النشيد السادس

اجتماع غلوكوس بذيوميذ ووداع هكطور لزوجته أنذروماخ

مُجْمَلهُ

خلت ساحة الحرب من كل رب
وثار العجاج بطعن وضرب

وما كادت تخلو حتى استظهر الإغريق وولى الطرواد منهزمين، فأوقفهم هكطور وجرى مسرعًا إلى إليون يسأل أمه الملكة أن تستمد عون الإلاهة أثينا، وتسترضيها بالضحايا والنذور دفعًا لهجمات الإغريق وبطلهم المغوار ذيوميذ، ولما احتجب هكطور برز لذيوميذ غلوكوس زعيم الليقيين، وقبل أن يصطدما استطلع كل منهما طلع الآخر، فأدَّى بهما ذلك إلى أن تعارفا واذّكرا ما كان بين ذويهما من التواد والتصافي بحقوق الضيافة فتصافحا وافترقا على غير قتال، أما هكطور فإنه دخل إليون، وسأل والدته أن تذهب بكبيرات العقائل فيتشفعن أثينا ففعلت، وصعد من ثم إلى حجرة أخيه فاريس، فلقيه مع هيلانة، فمال عليه بالتقريع والتونيب واستحثه على معاودة الكفاح، ثم سعى يطلب امرأته أنذروماخ فلم يجدها في منزلها، وأنبئ أنها ذهبت ترقب حركات الجيش من فوق الأبراج فجرى عاديًا، إليها فلقيها مع طفله وجرى له معها حديث ذو شأن ثم ودعها وانصرف يجري إلى ساحة القتال، وكان فاريس قد شك في سلاحه فلحق به وخرجا مندفعين إلى السهل.

مجرى حوادث هذا النشيد في اليوم السابق ومشهد وقائعه بين نهري سيمويس وإسكندر، ثم في إليون.

النشيد السادس

خلت ساحة الحرب من كل رب
فعج العجاج بطعن وضرب١
فمن سمويس إلى زنثس
قراع السيوف ومد القسي
فبادر بالقوم أول باد
أياس يشق صفوف الأعادي٢
ففرج أول هم وباس يصـ
ـرع ابن إفسورس أكماس٣
أشد الثراقة بأسًا شديد
وجبار هول وقرم عنيد
لواه أياس بطعنته
فغارت بقلب تريكته
وشقت إلى المخ عظم الجبين
فجندل ميتًا غضيض الجفون
تلاه ابن نثراكسيل الأغر
نزيل أرسبا الغني الأبر
ففي مضرب السبل كان يطوف
يغيث العباد ويقري الضيوف
وفوق الطريق بنى داره
ليكرم بالقرب زُوَّارَهُ٤
أعان ولم يجده ما أعانا
ولم يك من عنه يلقى الطعانا٥
بسيف ابن تيذيس صرعا
وخادمه كلسيوس معا
وخر أفلط كذاك ذريس
بعامل فريال صدر الخميس
فراح وأبقاهما بالزفير
على أسفوس وفيذس يغير
حفيدي حليف العلى لومدونا
وفرعين من بكره بقليونا
نشا خفية بقليون بحجر
فتاة أَحَبَّ أبوه بسر
ولما ترعرع ساق الشياه
فرامته إحدى بنات المياه٦
فدان لبربارة قلبه
وعن توأمين انجلى حبه
فبأسهما ابن مكست أبادا
ونال سلاحهما مستفادا
وفوليفتيس رمى أستيالا
وأوذيس بالرمح مال وصالا
جرى يطعن الفرقسي فذيت
وطفقير آريتوون يميت
وأصمى ابن نسطور أنطيلخس
بنافذ عاسله ابلرس
وأتريذ مولى الموالي قتل
إلاتوس قرم فداسا البطل
وفيلاق ولى يروم الفرارا
فنال بطعن لطوس البوارا
وميلنثيوس رمى أورفيل
وأذرست حيًّا دهاه منيل
فجيش الطراود والفتك دار
يهم قد تراموا بباب الديار
وأذرست شبت تغير الخيول
به جامحات بتلك السهول
بغصن من الأثل والكبكبه
تباريه أنشبت المركبه
فسحق مضمدها والجياد
أغارت وقد أفلتت للبلاد
وأذرست للأرض مذ صرعا
إزاء محالاتها وقعا٧
فأدركه وهو يجري منيل
برمح طويل وسيف صقيل
على ركبتيه ترامى ذليلا
وقال: «ألا فاعف وارض بديلا
فإن كنوز أبي بادخار
حديدًا وصفرًا وصافي نضار
فإن تعف عني فأُقتاد حيا
لفلكك يولك كنزًا مهيا»
فرق وكاد إلى صحبه
يشير إلى الفلك تمضي به
إذا بأخيه يشق الصفوفا
ليوليه عذلا ولومًا عنيفًا:
«تعست منيلا وأنت تلام
علام رحمت أولاء اللئام
بأي خنًى لم يسيئوا إليكا
وأي أسى لم يهيلوا عليكا
أجل فليبيدوا ويفن الجميع
فتاهم وشيخهم والرضيع
ولا ينج ناج وتبل الجسوم
ولا يعل قبر وتمح الرسوم»٨
أصاخ منيلا له وارعوى
وأذرست صد بكل القوى
وفي خصره آغممنون ألقى
سنانًا يشقق أحشاه شقًّا
وداس على صدره واسجره
ونسطور صاح يشدد أمره:
«أيا دانويون آل الطراد
موالي أريس رقيب الجلاد
فمنكم لا يتخلف كمي
على السلب والكسب كي يرتمي
فيقفل للفلك فيما ادخر
فيلهو وذا اليوم يوم الظفر
أبيدوا الرجال بدار النزال
فيخلو المجال وَثَمَّ المنال»٩
فهاجت بهم نفثات الحميه
وماجت تجيش النفوس الأبيه
وكاد الطراود والعزم خارا
يولون نحو الديار فرارا
ولولا أخو هكطر هيلنوس
أجلِّ العوارف يثني الرءوس١٠
لَوَلَّوا ولكن أتى هكطرا
وأنياس يبغيهما منذرا:
«ألا مذ تحملتما الفادحات
ومذ كنتما رأس كل الكماة
بسل القواضب بأس شديد
وحل المصاعب رأي سديد١١
قفا استوقفا الجند عند الحصون
لئلا تولي اتقاء المنون
وطوفا بهم بحفيف القدم
أثيرا القوى واستحثا الهمم
مخافة أن يدفعوا بالأسى
مولين حتى حجور النسا
فإما التجلد منا بدا
أمنا شماتة لُدِّ العدى
ونحن إذا الجاش بالجيش ثارا
لبثنا نذود ونحمي الذِّمارا
فلا نجوة من دواعي الضروره
وإن بلغ العي منا أخيره
وإن نهض العزم بين الجميع
أهكطور فاجري سريعًا سريع
إلى أمنا طر وقل تذهب
جميع النبيلات تصطحب
وتمضي إلى قمة القلعة
لهيكل فالاس بالسرعة
وتفتح في الحال أبوابه
وتدخل بالذل أعتابه
وتحمل أبهى نقاب لديها
ليسبل فيه على ركبتيها
وتنذر عند اندفاع البليه
تقود اثنتي عشرة للضحيه
تبائع ما قرنت تحت نير
إذا هي منت بدرء الشرور١٢
وحنت لدمع النسا والبنين
ومنت علينا بحرز أمين
وصدت ذيوميذ روع البلاد
نذير البلا واندكاك العماد١٣
نعم هو ظني أشد العدى
وأطولهم صولة ويدا
ولست أحاشي كذاك أخيلا
وإن كان لِلرَّبَّةِ ابنًا جليلا
فهاك تراه تَحَدَّمَ نارا
وَأَذْكى الأُوَارفَلَيْسَ يُجَارى»
فما كاد يكمل قولا وقع
لمهجة هكطور حتى اندفع
وهب يغير من العجله
وعدته ترسل الصلصله
يهز القنا وبخوض الصفوف
يهيج النفوس لقرع الحتوف
فهاج الطراود بأسًا وماجوا
وتحت خطاهم عَجَّ العجاج
فَصُدَّ الأغارق قتلا وزحفا
وكفوا عن الطعن والضرب كفا
وخالوا وقد بلغ البأس حده
بني الخلد قد رفدوهم بنجده
وهكطور والقرع يعلو صديده
بهم صاح كالرعد يدوي هديده:
«أقوم الطراود جند البئوس
ونجادهم مستجيشي النفوس
فها أنا أقصد أبراجنا
لألقى الشيوخ وأزواجنا
لكي ينهضوا وبنذر الضحيه
يُآلوا ادراءً لهذي البليه
فلا تبرحن كعهدي بكم
بتصعيدكم وبتصويبكم»١٤
ولما انتهى راح تَوًّا يسير
على قدميه وكاد يطير
وأهداب مجوبه الأسحم
من الرأس تضرب للقدم١٥
فشق غلوكس صف الرجال
كذاك ذيوميذ يبغي القتال١٦
وعند التلاقي وقد بلغا
خلال الجيوش مرامي الوغى
ذيوميذ بادره بالسؤال:
«فمن أنت قل يا أشد الرجال
فإنك ما لحت لي قط قبلا
وسمر العوامل تفتل فلا
وإني إِخالُكَ فُقْتَ الجميعا
لأنك لم تخش فتكي الذريعا
فويل أب لم يهبني ابنه
فلا شك يهلكه حزنه
فإن كنت من قوم آل الخلود
فقل وأصدقني حتى أعود
فليكرغ قاوم آل السما
فما قام قائمه بعد ما
تقفى مراضع رب الخمور
على طود نيسا خلال الصخور
فروعهن بسوط الفنا
فأسقطن من يدهن القنا
وريع ذيونيس منه وغاصا
إلى لجة البحر يبغي الخلاصا١٧
فضمته ثيتس إلى صدرها
تخوله الأمن في بحرها
وليكرغ من ثم كل إله
يعيش بدار النعيم قلاه
وزفس بلاه بكف البصر
وأهلكه عبرة للبشر١٨
أنا لست أبغي لقاء الأولى
أنيلوا الصفا في الديار العلى١٩
فإن كنت تغذي نتاج التراب
فأقبل وذق من ذراعي العذاب»
فقال: «علام اقتصصت الخبر
ونحن كأوراق هذي الشجر
فبعضًا يبيد الهواء وبعض
على منبت بائد النبت غض
ففي كل عام نبات أبيدا
به الغاب تنمي ربيعًا جديدا
وكلٌّ على إثر كلٍّ مشي
فجيلٌ تلاشى وجيلٌ نشا٢٠
ولكن إذا شئت مني الحسب
فإني ممن سما وانتسب
فإيفيريا بلد من بلاد
بأطراف أرغوس أرض الجياد
بها كان سيسيف أدهى الأنام
سليل أيولا عزيز المقام
وكان غُلُوْكُسْ له ابنًا كما
لهذا بَلِيرُوْفُنٌ قد نما
ففاق بليروفن بالجمال
وممتدح البأس كل الرجال
وقد كان فيض زفس انتصارا
لإفريط فاحتل تلك الديارا٢١
ودانت له كل تلك الأمم
كذاك بليروفن ذو العِظم
ولكن إفريط أضمر شرًّا
له إذ رآه ترفع قدرا
فبادر يطرده مستبدا
وزوجة إفريط رامته وَجْدا
وعن نفسه راودته فأعرض
عفافًا وللعرض لم يتعرض
له أضمرت أنتيا كل شر
وقالت لإفريط تهمي العبر:
«فموتن أوفليمت من أراد
بأهلك سوأ سحيق الفؤاد»
تحدم إفريط لكن خشي
نذيرًا خفيًّا ولم يبطش
وخط على رقعةٍ مهرا
رسوم الحمام كما أضمرا٢٢
وسيره لحميه المبجل
بليقية بالكتاب ليقتل٢٣
فسار وآل العلى حرس
عليه لحيث جرى زنثس
تلقاه بالبشر مولى البلاد
وأكرم مثواه ضيفًا وزاد
فتسع ليال كذا عبرت
عجول بعدتها نحرت٢٤
ولما انجلى عاشر العشره
بوردي أنمله النضره
بدا ملك ليقية بالخطاب
فألقى الرسول إليه الكتاب
فلما تناوله وتلاه
لقتل الخميرة حالا دعاه٢٥
مروعة من بنات الخلود
على قمم الشم قسرًا تسود
لها رأس ليث على ذيل أفعى
على جسم تيس من المعز يرعى
ومن فمها نفثات الأوار
تقاذف نارًا تثير الشرار
ولكن بآل العلى وثقا
وكل وجود لها محقا
وثنى بقتل رجال البئوس
عظامِ السليمة شمِّ الرءوس٢٦
وثلث يفتك والمرهبات
أمازونة الهول حتفًا أمات٢٧
وما كاد يفرغ حتى أقيم
له في الطريق كمين عظيم
فأفناه طرًّا ولم يذر
له ذلك اليوم من أثر
فريع المليك وكف الأذيه
وأيقن عزوته علويه
وأعلاه مستبقيًا بالجلال
وأنكحه ابنته باحتفال
وشاطره الحكم والشعب رام
يقيم لديهم عزيز المقام
لذا أقطعوه هبات غزيره
جنانًا حسانًا وأرضًا وفيره
وقد ولد ابنين إيسندرا
كذا هفلوخ الرفيع الذرى
ولوذمية المجتباة ومن
بها هام زفس شجًا واقترن
ومنها نشا سرفدون المعلى
ولكن بليروفن سيم ذلا٢٨
فراح يهيم على آلس
بعيدًا عن الناس والمؤنس٢٩
فحُطَّ لدى ساكني الخلد قدرا
وساموه بعد الترفع قهرا
فإيسندرا آرس قتلا
بحرب السليمة روع الملا
ولو ذمية أرطميس قلتها
ولم تعد من بعد أن جندلتها٣٠
وظل هفولوخ حَيًّا لنا
فذاك أبي وهو أرسلنا٣١
فقد حثني أن أخوض المجالا
وألقى بصدر الجيش الرجالا
وأعلى منار جدودي الأولَى
أُنيلُوا الفخار وشادوا العلى
فهم دوخوا كل قرن عتا
بليقية وبإيفيريا
فذا نسب فيه يعتز مثلي
وهذا إذا شئت أصلي وفصلي»٣٢
فكف ذيوميذ مستبشرا
وأركز عاسله في الثرى
وقال: «إذن لك حق الإخاء
عليَّ وإني حليف الولاء
أتدري لأُونفس جدِّي قديما
بَلِيرُوفُنٌ كان ضيفًا كريما
وعشرين يومًا له خلت
أقام على الرحب والسعة
وقد أحكما للوفاق الوثاق
قبيل حلول أوان الفراق
فجدي أهداه أبهى نجاد
توشت ببرفيرها المستفاد
وجدك كأس نضار أغر
إلى الآن في منزلي تدَّخر
وإني أبي تيذيس ما رأيت
ولكنني عنه هذا رويت
فقد كنت في المهد لما الأخاءه
بثيبة بادت ومنها الإساءه
فإنا ترانا حليفي وداد
وما بيننا لا يحل الجلاد
فأنت بأرغوس ضيفي الجليل
وفي ليقيا لك إني نزيل
كفاني ما في العدى من رجال
أصول عليها فتلقى الوبال
سواء بنو الخلد ساقت لباسي
أو اجتحتها مستطيلا بنفسي
وأنت كفاك بقرع البلا
رجال تروم لها مقتلا
وخذ للوفاق سلاحي دليلا
وهات سلاحك عنه بديلا
لِيُعْلَمَ أَنَّا نُرَاعي العهود
وحرمة آبائنا والجدود»
هناك ترجل كل فريق
وبعد التصافح عهد وثيق
وزفس غلوكس رشدًا سلب
فنال نحاسًا وأعطى ذهب٣٣
فشكته مئة من عجول
تساوي وذي تسعة لا تعول٣٤
سار هكطور حثيثًا وأتى
باب إسكية والزان ظليل

•••

فتلقته نساء وبنات
منه علمًا تتقصى سائلات
عن بنيهن وإخوان ثقات٣٥
وبعول وأخلا فأمر
أن يبادرن على ذاك الأثر
ويصلين لأرباب البشر
علها تدفع عنهن الأذى
ولزاهي قصر فريام مضى
هو صرح شيد بالنحت الجميل
فوق أبواب رواق مستطيل
ضمنه صف بديع المنظر
غُرف قد بنيت بالمرمر
كلها خمسون ملس الحجر
لبني فريام شيدت مضجعا
وثوت أزواجهم فيها معا
ويحاذيهن صف رفعا
فيه بالإيناس والرغد ثوى
مع كل ابنة الصهر الحليل٣٦

•••

لبنات الملك شيد اثنا عشر
منزلا طرا بمصقول الحجر
بسقوف شائقات للنظر٣٧
ثم هكطور إلى الدار ارتقى
حيث بالأم على الفور التقى
عجلا تمضي إلى لاووذقا
أجمل الغادات في ذاك الفنا
فعليه أقبلت توًّا تميل

•••

أمسكته بيد وهي تقول:
وعلام الآن غادرت السهول٣٨
وإلينا عدتَ تبدو بقفول
آه ما أدهى الأغاريق الأُولَى
دهمونا بمعدات الْبِلَى
إنما أعلم تبغي عجلا
ترتقي من قمة البرج الذرى
حيث تدعو زفس للخطب الجليل

•••

فاسترح حينًا وبالراح أعود
لتزكِّيها لأرباب الخلود
ثم تُسقَى فهي ريحان الكبود
تنهض العزم وتفني التعبا
بقواك العيُّ أَدرِي ذهبا٣٩
بذياد عن رفاق نجبا»
قال: «يا أماه تنحط القوى
بارتشافي الآن شهد السلسبيل٤٠
وكذاك النذر حتمًا حرِّما
بيد دنسها سفك الدما
أيجيز النذر لي زفس كما
أنا مخضوب وغشاني الغبار
فبدار الآن في الحال بدار٤١
واقصدي هيكل فالاس المزار
فهي الملجا لها النصر انتمى
واصحبي الغادات والطيب الثقيل

•••

واحملي أغلى وأعلى برقع
لك في القصر العظيم الأرفع
وعلى ركبتها فيه ضعي
وانذري أن ترجعي مبتدره
بالضحايا الغر ثنتي عشره
من تباع بكر مدَّخره
إن تشأ أن تدرأ اليوم الأذى
وعثار الولد والأهل تقيل
ورأت تدفع عن قدس البلاد
فرع تيذيوس رواع العباد
بطل البول وهدام العماد٤٢
فاذهبي أنت ولوذي بالنقى
وأنا فاريس أدعو للقا
عله يسمع نصحًا صدقا
آه لو تدفعه الأرض إلى
جوفها أُشفِي من النفس الغليل

•••

آفة أوجده زفس لنا
علة حتى يزيد الشجنا
أنا إن يهلك يزل عني العنا»٤٣
لبت السؤل وصاحت بالجوار
لينادين نبيلات الديار
وأتت غرفتها حيث استطار
عابق الطيب ومنشور الشذى
فوق أزر زانها الوشي الجميل

•••

نسجتها غيدُ صيدا نقبا
والفتى فاريس منها جلبا
عندما هيلانة قبل سبى٤٤
فانتقت مقنعة قد وضعت
فوقها مثل الدراري سطعت
وفرت ألوانها واتسعت
ومضت إيقاب في جل النسا
تقصد المعبد في البرج الأثيل

•••

وثيانو بنت كيسيس الصفي
زوج أنطينور الفارس في
عجل قامت إلى الباب الخفي
فتحته إذ لتلك الربة
جعلت كاهنة عن ثقة٤٥
فرفعن اليد بالولولة
نحو فالاس وسلمن الردا
لثيانو ربة الخد الأسيل

•••

فلها ألقت به فوق الركب
ودعت طالبة درء النوب:
«يا ذمار الدار يأكل الأرب
اسحقي رمح ذيوميذ الألد
واصرعيه عند أبواب البلد
فنضحي لك إن تحمِ الولد
ونسانا من تباع تنتقي
باثنتي عشرة بالشكر الجزيل»٤٦

•••

هكذا كان الدعا لكن أبي
لرجاهن استماع الطلب
إنما هكطور لم ينقلب
بل سعى يجري إلى الإسكندر
حيث وافاه بقصر أزهر
شاده قرب المقام الأكبر
حيث فريام وهكطور ثوى
في أعالي قمة البرج الطويل

•••

شاده أمهر أرباب الحرف
برواق عرصات وغرف
فإليه فيه هكطور ازدلف
بقناة حدها القاري انتشر
بلغت طولا ذراعًا وعشر
وعليها فَتْخَةُ التبر الأغر٤٧
فلديه ثم فاريس بدا
يصقل الشكة والدرع الصقيل
عنده هيلانة بين الإماء
تنفذ الأمر بحذق واعتناء
قال هكطور: «أيا أُسَّ البلاء
بئس ما أفرغت من هذا الغضب
والأعادي بلغت منا الأرب
ثارت الحرب وأولتنا الحرب
أنت لو خلت فتى عنها التوى
سمته التعنيف بالسيف السليل
كر أو لا فأعادينا الثفال
تضرم الحصن وتجتاح الرجال»٤٨
قال والأرباب حاكى بالجمال:
«بملامي قد أصبت الغرضا
فاتخذ قولي صدقًا فُرضا
أنا لم أحنق بل اخترت الرضا
إن أكن غادرت كرات الوغى
فلكي أصلى لظى قلبي العليل

•••

زوجي الآن أَلَانَتْ لي المقال
تبتغي عودي إلى دار النزال
صدقت ظني والحرب سجال
فانتظرني الآن أشكك في السلاح
أو تقدمني إذا شئت الرواح
فأوافيك سريعًا للكفاح»٤٩
صامتًا هكطور ذا القول وعى
وندا هيلانة شهدًا يسيل:

•••

«آه هكطور أخي كل الشرور
والرزايا الدهم من أجلي تثور
آه لو كانت رحى الريح تدور
يوم ميلادي وتيار الأوار
للجبال الشم بي كالطير طار
أو رمى بي فوق أمواج البحار
قبل أن أخذل من دون الملا
وأعاني ثقلة الخزي الوبيل٥٠
إن هذا قدر الأرباب في
حكمها لكنها لم تنصف
كان أولى أن تراعي شرفي
فيكون الآن لي بعل أشد
كاشف العار وَدَرَّاءُ الشدد
إن فاريس هوى النفس اعتمد
سوف يلقى شر أعمال جنى
وأرى الإصلاح أمرًا مستحيل

•••

فاسترح حينًا فأنواع العنا
شملتك الآن من شرِّي أنا
وشجا فاريس زاد الشجنا
هكذا زفس علينا قدرا
لنظل الدهر هُزْأً للورى»
قال: «يا هيلانة لست أرى
لي عن الجري إلى القوم غنى
ما لهم عني إذا غبت بديل

•••

حرضي زوجك أن يلحق بي
وأنا أمضي لقصري الأرحب
لأري فيه أعز النسب
زوجتي حينًا وطفلي المرضعا
لست أدري هل قضي أن أرجعا
أو يد الإغريق تفري الأضلعا»
ثم جد السير للقصر على
عجل يلقاهما قبل الرحيل٥١

•••

خاب ما أمل إذ لم يجد
زوجه الحسناء بيضاء اليد
فهي مع جارية والولد
ذهبت ترقب بالبرج الأثر
تصعد الأنفاس عن هامي العبر
داس بالأعتاب واقتص الخبر:٥٢
«أين يا هذي النسا قلن لنا
أنذروماخ مضت أي قبيل
هل إلى بعض بيوت الأخوات
أو نساء الإخوة المستعصمات
أو إلى الهيكل تلقي الدعوات
مع بنات الحي تبغي المددا
حيث يستمددن بالدمع اليدا
من أثينا خوف كرات العدى»
قلن: «لم تذهب إلى الأهل ولا
ذهبت قلب أثينا تستميل
قد بغيت الحق والحق يقال
فهي في السور ببلبال وبال
علمت في قومنا حل الوبال
فرأيناها جرت نحو الحصون
جري من داهمه مس الجنون
تصحب المرضع والطفل الحنون»
فانثنى هكطور من حيث مضى
وعلى الفور جرى والصبر عيل٥٣
بين أسواق بمرصوف البنا
أسرع السير وللباب دنا
فهنا زوجته ذات الغنا
بنت إيتيون الشهم الأبر
(من بإيففلاقيا ذات الشجر
قبل في ثيبا تعلَّى واستقر
والكليكيين بالعدل رعى)
أقبلت تصرخ بالقلب الذليل
معها المرضع والطفل الرضيع
ساطعًا بالحسن كالنجم البديع
أستيا ناسًا يسميه الجميع٥٤
إذ أبوه ذاد عنهم أجمعا
إنما هكطور والبر رعى
إسكمندريوسًا الطفل دعا٥٥
فإليه باسمًا سِرًّا رنا
وانبرت زوجته الدمع تهيل:

•••

«يا شقي البخت ذا البأس الوخيم
سوف يلقيك بلجات الجحيم
ولي الإرمال والطفل يتيم
سوف تلقاك جماهير عداك
وتلقيك مضاضات الهلاك
فلمن أبقى إذا مت سواك
آه لو أُلْقَى إلى جوف الثرى
قبل أن تلقى على الأرض قتيل

•••

إن تموتن الأسى يخلد لي
وعنا النفس ودمع المقل
لا أب أسلوبه لا أم لي
فأبى آخيل ذو البطش قتل
عندما ثيبا الكليكيين حل٥٦
إنما الأرباب أولته الوجل
فارعوى منقلبًا عما توى
ولحر السلب لم يبغ سبيل

•••

أحرق الجثة في شكتها
ثم واراها إلى تربتها
في ضريح شاد في جيرتها٥٧
حوله غيد الجبال الشامخات
نسل رب الترس سَحَّاقِ الرُّفَات٥٨
قَدْ غَرَسْنَ الدُّلْبَ حُبًّا بالممات
إخوتي سبعة أبطال كذا
دفعةً بادوا وما لي من خليل

•••

ذلك القرم دهاهم في الحقول
بين أسراب شياهٍ وعجول
وانثنى من بعد ذا الخطب يصول
ولأمي الأمر بالحكم خلا
فتقفاها لتعميم البلا
ساقها للأسر في ما أرسلا
أجزلت فديتها لكنما
أرطميس اتبعت شر آخيل

•••

رشقتها بسهام الغضب٥٩
أنت أمي وأخي أنت أبي
أنت بعلي أنت كل الأرب
أنت كل الأهل لي إذ أنت حي
آه فارحم وانعطف رفقًا علي
آه فارفق بي وبالطفل لدي
(أنا لا أطمع أن تأبى الوَحَى
وعن الهيجاء جبنًا تستقيل
إنما أرغب أن تحمي الذمار
وتقي نفسك من شر البوار)
فَهُنَا السور تداعى للدمار
فبغاه كل ذي عزم وباس
كذيوميذ وأتريذ أياس
وثلاثًا كاد يندكُّ الأساس
لست أدري هل أتوه عن هوى
أولهم قد كان في الوحي دليل

•••

قرب تين البر فوق البرج قر
وتحفظ فيه من شر أمر
فلك النجو (وللجيش الظفر)
ولي السلوى وللطفل الرجا»٦٠
قال: «ما يشجيك يوليني الشجا
إنما الموقف أضحى حرجا
نزل الروع وبي العزم أبى
أن يكون الروع في القلب نزيل

•••

بين أقوامي وربات السدول٦١
لست أرضى العار إن تعل النصول
أو عن الهيجاء يثنيني الخمول
وأنا دومًا بصدر الفيلق
شأن فريام وشأني أتقي
وأقي قومي بحدِّ المحقق
آه لكن فؤادي والحجى
ينبئاني أن صمصامي كليل

•••

سوف تندك بإليون القلاع
وتوافينا الملمات الفظاع
كل هذا منه قلبي لا يراع
لا إذا أمي في الترب ثوت
أو أبي من دمه السمر ارتوت
أو رميم الإخوة الأرض احتوت
لا إذا الطرواد بادوا وإذا
خرق الزرقاء للجو العويل
بيد أن الخطب كل الخطب آه
أن تكوني في سبيات العداه
تذرفين الدمع عن مر الحياه
تستقين الماء كالعبد الأسير
من مسيس أو ينابيع هفير
تنسجين القطن والقلب كسير
كل بؤس كل رزء وعنا
كله إن حل ذا الرزء قليل
كله لا شيء إن صح الصحيح
ولديهم كنت والدمع يسيح
والذي يلقاك بي هزأً يصيح:
«تلكم زوجة هكطور الشديد
خير ما في القوم من قرم عنيد
كم له قرع بذراع الحديد»
«تل صدر الجيش تلًّا وهُنا
سبيت زوجته وهو تليل»٦٢
فتصيحين وتصلين السعير
تستجيرين ولكن من يجير
إن يكن هكطور في الترب قرير
فلك الرق وأنواع العذاب
يا لحود الأرض واريني التراب
قبل أن يدهمني هذا المصاب
وأنلني أيها الخطب البلا
قبلما زوجي للسبي تُنيل»٦٣

•••

ثم مد اليد للطفل فصد
جازعًا لما رأى تلك العدد
من نواص سابحات وزرد
وبصدر المرضع الطفل ارتمى
فلديه أبواه بَسمَا
وبرفق عنه هكطور رمى
ذلك المغفر والطفل بدا
بيديه بين تقبيل يجيل
ودعا يسأل أسياد الأنام:
«أنت يا زفس وأربابًا عظام
عونكم أسأله في ذا الغلام
فليكن مثلي هَصَّار الأسود
وهو في إليون بالبأس يسود
وإذا من موقف الحرب يعود
فليقل فوق أبيه قد سما
سل سيف الفوز يا نعم السليل

•••

وليجندل كل جبار أبي
فائزًا منه بحر السلب
تتلقاه بيادي الطرب
أمه جاذلة مما ترى»٦٤
ثم ألقاه لها مستبشرا
وهي ضمته لصدر عطرا
بسمت باكية وهو رنا
مشفقًا ينظر للطرف البليل

•••

ثم ناداها وقد رام العجل
«لا يشق الأمر لا يعن الوجل
ليس موت قبل إدراك الأجل٦٥
كل صنديد ورعديد جبان
مذ تبدى بوجود للعيان
ليس ينجو من تقادير الزمان
ولكل عمل فامضي كفى
واطلبي أعمال ربات السديل

•••

فلك النسج وفتل المغزل
ولنا إعمال سمر الذُّبَّلِ٦٦
وأنا الإيقاعُ بالأبطال لي»
لبس المغفر حالا ووثب
ومضت تلفت من حيث ذهب
تذرف العبرة والقلب التهب
دخلت للصرح يوليها الشجا
زفرات أشجنت كل الدخيل

•••

فعلا بين جواريها النحيب
حين أبصرن بها ذاك اللهيب
عمَّت الأحزان في القصر الرحيب
هو حي وتعمدن الحداد
إذ توقعن له وقع الصعاد٦٧
لم يؤملن له حسن المعاد
لم يقل بعد أبادته العدى
إنما نحن كما لو كان قيل٦٨
مضى وبعالي الصرح فاريس جانح
إلى الحرب منه تستطير الجوانح٦٩
بعدة فولاذ تألق نورها
جرى وهو بين الطرق كالبرق رامح
كمهر عتي فاض مطعمه على
ربائطه يبتتها وهو جامح٧٠
ويضرب في قلب المفاوز طافحًا
إلى حيث قلب الأرض بالسيل طافح
يروِّض فيه إثر ما اعتاد نفسه
ويطرب أن تبدو لديه الضحاضح
ويشمخ مختالا بشائق حسنه
يطير وأعراف النواصي سوابح
وتجري به من نفسها خطواتُه
إلى حيث غصت بالحجور المسارح٧١
كذا كان فاريس وقد جد مسرعًا
عليه كنور الشمس تزهو الصفائح
فأدرك هكطورًا عن الأهل قد نأى
تحث خطاه للكفاح القرائح
فقال: «أخي إني أراني مبطئًا
فعزمي مرجوح وعزمك راجح»
فقال: «أيا فاريس ما كان منصف
ليبخسك القدر الذي أنت رابح
فأنت أخو البأس الشديد وإنما
بوجدك قد تثنيك عنه الجوارح
ويلتاح قلبي إن لحتك جنودنا
وأنت مدار الخطب والخطب فادح٧٢
فَهَيِّ فليس الآن للبحث موضع
سنبسطه إن لم تبدنا المذابح
وإن شاء زفس أن يقيض نصرة
ويدفع أقوامًا شدادًا نكافح
سترفع أقداح المسرة والتُّقى
وتذكي لأرباب الأنام الذبائح»

هوامش

(١) ذكرنا في المقدمة أننا توخينا النظم على أساليب مختلفة لأسباب أوردناها، وقد حذونا في القسم الأول من هذا النشيد حذو الفرس بتصريع بعض بحور الشعر كالرجز، وأكثر ما يكون ذلك عندهم في المتقارب لطلاوته وملاءمته لمفردات لغتهم، حتى إن الفردوسي الملقب بهوميروس الفرس نظم كل شهنامته وهي أطول كثيرًا من الإلياذة على هذا البحر الذي صدَّرنا به نشيدنا، ولا يخفى أن الفرس بعد الإسلام أخذوا أوزان الشعر عن العرب، ولكنهم تصرفوا فيها على ما تقتضيه مباني ألفاظهم فاستباحوا من العلل والزحافات ما لا تستبيحه لعدم اضطرارنا إليه في الشعر المتين، على أنه ليس هناك مانع يمنع من التفنن في النظم بما لا يخرج عن الأصول الموضوعة إلا من وجه عدم الشيوع، فقد سبق لعرب الأندلس والشعر في أبَّان دولته أن ذهبوا فيه كل مذهب، ولم يكن في الخلف من عاب وانتقد، بل كانوا كمنتزع الغلّ من عنقه، وكنا كمن يأبى إلا أن يغلّ وتثقله القيود.
أما التصريع من غير الرجز على ما تقدم فهو وإن كان قليلا جدًّا في الشعر العربي، إلا أن له نظائر في منظومات الأندلسيين وبعض شعراء المتأخرين ممن خالط العجم، كقول البهاء العاملي من الوافر:
ألا يا خائضًا بحر الأماني
هداك الله ما هذا التواني
أضعت العمر عصيانًا وجهلا
فمهلا أيها المغرور مهلا
مضى عصر الشباب وأنت غافل
وفي ثوب العمى والغيّ رافل … إلخ
(٢) لا يكاد يعتزل الآلهة ميدان الوغى إلا ونرى اليونان ظهروا على أعدائهم، يريد الشاعر أن يبين بذلك مصداق الحقائق التاريخية التي تنبئُ أن الظفر كان حليف قومه في كل المواقع، وقد برز هنا آياس كجاري عادته، كالطود الراسخ لا يواليه إله في واقعة من الوقائع، فكله عزم وبأس ليس بالحكيم الموالي لأثينا، ولا العشَّاق الموالي للزهرة، ولا الظالم المتقلب الموالي لآريس، فهو قائم برأسه وابن جده وبأسه.
(٣) أكماس هذا هو الذي يمثل هيئته آريس في النشيد السابق، وكفى بذلك مدحًا له ولأياس أيضًا؛ لأنه إنما جندل بطلا من خيرة الأبطال.
(٤) إننا نرى من كرم هذا الفارس، ونوع ذلك الكرم ما لا يعجب له أحد من قراء الشعر العربي، وإن كان موضع عجب لقراء الشعر الإفرنجي لبعد عهدهم بأخلاق الجاهلية، واليونان أيام هوميروس شعب جاهلي، لا بدع أن يكثر فيه هذا النوع من الجود، ويتفاخر ذووه بالقرى وإكرام أبناء السبيل، وإننا لا نكاد نقرأ قصيدة من الشعر العربي الجاهلي وغير الجاهلي إلا رأيناه مشحونًا بذلك الفخار، ومن قولهم بمعنى كلام هوميروس، وفيه زيادة لطيفة:
نصبوا بقارعة الطريق خيامهم
يتسابقون بها إلى الضيفان
ويكاد موقدهم يجود بنفسه
حبَّ القرى حطبًا على النيران
ومثل ذلك قول المسيَّب:
أحللت بيتك بالجميع وبعضهم
متفرِّق ليحل بالأوزاعِ
وقول زهير:
بسط البيوت لكي يكون مظنة
من حيث توضع جفنة المسترفدِ
ومما يخرَّج على هذا المعنى قول حاتم الطائي:
وأُبرزُ قدري بالفضاءِ قليلها
يُرى غير مضنونٍ بها وكثيرها
وليس على ناري حجاب يكنها
لمستوبصٍ ليلا ولكن أنيرها
ولا نظن أمة من الأمم غالت بقرى الضيف وإكرامه كالأمة العربية، حتى نسبتْ تلك السُّنَّةُ إلى جدها إبراهيم وإليه أشار الحريري بقوله:
وحرمة الشيخ الذي سن القرى
وأسس المحجوج في أم القُرى
وأم القرى مكة، وقد روى هيرودوتوس وغيره من المؤرخين شيئًا عن نوابغ الكرم في سائر الملل، ولكنه لا يُدكر إزاء ما يروى عن سخاء العرب، حتى لو أخذنا ترجمة كل فرد من مشاهير أبناء الجاهلية، ومن بعدهم لرأيناه يصح أن يضرب به المثل المضروب بحاتم الطائي.
(٥) إن في هذه الكلام ما يهيج الرأفة على القتيل، وينبئ بقلة وفاء الناس ونكران الجميل؛ إذ كان ينبغي أن رجلا عرفت له الأيادي البيضاء تتهافت الفرسان لنجدته فتقيه شر الوبال، ولهذا انتُقد على هوميروس في هذا المكان وهو انتقاد غير ثبت؛ لأنه يرمي في كل شعره إلى وصف الحالة الطبيعية، وهي قلما توفي القسط والوفاء، ومع هذا فموت خادمه إلى جانبه كما ترى في البيت التالي يدلك على أن الشاعر لم تفته فائتة، فجعل لصاحب الجود رفيقًا وفيًّا يليه حتى الممات.
(٦) بنات المياه كان مسكنهن في قعر البحر، ومنهن ثيتيس أم أخيل.
(٧) المحالات: الدواليب.
(٨) لما صار أدرست في قبضة منيلا ترامى لديه ذليلا، وأطمعه بالمال فكاكًا لنفسه، فكاد منيلا يعفو عنه لو لم يبادر أغاممنون، ويعنف أخاه على رفقه بعدوٍّ يجب قتله، كل هذا يلوح فظًّا في بابه للمتحضر العريق، على أنه في حد نفسه تمثيل صادق لأطوار ذلك الزمان، حيث كان الانتقام أمنية الأماني، فالدية والفكاك والإطماع بالمال كلها أمور لم يكن في بعض الأحوال يسد شيءٌ منها مسد دم المطلوب بالثأر، وفي أخبار العرب قبل الإسلام وبعده من أشباه ذلك شيءٌ كثير حسبنا أن نذكر لكل زمن منه مثالا: أُسر عبد يغوث الحارثي من سادة بني مذحج في يوم الكلاب الثاني فقتل، ولم يغنه أن قال قول أذرست:
أمعشر تيمٍ قد ملكتم فاسجحوا
فإن أخاكم لم يكن من بوائيا
فإن تقتلوني تقتلوا بي سيدًا
وإن تحربوني تحربوني بماليا
ولما انقرضت دولة الأمويين، واستتب الأمر للسفاح العباسي دخل شبل بن عبد الله على عبد الله بن علي عم السفاح، وعنده من بني أمية نحو تسعين رجلا على الطعام فأقبل شبل وقال قول أغاممنون:
لا تقيلن عبد شمس عثارًا
واقطعنّ كل رقلةٍ وغراسِ
ذلُّها أظهر التودد منها
ريَّها منكم كحر المواسي
ولقد غاظني وغاظ سوائي
قربهم من نمارق وكراسي
أنزلوها بحيث أنزلها الله
بدار الهوان والاتعاسِ
واذكروا مصرع الحسين وزيدًا
وقتيلا بجانب المهراس
والقتيل الذي بحرّان أضحى
ثاويًا بين غربةٍ وتناسي
فأمر بهم عبد الله فضربوا بالعمد حتى قتلوا، وبسط عليهم الأنطاع فأكل الطعام عليها وهو يسمع أنين بعضهم، وقد رأف منيلا بأدرست رأفة السفاح بسليمان بن هشام بن عبد الملك الأموي، حتى دخل عليه سديف الشاعر وأنشده:
لا يغرَّنك ما ترى من رجال
إن تحت الضلوع داءً دويّا
فضع السيف وارفع السوط حتى
لا ترى فوق ظهرها أمويًّا
فأمر السفاح بسليمان فأخذ وقتل، ولم يكن الأنبياء في الأزمان الغابرة أرأف بالعدوّ من سائر الناس، فقد جاء في التوراة أن صموئيل النبي سخط على شاءول الملك لإبقائه على أجاج ملك العمالقة.
(٩) لا نرى أزمة اشتدت إلا انبرى لها نسطور، فأنفذ بقوله ما يعجز عنه بفعله، وله لكل مقام مقال لا يصلح إلا له، فالموقف موقف اصطدام والتحام، فلا أحكم من أن يقبِّح لهم التخلف عن الإبلاء للتهافت على سلب الأشلاءِ، ولما كان لا بد أيضًا من أطماع الجند بشيءٍ فقد أشار في آخر خطابه إلى أنهم لا يعدمون فرصة للكسب والنهب بعد أن ينالوا الظفر فيخلو لهم المجال، وهي حكمة من حكم هوميروس شغف بها وبأمثالها قُرَّاؤهُ من الملوك والقواد. قيل: إن الإسكندر الكبير كان يتمثل بها، ومن جملة كلام علي بن أبي طالب لرجاله في واقعة صفين قوله: «ولا تأخذوا شيئًا من أموالهم». إلا أنه أراد بذلك كمال التعفف دون التخلف إلى حين، ومما يزيد هذه الموعظة شأنًا ووقعًا ما نراه من اندحار جيشٍ برمته وتقصيره عن بلوغ غايته لتهافته بسائقة الطمع على الكسب وإحراز المال، وحسبنا من الأمثلة التاريخية الكثيرة تلاشي بعض حملات الصليبيين لانقطاعها في طريقها على سلب الأموال.
(١٠) كان هيلينوس أخو هكطور في جيش الطرواد بمقام كلخاس العرَّاف في جيش الإغريق.
(١١) كثيرًا ما نرى سداد الرأي ملازمًا للبأس والحزم، مما ينبئك بما كان له من علو المنزلة عندهم، حتى لقد فضل الشاعر الرأي السديد على البأس الشديد في غير هذا الموضع. (راجع ن ٢).
(١٢) التبائع جميع التبعية، وهي ولد البقرة لحول واحد، أشار هيلينوس على هكطور أن يحمل أمه على أن تنذر النذور وتضحي بالضحايا لفالاس.
(١٣) كان هيلينوس يعلم بعرافته وكهانته ما لا يعلم هكطور، ولهذا عرف أن أثينا كانت موالية لذيوميذ كما تقدم في النشيد الخامس، فرأى أنه لا بد من استعطافها بالنذور والضحايا لتتخلى عن ذيوميذ، فتخف وطأته عن الطرواد، ولم ينبئ هكطور بكل ما علم، وإنما أشار إشارة هي بمقام الأمر الديني، ولهذا سنرى هكطور ملبيًّا على الفور مطيعًا.
(١٤) قد انتُقد على هوميروس أن جعل هكطور يغادر ساحة القتال في ذلك الموقف الحرج، وهو اعتراض غير سديد؛ لأنه إنما ذهب بمهمة لم يكن بد من قضائها، ولم يكن في القوم أحد غيره يصلح للقيام بها، ومع هذا فلم يبرح مكانه حتى أثار بهم نار الحمية وأملهم بالفرج القريب.
(١٥) المجوب: الترس، تلك إشارة إلى شدة عدّوه، ويحسن بنا أن نذكر هنا أن مجانهم كانت على نوعين؛ أحدهما مجانّ الزعماء، التي كانت تستر كل الجسم فلا يبقى محل للعجب من أن تضرب أهدابها من الرأس إلى القدم، والثانية لسائر الجند وهي أصغر حجمًا.
(١٦) انتقل بنا الشاعر أثناء غياب هكطور إلى مشهد براز لا نظير له في كل الإلياذة، وسنأتي عند ختامه على النظر فيه.
(١٧) ذيونيوس إله الكرمة والخمرة والسرور، وهو باخوس اللاتين يمثلونه بهيئة فتى بيده عنقود أو سنبلة وقائمًا وقاعدًا وعريانًا ولابسًا بصور شتى.
fig18
شكل ١: ذيونيوس.
(١٨) كان ليكرغوس المشار إليه ملك ثرافة، وكان في زعمهم مقاومًا لعبادة إلاه الخمر، فسخط عليه الإله وسلب حجاه، فجُن وقتل ابنه وقطع ساقي نفسه متوهمًا أنهما فسيلتا كرمة، ثم قامت عليه رعيته وقطعته إِربًا إِربًا. والرواية التاريخية هي أن ليكرغوس لغرض من الأغراض أمر باستئصال دوالي الكرم من بلاده، فقلت الخمور فكانوا يضطرون إلى مزجها بالماء، ومن ثم نشأ زعمهم أن ثيتيس إحدى بنات الماء ضمته إلى صدرها إشارة إلى مزج الماء بالخمر.
(١٩) لعل القارئ يستغرب هذا الكلام من ذيوميذ، مع أنه لم يُرَعْ لمنظر الزهرة ولا لهول إله الحرب، ولكنه لم يؤت تلك الجسارة إلا بإغراء أثينا أما الآن وقد غابت عنه فعاودته التقوى ورهبة الآلهة.
(٢٠) لقد أكثر الشعراء في كل زمان من ذكر تعاقب الأجيال من الناس بكل برهان وقياس، ولكنه لم يكن فيهم من أتى بأجمل من هذه المقابلة وأصدق، لأنها مع قرب منالها وبساطتها تهيئ للناظر إليها حالتي الاضمحلال والتجدد وفقًا لما يقول العرب: «لو دامت لغيرك لما وصلت لك». وأكثر الشعر العربي الوارد لهذا المعنى يرمي إلى التلاشي والتبدد أكثر منه إلى النمو والتجدد كقول المتنبي:
يدفن بعضنا بعضًا ويمشي
أواخرنا على هام الأوالي
وقول المعري:
خفف الوطء ما أظن أديم الـ
أرض إلا من هذه الأجسادِ
وقبيحٌ بنا وإن قدم العهـ
د هوان الآباء والأجدادِ
… … … … … … … … … …
… … … … … … … … … …
ودفين على بقايا دفين
في طويل الأزمان والآبادِ
وقد جاء في التوراة ما يقارب المعنى الذي أورده هوميروس: «كل جسد يبلى مثل الثوب؛ لأن العهد من البدء أنه يموت موتًا، فكما أن أوراق شجرة كثيفة، بعضها يسقط وبعضها ينبت، كذلك جيل اللحم والدم بعضهم يموت وبعضهم يولد». (سيراخ ١٤: ١٨ و١٩).
(٢١) ترى من هذا البيت أن إفريط أو فريتس (بلفظهم) كان ملكًا قهَّارًا، أفلا يلوح لأول وهلة أن لفظة عفريت العربية منقولة عنها؟
(٢٢) لا دليل ثابت على أن الكتابة كانت معروفة عندهم لذلك العهد، ولكنهم كانوا يتفاهمون بإشارات مخصوصة يخطُّونها على رقاع أو قداح، كما خط إفريط رسوم الموت على هذه الرقعة إشارة إلى أنه يجب أن يقتل الرسول، وسنرى في النشيد السابع أنهم لدى استقسامهم خط كل من المقترعين خطًّا على قِدْحه يميزه به عما سواه.
(٢٣) حمو إفريط هو سوباتس ملك ليقية. إن أمثال هذه الوسيلة للفتك بعدو أو بغيض كثيرة الورود في أخبار الأقدمين، وقد لا يخلو منها عصر، وبها غدر عمرو بن هند ملك الحيرة بطرفة بن العبد صاحب المعلقة المعروفة باسمه، ذلك أنه وفد على عمرو مع خاله المتلمس، فأكرمهما عمرو وأقاما عنده أيامًا، وحدث أن أخت الملك أشرفت عليهم وهم في مجلس الشراب، فرآها طرفة فقال شعرًا فيها فحقد عليه عمرو وكان قد بلغه قوله فيه:
فليت لنا مكان الملك عمروٍ
رغوثًا حول قبتنا تدورُ
لعمرك إن قابوس بن هندٍ
ليخلط ملكه نوكٌ كثيرُ
فعزم عمرو على قتل طرفة تشفيًّا منه، وعلى قتل المتلمس اتقاء هجائه، وخاف أن تجتمع عليه قبائل بكر بن وائل إن قتلهما ظاهرًا، فدعاهما وكتب لهما كتابين إلى المكعبر عامله على البحرين وعمان، فلقيا بطريقهما غلامًا يرعى غنيمة ولما علما منه أنه يحسن القراءة فض المتلمس كتابهُ ودفعهُ إليه فإذا فيه: «باسمك اللهم من عمرو بن هند إلى المكعبر، إذا أتاك كتابي هذا مع المتلمس فاقطع يديه ورجليه وأدفنه حيًّا». فألقى الصحيفة في النهر وقال: يا طرفة معك والله مثلها، فقال طرفة: كلًّا ما كان ليكتب لي مثل ذلك، وسار بالكتاب حتى أتى المكعبر وقُتل. (الأغاني ودائرة المعارف).
(٢٤) أقام بليروفون تسع ليال ضيفًا على ملك ليقيا، فنحر له تسعة عجول جريًا على عادة الجاهلية من عدم استبقاء شيء من أُدبة إلى أُدبة أخرى، ونحر العجول عندهم كنحر الجزور عند العرب، فهي إنما تنحر للضيف الجليل كما تنحر الكباش والنعاج لسائر الأضياف، وما بقي من طعام الضيفان يوزع على الحي، وإذا بقيت بعد ذلك تطرح ولا تدَّخر إلى يوم تالٍ، وفي مثل ذلك يقول الشاعر:
رحلنا وخلينا على الأرض زادنا
وللطير من زاد الكرام نصيبُ
ومن مرويات المتنبي وليست في ديوانه:
وإذا أتاه طعامهُ لغدائه
رُفعت له الأستارُ والأبوابُ
وتهافت الغلمان من جيرانه
فتسامع المعترُّ والمهتابُ
(٢٥) الخميرة (Χιμαιρχ) ومعناها في الأصل جدي معز (ومنها Chirnére بالإفرنجية للوهم والخيال)، مخلوقات خرافية كان مقامها في جبل خميرة في ليقية، وكانوا يزعمون أن لها رأسَ أسد يتقاذف الأوار من فيه على جسم تيس من المعزى، له ذيل أفعى، وكثيرًا ما كانوا يرسمونها برأسين؛ رأس تيس، ورأس ليث. فلما اضطر بليروفون إلى قتلها استنجد أثينا فمكنته من القبض على فيغاسوس الجواد الطيَّار، فركب وفتك بها وهو طائر. والأصل في هذه الخرافة أن جبل خميرة في ليقيا كان في قمته بركان تتقاذف النيران من فوهته، وتحتها مراعٍ نضرة ترتع فيها الماشية، وفي سفحه الأفاعي السامة تؤذي المارة من الناس.
figure
بليروفون يطعن الخميرة.
(٢٦) السليمة: شعب ليقي تلاشى واضمحل. وانقراضه لغير سبب بيِّن في التاريخ حمل الرواة على الاعتقاد بأن ذلك إنما جرى على يد بليروفون؛ لأنه أحسن الجهاد في تلك البلاد.
(٢٧) الأمازونة: قوم من مقاتلة النساء مر ذكرهن ورسمهن. (ن ٣).
(٢٨) لم يذكر هوميروس سببًا لما نال بليروفون من الذل والهوان بعد ذلك العز ورفعة الشأن، فخطأه بعض الشراح لهذا الإغفال على أن بعضهم التمس له عذرًا بقوله: إن ناقل هذه الرواية، إنما كان من عقبه وعزيزٌ على الولد أن يذكر أمرًا ربما كان فيه غضاضة من شأن جده، وهو عذر ظاهر التمحل، والصحيح ما سنبينه في الصفحة التالية.
(٢٩) نهر آلس هو الذي عبره سيف الدولة أثناء غزوته الروم، وذكرهُ المتنبي بقوله:
يذري اللقان غبارًا في مناخرها
وفي حناجرها من آلسٍ جرَعُ
والمعري بقوله:
بنات الخيل تعرفها دلوكٌ
وصارخة وآلس واللقانُ
وفيه قال أبو فراس مخاطبًا سيف الدولة بن حمدان من القسطنطينية:
وما كنت أخشى أن أبيت وبيننا
خليجان والدرب الأصمُّ وآلس
وله ذكر كثير في غزوات الإسلام أيام المعتصم، وفيه يقول أبو تمام مخاطبًا أبا سعيد الثغري الطائي أحد قواد المعتصم:
فإن يك نصرانيًّا النهر آلسٌ
فقد وجدوا وادي عقرقس مسلما
(٣٠) كانوا ينسبون الموت الفجائي لأرطميس؛ لأنها ربة السهام، وربما نسبوا لها أيضًا انتشار الأوبئة تشبيهًا لها بالنبال المتساقطة.
(٣١) لا أظن قارئًا يطالع هذه القصة إلا ويرى الشبه الساطع بينها وبين قصة يوسف الصديق الواردة في التوراة والقرآن، وإن اختلف المآل بين يوسف وبليروفون، فيلوح للمطالع أن انحراف الآلهة عن بليروفون، إنما هو ذيل ملصق أتى به الشاعر توطئة لما ألم ببليروفون وولده من الخطوب الكبار، ولم يذكر لأنه ليس هنالك سبب معقول لرغبة الأرباب عن رجل اتصف بكل محمدة مأثورة وخلة مشكورة، فالقصة على ما هي مبتورةٌ بترًا يشوه محاسن خاتمتها، وليس في كل منظومات هوميروس إغفال كهذا، ولا يشفع فيه ما تقدم في الصفحة السابقة، أو كون الرواية كانت كثيرة التواتر في زمانه، فلم تكن به حاجة إلى زيادة إيضاح؛ لأنه أفاض وأجاد في ذكر محامد بليروفون، فكان من لوازم السياق أن يشير ولو إشارة خفيفة إلى سبب انقلاب الآلهة وإعراضهم عنه، فلا أحسب إذن إلا أن هوميروس أتم إيراد قصته، وكان ذيلها في جملة ما سقط من قلم النساخ، والغريب أن الشراح فيما قرأت لم ينتبهوا إلى هذا النقص، أما تتمة الرواية على ما جاء في غير الإلياذة فهي أن بليروفون طغا أخيرًا وتجبر، فحاول الوثوب إلى السماء على ظهر جواده الطيار، فسخط زفس عليه وسلط ذبابة فلصقت بالجواد فأجفل ورمى فارسه عن ظهره، فسقط إلى الأرض، وكان ما كان من خاتمة أمره، وأما ما بقي فأكثره يتفق في معناه مع قصة يوسف وإن اختلف في الاسم والمبنى، فبليروفون كيوسف بديع الجمال كريم الخلال وأفريط يكاد يماثل فوتيفار اسمًا وجسمًا، وزوجته أنتيا تضارع زليخا التي قيل فيها: امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ وأعرض عفافًا هنا كما أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ هناك فقالت لزوجها هنا: فموتن أو فليمت من أراد بأهلك سوءًا سحيق الفؤاد كما قالت هناك: مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فوافقها أفريط على التنكيل به كما ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ فساء فألهم هنا؛ لأن آل العلى حرسوه فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا ثم شوطر الملك، وأقطع كما، ولي يوسف على خزائن مصر وولي أحكامها، وسير بليروفون برسالة تقضي بقتله فلم يخن، فيفضها أو يذهب غير مذهب، كما حمل الوفاء يوسف على التحفظ بمال مولاه. ولا شك أن هذه القصة كان أمرها شائعًا في مصر في زمن هوميروس كما هو شائع في أيامنا تتمثل بها الخاصة ويتغنى بها السوقة في مصر وسوريا والعراق، وهو محقق أن هوميروس زار بلاد مصر أو نقل من الثقات كثيرًا من المعتقدات. ولا يخفى ما يعتري الروايات بالانتقال من الزيادة والنقصان، فإذا تأملنا هذه الرواية رأيناها باقية أكثر نقاء من غيرها.
(٣٢) لا بدع أن نرى هوميروس حريصًا على حفظ أنساب قومه، فذلك منزع جاهلية القوم، ونعم المنزع إذا لم يثبط عزيمة صاحبه، وينفخ فيه ريح الغرور كما جرى لإخواننا العرب لعهدنا هذا، والتوراة والإنجيل مشحونان بذكر الأنساب، وللعرب كلف خاص بتدوين أنسابهم حتى لقد يرتقون بأسلافهم من جد إلى جد حتى يبلغوا آدم أبا البشر مع أن من مرويات الحديث: «لا تتجاوزوا عدنان بأنسابكم». وقلما تجد شاعرًا عربيًّا يخلو نظمه من مفاخرة بعشيرته.
قال الفرزدق:
أُولئك آباءِي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جريرُ الجوامعُ
وقال النابغة الجعدي:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا
وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
وقال سليم بن محرز:
وعمي جبارٌ وجدي مالكٌ
هما رفعا البيت الطويل نصايبه
لنا وأحلَّانا بأرفع منزلٍ
من المجد لا يستطيعه من يطالبه
ومثله قول لبيد:
من معشرٍ سنت لهم آباؤهم
ولكل قوم سنة وإمامها
لا يطبعون ولا تبور فعالهم
إذ لا يميل مع الهوى أحلامها
ومع هذا فلم يعدم العرب في كل عصر شعراء يقولون قول ابن الوردي:
لا تقل أصلي وفصلي أبدًا
إنما أصل الفتى ما قد حصل
ومثله قول راكان شيخ العجمان الشاعر البدوي العصري:
يفتخر حاشاك بالعظم الرميمْ
مفخر البزُّونْ بالسبع الغشومْ
والبزون: الهر.
(٣٣) حبذا لو جعل الشاعر تلك المقايضة عن طيبة نفس وعلو جناب من غلوكس لا عن فقد رشد، فلقد كان ذلك أليق بالمقام، على أن بعض الشراح فسروا سلب الرشد بترفع العقل، وحبذا لو كان الأصل يجيزهُ لهم.
(٣٤) لا تعول، أي: لا تزيد. إنما عبر هوميروس بهذا التعبير عن الثمن؛ لأنهم كانوا يتبادلون المتاع تبادلا في ذلك الزمن، فلم يكن لديهم نقود مسكوكة بل كانت توزن المعادن وزنًا. لقد لقي هنا أعداء هوميروس مجالا متسعًا للانتقاد عليه، فولجوه من كل باب وأطالوا البحث فيه بما يضيق دونه المقام، وجل مستندهم أنه لا يعقل مع حمو وطيس الوغى أن يقف فارسان بين الجيشين، ثم يتجاذبان الحديث الطويل العريض، فيقصان القصص ويتفاخران ويتخاطران، والناس وقوف وقد عيلوا صبرًا. نعم يصدق هذا الاعتراض على شاعر ينظم في هذا الزمان، ولكنه لا يخلو من التحامل على راوية روى أحدوثة جرت قبل آلاف من السنين بين قوم هذه سنتهم، ولا نكاد نرى مؤرخًا أو شاعرًا قديمًا إلا أثبت تلك السنة، وهذه أخبار جاهليتنا وغزوات الإسلام الأولى ملأى بمثل هذه المخاطبات في المبارزات يتنافر في أثنائها المتبارزان ويتناشدان الأشعار، ولربما أدَّى بهما ذلك التنافس إلى التعارف والتحاجز كما جرى لغلوكس وذيوميذ، ومن أمثاله ما ذكر ابن الأثير وغيره من المؤرخين عن بروز أبي حُمَيد عبد الرحمن بن عوف الرواسيّ بوقعة دير الجماجم؛ إذ خرج إليه رجل من أهل الشام فقال كلٌّ منهما متحمسًا: أنا الغلام الكلابي. فقال كلُّ واحد لصاحبه: مَن أنت؟ وإذا هما ابنا عمٍّ فتحاجزا. كل هذا مع ما في حديث ذيوميذ وغلوكس من الفوائد الجمة والآثار التي لا تخرج عن جادة السياق، وإن أتت بصورة معترضة يخفف من وطأة الانتقاد، ولا ريب أن المطالع يرتاح نفسًا إلى تلاوة شيءٍ من هذا القبيل بعد عناء المعارك المتصلة، فيتهيأ للإتيان على الحلقة الباقية من حوادث هذا النشيد، وهي حلقة صغيرة جمعت من وصف شعائر البشر رجالا ونساءً كبارًا وصغارًا، ما لم تحوه مخيلة شاعر في ألوف الأشعار، ولا وصفه كاتب في طويل الأسفار.
(٣٥) لا بدع أن تهرع النساء فيتهافتن حول الزعيم الأكبر، وهو قادم من مواقف القتال، فهنَّ فوق ما فُطرن عليه من حب التطلع والتشوف، مفارقاتٌ بعولا وإخوانًا وأقرباء وأولياء لا يسعهنّ إلا استطلاع أخبارهم، وهي سنَّةٌ لا بد منها في كل عصرٍ ومِصْرٍ، وعندنا من أمثالها ما لا يقع تحت حصر، من ذلك ما روى الواقدي وغيره عن خولة بنت الأزور؛ إذ خرج أخوها فيمن خرج من دمشق إلى أجنادين أثناء فتوح الشام قال: «فلما رجع القوم إلى مكانهم أقبلت خولة على المسلمين، وجعلت تسألهم رجلا رجلا عن أخيها».
وليس في الإلياذة ذكر لولوج النساء معامع الحرب، وإن كنَّ شاطرنَ الرجال كثيرًا من الأعمال، كغسل الموتى، وإعداد المعدات، وإقامة الصلوات، وربما استخففن بقفول، كما سترى عما قليل في كلام إيقاب والدة هكطور، أو عنفن على خمول، كما سيأتي في كلام هيلانة عن زوجها فاريس، ولم يكن بهن حاجة إلى ما وراء ذلك؛ إذ لم تكن رجالهم تقاتل في البيداء، كما هي الحال في بادية العرب حيث تتبع النساء الرجال فتستنفر وتفزع وتسقي وتداوي، حتى لقد يجهزن على القتلى، كما جرى لهن في بعض أيام العرب المشهورة كوقائع بكر وتغلب في حرب البسوس، وربما خضن بأنفسهن ميدان القتال خفيةً وجهرًا فقد رُوي أن خولة السالفة الذكر لما لم تقف لأخيها على أثر، وعلمت أنه أسير العدو تسلحت وتلثمت واندفعت متخفية في صدر الفرسان، وكان من بأسها ما دُهش له خالد بن الوليد وسائر قواده، وفي روايات العرب أخبارٌ يؤخذ منها أن كثيرات من نساء حمير والتبابعة كن في الجاهلية يركبن ركوب الفرسان، ويقاتلن ويغزون ويهاجمن ويدافعن، أتى الواقدي على ذكر عجائز من بقاياهنَّ رافقن جند المسلمين في صدر الإسلام إلى الشام، وكنَّ لامتناع السلاح عليهن يأخذن أعمدة الخيام وأوتاد الأطناب، ويقاتلن بها قتال الفارس المقدام، وكنَّ إذا انهزم رجالهن وقفن في وجوههم، وأرجعنهم على أعقابهم بكل وسيلة لينةً كانت أو فظة، وكن يعنفنهم وينشدنهم الشعر، ويقلن لهم لستم ببعولة لنا إن لم تمنعوا عنا، ومن قولهن في بعض تلك المواقف:
نحن بنات طارقِ
إن تغلبوا نمالقِ
أو تدبروا نفارقِ
فراق غير واثقِ
هل من كريم عاشقِ
يحمي عن العواتقِ
ونُقلت عن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان بعض أخبار على هذا النمط قبل إسلام زوجها وبعده، ففي غزوة أحد شتمت زوجها لتقاعدهِ عن صد المسلمين، ثم لما أسلم وكان في الشام في جند خالد قابلته وهو منهزم، فضربت وجه حصانه بعمودها، وأسمعته الكلام المؤلم.
وعلى الجملة فقد كان لنساء العرب في الحرب شأنٌ لم يكن لنساء الإغريق، ومن وليهم، وأما ما جاء في الإلياذة وغيرها من كتب اليونان عن الأمازونة، فإنما هو حادثة منفردة في بابها، سيقت النساءُ فيها إلى الحرب بحكم الاضطرار لتلاشي الأبطال، وانقراض الرجال فلا يبنى عليها قياس.
(٣٦) إن إقامة الأصهار في بيوت الأحماء من الأمور القديمة المألوفة في كل الملل، فإن يعقوب أقام في منزل حميه لَابَان، والدمُّون بن عبد الملك الحضرمي تزوج إلى ثقيف في وجّ (الطايف)، وأقام بينهم وصار منهم، وهلمَّ جرًّا.
(٣٧) قد يقف مطالع الشعر عند دقائق ليست من لوازم النظم، ومع ذلك فإن نفسه تتطلع إلى استجلائها، فإذا كان الناظم دقيق الفكرة بعيد النظر دوَّنها، وكفى القارئ مئونة الحدس والتخمين، فهنا قصر ملك كبير ورد ذكرهُ في الإلياذة، فوصفه الشاعر بكلمات رسمت صورته في الذهن، وملأَت ذلك الفراغ، وهي مزية يسؤنا أن شعرنا العربي يوشك أن يكون غفلا منها لشغف أصحابنا بالشعر الصرف، والإيغال في ضروب الخيال بما لا يتسع معه المجال لهذه الحقائق، خذ مثلا القصور والمعاقل والحصون الوارد ذكرها في شعر العرب، فغاية ما تعلم عنها أنها بديعةٌ منيعةٌ متينةٌ حصينة، ولا تكاد تعلم شيئًا عن موقعها ووضعها واتساعها وهيئة بنائها ومادتها، وإذا ورد شيءٌ من ذلك فإنما يكون بوضع مجمل وأسلوب مبهم لا يصح أن يؤخذ منه رسمٌ صادق، ويطلق هذا الكلام على أكثر ما جاء في كلام العرب من هذا الوجه سواءٌ ورد على طريق العرض، كقول المخبل السعدي في المشقَّر:
ولئن بنيت لي المشقر في
هضب تقصر دونهُ العصمُ
لتنقبن عني المنية إِ
ن الله ليس كحكمه حكمُ
وقول أوس في ريمان:
ولو كنتُ في ريمانَ يحرس بابه
أراجيل أحبوش وأغضفُ آلفُ
إذن لأتتني حيث كنت منيتي
يخب بها هادٍ إلى الموت قائفُ
أو كان مقصودًا بالذات، كقول السموأل في الأبلق:
بنى لي عاديا حصنًا منيعًا
وماء كلما شئتُ استقيتُ
وأوصى عاديا يومًا بأن لا
تهدم يا سمؤال ما بنيتُ
وقوله في موضع آخر:
لنا جبلٌ يحتلهُ من نجيرهُ
منيعٌ يردُّ الطرف وهو كليلُ
هو الأبلق الفرد الذي شاع ذكرهُ
يعزّ على من رامهُ ويطولُ
وكم من شاعر تغنى بذكر الخورنق والسدير قصري الملك النعمان في العراق، وصرح الغدير لبني غسان بالبلقاء، وقصر غمدان للملك شرحبيل الحميري في اليمن، ومارد والأبلق حصني السمؤال، ولكن من لنا باستخراج رسم تلك المباني من شعر الشعراء، وقد بسطنا الكلام على هذا الإغفال وأسبابه في المقدمة فلا حاجة إلى الإعادة.
(٣٨) ألا ترى من هذا الكلام أن النساء كن أحرص على شرف ذويهن منه على حياتهم، أو لا ترى من إمساك إيقاب والدة هكطور بيده، ومخاطبتها له بنوع من التعنيف، إنها إنما استغربت قفوله مع كل شوقها إليه وحنانها عليه، لم تكن أمهات ذلك الزمان أقل حنانًا على بَنِيهنَّ من أمهات أيامنا، ولكنهنَّ كنَّ على رقة عواطفهن ذوات صبر تقتضيه لوازم الخشونة في المعيشة، وأنفة تستلزمها المنافسة بسمو أفعال الرجال ممن ينتمي إليهن وينتمين إليه. وليس في كلام إيقاب من سمو المرمى فوق ما يروى لكثيرات من نساء العرب، ذهبت الخنساء بنفسها مع بنيها وهي عجوز لما سار المسلمون لفتح فارس، فحضرت وقعة القادسية (في خلافة عمر). فشَدَدَتْهم وقالت: «اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، وجللت نارًا على أرواقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها، فتظفروا بالمغنم والكرامة، في دار الخلد والمقامة». فتقدموا واحدًا بعد واحد ينشدون أراجيز يذكرون فيها وصية الخنساء حتى قتلوا عن آخرهم وكانوا أربعة، فلما بلغها الخبر قالت: «الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر الرحمة». (الأغاني وابن زيدون ودائرة المعارف).
(٣٩) هذا مذهب الجم الغفير من الناس، ومنهم ماربولس القائل: «قليل من الخمر يفرح قلب الإنسان». قال لبيد:
تجور بذي اللبانة عن هواه
إذا ما ذاقها حتى يلينا
ترى اللحز الشحيح إذا أُمرت
عليه لمَالِه فيها مُهينا
وقد ابتذل العرب الشعر في وصف الخمرة ومنافعها، حتى دوّنت فيها الأسفار؛ كحلبة الكميت، وخمريات أبي نواس، مع قولهم بعد الإسلام بتحريمها، وكأنهم اتخذوا مما يجد البعض من لذتها في هذه الدنيا مع القول بتحليلها في الآخرة وسيلة إلى التسامح بالتهافت على مدحها حقيقةً، كما هو شأن المدمنين، ومجازًا كما سلك ابن الفارض وغيره من المتصوفة، ومع هذا فقد ذهب كثيرون من الشعراء مذهب هكطور بذم الخمرة، كقول بعضهم:
تركت النبيذ وشرَّابهُ
وصرت صديقًا لمن عابهُ
شراب يضل سبيل الهدى
ويفتح للشر أبوابهُ
أما قول هكطور: «يا أماه، تنحط القوى بارتشافي الآن شهد السلسبيل». فالظاهر إما أنه كان يعتقد ذلك اعتقادًا، يوافقه عليه العدد الوافر من أطباء الأبدان فضلا عن أصحاب الأديان، وإما أنه قال ذلك بالنظر إلى حالة موقفه وعيه ورغبته في سرعة الإياب، ولم يكن له على كلتا الحالتين أن يلهو بشرب الراح وهو مخضب بدم القتلى، ومعفر بغبار الكفاح.
(٤٠) أي: السلسبيل الحلو، كالشهد.
(٤١) طهارة الأجسام واجبة كطهارة البواطن في كثير من الأديان القديمة والحديثة، فبطلانها يفسد الصلاة والضحية، بل ويمنع الأجر والنذر كما يستفاد من كلام هكطور، وقد زعم بعض الشراح أن القول بغسل الدم قبل التضحية، وما ماثلها من العبادات يشير إلى تحريم القتل، ولو كان الأمر كذلك لما عُدَّ غيرهُ من المدنسات، كما يستفاد من كلام هوميروس في عدة مواضع.
(٤٢) أعاد هكطور على أمه كلام أخيه هيلينوس.
(٤٣) أتى هكطور ليقضي مهمة واحدة فقضى ثلاثًا؛ أولاها: إنفاذ وصية هيلينوس، والثانية: دفع فاريس إلى الحرب، والثالثة: وداع امرأته وطفله، وكل ذلك بسرعة الهمام الحزوم، الذي لا يغفل أمرًا واجبًا، ولا يضيع لحظة لا يجني منها فائدة لنفسه أو لبني جنسه.
(٤٤) صور وصيدا مشهورتان في العهد القديم بحسن الصناعة، وإتقان المنسوجات من لباسٍ ورياشٍ، وكانت لهما علاقة متصلة مع بلاد اليونان، وللنساء فيهما مهارة بالنسج والخياطة والحياكة، سبى فاريس هيلانة من إسبرطة، وليست صيدا على طريق الذاهب منها إلى بلاد الطرواد على أن بعض الرواة (وعنهم روى هوميروس) يذهبون أنه لم يسلك الطريق العدل خوفًا من أن يظفر به الإغريق إذا تتبعوه، فأتى فينيقية، وبلغها ليلا فسبى ونهب ثم انقلب راجعًا، وذهب فريق من المؤرخين إلى أنه عاد توًّا ولم يعرج على مكان، ومن رأي بعض علماء العصر أن صيدا هذه غير صيدا السورية، بل بلدة أخرى بهذا الاسم كانت على ساحل البحر الأحمر.
(٤٥) كانت الكهانة للنساء عند اليونان كالرجال، وإن كنَّ أقل عددًا، وللرومان كاهنات مشهورات كالكبيلات، ولقد تعاطين الكهانة أيضًا عند العرب، وأشهرهن طُرَيفة الكاهنة امرأة عمرو بن عامر، التي أنبأت بانفجار سد مأرب وسيل العرم، وما لبثت نبوتها أن تحققت، وهي التي استخلفت شقًّا وسطيحًا يوم أشرفت على الموت، فدعت بهما وتفلت في فميهما، وأخبرت أنهما يسخلفانها، ومنهن الزرقاء بنت زهير التي استشارها بنو خزيمة لما نزلوا هجر، فقالت: «مقام وتنوخ، فأولد مولود، واتفقت فروخ، إلى أن يجيء غراب أبقع، أصمع أنزع، عليه خلخال ذهب، فطار فألهب، ونعق فنعب، يقع على النخلة السحوق بين الدور والطريق، فسيروا على وتيرة، ثم الحيرة الحيرة». قال صاحب الأغاني (١١: ١٦٢): فسميت تلك القبائل تنوخ لقول الزرقاء، ثم لما تمت نبوءاتها ارتحلوا من هجر إلى الحيرة. ومنهن زبراء الكاهنة، وسلمى الهمدانية، وعفيراء الحميرية.
وللعرب أيضًا حكيمات مشهورات كانوا يأتمرون بأمرهنَّ ويستشيرونهنَّ في المعضلات؛ كصخر بنت لقمان، وهند بنت الحسن، وجَمعة بنت حابس، وابنة عامر بن الظرب وغيرهنَّ.
(٤٦) كان هيلينوس يعلم بعرافته أن ذيوميذ من موالي أثينا، فلم يوعز إلى هكطور إلا أن يستميل أثينا فيحملها على دفعه دون صرعه، وبلَّغ هكطور الرسالة بلاغ الرسول الأمين، أما النساء فلما أشير إليهن بذلك لم يقفن عند هذا الحد بل تمادى بهنَّ الكيد إلى الدعاء بسحق رمح ذيوميذ وإلقائه صريعًا، وهو تمثيل بديع لفطرتهنَّ نتحاشى الإطالة في وصفه، وحسبنا كلام إحدى نوابغهن عقيلة داسيه مترجمة هوميروس قالت: قلما يعتدل النساء بدعائهن على أعدائهنَّ؛ ولذا قليلا ما يستجاب لهن دعاءٌ، وهو لا شك تحاملٌ لطيفٌ منها على بنات جنسها.
(٤٧) الفتخة: الحلقة.
(٤٨) كان هكطور عالمًا ببواطن فاريس وبوادره عارفًا كما عرف سائر الجند أنه اعتزل الكفاح مضطرًا بغلبة منيلاوس، ومع هذا فلم يفه بكلمة تذكره بسابق فشله بل كلمه بما يشف عن اعتقاده أن فاريس ساخط على قومه، فاعتزلهم حقدًا عليهم فغادر تعنيفه عما جنى وعنفه على ما لم يجن فخفف عنه وطأة الخجل ونال منه ما أمل، وهيأ بنفسه استرضاء الجيش بعودة فاريس على أهون سبيل، وهذا دهاء من هكطور اتفق الشراح على استحسانه، وهو مثل صالح للمؤدب والخل النصوح يعلمان منه أن التعنيف الفظ وكشف مواقع الضعف قد يؤديان إلى ما لا يحمد، مع أن التونيب اللطيف الذي لا يكسر شوكة الإحساس، ولا يزيل حجاب الحياء يؤدي إلى المطلوب بأقرب السبل، وأقوم المسالك.
(٤٩) تناسى هكطور خيبة أخيه والتمس له عذرًا لتقاعده كما تقدم، فهب فاريس على الإثر مضطرمًا بنار الحمية لملاقاة ما فات.
(٥٠) لا نسمع كلمة لهيلانة، ولا نرى لها حركةً إلا وملؤها الندم الممزوج برقة الإحساس، فنتمحَّل لها عذرًا بإلقاء تبعة ما جنت يداها على القضاء المحتوم، وحسبنا بتمنيها الموت والاحتجاب عن عالم الوجود دليلا على شدة بؤسها وفرط غمها، تلك حاسة فطرية في من برّحت به تصاريف الزمن، أو خالها انتابته وهي بعيدة عنه، مثال الأول قول أيوب الصديق: «لا كان نهار ولدت فيه ولا ليل قيل فيه قد حُبل برجل ليكن ذلك النهار ظلامًا، ولا رعاه الله من فوق ولا أشرق عليه نور … لِمَ لَمْ أمت من الرحم … لماذا صادفت ركبتين تقبلانني وثديين ترضعانني إلخ». (أيوب ٣: ١). والمثال الثاني: ما جاء في القرآن عن لسان مريم عليها السلام: قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا وربما صدق على المثالين قول الشاعر الفارسي:
مرا أي كاشكي مادر نميزاد
وكرميزاد كس شيرم نميداد
ومعناه:
ليت أمي لم تضعني أو إذا
وضعتني ليتني لم أُرضع
(٥١) شرع الشاعر هنا في سرد تلك الرواية الفريدة في بابها عن وداع هكطور لزوجته أنذروماخ، ولقد أفاض الكتبة في تبيان محاسنها بما يضيق دونه مقامنا، حتى لقد أفرد لها بعضهم المؤلفات الحسان، وأبدوا في كتاباتهم من الملاحظات ما لم يبق معه مجال للإسهاب نخص منها بالذكر رسالة رولين (Rollin) Trailé des études. ولا بدع، فهذه الرواية على تقادم عهدها لا تزال الطراز المعلم يتوخى الكتبة إدراك شأوه في كل زمان ومكان، وهي مع كل ما كتب عنها من الشروح والحواشي غنية عن كل شرح وبيان، وما على المطالع اللبيب إلا أن يتصفحها حتى يستجلي بنفسه جميع محاسنها بلا مرشد ولا دليل، وهوميروس كسائر عظام الرجال، ونوابغ العقل، والكمال تطاولت إليه يد كل منتقد حسود وعدو لدود على أن المتشيع له والمتفاني في تخطئته اضطرا هنا معًا إلى الانحناء هيبةً ووقارًا لجلال هكطور وكمال أنذروماخ.
(٥٢) أيُّ توطئة أجمل من هذه التوطئة للقاء الزوجين، فهو يسعى متقصيًا كالبرق الخاطف غير لاهٍ عن دواعي الذود عن الوطن، لا يطمع إلا في التزود بنظرة قبل الهلاك، وهي تجري مخلوبة الفؤاد تستطلع من المشارف غير عابئة بتهافت نسوة البلاد إلى المعبد، فكأنما زوجها معبودها الأعظم لا مطمع لها في الدنيا والآخرة إلا بسلامته وسمو مكانته.
(٥٣) لم يثبط هكطور شغفه بامرأته عن ادكاره حرج موقفه ووجوب عودته فورًا فانثنى من حيث أتى متصبرًا، ولم يضع الوقت بالبحث عنها، ثم جمعته بها الصدفة دون زيادة التحري، ولا يخفى ما في ذلك من تنبه الشاعر إلى توفية حقوق الهمم الشماء والعواطف الغراء في آن واحد.
(٥٤) أستياناس، أي: ملك المدينة. كذا دعا الطرواد المولود اعترافًا بفضل الوالد.
(٥٥) إسكمندريوس نهر طروادي كان من جملة معبوداتهم، ويدعى أيضًا زنثس، أي: الأصفر؛ لصفرة مائه، ويقال له الآن: «قرق كوزلر»، أي: الأربعون عينًا، سمى هكطور ابنه باسمه تبركًا به. إنه لأمر طبيعي في كل ملة أن يرمي بالأسماء إلى مغامز مقصودة، أو آلهة معبودة، أو صفات محمودة، أو رجال معدودة، وقد جرى العرب جري غيرهم، فقالوا: عبد اللات، وعبد العزَّى، وعبد مناف، وعبد شمس، وعلي، وعباس، وهمام، وهلمَّ جرًّا، على أنهم تفردوا بأمر قلَّ من جاراهم فيه وهو التسمية بمستقبح الأسماء؛ ككلب، وكليب، وذئب، وذؤيب، وضبع، وضبيعة، وزبالة، ومرار، ولقد تأول الناس في ذلك تأويلات مختلفة أحسنها ما رُوي من حديث أعرابي؛ إذ سئل فقيل له: لماذا تسمون عبيدكم بأحسن الأسماء؛ كجوهر، ومرجان، ولؤلؤ، ومسرور، وأبناءكم بأقبحها؛ كغضبان، ومرار، وكلب، وذئب؟ فقال: عبيدنا لنا وأبناؤنا لأعدائنا.
(٥٦) لما كان آخيل موضوع الإلياذة ترى الشاعر يبرزه حينًا بعد حين، أثناء احتجابه بمظاهر كلها عظيمة حتى لا يغيب عن ذهن السامع بل يزداد تشوقًا إلى رؤيته وتشوفًا إلى إحقاق الخبر بالخُبر.
(٥٧) إحراق الجثة بسلاحها دليل على الرعاية والاحترام؛ وخصوصًا لأن غاية مفخر الأبطال في ذلك الزمن إحراز أسلاب القتلى، وأعظم من ذلك دليلا على إجلال أخيل لقتيله أبي أنذروماخ بناؤهُ له ضريحًا، وهو عندهم الغاية والنهاية في الإكرام والتجلة.
(٥٨) كانوا يعتقدون بوجود بنات حسان في قعر البحار، وفوق الجبال القفرة، ووسط الغاب والآجام، وربما أطلقوا اسم بنات الغاب على بنات الجبال في بعض الترجمات، وهن جميعًا من المخلوقات المؤلهة، واعتناؤهن بزرع الشجر حول ضريح ميت دليل على علو مكانته.
(٥٩) أي: إنها لم تلبث أن ماتت. كانت أرطميس  (Αρτεμις) ويسميها اللاتين ديانا (Diana, Diane) ربَّة العفة والطهارة والقنص، وكانت ترمي النساء بنبالها فتقتلهنَّ، كما كان أخوها أفلون يرمي الرجال، ويُرمز عنها بالقمر كما يُرمز عن أفلون بالشمس، ذكرها هوميروس مرارًا، وهي موالية للطرواد، وقاتلت في من قاتل معهم من الآلهة كما سيجيئ. كانوا يمثلونها بعذراء طويلة القامة متردية بثوب قصير، وإلى جانبها غزالة أو كلب، وكثيرًا ما كانوا يرسمونها وبيمينها قوس ووراءها طائفة من العذارى الحسان.
figure
أرطميس.
(٦٠) لقد طرقت أنذروماخ كل باب يطرق لإمساك هكطور عن الإلقاء بنفسه إلى التهلكة دون أن تعبث بهمته ومنزلته، فهاجت فيه عواطف الحنان، وذكرته بما ألمَّ بآل بيتها من المحن، ومثلت له حبها له وتعلقها به وحذرته من عواقب مقتله إذا قتل، ولم يكن بالشيء اليسير أن يغادر امرأته أيّمًا وطفله يتيمًا، ثم حسنت له أن يقي ثغرة السور من هجمات الأعداء، وذلك موقف لا يقفه إلا الأبطال الأشداء، فلا يكون فيه غضٌّ من شأنه، كما قال هوميروس ضمنًا وقلناهُ بالتعريب صراحةً خلافًا لما توخيناه من نبذ التصرف، وعلى الجملة فقد أنطقها الشاعر بما ليس في التصور أن تنطق بأحسن منه، زوجةٌ قدرت قدر الرجال وتوفرت لديها رقة العواطف وطيب الخلال.
(٦١) وفي الأصل بين الطرواديين والطرواديات الطويلات النقاب. ينبئنا هذا وذكر مقانع إيقاب قبيلهُ، وبرقع هيلانة، وبراقع النساء والربات في مواضع أخرى أنهن استعملن النقاب لذلك العهد، ويؤخذ من كل هذا الحديث أنهم كانوا يحرصون على إحراز الاستحسان من ربات الجمال حرصهم على إحراز المكانة بين الرجال، وذلك أمر فطري لم تكد تعبث به والحمد لله معدَّات الحضارة، ولو لم يكن للنساء من فضل على الرجال إلا دفعهم للبروز لديهنَّ بأسمى المظاهر لكفى. أفلا ترى أنهنَّ وإن كنَّ في الجاهلية لم يشددن إلا قليلا على الفرسان بالصارم والسنان، فقد شددن من وراء رجالهن عليهم بالمنطق الفتاك واللحظ الفتان، واستنفرتهم استنفارًا لا يستنفرهُ صديد الفيالق وهديد الفرسان، أو لا تخال داود والبنات يغنين حوله بعد فتكه بجالوت أو جليات: أملأ فؤادًا بهن منه بتطواف الجند، وتسنم ذرى المجد. أو لا تحس من السموأل خشية من ذرابة منطقهن فوق خشيته من المناصل والعوامل، حتى ادَّرأ ازدراءَهنَّ بكل ما خوله الله من بلاغة المنطق، وفصاحة اللسان، وأجهد النفس في دفع مظان «معيّرته». ولو كان المعيّر ذكرًا لخلته اجتزأ له بالمجافاة أو المهاجاة، ثم إذا تصفحت ديوان عنترة لا تكاد تجد له قصيدة تخلو من أبيات يوجه فيها الخطاب إلى عبلة، فيقول قول هكطور لأنذروماخ، ومما يحسن إيراده هنا قول عبد يغوث بن وقاص فارس بني الحارث وهو يتغنى ساعة موته:
وقد علمت عرسي مليكة أنني
أنا الليث مَعْدوًّا عليَّ وعاديا
وكنت إذا ما الخيل شمصها القنا
لبيقًا بتصريف القناة بنابيا
وعادية سوم الجراد وزعتها
بكفي وقد أنحوا عليَّ العواليا … إلخ
(٦٢) تل: صرع، والتليل: المصروع.
(٦٣) أوَ ليس من فضل النساء أيضًا أن يسعرن أفئدة الرجال بنار الحمية والتفاني بحب الأوطان؟ أوَ لا ترى هكطور أبسل من في القوم يجد من نفسه مصبرًا على هلاك أبيه وأمه وإخوانه وخلانه، ولا يجد صبرًا على سبي امرأته، ولو بعد مماته؟ فكيف لا يتفانى بعد هذا، ولا تخط آيُ البسالة على صدره كل معجزة تحار لها الأبصار وتتفتح لها أبواب الأقدار؟! وللعرب من هذا القبيل شئون يوقف عندها إعجابًا. قال عنترة:
فالقتل لي من بعد عبلة راحةٌ
والعيش بعد فراقها منكودُ
لهفي عليك إذا بقيت سبيةً
تدعين عنتر وهو عنك بعيدُ
يا عبل قد دنت المنية فاندبي
إن كان جفنك بالدموع يجودُ
يا عبل إن تبكي عليَّ فقد بكى
صرف الزمان عليَّ وهو حسودُ
يا عبل إن سفكوا دمي فَفَعَائِلِي
في كل يوم ذِكْرُهُنَّ جديدُ
(٦٤) قبَّل هكطور طفله ودعا له دعاء الأب الشفيق، ولم يفته عند استتمام الكلام أن يدعو بما يطيب قلب أمه، كل هذا تمثيل تام لما اتصف به من صدق النية وحسن الطوية، أما دقائق ذلك المشهد من أولها إلى آخرها فحسب المطالع أن يمعن النظر فيها كما قدمنا، فلا تخفى عليه خافية من بدائعها وتنسيق وقائعها.
(٦٥) من الآيات القرآنية: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ، إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَايَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ومن كلام الإمام علي بن أبي طالب: «الموت طالب حثيث لا يفوته المقيم، ولا يعجزه الهارب». وللشعراء أقوال كثيرة بهذا المعنى، قال الكميت:
فطأ معرضًا أن الخوف كثيرةٌ
وإنك لا تبقي لنفسك باقيا
أي: لا تتّق شيئًا فالموت يأتي في حينه.
ومثله قول الآخر:
فكيف وكلٌّ ليس يعدو حمامهُ
وما لامرئ عما قضى الله مرحلُ
قال المعري:
والنفس تبغي الحياة جاهدةً
وفي يمين المليك مقودها
فلا اقتحام الشجاع مهلكها
ولا توقي الجبان مخلدها
لكل نفس من الرَّدى سببٌ
لا يومها بعدهُ ولا غَدِهَا
(٦٦) اختتم هكطور كلامه بتنبيه زوجته إلى تعهد شئونها، وهو كلامٌ على ما فيه من الرقة يشير إلى إنكار الرجال على النساء تطلعهنَّ إلى أعمالهم. قال الخليفة الهادي لأمه وقد دخلت عنده في حاجة: «ما هذه المواكب التي تغدو وتروح إلى بابك؟ أما لك مغزلٌ يشغلك أو مصحف يذكرك أو بيتٌ يصونك؟ إياكِ إياكِ لا تفتحي بيتك لمسلم ولا ذمي».
(٦٧) الصعاد: جمع صعدة الأَسنَّة.
(٦٨) قال عنترة:
لقد ودعتني عبلةٌ يوم بينها
وداع يقين إنني غير راجعِ
(٦٩) لم يكد هكطور يتعدى الأبواب حتى لحق به فاريس، وكله جذوة ملتهبة همة وإقدامًا. قال أفستاثيوس: لقد وقع نصح هكطور وتعنيفه موقعًا حسنًا، وهي خطة اتبعها الشاعر، فأبان حسن الوقع لكل تعنيف لطيف حل محله وأصاب محجة الصواب. نقول: ولقد وهم من قال: إن الغرام مفسدة للحزم والإقدام، وإن فاريس كان نكسًا جبانًا. أجل إن هوميروس مثله تمثيلا يصدق على أمثاله في كل زمان فهو رقيق الفطرة، دقيق الفكرة، جميل يحب الجمال، ويتطلب الكمال إذا ابتنى منزلا فإنما يتخير له أجمل موقع وينتدب لبنائه «أمهر أرباب الحرف»، وإذا ادخر سلاحًا فيحرص على جلائه «ويصقل الشكة والدرع الصقيل»، وإذا طرب ولهًا فإنما يطرب على نقر القيثار، ويحسن ضرب الأوتار وتلاوة الأشعار، وإذا لبس السلاح فإنما يشك بعدة «يتألق نورها»، فهو إذن معدن لطف وظرف لا يشوبه إلا أنه كما قال الشنفري: «مرب بعرسه» وليست هذه بالشائبة الكبرى، فهذا عبسينا يتغنى حتى في حومة الوغى بعبلة ومحاسنها. وهذا مهلهلنا لم يشبه أن كان معاقر صهباء وزير نساء، ولا بأس أن نستطرد هنا إلى وجه الشبه بين أخوي اليونان، وأخوي العرب فهكطور كليب حامي الذمار ودرَّاء العار، وهو الأخ الأكبر، وفاريس كالمهلهل المثير الأوار والآخذ بالثأر، وهو الأخ الأصغر. على أن الإلياذة تنتهي بمقتل هكطور كما بدأت حرب البسوس بقتل كليب، والتاريخ ينبئنا بما جرى بعد حين من قتل آخيل قاتل هكطور بسهم أطارهُ عليه فاريس.
(٧٠) كأن عطارد بن قرَّان كان يتصوَّر هذا المعنى البديع، فأتمَّ الطباق بقوله:
كأني جوادٌ ضمَّه القيد بعد ما
جرى سابقًا في حلبةٍ ورهانِ
ولقد علق الشعراء من قراء هوميروس بهذا التشبيه الجميل حتى نقله بعضهم إلى لغاتهم حرفًا بحرف، وفعلوا مثل ذلك في نقل كثير من معانيه دون أن يبينوا مأخذها، ولكن الحقيقة لا تلبث أن تبدو ولو بعد دهر.
(٧١) الحجور: جمع حجرة، أنثى الخيل. لم أر في ما قرأت من شراح هوميروس من انتبه إلى مشاكلة هذا التشبيه لأخلاق فاريس، فإنه وإن كان المراد هنا وصف همة فاريس ليس إلا، فقد أتى فيها الشاعر بطباق تام بين المشبه والمشبه به؛ إذ جعل غايتيهما التزلف والتحبب إلى الأنثى.
(٧٢) لقد أتى هكطور في هذا البيت والبيت السابق على وصف أخيه وصفًا تامًّا مع الإلمام بكل تاريخ الحرب، وهو كلامٌ حقٌّ جمع بألفاظ قليلة ومعاني كثيرة، فأعرب له عن وده له وحرصه على حفظ كرامته، وذكَّره بعيوبه وسابق ذنوبه وحثه على الحرب، والكفاح بما يوافق مشربه ويلائم مذهبه، ولم يمسس شعائره بشيء يؤلمه مع مراعاة الصدق في كل ما قال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤