقرن إليه الجياد.
(٧٤) أي: إن كل ما مرَّ مرسوم عليه رسمًا ويفعل فعله جسمًا.
(٧٥) قال پوپ: «إن تصور أثينا متدججة بسلاح زفس يشير إشارة بديعة كما قال أفستاثيوس إلى أنه لا شيء ثمة إلا حكمة القدر، قال: وكان القدماء يشيرون إلى هذا الموضع بعلامة كنجمة تمييزًا لما فيها من سمو المرمى، ولا ريب أن في كل هذا السياق بلاغة وعظمة تحار لهما الأفكار، وتقصر عنهما مدارك كل ذي تصور إلا هوميروس، ولا شيء في أقواله أصرح شهادة من هذا الموضع بالقول الشائع منذ القدم أنه «لا رجل سواه أبصر هيئة الآلهة ولا أحد سواه أظهرهم للناس» فلا وصف أجمل وأبدع مما وصف به مركبة هيرا وسلاح أثينا، وترس زفس بما فيه من رسوم الشقاق والهول والرعدة، وكل نكبات الحرب التي إنما تنتاب الناس على أثر غضبه عليهم، وما أعظم ذلك الرمح الذي به يحطم زفس بقوته وحكمته الفيالق المتأهبة والكتائب المتكتبة، ويغض من كبرياء الملوك الذين يسيئون إليه، على أننا لا نعجب من تناهي عظمة هذه التصورات لدى تأملنا بما بينها من الشبه وبين ما ماثلها في الكتب المقدسة حيث يمثل الإله القدير شاكًّا في سلاح النقمة، وهو منحدر بعظمته لينتقم من أعدائه، وفي مزامير داود ذكر كثير للمركبة والقوس وترس الله».
(٧٦) الإشارة إلى مداخل النعيم والجحيم بالأبواب كلامٌ قديم في كل الأديان فللسماء أبواب في التوراة والإنجيل والقرآن. ويرمز بالباب أيضًا إلى الواسطة والوسيلة كما جاء في الحديث: «أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها». وعلى ذلك بنى البابيون مذهبهم توسعًا بهذا المعنى، أما الساعات الواقفة بباب السماء، فالمراد بها الفصول تتناوب واحدًا بعد واحد.
(٧٧) قبريس الزهرة، وفيبوس أفلون نراهما مواليين لإله الحرب؛ لأن الهوى والقدر حليفان له، وأما الحكمة أي: أثينا فلا.
(٧٨) لا شك أن فالاس أي: الحكمة أصلح من هيرا للوقوف في وجه رب الحرب؛ لأن وقوف هيرا في وجهه لا يأتي بمعنى، وهكذا نرى أن هوميروس نطق بكل ما نطق عن قياس ومنطق، فسنراه بعد أبيات وقف بهيرا تصيح دون أثينا؛ لأنها تمثل الهواء والصوت أشد وقعًا بفم هيرا منه بفم أثينا.
(٧٩) لا يعجبن القارئ لهذه المبالغة بسرعة طيران الجياد السماوية بمن عليها، فإنها هي من نتاج السماء تطير بآل السماء، وكم من مثل لنا يشبه تلك السرعة بخطوات الملائكة بل وغير الملائكة من الجن في روايات العرب وغيرهم حتى لقد نُسبت لأبينا آدم في بعض الكتب خطوات تقارب هذه الخطى أو تزيد كخطوته من جنة عدن إلى جزيرة سرنديب (سيلان)، وأما عفريت سليمان فمن معجزاته فوق ما طرق مخيلة هوميروس، وأما سرعة الخيل فقد تفنن شعراؤنا في وصفها تفننًا لا تذكر بجانبه أقوال شعراء اليونان، ومن تلاهم أحصيت منها مرة نحو خمسين وصفًا، وبقي أمامي شيءٌ كثير، وإني موردٌ هنا أمثلة قليلة من أنواع مختلفة. قال سلمة بن خرشب الأنماري:
هويّ عقاب عردة أشأزتها
بذي الضمرات عكرشة دروم
شبه فرسه بالعقاب المنقضة على الأرنب، والظاهر أن ابن خرشب كان مولعًا بهذا التشبيه فقد سبق له نظيره. (ن ١). وقال أعرابي:
جاء كلمع البرق جاش ماطره
تسبح أولاه ويطفو آخره
فما يمس الأرض منه حافره

•••

وقال مزرَّد أخو الشماخ:
متى ير مركوبًا يقل باز قانص
وفي مشيه عند القياد تساتل
تقول إذا أبصرته وهو صائم
خباء على نشز أو السيد ماثلُ
شبه الفرس بطير الباز، وبالسيد أي: الذئب، وهو صائم أي: قائم وهذا كثير في كلام العرب، ومنه قول الحصين بن الحمام المرّي:
وأجرد كالسرحان يضر به الندى
ومحبوكة كالسيد شقاء صلدما
وقال عنترة:
ولي فرسٌ يحكي الرياح إذا جرى
لأبعد شأوٍ من بعيد مرامِ
يجيب إشارات الضمير حساسةً
ويغنيك عن سوطٍ له ولجامِ
كل ما تقدم من كلام شعراء الجاهلية، وليس المولدون دونهم إلمامًا بهذه الأوصاف وما أرق ما قال علي بن الجهم:
فوق طرف كالطرف في سرعة الشـ
ـد وكالقلب قلبه في الذكاء
ما تراه العيون إلا خيالا
وهو مثل الخيال في الانطواء
(والطرف المهر) ومثل ذلك قول المتنبي:
يذرى اللقان غبارًا في مناخرِها
وفي حناجرها من آلسٍ جُرَعُ
يريد أن تلك الخيل تشرب من نهر آلس، وتبلغ اللقان قبل أن تستتم بلع الماء، وبين المحلين مسافة بعيدة، وللمتنبي بيت آخر وعى معنى هوميروس بعينه وهو:
يقبلهم وجهَ كل سابحة
أربعها قبل طرفها تصلُ
أي: إنها تضع قوائمها وراء منتهى بصرها، وهذا هو المراد بقول صاحب الإلياذة.
(٨٠) سِمْوِيسُ نهر تجاه إليون كان إلهًا من آلهة الطرواد.
(٨١) يقال في حمام الجنان، وطيور الجنان ما تقدم لنا في القول عن سرعة الطيران أنها قديمة في معتقدات الأوائل، وقال بها المصريون قبل اليونان وزعموا أنها لم تكن تبقي من أثر إذا وقعت على الأرض، وكثيرًا ما تمثل الملائكة بصور الحمام، ويرمز بها إلى الدعة والخفة والوفاء كما جاء في قصة الطوفان وغيرها.
(٨٢) قلنا: إن هيرا أي: الهواء أصلح لاستنفار الجيش، وإنما ماثلت إستنتور؛ لأنه كان نفير القوم، وكان لذوي الصوت الشديد في ذلك الزمان منزلة هامة في الجيش يقومون مقام الرسل والسفراء، ويؤدون ما تؤديه الطبول والآلات في هذه الأيام، وكانت الملوك والقواد تستخدمهم في الحروب وتفاخر بشدة صديدهم وهديدهم.
(٨٣) تَقَهْقَر أي: تتقهقر وهو كثير في شعر العرب كقول المعري:
تحاشي الرزايا كل خفٍ ومنسمٍ
وتلقى رداهن الذرى والكواهلُ
وترجع أعقاب الرماح سليمةً
وقد حطَّمت في الدار عين العواملُ
(٨٤) ذلك أصدق وصف للحرب، فهي لا تستقر على حال، ولا تراعي جانب العدل ولا تقف على حد ولا تلوي على جهد.
(٨٥) إستنيل هو حوذي ذيوميذ أو رديفه دفعته إلى الأرض لتحل محله، وتلي ذيوميذ بالكفاح فلا يقهره بعد ذلك قاهر.
(٨٦) آذيس إله الجحيم، وخوذته هي التي نعبر عنها في كتبنا بقبع المارد يخفي لابسه على كل الناس فيرى ولا يُرى، وقد ذهب اليونان هذا المذهب؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن كل ميت يحل دار الظلمات حينًا من الزمن، فينحدر إلى مملكة آذيس ويتوارى عن الأبصار ومن ثم تأصل فيهم الاعتقاد وأخذوا يرمزون بخوذة آذيس إلى الاختفاء والاحتجاب.
(٨٧) يأوّل مدَّ يد فالاس لإطاشة السنان بتذرع ذيوميذ بالحكمة والحنكة لإطاشته عنه.
(٨٨) يأوّل كل ذلك باشتداد الكفاح وارتفاع الصديد الشديد، وقد يمثلون ذيوميذ بطعن آريس على نحو هذه الصورة.
figure
ذيوميذ يطعن آريس إله الحرب.
(٨٩) لا يؤخذ من قوله هذا أنه يمكن أن يدركه الموت؛ لأن الخلود من لوازم الألوهية، ولا يمتنع عليهم مع ذلك أن يعانوا العذاب حينًا من الزمن.
(٩٠) لا عجب أن يبث إله الحرب هذه الشكوى من ربة الحكمة، ويعزو إليها ما تخلق به من قبيح الخلال، فهي التي تتولى قهره وتكيد نحره، ومن اتصف بسيئة فإنما يصف بها أبعد الناس عنها.
(٩١) في أساطيرهم أن جميع الأرباب من ذرية أورانوس ممثل السماء، قالوا: ولدته الأرض، ثم تزوجها فولدت له ثمانية عشر ولدًا ومنهم قرونس (زحل) أبو زفس (المشتري)، ثم تألب قرونس وبعض إخوته عليه فخلعوه.
(٩٢) لما أجلت الإلاهتان رب الوغى عن ساحة القتال، أي: لما فترت عزائم الطرواد لم يبق ثمة داع لبقائهما على نصرة الإغريق فرجعتا إلى السماء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤