النشيد السابع

براز هكتور وآياس

مُجْمَلهُ

لما بلغ هكطور وفاريس معسكر قومهما اضطرمت جذوة الحرب، وكادت تدور الدائرة على الإغريق، فخشيت أثينا عاقبة الأمر وهمت بإغاثتهم، فلحق بها أفلون نصير الطرواد فاتفقا على إيقاف القتال في ذلك اليوم، على أن يبرز هكطور مناديًا بطلب أشد اليونان بأسًا لبرازه، فأوحيا إلى هيلينوس العرَّاف أن يوعز بمآل وفاقهما إلى هكطور، فتفدم وطلب بطلا من أبطال اليونان فأخذهم الذهول والصمت، فقام منيلاوس ورماهم بالجبن والوهن وعقبه نسطور الشيخ بكلام مؤثر، فبرز منهم تسعة فاقترعوا فأصابت القرعة آياس، فشك بسلاحه وبرز لهكطور ولم يزالا بين كفاح وصدام حتى فصل بينهما الظلام، فافترقا وانحاز كل جيش إلى معسكره، فقام بين الإغريق نسطور الشيخ ونادى بإيقاف رحى القتال ريثما تدفن جثث القتلى، وقام في معسكر الطرواد أنطينور يستحثهم على التجاوز عن هيلانة وأموالها للإغريق حقنًا للدماء، فعارضه فاريس في رد هيلانة وإنما سمح بأموالها وزيادة، فبعث الملك فريام بالرسل إلى الإغريق يبلغهم مفاد كلام فاريس، ويطلب الهدنة لدفن الموتى فلما بلغت الرسل وبلَّغت الرسالة أَبَى ذيوميذ إلا الحرب فأقر الإغريق على الهدنة، فدفن كل من الفريقين قتلاه، ثم شرع الإغريق عملا بمشورة نسطور بحفر خندق وبناء معقل لصد هجمات الطرواد، فلم يرق ذلك لفوسيذ وقام يندد بالإغريق بمجمع الآلهة، فأسكته زفس، وصرف الجيشان بعض ليلهما بالإيلام والطعام، ثم جنحا إلى الهجوع.

ينتهي اليوم الثالث والعشرون في هذا النشيد ببراز هكطور وإياس، واليوم الرابع والعشرون بعقد الهدنة، والخامس والعشرون بدفن القتلى، والسادس والعشرون ببناء المعقل وحفر الخندق، ومشهد الوقائع جميعه في ساحة القتال.

النشيد السابع

كذا قال هكطور ثم جرى
إلى الباب يصحب إسكندرا١
بصدريهما النفس تلهب جمرا
لكيد الأغارق طعنًا ونحرا
وجيشهما والحشا يلهب
للقياهما هزه الطرب
كنوتية شقت اليم شقا
بملس المجاذيف والأمر شقا٢
وخارت قواها ومن فضل رب
لها هبت الريح خير مهب
ففازوا بما أملوا ثم ثاروا
بإثرهما واستطار الغبار
فمينستس مَنْ بأرنا ولد
لآريش الملك المعتضد٣
وفيلومذا ذات عين المها
بصمصام فاريس غزمًا وهى٤
وآيون بالعنق تحت الترائك
بمزراق هكطور ألفى المهالك
وإيفينس بن ذكسيس عمد
إلى خيله والأوار اتقد
فقيل بني ليقيا زجه
وغيب في كتفه زجه
فعن خيله للحضيض التوى
غضيض العيون فقيد القوى
فجند الأغارق حلت عراهم
وفالاس فوق الألمب تراهم
إلى قدس إليون حثت خطاها
وفيبوس من فرغموس اقتفاها
لقد كان يرقبها ويريد
لقوم الطراود نصرًا مجيد
ولما لدى الزانة التقيا
على الفور بادر مبتديا:٥
«علام من الأفق يا بنت زفس
هبطت بغيظ وحدة نفس
أرفدا لقوم الأغارق حالا
بحرب إلى الآن تجري سجالا
لخطب طراودنا لم ترقي
فسمعًا فدونك أصلح حق:
«بنا اليوم هيي نكف القتال
ومن بعد ندفعهم للنزال
إلى أن نشاهد يومًا أخيرا
لإليون مذ رمتما أن تبورا»٦
فقالت: «نعم إنما ذا مرامي
فقل كيف تأمل كف الصدام»
أجاب: «فهكطور نحو البَراز
نحث ليدعو العدى للبِراز٧
فلا شك بالغيظ يحتدمونا
ومن جندهم بطلا يدفعونا»
فأقنعها وهلانس تحقق
بكنه حجاه القرار المصدق٨
ولما استتما المقال فحالا
تقدم نحو أخيه وقالا:
«أهكطور مَنْ زفسَ بالعقلِ حاكى
ألا ما استمعت مطيعًا أخاكا
فقومك أَجلِس وقوم العدى
وبين الفريقين قم مفردا
وسل يرسلوا لبراز مهول
إليك فتى من أشد القيول
فقد جاءني صوت آل العلى
بأنك ما آن أن تُقْتَلا»٩
فَسُرَّ الفتى وجرى قابضا
من الوسط اللهذم الوامضا١٠
وسكن جيش الطراود قربه
كذا آغممنون أَجْلَسَ صحبه١١
وسر الإلاهان مما تجلى
وشكل عقابين في الحال حلا
به نزلا فوق زانة زفس
بها ينظران لطرس فطرس١٢
وكان الجنود بتلك السهول
جلوسًا صفوفًا كثافًا تهول
عليها الترائك فوق التروس
وسمر العوامل تنمي البئوس
كيمٍّ عليه النسيمُ انتشر
فأرجفَ واربدَّ يوهي النظر١٣
وهكطور نحو البراح اتجه
وصاح: «أجند الطراود مه
ويا قوم آخاي سمعًا فإني
أفيض لكم ما يجول بظني
أرى بيننا زفس قاض العهادا
وللكلِّ هيَّا الرزايا الشدادا
إلى أن تدكوا قلاع الحصون
أو الحتف تلقوا تجاه السفين
فبينكم خير جند الأغارق
فهل بطل لبرازي تائق
فيخرج بالبأس منتدبا
يصادم هكطورًا المجتبى
وإني أبرم معه العهود
وزفس على ذاك خير الشهود
فإن يُعْمِلَنَّ بي اللهذما
يفر بسلاحي له مغنما
إلى الفلك يمضي به رغدا
ويلقي إلى صحبتي الجسدا
فيمضي لبيتي أفواجهم
ويذكونه هم وأزواجهم١٤
وإن نال مني مر الحمام
وأولاني النصر رب السهام
بشكته نحو إليون أهرع
لحيث ببيت أفلون ترفع١٥
وأدفع جثته غير خائن
إلى قومه الشُّعرِ فوق السفائن
ففي جرف بحر هلاذا الفسيح
يوارونه في مشيد الضريح
وإما بمستقبل الزمن
تمر الأنام على السفن
يقال هنا قبر قرم عنيد
بعامل هكطور قدمًا أبيد
فيخلد مجدي ويعلو منارا»
فظل الأغارق طُرًّا حيارى١٦
سكوتًا فلا للِّقا تَجْسُر
ومن رد بغيته تنفر١٧
فقام منيلا يؤجج نارا
حشاه وصاح يفيض احتقارا:١٨
«نساء أنادي وليس رجالا
فوا أسفا أمرنا أين آلا١٩
فوا عارنا إذ بأبطالنا لم
يكن مَنْ إلى هكطر يتقدم
عساكم ترابٌ وماءٌ جميعا
فكلكم بات جبنًا هلوعا٢٠
وليس لكم من فؤاد وشان
وها أنني بارز للطعان
وما النصر إلا لآل العلى
فَيؤْتَونَه منةً وولا»
وشك يجيل السلاح الجميلا
ولكن أبيت الردى يا منيلا
لقد كاد يصميك هكطور لو لم
تثبطك صيد الجموع وترحم
ومولى الموالي أخوك الأبر
بيمناك أمسك ثم انتهر:
«مقرب زفس منيلا أرى
هذوت وجئت إذن منكرا
فمهما بك النفس هاجتك فارهب
فتى من سواك ترى يتهيب
ونفس آخيل الذي لا سبيلا
إلى أن تقاس به وتصولا
لقد كان يجزعه أن يسابق
لملقاه يوم اصطكاك اليلامق٢١
فَهيِّ اجلسن وألق العدد
فيغري الأغارق قرمًا أشد
وإن يكف في الحرب وقعًا أليمًا
فيخرج من ذا البراز سليما
فلا شك بالأنس يلوي الركب
وإن كان ليس يهاب النوب»٢٢
فدان منيلا لنصح أخيه
وكف وطابت نفوس ذويه
وشكته جردوا وانتصب
على الفور نسطور ثم خطب:٢٣
«ألا أي رزء فوا حربا
بلاد الأخاءة قد نكبا
ألا كم يغص خطيب المرامد
حكيمهم الهِمُّ فيلا المجاهد٢٤
إذا ما درى أن هكطور أخمد
بئوس الأغارق جبنًا وأقعد
إلا قبل كم كان بادي الطرب
بمغناه يقتص مني النسب
فأنمي له أصل كل الأغارق
ونسبتهم من قديم ولاحق
ألا لو رآكم على ما أرى
لمدَّ يدًا لموالي الورى
ليسألها أن تزج بنفسه
لآذيس زَجًّا لشدة بؤسه٢٥
أيا زفس يا آثنا يا أفلو
ألا ما أعدتم شبابي فأبلو٢٦
كيوم بأسوار فِيَّا فظيع
وحول سُرى يردنوس السريع٢٧
لدى نهر قيلادن الحرب ثارت
وأبطال أجناد فيلا أغارت
تصادمها بشديد الكفاح
صناديد أرقاديا بالرماح
وإيرثليون زعيم العدى
شديدًا لدينا كرب بدا
عليه سلاح المليك المجيد
إريثوس ذي الصولجان الحديدي
إريثوس من كان يلقى الجموعا
به لا يجيل القنا والفروعا
لذاك بفطيسه ذاع ذكرا
ولكن ليكرغ أصماه غدرا٢٨
لدى معبر حرج بالقناه
رماه وفطيسه ما وقاه
فخر وقاتله سلبا
سلاحًا له آرس وهبا
فظل به العمر يستلئم
إلى حين أقعده الهرم٢٩
فأعطاه إيرثليون الهمام
فكان به ينبري للصدام
ويدعو ولا بطل يفدُ
وكل الصناديد ترتعد
فأقدمت تدفعني النفس وحدي
وإن كنت إذ ذاك أحدث جندي
فأولت أثينا ذراعي انتصارا
وجندلت أعلى كَميٍّ منارا
فَخَرَّ لدى قدمي بالحضيض
عُتُلًّا غليظًا طويلا عريض
فلو كنت أواه غض الشباب
لأدرك هكطور مني العجاب
وأبسل ما بكم من رجال
أراهم أبوا وَقْعَ هذا النزال»
فلما استتم الحديث المهينا
لديه انبرى تسعة يبرزونا
فأولهم أول القوم سؤدد
زعيمهم آغممنون عربد
تلاه ذيوميذ روع الرجال
كذاك الأياسان هول القتال
فهب إذومن ثم فتاه
مريون عد إله الكماه
فأوريفل فثواس فأوذس
فصدهم الشيخ بالبشر يُؤْنِس:٣٠
«عليكم إذن بالقداح تُجَال
فَمَنْ قِدْحَهَ فاز خاض المجال٣١
يسر الأغارق إن أقدما
ويجذل نفسًا إذا سَلِمَا»
فكل فَتًى قِدْحَهُ ضَرَبا
بخوذة أتريذ منتصبا
وجيشهم كله رفعا
لآل الخلود أكفَّ الدعا:
«أيا زفس إما أياس وإما
ذيوميذ أو لا فأتريذ حتما»
ونسطور تلك الأقاديح رج
فسهم أياس لديه خرج
وتلك أماني الجنود جميعا
فطاف به الفيج يجري سريعا
يمينًا جرى يقصد الصيد قصدا
لهم يبرز القدح فردًا ففردا
فلم يك مَنْ بالنصيب اعترف
هناك إزاء أياس وقف
فلما تناوله ثم أحدق
برسم به كان من قبل نَمَّقْ٣٢
تهلل مستبشرًا ورماه
إلى قدميه ونادى الكُمَاهْ:
«أُصَيْحَابُ ذا السهم سهمي فَسُرَّا
فؤادي وإني آمل نصرا
أنا عدتي أبتغي مسرعا
وأنتم لزفس أفيضوا الدعا
سكوتًا لئلا لطرواد يُنْمَى
وإن شئتم عَلَنًا فَنِعِمَّا
فلسنا لنخشى جِلادَ الأعادي
ولا بأس لا مكر يَلْوِي فؤادِي
فما كنت في سلميس لأربو
يروع حشاي برازٌ وحربُ»٣٣
وكل الأغارق قامت تصيح
وتشخص نحو الفضاء الفسيح:
«أيا أبتا زفس رب المعالي
أليف الكمال عظيم الجلال
على طود إِيذا أيا من تجلى
أنل نصرك اليوم آياسَ فضلا
وأما لهكطور تأبى الشَّنَارا
فدع يَسْتَوِ البطلان اقتدارا»٣٤
وإذ كان جيشهم يتضرع
فآياس حُصنُ الأخاءة أدرع
وَشَكَّ بِزاهي السلاح الصَّقِيلِ
وَأَقْبَلَ جَبَّارَ رَوعٍ ثَقِيلِ
يجيل القناة لحر الوطيس
ويَبْسمُ عن ثغر وجه عبوس
يَسِيرُ كربِّ القتال العَسوف
لوقع خطاه ارتجاج مَخُوف
كآريس يمشي على قوم إنس
إلى الويل سيقوا بفتنة زفس
ففاضت قلوب الأغارق سُرًّا
وخار فؤاد الطرواد طُرًّا
ونفس حشا هكطر خفقا
ومن هول ذا الملتقى قَلِقا
ولكن تربص حتى الجِلاد
ولم يلو مذ كان أول باد
فأقبل آياس في كبره
بترس كبرج على صدره
بهيلا له الصانع الأمهر
تخيوس حدف يفتخر٣٥
على سبعة من جلود البقر
غشاءٌ من الصُّفر يوهي النظر
ولما إليه دنا وقفا
وصاح بهكطور: «أقبل كفى
فسوف ترى ما بفرد لفردِ
يجيش الأخاءة من فتك أُسْدِ
وإن كان آخيل قلبُ الأسد
وخَرَّاقُ قلب العدو الألد
على أغممنون قد حقدا
وَعَنَّا لدى فلكه انفردا
ففينا للقياك جم غفير
فأقبل إليَّ وأور السعير»
أجاب: «أيا من لزفس انتماه
ويا ابن تلامون قَيْلِ السراه
مه لا تخل بي رعونة ولد
وَعَجْزَ نساء جَزِعْنَ لصدِّ
ألفتُ القتالَ وذبح الرجال
على قَدمي وفوق العِجالِ
يساري بِالتُّرْسِ مثلُ يميني
ورقصي في الحرب يعلي شئوني٣٦
ولم يك شأني غدرًا أراكا
بل الحرب صدرًا لصدرٍ فَهَاكَا»
وهَزَّ المثَقَّفَ يطعن طعنا
مِجَنَّ أَياسَ فَغارَ وَرَنَّا
فشقق فولاذه والجلود
لسابعها فاستقر يَمِيدُ
فأرسل آياس رمحًا شديدا
على جوب هكطور يفري الحديدا
فبالترس للدرع للثوب أَوْلِج
وقد كاد شق الكمي يضرِّج
ولكن هكطور أهوى وحَاد
وإلا لغَالَتهُ أُخْتُ النَّآد٣٧
وكلهما اجتذب اللهذما
وحملق ينظر محتدما
كليث يمزِّق لحم الرجال
وخرنوص برٍّ بعيد المنال
فطعنةُ هكطور لم تَنْجُبِ
ولكن لواها قفا المِجْوَبِ
فقر أياس وما انقلبا
وبالرُّمحِ من فوره وثبا
فأُنْفِذَ بالترس مُرتعِدا
إلى العُنق يجري دمًا أسودا
وهكطور عن حزمه ما انثنى
ولكن لوجه الحضيض انحنى
تناول أسودَ صخرٍ أصم
غليظًا به مستشيطًا هجم
وعن كفِّ بأس أصاب مِجَنَّه
فَرُنِّنَ فولاذه أيَّ رَنَّه
وصيخود صخر أشد رفع
أياس فذبذبه ودفع
بعزم رحاه بقدر الرحى
على ترس هكطور فانطرحا
ومن صلب ركبته الدمُ سالا
فأنهضه الرب فِيبُسُ حالا٣٨
فجرد كلٌّ حسامَ الهوانِ
وكادا على القرب يشتبكان٣٩
ولكن رسولا العلى والبشر
أُسِيرا يكُفَّان شرًّا أمر
حكيم الأخاءة تَلْثِبْيُسُ
وفضل الطراود إِيْذِيُسُ
فبينهما أسبلا الصولجانا
وثانيهما صاح يلقي الأمانا:٤٠
«كفى يا بني فكلكما
لدى راكِم الغيم قَدْرًا سَما
وكلكما باسل وأُذِيع
فخاركما بلسان الجميع
ولكنما الليل جاء بستره
فحسبكما اليوم طوعًا لأمره»٤١
أجاب أياس: «فهذا يقال
لهكطور فهو مُشيرُ القتال
فإن يطعنك أُطِعْكَ امتثالا»
فقال ابن فريام هكطور حالا:
«أجل إن ربا أياس اجتباكا
ومجدًا وبأسًا وفضلا حباكا
وقد فقت بالطعن كل الأغارق
فدعنا مجال الكفاح نفارق
فسوف نصول ولن نَجْبُنَا
ليقضي ربٌّ قضى بيننا
ويولي من شاء عز الظَّفر
فذا الليل خيم فوق البشر
وشأن الأنام احترام الظلام
فيرجع كلٌّ عزيزَ المقامِ
فَرُح يبتهج بك قومك طرا
لدى الفلك والصحب تجذل فخرا
وتطربُ طروادةُ بمآبي
رجال الوغى وذوات النقاب
فيدخلن بي هرَّعًا داعيات
معابد آل الخلود الثقات
وهيِّ نبادل قبيل القفول
نفيس الهدايا وكل يقول:
كفاح شديد أوان التلاقي
وود وطيد قبيل الفِراق»٤٢
وأعطى أياس حسامًا صقيل
عليه قتير لجين جميل
وعمدًا وزاهي نجاد ونالا
حزامًا بفرفيره قد تلالا٤٣
وكلٌّ تجاه ذويه انقلب
وبين الطراود فاض الطرب
رأوا أن هكطور بعد الإياس
سليمًا نجا من ذراع أياس
به نحو إليون ساروا وسارا
أياس إلى القوم يزهو افتخارا
فخفوا لخيمة سيدهم
به يدخلون بسؤددهم٤٤
فضحى لهم بسديس لزفس
وهم سلخوه بِبِشْرٍ وأُنْسِ٤٥
ومن حوله اجتمعوا يقطعونا
وفوق سفافيدهم ينظمونا
ويلقون في جاحم وهجا
إلى أن جميع الشوا نضجا
فأخرج منه ومُدَّ الطعام
وكل حوى سهمه بالتمام
وأتريذ أكرم مغتبطا
أياس فأعطاه صلب المطا٤٦
ولما أزالوا الظما والسغب
بهم نسطر بالسداد خطب
فذاك الذي قبل أعلى المنارا
فبالحلم والحكم فيهم أشارا:
«أأتريذ يا زعماء القبيل
بأقوامنا الشعر كم من قتيل
نجيعهم سال في إسكمندر
وأرواحهم للجحيم تحدَّر
عليك إذن ببزوغ الشفق
تنادي بكف قتال سبق٤٧
ونحن بجملتنا بالعجال
نقوم بثيرانها والبغال٤٨
ونجمع كل قتيل فتك
به في تصادمنا المشتبك
ونحرقهم قرب فلك السراة
ونجمع منهم عظام الرفات
فتحمل ذكرًا لأبنائنا
إذا ما قفلنا لأرجائنا
ونبني ضريحًا لهم يقصد
على السهل حيث علا الموقد٤٩
لديه نُشَيِّدُ سورًا رفيعا
يقي جيشنا والجنود جميعا
ونحكم أبوابه لتجول
بهن متى ما تشاء الخيول
ومن حوله خندق يمنع
جيوش الطراود إن يُدْفَعوا»٥٠
فكلهم صرحوا برضاهم
وأبناء طروادة بحماهم
بشماء إليون قد جمهروا
بأبواب فِرْيامَ واأْتَمَرُوا
فهاجوا وماجوا بلغط عظيم
فصاح بهم أنطنور الحكيم:٥١
«أطروادة يا بني دردنوس
ويا حلفاء وكل الرءوس
إليكم حديثًا يخالج صدري
فهيوا بنا نُجْرِ أصوب فكر
فنرجع هيلانة الأَرْغُسِيَّهْ
بأموالها خوف شر البَلِيَّهْ
فإنا بأيماننا لم نَبَرَّا
وإن نمتنع أخش شَرًّا أَمَرَّا»
فقام يجيب فريس الأغر
وزوج هلانة ذات الغفر:٥٢
«أجل أنطنور شططت بما
يشق عَليَّ بأن أعلما
لقد كان أجدر أن تنبذا
حديثًا ورأيًا يماثل ذا
وإلا فإن كنت رمت السدادا
فآل العلى سلبوك الرشادا
وأشهد رواضة الخيل أهلي
بأني لن أسمحن بأهلي٥٣
ولكن أموالها وأزيد
عليها فإني سريعًا أعيد»
فقام بهم ببهي الجلال
أخو الفضل فريام يبدي المقال:
«أطروادة يا بني دردنوس
ويا حلفائي وكل الرءوس
إليكم حديثًا يخالج صدري
ألا فانهضوا للعشا طوع أمري
فذا حينه وأقيموا الحرس
يطوفوا بكم لانقضاء الغَلَس
ويذهب قبل بروز الغزاله
إلى الفلك إيذيس بالرساله
إلى الأَتْرِذَيْنِ بهَذا الكلام
مقالة فاريس أس الخصام
ويسألهم هدنة نبتغيها
لنحرق قتلى المعامع فيها٥٤
وبعد نصول ولن نجبنا
ليقضي ربٌّ قضى بيننا
ويؤتي من شاء عز الظفر»
أصاخوا ارتياحًا لأَمْرٍ أَمَرْ٥٥
عشوا بالسلاح وبعد الشفق
لفلك العدى إيذيوس انطلق
إذا بهم ضمنهم مجلس
لدى الفلك أتريذهم يرأس
فصاح يقول بصوت ثقيل:
«أأتريذ يا زعماء القبيل
بإمرة فريام والمؤتمر
أتيت إليكم لأنمي الخبر
مقالة فاريس أس الشقاق
عسى أن تروق فيلقى الوفاق
فإن الكنوز التي سلبا
ويا ليته قبل ذا نكبا
ومما حواه حلالا يزيد
عليها بهن سريعًا يجود
ولكن زوج النبيل منيلا
فعنها على رغمنا لن يحولا
ويسألكم هدنة نبتغيها
لنحرق موتى المعامع فيها
وبعد نصول ولن نجبنا
ليقضي ربٌّ قضى بيننا
ويؤتي من شاء عزَّ الظفر»
فطرا سكوتًا وعوا ذا الخبر
فصاح ذيوميذ فيهم: «حذار
لإليون هذا أوان الدمار٥٦
فنابي الكنوز وإن عُدَّتِ
وهيلانة ولئن رُدَّتِ
لقد أزف النصر والطفل يعلم
على هامهم عن قليل ستهدم»
فلم يك إلا من استحسنا
وأتريذ تصويبه أعلنا:
«سمعت إذن إيذيوس الخطاب
فهذا الجواب وعين الصواب
ولكنني سامح بزمان
لتحرق موتى الوغى بأمان
بحرمتهم فليقم كل عسكر
ويسترضهم بلهيب تُسَعَّر٥٧
وزفس شهيد على تي العهود»
ومد عصاه لآل الخلود٥٨
وإيذيس لحماه رجع
وقد غص بالنبلا المجتمع
يعالون طرا للقياه صبرا
فبلغ ما كان أمرًا فأمرا
فهبوا وبعض لجمع الشعل
وبعض بقتلى الرجال اشتغل
كذاك الأراغس قرب السفين
جروا جريهم باجتهاد مكين
ولما من اليم فوق البحار
بدت تتجلى عروس النهار
وتبرز صاعدة للسماء
وفوق الفدافد تلقي السناء
تلاقى الجميع بذاك المجال
يكادون لا يفرقون الرجال
جسوم لقد شوهتها الجراح
ورهج العجاج بدار الكفاح
فبالماء في مهل غسلوها
وبالدمع في عَجَلٍ حملوها٥٩
ولكن فريام حَظْرًا حَظَرْ
على قومه أن يهيلوا العبر
سكوتًا ولب الفؤاد التهب
أسى جمعوها لكُدْس الحطب
ومذ فنيت بأجيج اللهيب
لإليون عادوا بقلب كئيب
كذاك الأغارق بين الوجوم
مضوا يجمعون جميع الجسوم
ولما عليها قضى الحرق
تجاه سفينهم انطلقوا
وفي بُهْرَة الليل قبل السَّحر
أسيرت من الخيم خيرُ الزمر
ومن فوق موقدهم للجثث
جميعًا على السهل شادوا جدث
وسورًا لديه عليه القلل
وأرتجة لعبور العَجَل٦٠
يليه حفير عميق وسيع
على صفحتيه وشيع منيع
وأما بنو الخلد آل الظفر
فقد بهتوا لاقتدار البشر٦١
فمن حول زفس لقد رقبوا
فقام بهم فوسذ يصخب:
«مِن الناس مَن بعد يا زفسُ يرفع
لآل العلى مُقْلتيه ويَضْرع٦٢
ألم تر قوم أخاي الأُولى
بنوا قرب سفنهم معقلا
ومن حوله خندقوا مغفلينا
لقوم الخلود الضحايا المئينا
نعم ذكر هذا الصنيع البديع
إلى حيث فاض السَّنا سيذيع
ويغفل سور بمصر يجل
للوميذ شِدتُ أنا وأفلو»
ولكن زفس وقد أنفا
أجاب: «أربَّ البحار كفى
أيا من يزعزع قلب الثرى
شططت بما جئته مخبرا
ليأبى الذي عنك جهدًا يُقصِّر
منالا وطَولا بذا الفكر يفكر
ومجدك سوف يعم الفلق
ويمتد ما امتد نور الشفق
فمهلا لئن عاد بالسفن
لفيف الأراغس للوطن
فمعقلهم دُكَّ دكًّا فيُلقى
إلى لجه البحر يمحق محقا
وفي الساحل اركم رمالا تقر
عليه تبد عينه والأثر»
كذا اأتمروا في القيام الأجل
وقبل المغيب أتم العمل
وقد نحر القوم تحت الخيام
عجولهم يبسطون الطعام
وكان ابن إيسون راعي الأمم
وإيفيسفيلا فتاة النعم
أخو الملك أفنوس من لمنس
أتت فُلْكُهُ لِبني أرغُسِ
من الخمر صِرفًا بها ألف عين
هدية ود إلى الأترذين
فجيش الأغارق عينًا بعين
شرى الخمر من ذينك السيدين
فبعض بصفر مُدامًا أُنيل
وبعضهم بجديد صقيل٦٣
وبعض شرى بجلود البقر
وبعضهم بعجول ذخر
وبعضهم بالسبايا شرى
وليلتهم قضيت بالقرى
لهم في الخيام الطعام يعد
كذاك لطروادة في البلد
ولكن زفس وقد غيظ حقدا
بهم زعزع الليل برقًا ورعدا
فهدَّهم الرُّعب والكُلُّ قام
يريق على الأرض كأس المدام
ويخشى ارتشاف عصير العنب
إلى أن يزكي لزفس القرب
ولما انتهوا جملة قصدوا
مضاجعهم حيثما رقدوا

هوامش

(١) بسطنا الكلام في أول النشيد السادس على هذا النسق من النظم.
(٢) النوتية هم الملاحون، وهي لفظة يونانية (Ναυτησιν) عربت والأصل فيها (Ναυτησιν) (نوطس)، وهي ريح الشمال سمي الملاحون بها لموافقة مهبها لهم. لا بدع أن يكثر هوميروس من التشبيه بالبحار ورياحها، فبلاد قومه محاطة بالمياه وأكثرها جزر يكنفها البحر من جهاتها الأربع، ذلك كما أكثر العرب من ذكر المفاوز والمهامة والسباسب، وجعلوا لها مئات من الأسماء والصفات.
(٣) أرنا مدينة كانت في بيوتيا. قال إسطرابون: هي التي سميت بعدئذ أكريفيون. وقال بوزانياس: بل خيرونية. وزعم آخرون أن البحر طغى عليها وأغرقها.
(٤) ذكرنا في حواشي النشيد الأول مطالعة بشأن التشبيه بعيون المها فحسبنا هنا الإشارة إليها. كان فاريس أول مندفع في تلك المعمعة حتى تقدم أخاه هكطور، وهنا دليل آخر على أنه ليس بالمحجم المهياب كما ادعى المعترضون.
(٥) الزانة هذه: هي الزانة الشهيرة على باب اسكيا. لم يكن للآلهة دخل في وقائع النشيد السابق، أما الآن وقد حمي الوطيس فلم يرَ الشاعر بدًّا من إطلاق العنان للتصور الشعري جلاءً لرونق الشعر، فعاد بأثينا وأفلون كما ترى، وإذا نظرنا إلى ظهورهما من وجه رمزي فيكون المراد أن أثينا ممثلة الحكمة والبسالة تهيئُ الغلبة لليونان بانحيازها إليهم، وأفلون ممثل القدر يصدها عن تشتيت شمل الطرواد، والمغزى أنه مهما عظمت الحكمة واشتد البأس فلا سبيل لهما إلى صد القضاء المحتوم.
(٦) قوله: رمتما، أي: أنت (أثينا) وهيرا. لم يصرح الشاعر بذلك ولكنه يستفاد من جعله الفعل بصيغة المثنى المؤنث، ولا حليفة لأثينا أشد من هيرا تحرقًا لكيد الطرواديين.
(٧) البَراز الأولى بمعنى البراح، والثانية بمعنى المبارزة.
(٨) هيلانوس أخو هكطور، وكان عرَّافًا كما تقدم وكاهنًا لأفلون، فيفترض إذن أن أفلون أوحى إليه بما كان.
(٩) حبذا لو استغنى الشاعر عن الشطر الأخير، ولعله دخيل في شعره؛ لأن في أنباء هكطور بسلامته غضًّا من بأسه، وهو البطل الصنديد يشق الصفوف، ولا تروعه الحتوف.
(١٠) اللهذم الوامض: الرمح اللامع.
(١١) تقدم أنه لم يكن لهم طبول يُجرون الجند ويوقفونهم على أصواتها، فكان من ثم لا بد لهم من إشارات يتفاهمون بها، فيستدل إذن أن القبض على وسط الرمح إشارة إلى الكون، ولما رأى أغاممنون أن هكطور أوقف الطراود بادر إلى تسكين جأش الإغريق لعلمه أنه بدا لهكطور أمر ذو شأن يبثه له، وهكذا سكن الجيشان. يذكرني ذلك ما شهدت مرة في بادية العراق؛ إذ كنا في الزهيرية ولفيف من المنتفق في نحو مئة فارس وثلاث مئة هاجن بين رادف ومردوف تتبعهم الأنعام الكثيرة، فأصحبنا يومًا والربع في جلبة والأوتاد تنزع والمضارب ترفع، فعلمت أنه تراءى لرجل بينهم يدعى تويسًا هو زرقاؤهم بنظره، وجهينتهم بخبره «زولٌ بعيد» لا يعلم أهو «عدوٌّ أم صديق»، فاضطرونا إلى التأهب في من تأهب حتى إذا ركب الفرسان وساروا جيشًا أنفذوا طليعةً تستطلع الخبر تجري بخيلها «هَذْبًا»، وسائرنا من ورائها «نكد كدًّا» إلى أن صارت الطليعة على مقربة من الزول الذي أخذ يتراءى لنا فحولت أعنة خيلها، وأخذت تغير يمينًا بشمال بعد أن كانت تسير شرقًا بغرب، فسكن جأش الجيش وقالوا: طليعتنا «تعرض لنا»، ففهمنا أنه ليس ثم مطمع غزو وكسب ولا منزع قتل وسلب، ولم نلبث أن تحققنا الخبر بالخبر؛ إذ كان ذلك الزول البعيد قطيع نوق وجمال لعشيرة حليفة يصحبها رعاة قلائل فأمنوهم وسيروهم.
(١٢) تهيأ أفلون وأثينا بهيئة عقابين، ووقعا على الزانة التي بباب أسكيا يراقبان منها حركات الجيشين. وحلول الآلهة وأتباعهم بل والبشر أيضًا بهيئة الطيور معتقد قلما يخلو منه دين من قديم الأديان.
(١٣) إذا أكثر هوميروس من تشبيه الفيالق بالبحار، فإنما لديه لكل مقام مقال. فلا تكاد ترى تشبيهًا كالآخر بمجمل دقائقه في كل الإلياذة، وما أصدق تشبيهه هنا للجيش الجالس صفوفًا تتألق أسلحته في ذلك الفضاء بالبحر، ينتشر عليه النسيم، فلا هو بالبحر الهائج تعبث به الأنواء، ولا هو باليمِّ الراكد لا أثر عليه لحركة الهواء، وما أحسن ما قال العبسي في نقيض هذا المعنى:
وسارت رجالٌ نحو أخرى عليهم الـ
ـحديد كما تمشي الجمال الروائحُ
إذا ما مشوا في السابحات حسبتهم
سيولا وقد جاشت بهنَّ الأباطحُ
(١٤) يذكونه: يحرقونه.
(١٥) سنرى في النشيد العاشر أن أوذيس وذيوميذ يرفعان سلاح دولون نذرًا لأثينا، وهنا هكطور ينذر رفع سلاح خصمه لأفلون، فأثينا نصيرة الإغريق وأفلون نصير الطرواد: «وكل قوم بما لديهم فرحون».
(١٦) ذكر إسطرابون نُصبًا أقيم لأياس وآخر لأخيل في تلك الأرجاء، وقد عفت آثارهما وآثار غيرهما بمرور الأزمان، ولو لم يكن شيء سواهما يخلد ذكر هكطور لتنوسي اسمه وعفا رسمه. قال أفستاثيوس: وأما شعر هوميروس فأرسخ من الأنصاب، لا يعبث به كرور الأحقاب، بل هو قائم أبد الدهر يخلد الذكر والفخر. (راجع ن ٢).
(١٧) إن تهيب الإغريق من البروز لهكطور لأشبه شيء بارتياع الإسرائيليين لرؤية جلياد قبل أن برز له داود، وقد يتبادر إلى الذهن أنهم كانوا في غنى عن هذا النهيب؛ إذ كان بإمكانهم أن لا يجيبوه إلى طلبه، ولا يمسهم العار؛ لأن الطرواد كانوا الداعين إلى البراز أول مرة كما تقدم في النشيد الثالث، ثم لما نالتهم الغلبة نقضوا الميثاق، فلم يكن لهم بعد هذا أن يتطلبوا البراز. على أنه يتضح للمتأمل أن هكطور لم يجنح إلى حسم الخلاف بتلك المبارزة، كما جنح فاريس للمرة الأولى وجل ما دعاهم إليه أن ينفذوا إليه بطلا يبارزه، فيقتله أو يقتل ويبقى الخلاف على حاله، وأوضح ذلك بأجلى بيان بفاتحة كلامه؛ إذ قال: إلى أن تدكوا إلخ فكانت من ثم هذه المبارزة على نوع يختلف عن تلك لا موضع لذكرها بإزائها فتلك عامة تتناول الجيشين، وهذه خاصة منحصرة ببطلين.
(١٨) لم يكن منيلاوس من مغاوير الأبطال قوة، ولكنه لم يكن دونهم رباطة جأش وعلو همة، ولولا ذلك لما جدر بجميع الإغريق أن يتألبوا للأخذ بثأره، فلا بدع إذن أن يكون أول متكلم بل لا يصلح غيره لافتتاح الخطاب.
figure
منيلاوس.
(١٩) إن تشبيه الرجل الجبان بالمرأة لأمر قديم مألوف، حتى لقد يزيد العرب على ذلك فيجعلون الجبن كالبخل محمدة في المرأة مذمة في الرجل، والشجاعة كالكرم مذمة في المرأة محمدة في الرجل. وما أبلغ ما قال الإمام علي في خطبته لما أغار سفيان بن عوف الأسدي على الأنبار، وعليها حسان البكري فقتله وأزال الخيل عن مسارحها، وكان ذلك في خلافة علي فخرج حتى جلس على باب السدة، فخطب في القوم. ومن جملة ما قال: «يا أشباه الرجال ولا رجال، ويا أحلام أطفال وعقول ربات الحجال، وددتُ أن الله أخرجني من بين أظهركم، وقبضني إلى رحمته من بينكم، وإني لم أركم ولم أعرفكم معرفة، والله حرت وهنًا ووريتم والله صدري غيظًا، وجرعتموني الموت أنفاسًا وأفسدتم عليَّ رأيي بالعصيان والخذلان». (ابن الأثير).
ومن قول عبد الرحمن بن دارة الفزاري:
أيا راكبًا أما عرضت فبلغن
مغلغلة عني القبائل من عكلِ
لئن أنتَمُ لم تثأروا بأخيكم
فكونوا نساءً للخلوق وللكحلِ
وبيعوا الردينيات بالحلي واقعدوا
عن الحرب وابتاعوا المغازل بالنبلِ
(٢٠) أي: عساكم أن تبيدوا، أو كقول العرب: أن تصيروا هباءً منثورًا.
figure
(بعض أبطال الإلياذة على ما في آثارهم): أغاممنون، أخيل، نسطور، أوذيس، ذيوميذ، فاريس.
(٢١) اليلامق: التروس، لو برز منيلاوس لهكطور لقُتل لا محالة، ولقد علمنا ما كان من شغف أغاممنون بأخيه عند ما أصابه سهم فنداروس في النشيد الثالث، فلا غرو إذن إذا تصدى له وصده عن البروز لهكطور، ولما كان عالمًا بتفانيه على اقتحام الأحوال ضرب له آخيل مثلا لعله يرعوي ويرضخ؛ لأن جميع الأبطال كانت تعترف له بسبق البأس، فإذا كان آخيل يذل لهكطور فمن الحماقة أن ينبري له منيلاوس، وقد بالغ أغاممنون تلك المبالغة تسكينًا لغيظ أخيه ودفعًا لخشية العار عنه لا لحقيقة يعتقدها.
(٢٢) المقصود بليّ الركب الجلوس لا السجود حمدًا وشكرًا. (راجع ٥).
(٢٣) هذا نسطور الحكيم مفرج الأزمات والناطق بالآيات البينات، يفعل بقوة اللسان ما يعجز عنه السيف والسنان، فستراه يبدل إحجامهم إقدامًا، ورهبتهم رغبة، وليس في القوم خطيب سواه يصلح لكل مواقفه، ولا سيما لهذا الموقف؛ لأنهم جميعًا كهول وفتيان فمن ذا الذي يجسر منهم أن يحرض القوم على النزال، ولا يكون المبادر إليه بنفسه، أما نسطور فيتأفف كالأب الحزين ويتأسف كالمعلم الأمين، وكلهم آذان وقلوب يحذر ويذكر ويطيل العتاب، ويتحسر على زمن الشباب، ويقص قصص صباه، ويعيد ماضي ذكراه، فيبتدئ ولقاء هكطور لديهم أفدح الخطوب، ولا يكاد ينتهي حتى يبيت أمنية النفوس وريحانة القلوب.
وما أشبه موقف نسطور الشيخ الوقور بموقف عمرو بن معدي كرب يوم اليرموك. قال الواقدي: كان قد مر له من العمر مئة وعشرون سنة، فلما نظر إلى قومه وقد انكشفوا صاح في قومه: يا آل زبيد، يا آل زبيد، تفرون من الأعداء وتفزعون من شرب كأس الردى، أترضون لأنفسكم بالعار والمذلة؟! فما هذا الانزعاج من كلاب الأعلاج، أما علمتم أن الله مطلع عليكم وعلى المجاهدين والصابرين، فإذا نظر إليهم وقد لزموا الصبر في مرضاته وثبتوا لقضائه أيدهم بنصره وأيدهم بصبره، فأين تهربون من الجنة؟ أرضيتم بالعار ودخول النار وغضب الجبار؟! قال: فعند ذلك تراجعوا وشدوا على القوم حملة واحدة.
(٢٤) فيلا أبو آخيل، تخيره نسطور مثلا لشاسع شهرته، وتذكيرًا لهم بآبائهم النائين عنهم في أوطانهم.
(٢٥) أي: لتمني الموت؛ لأنه لا بد لكل ميت من أن ينحدر إلى أذيس إله الجحيم كما تقدم.
(٢٦) قلما نرى شيخًا يقول قول حكيم الجاهلية زهير بن أبي سلمى:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولا لا أبا لك يسأمِ
أو قول لبيد:
ولقد سئمت من الحياة وطولها
وسؤال هذا الناس كيف لَبيدُ
بل معظم الشيوخ يقولون قول نسطور:
ألا ليت الشباب يعود يومًا
ولكن نسطور تمنى الشباب للكر والإبلاء، لا للأنس والصفاء، كما قال شاعرنا:
فأخبره بما فعل المشيبُ
(٢٧) السرى: الجداول أو صغار الأنهار، ويردنوس: نهر سمي على رواية إسطرابون باسم البطل يردنوس المدفون على إحدى ضفتيه.
(٢٨) الفطيس: المطرقة.
(٢٩) الاستلآم في الأصل: لبس اللأمة، أي: الدرع، ويطلق توسعًا على لبس السلاح.
(٣٠) جعل الشاعر أول البارزين آغاممنون مراعاة لمقامه، وتلا ذيوميذ أخفهم قدمًا، وأنفذهم حزمًا، ثم الأياسان أبطشهم وأربطهم جأشًا، وجعل خاتمتهم أوذيس أدهاهم والتأني من الدهاء.
(٣١) تلك كانت الوسيلة المثلى لإرضاء الجميع، وحسم النزاع باختيار بطل منهم بالاقتراع.
(٣٢) كلا الأياسين من صناديد الرجال، وحينما ذكر الشاعر أياس مفردًا فالمراد به أياس الأكبر بن تلامون. كان كل من المستقسمين يرسم إشارة على قدحه؛ إذ لم يثبت أنهم كانوا يكتبون لذلك العهد، ولهذا خفي رسم قدح أياس عليهم جميعًا.
من أمثال العرب: كل امرئٍ أَعْرَفُ بوَسْمِ قِدْحِه. وهو يضرب للعارف بقدر نفسه، الواثق بما بين يديه؛ لأنهم كانوا يسمون قِداحهم بعلامات يعرفونها بها على نحو ما رأيت في استقسام اليونان. ولكن العرب في أداني أيام الجاهلية كانوا يقرأون ويكتبون بدليل كتابتهم للمعلقات وغيرها. ولهذا يصح عندنا ما روي عما كانوا يكتبون على قداح الاستخارة، وعلى الأزلام التي كانوا يضربونها في الميسر، أما طريقتهم في إجالة القداح فكانت كطريقة اليونان، يجمعون القداح في خريطة يضعونها في يد رجل عدل، يسمونه المجيل أو الضريب، كما جمعت هنا في خوذة آغاممنون ووضعت في يد نسطور (وقد مر في النشيد الثالث أن الطراود وضعوها في يد هكطور)، فترى من ثم أنه لم يكن يعهد بها إلا لرجل ذي شأن لِتُؤْمَنْ غائلة الانحياز إلى فريق دون آخر، ولهذا قالت العرب: لقمان بن عاد أضرب الناس بالقداح؛ لأنه كان موكلا بها لنقاوة ذيله وأمن جانبه.
أما إجالة القداح في الميسر، أي: المقامرة التي حرمها القرآن، فليس لها من أثر في الإلياذة.
(٣٣) هذا إياس الملقب بحصن الأخاءة يفوه بأول كلام، وهو وإن لم يكن في زمرة الخطباء المفوهين فإيجازه إعجاز، وصدقه بلاغة، وقوله بفعله، وهيبته بهيئته، وسترى بعد أبيات من رسوخ قدمه وهو مقبل باسمًا عابسًا جبارًا قهارًا ما يشهد لك أن الرجال بأفعالها لا بأقوالها، فلا تعجب حينئذ إذا تهللت له قلوب الأولياء، وتخلعت لمرآه أفئدة الأعداء.
(٣٤) رأينا قبيل هذا أن الجيش تمنى بدعائه أن يبرز في استقسامهم قدح أياس، وإلا فقدح ذيوميذ أو أغاممنون، فاستجاب زفس الدعاء الذي اجتمعت عليه الأمة، وهذا دعاءٌ آخر يدعوه الجند وضعه الشاعر هنا تنبيهًا إلى أنه سيستجاب أيضًا.
(٣٥) قال امرؤ القيس:
لها جبهةٌ كسراة المجنّ
حدَّفه الصانع المقتدرْ
وقال الحصين المرّي يذكر دروع قومه وصنَّاعها:
عليهن فتيانٌ كساهم محرقٌ
وكان إذا يكسوا أجاد وأكرما
صفائح بصرى أخلصتها قيونها
ومطردًا من نسج داود مبهما
هيلا بلدة في بيوتيا، خربت قبل زمن إسطرابون، وقال آخرون: بل كانت في قاريا. وتيخيوس صانع جلود قيل: كان في كوما فلما برّح الفقر بهوميروس شخص إلى تلك البلدة، وامتدحها ببضعة أبيات فأنزله تيخيوس في بيته، وأكرم مثواه فخلد هوميروس ذكره شكرًا وامتنانًا. قال اليازجي:
لئن أفادونا بأُكْرُومة
من ملقح يبلى ومن منتجِ
فقد حبوناهم بما ذكره
يبقى بقاء الجبل الأصلجِ
(٣٦) من مفاخر العرب الكفاح باليمين واليسار، ولقد لقب المأمون الحسين بن طاهر بذي اليمينين؛ لأنه ضرب بحسامه رجلا فقدَّه شطرين، وكانت الضربة بيساره، وفي مثل ذلك يقول المعري:
إذا سَئِمَتْ مهندهُ يمينٌ
لطول الحمل بدَّله الشمالا
وله بما يخرَّج على هذا المعنى قوله:
وليس بشاغل اليمنى حسامٌ
وليس بشاغل اليسرى عنانُ
ويظهر من هذا السياق أن اليونان كانوا يتنافسون بخفة الأعضاء في الضرب والطعن وقلة العبء بمواقف الكفاح وثقل السلاح، وهو كثير في كلام العرب. قال عمرو بن كلثوم:
كأن سيوفنا منا ومنهم
مخاريق بأيدي لاعبينا
والمخاريق جدائل يلعب بها الصبيان. وقال قيس بن الخطيم:
أجالدهم يوم الحديقة حاسرًا
كأن يدي بالسيف مخراق لاعبِ
ومثله قول معقر بن حمار:
وحامي كل قوم عن أبيهم
وصارت كالمخاريق السيوفُ
وأما الرقص الحربي فكان كثيرًا في بلاد اليونان بعد زمن هوميروس، والظاهر أنه كان شائعًا في أيامه أيضًا وقبلها أثناء حرب طروادة، قال عقيل بن بلال بن جرير:
يمشي إلى حدِّ السيوف وقد رَأَى
سببُ المنيةِ مشيةَ المختالِ
(٣٧) النآد: الداهية، والمراد بها المنية، وهي في الأصل (Κηρχ) إحدى ربات الجحيم الثلاث، اللائي ينسجن أعمار البشر فيقطعن حبل الحياة عند حلول الأجل يمثلهن الشاعر دائمًا أعلامًا. قال أبو العلاء:
فَـرَمَتْهُ بـهِ عـلى جـانِبِ الكُرْ
سِـيّ أُمُّ الـلُّهَيْمِ أُخْـتُ الـنّآدِ
figure
ربات الجحيم.
(٣٨) أي: إن الجرح لم يكن قتالا، ولم يكن في القضاء أن يقتل يومئذ فنهض سليمًا.
(٣٩) قلنا: إن عادة المبارزة قديمة الشيوع، ولهذا ورد ذكرها مرارًا في الإلياذة، ولقد أعجب ببراز هكطور وأياس كل قرائه من شعراء الرومان والإفرنج، فضمنوها شعرهم ونسبوها إلى أبطالهم، فانتحلها ڤرجيليوس، وتلاه طاسو وڤينيلون وملتُن وڤولتير وغيرهم، وجاء نظيرها في شهنامة الفردوسي، وقد رأينا أن البطلين تبارزا بكل أنواع السلاح من الرمح إلى الحجر، وكان الرجحان فيها كلها لأياس، تلك أثرة من الشاعر لابن ملته.
(٤٠) يلقب الشاعر تلثبيوس وإيذيوس برسولي العلى والبشر إلماعًا لما كان للرسل من الحرمة والرعاية، فمكانتهم دينية ودنيوية معًا، لا يمسهم أحد بسوء، ولهم أمر يكاد يكون مطلقًا يستشارون ويشيرون، وبلسانهم يعقد الصلح وتشهر الحرب، ويراقبون نظام المجامع ويرافقون جيوش المحاربين والأفراد المتبارزين، وعلى الجملة فقد كانت لهم منزلة لا تفضلها منزلة الكهنة والعرافين.
(٤١) لما كان النهار أصلح للقتال، ولا يبلغ آخره إلا والعناء أجهد القوى، جرت العادة بالكفِّ ليلًا، واليونان كجاري عادتهم يقدسون الأوصاف والموصوفات والأخلاق والعادات، ويجسمونهنَّ تجسيمًا، ولهذا جرت عادتهم أن يقولوا بوجوب الانقياد والطاعة لأمر الليل والظلام، كأنهما شخصان ناطقان.
(٤٢) لقد غلبت أثرة الجنس على الشاعر في تنسيق هذه المبارزة، وحفظ معها شأن المتبارزين فجعل ظاهر الفوز لأياس، مع أن هكطور كان الداعي إلى البراز وأول من صوَّب الطعان، ولما توسط الفيجان وأسبلا الصولجان جعل المتكلم منهما فيج الطرواد إظهارًا لميلان الكفة إلى الإغريقي، وتخفيفًا من وطأة الغلبة على الطروادي، ولما انفصلا إذعانًا للأمر تكلم الإغريقي بما يشف عن علو همة وقلة اكتراث، وأجاب الطروادي جواب البطل المقدام لا تذللـه العثرات، ولا يغض بقوله من قدر خصمه؛ إذ كلما علا شأن عدوك علا شأنك بصدامه، ولم يقر له بالسبق؛ إذ فضله على الإغريق دون الطرواد، ولم يرض بالفراق إلا على موعد تلاق وأعلن أن مغادرته ساحة القتال إنما كانت اضطرارًا دينيًّا لا مفر منه ولا مناص، وتبادُل السلاح في آخر المشهد يتم رونقه، ويزيد هيبته، وينبئ بما تنطوي عليه تلك الأفئدة الصلبة من رقة الشعور، وإباء النفس، والإعجاب ببسالة البطل المغوار، وإن كانت في العدو القهار.
(٤٣) كانت تلك المقايضة وبالا على كليهما، فأياس انتحر (بعد الإلياذة) بسيف هكطور، وهكطور شُدَّ (في الإلياذة) بحزام أياس إلى مركبة آخيل.
(٤٤) المراد بسيدهم: أغاممنون.
(٤٥) السَّدِيس: الثور ابن خمس سنين.
(٤٦) المطا: الظهر، إيلام الولائم للأبطال يتناول كل جيل من البدو والحضر، وما تلك إلا وسيلة لإعلاء شأن ذي الشأن، وإشعاره بما تكنه له الضمائر من التكرمة والإعجاب، وهي مكافأة معنوية جليلة الرموز توازي الكنوز، وإلا فما قرة العيون بإملاء البطون، أقول هذا ردًّا على معترض يعجب أن يكافأ بطل أعلى شأن أمته بقطعة من اللحم لا تغنيه من شيءٍ، أما الحكمة في إفراز صلب الظهر للنزيل الجليل، فالأظهر أنها منبعثة عن الاعتقاد بأنه مقر القوة والبأس، ومن غريب توارد الخواطر الفطرية أن عرب البادية لا يزالون يألفون حتى يومنا تلك العادة، على أنهم بدلا من الظهر يدفعون إلى الضيف صدر الذبيحة أو كتفها.
(٤٧) يسأل نسطور أغاممنون أن يهادن العدو، ولا يزيد على قوله له أن يكف القتال؛ لأن الإغريق هم المهاجمون فإذا كفوا عن العدو كف العدو عنهم.
(٤٨) لا ريب أن هذه العجال التي تجرها البغال والثيران هي غير تلك التي تجري بها الأبطال في ساحة النزال، ولعلها من نوع عجال الأثقال المذكورة في رحلة ابن بطوطة، ولا تزال مستعملة في كثير من البلاد.
(٤٩) لا سبيل إلى البحث في منشأ عادة الدفن؛ إذ كادت تنشأ مع نشوء الإنسان، وربما كان المراد بها أولا مواراة الأشلاء عن الضواري والكواسر، أما إحراق الجثث فتُشْكِل على الباحث معرفةُ الأصل الذي أخذها عنه اليونان والرومان من بعدهم؛ إذ إن المصريين والفينيقيين والعرب وأمثالهم ممن خالط اليونان كانوا يدفنون ولا يحرقون، ولعلها بقية من عادات قبائل البلاسجة الذين قدمت طائفةٌ منهم بلاد اليونان بعد أن برحتْ الهند منذ عهد عهيد، ولا عبرة بما قيل، إنهم كانوا يفعلون ذلك خشية من وقوعها بيد عدو ينتهك حرمتها.
أما الضريح الذي أشار نسطور بإقامته، فهو أول ضريح عام ورد ذكره في التاريخ، وإن كانت الآثار قد أثبتت وجود المدافن العامة منذ آلاف السنين، على أن الظاهر أن ذلك الضريح لم يكن إلا نصبًا يقام تذكارًا لا مدفنًا بدليل قول نسطور: إنهم يجمعون العظام ويحملونها عند عودتهم إلى أوطانهم ذكرًا لأبنائهم، ولا بد من القول أيضًا: إن إحراق الموتى لم يكن السبيل الوحيد لمواراتهم الموتى، بل ربما دفنوا الميت جسمًا تامًّا كما دُفن أياس وأغاممنون بعد حين.
(٥٠) تذرع نسطور بدفن الموتى إلى بناء السور، وهي ذريعة كلها حكمة ودهاء؛ إذ تخفى الغاية عن الأعداء فلا يفاجئونهم أثناء العمل خصوصًا، وهم كالإغريق حريصون على دفن رفات قتلاهم، فكأنما هي فريضة دينية دنيوية تتوق إلى قضائها كلٌّ نفس ويلهو بالاشتغال بها كل فريق. إن إشارة نسطور ببناء السور وحفر الخندق بتلك الشدة لأشبه شيء بإشارة سلمان الفارسي بعد غزوة أُحُد؛ إذ أشار على النبي بحفر الخندق حول المدينة، وقال له: في بلادنا يفعلون كذا. فكان أول خندق حُفر في الإسلام.
(٥١) حيثما انفرد الطرواد والإغريق في منتدياتهم رأيت الإغريق في سكون وانتظام، حتى أبان الشقاق والخصام، ورأيت الطرواد في هرج ومرج حتى في ساعة الفرج، كأن هوميروس أراد أن لا يفوت سامع شعره فضل قومه على أعدائهم، ولقد تقدم في أول النشيد الثالث ما كان من هيئة الجيشين يزحفان للقتال. ولنا هنا مثال آخر في حالة السلم، ثم لا يفوتنك الفرق بين خطاب نسطور، وكله حكمة وحزم، وخطاب أنطينور حكيم الطرواد وكله مع حكمته شؤمٌ وقنوط.
(٥٢) الغفر: الشعر الناعم. وهنا مثال آخر للفرق بين إجلال الإغريق لحكمائهم وتمرد الطرواد.
(٥٣) أهلي الثانية، أي: زوجي.
(٥٤) يسألهم، أي: يسأل الإغريق.
(٥٥) إن من موبقات الطبيعة تعامي الآباء عن هفوات الأبناء، واستسلامهم إلى مطالبهم؛ ولهذا انقاد فريام بضعف الأبوَّة إلى إجابة مطلب ابنه، فجنى على نفسه ودولته ورعيته، وأخذ على عاتقه تبعة تهوُّر فاريس، كما تَلَبَّس مرَّة بجريرة ابنه جساس قبل حرب البسوس. قال ابن الأثير:

«ولما قتل جساسُ كليبًا انصرف على فرسه يركضه، وقد بدت ركبتاه فلما نظر أبوه مرة إلى ذلك قال: لقد أتاكم جساس بداهية ما رأيته قط بادي الركبتين إلى اليوم، فلما وقف على أبيه قال: ما لك يا جساس؟ قال: طعنتُ طعنةً يجتمع بنو وائل غدًا لها رقصًا. قال: ومن طعنت لأمك الثكل؟ قال: قتلتُ كليبًا. قال: أفعلت؟! قال: نعم. قال: بئس والله ما جئت به قومَك. فقال جساس:

تأهب عنك أُهبة ذي امتناعٍ
فإن الأمر جلَّ عن التلاحي
فإني قد جنيتُ عليك حربًا
تغصّ الشيخ بالماء القراحِ

فلما سمع أبوه قوله خاف خذلان قومه لما كان من لائمته إياه، فقال يجيبه:

فإن تك قد جنيتَ عليَّ حربًا
تغصُّ الشيخ الماء القراحِ
جمعتُ بها يديك على كُليبٍ
فلا وكلٌ ولا رث السلاحِ
سألبس ثوبها وأذود عني
بها عار المذلة والفضاحِ

ثم إن مرة دعا قومه إلى نصرته فأجابوه».

أما صمت هكطور في هذا المجلس ففيه حكمة كبيرة؛ إذ هو أخو فاريس فلا يسعه إلا أن ينصره ظالمًا أو مظلومًا، كما نصر همَّام جساسًا أخاه، وهو سيد القوم، فلا يسعه أن يجرهم إلى الوبال فلجأ إلى الصمت، وتوارى تحت ذيل أبيه، ثم إن الشاعر أنطق فريام بطلب الهدنة مع أنها أمنية نسطور وقومه، وهو حسن تصرف كفى به جماعة الإغريق مئونة ذلك الطلب، بل أنالهم فضل المنة على العدو بإجابة ملتمسه.
(٥٦) لم يكن في خطباء القوم أجدر من ذيوميذ بهذا الجواب، فصمت أغاممنون من قبيل صمت هكطور، وصمت الباقون مراعاة له ولأخيه منيلاوس لدوران الحديث على هيلانة، وأما ذيوميذ فهو الشهم الغيور والفتى الفخور يقتحم الأهوال ولا يبالي، وهو فضلا عن ذلك عدو الزهرة وأشياعها.
(٥٧) كانوا يعتقدون أن نفوس الموتى تسخط على الأحياء، إذا لم يبادروا إلى دفن جثثها.
(٥٨) رفع العصا إشارة إلى الشهادة والإشهاد، كرفع السبابة في الإسلام.
(٥٩) عجل: جمع عجلة.
(٦٠) الأرتجة: الأبواب.
(٦١) أي: لبناء السور وأبوابه ووشيعه وحفر خندقه بيوم واحد.
(٦٢) كان فوسيذ مبغضًا للإغريق، فلا عجب إذا سخط لزيادة منعتهم واستفزَّ زفس للسخط عليهم، وأسخطه أيضًا أنه إله البحار، والسور أقيم في وجهه. ثم هاج حسد أفلون زميله بتنبيهه إلى المقابلة بين هذا السور والسور الذي شاداه في مصر، واستنزل غضب زفس باستلفات نظره إلى إغفال القوم تأدية فروض العبادة، فوعده زفس خيرًا وعهد إليه بدك السور ومحو آثاره بعد جلاء الإغريق، والمغزى أن ذلك المعقل لم يكن ليقف في وجه الأمواج المتدفقة من اليم والحرارة المنبعثة من الشمس، هذا إذا ثبت أن اعتراض فوسيذ وجواب زفس غير دخيلين في الإلياذة، فإن أريسطوفانس وأريسطرخوس وغيرهما حذفوا من هذا النشيد حديث الآلهة برمته، وأما أرسطاطاليس فأثبته وقال: إن هوميروس إنما أتى به عن حكمة غراء؛ لأنه لما كان مضطرًّا إلى تهيئة هذا المعقل تنميقًا لشعره وتنويعًا لوقائعه هيأهُ على تلك الصفة، ثم إنه خشية من انتقاد العقب لخلو الأرض من كل أثر له أدار هذا الحديث بين الآلهة فمحقه محقًّا، فإذا صح هذا القول فهو من غريب تصوراته وعجيب تفننه.
(٦٣) قولنا: «ألف عين» يراد به ألف وزنة أو مكيال عينًا، وهي في الأصل «ألف متر من الخمر الصرف» وكلمة متر (Μετρον) باليونانية يراد بها قاعدة الأوزان والمكاييل على الإطلاق، وهذا دليلٌ آخر على أن النقود لم تعرف في ذلك الزمن، بل كانوا يتبادلون عينًا بعين صفرًا وحديدًا وجلودًا وعجولا، والسبايا من جملة السلع، ولم يشع استعمال النقود إلا بعد أن مضت عدة قرون على حرب طروادة بل على منظومة هوميروس، ولسنا نعلم زمن الشروع في التعامل بها ببلاد العرب، ولكننا نعلم أنهم تداولوها في الجاهلية. قال عنترة:
ولقد شربت مع الندامى بعد ما
ركد الهواجر بالمشوف المعلَمِ
أي: بالدينار، وهم كانوا يتداولون حينئذ نقود الفرس والرومان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤