مقدمة

انصرفت عقولُ الكُتَّاب والمفكرين في هذه الأيام وفي جميع البلاد إلى الاشتغال بالمسائل السياسية والمشاكل الاجتماعية التي أوجدَتْها الحرب الأخيرة، وانصرفت الأقلام وراء العقول تُحاول إنارة السبيل لقادة الشعوب علَّهم يستطيعون إقالةَ هذا العالم من عَثْرته.

ولقد كان من جرَّاء ذلك أن أُهمل الأدبُ إهمالًا نزل به إلى مرتبة دون التي كان يشغلها في نفوس القُرَّاء والمؤلفين، فانحط التأليف الأدبيُّ انحطاطًا قد يستمرُّ ما استمرت حالةُ العالم على ما هي عليه.

ولم يكن تأثير هذه الأزمة الأدبية في مصر بأقل منه في غيرها؛ إذ انصرف معظم الأدباء عن فنهم — وعلى الأخصِّ في السنة الأخيرة — إلى الاشتغال بقضيتنا السياسية الكبرى، فانقطع ظُهور الكتب الأدبية أو كاد، وأوْشَكت مسارح التمثيل أن تغلق أبوابها لقلَّة ما يُقدم إليها من الروايات، ورأت صُحف الأدب ألَّا بقاء لها إلَّا إذا ولت وجهها شطر السياسة، فوقَفتْ جلَّ أعمدتها على شرح وتأويل ما يحمله إلينا البرق من الأخبار، وبذلك وقفت نهضتنا الأدبية منتظرةً أن تمر العاصفة وتصفو السماء فتستأنف سيرها ويعود إليها عزُّها ونشاطها، بيْد أن العناية الساهرة على الفنون قد أَبَتْ أن تذبُل شجرة الأدب في مصر ولما تيْنَع أزهارها، فلم تدع السِّياسة تستأثر بأقلام جميع الكتاب، بل أبقت للأدب أئمته وأنصاره، فلم يُؤْيسهم شغف الجمهور بسياسة العالم وانصرافُه عن كل ما عداها، وظلوا رافعين لواء فنهم في وسط الزوابع والأعاصير عالمين أن الأدب أفيد غذاءٍ لروح الأمة وعقلها، وأكبر مهذبٍ لإحساسها وشعورها.

في طليعة هذا النفر من أئمة الفن وخدامه لا أتردد في ذكر اسم السيد «مصطفى لطفي المنفلوطي» الذي لم يبخل على قرائه العديدين بأويقات فراغه، فوقفها على الكتابة والتأليف، ولم تَحُل أعمال وظيفته الحكومية بينه وبين أن يخرج للناس بضعةَ مؤلفاتٍ قيمة، آخرها هذه الرواية الشيِّقة الممتعة «في سبيل التاج» التي نُقَدم اليوم طبعتها الرابعة إلى جمهور القارئين.

•••

فرانسوا كوبيه مؤلف «في سبيل التاج» شاعرٌ عرك صروف الزمان، وجس بأصبعه مصائب الإنسان، فلم تزد قلبه مناظر البؤس والفاقة إلا لينًا وحنانًا، حتى إن القارئ لا يرى في شعره إلا عبرةً حارة أرسلتها عيناه إشفاقًا وحُنُوًّا على الذين تخطتهم السعادة وغضبت عليهم الحياة، حتى لقبه عارفوه بحق «مُعزِّي المنكودين والبائسين، وشاعر الضعفاء والمحزونين.»

ولد كوبيه سنة ١٨٤٢، ولم تمكنه بنيته السقيمة من تتميم دراسته، فانقطع عن تلقي الدُّروس في معاهد العلم، وانصرف إلى قراءة الكُتب والاطلاع على أوضاع الأقدمين، وكان يشعر بميلٍ شديدٍ غريزيٍ إلى الشِّعر، فنظم منه بضع قصائد لم تصادف إعجابًا من الذين أسمعهم إياها، فرأى أن النار أحقُّ بها من المطبعة، فأحرقها، وطلق الشعر وهجر الأدب، وسعى حتى حصل على وظيفةٍ في الحكومة استولَى عليها ظنًّا أنه لم يُخلق لصناعة القلم، وأنَّ رغبته في الشعر ما هي إلا نزعة مفتونٍ تصبو نفسه إلى ما لا قبل له به ولا طاقة له عليه.

بيْد أن الفطرة ما لبثت حتى غلبت اليأس في نفس الشاب، فعاد إلى القصائد ينظم منها اليوم ما يمزقه في الغد، حتى وُفق لكتابة «صندوق البقايا المقدَّسة» Le Reli Puaire، ونشره بين الناس، فصادف رواجًا وإقبالًا شجَّعاه على الاستمرار والمثابرة، وزاد تشجيعًا أن صارت بعض منظوماته تُتلى على المسارح وفي الحفلات. وما زالت شُهْرته تنمو حتى اهتمَّت بشأنه إحدى الممثلات الشهيرات (مدام أجار)، ورأت فيه قابليةً للتأليف التمثيلي، فنصحت إليه بكتابة شيءٍ للمسرح، فعمِل بنصيحتها وكتب «عابر السبيل» Le Passant، وهي روايةٌ ذات فصلٍ واحدٍ، ما كادت تظهر حتى تخاطفتها المسارح ومثَّلتها «سارا برنار»، فطار صيت المؤلف الشاب وذاعت شهرته، وأقبل عليه مديرو المسارح يلتمسون منه المزيد.
ومن سنة ١٨٦٨ نشر كُتبًا شعريةً متتابعةً أهمها «المودات» Intimitês و«اعتصاب الحدادين»، و«المتواضعون»، وبعض قصصٍ نثريةٍ، منها: «المجرم» Toueune، و«شبوبيه» Jeunesse، وكثيرٌ من الروايات التمثيلية، نخصُّ بالذكر منها: «عواد كريمون» Le Luthier de Grêmone، و«مدام ده مانتنون»، و«سيفير ونوريلي»، و«في سبيل التاج».

وفي عام ١٨٨٤ انتخب عضوًا بمجمع علماء فرنسا، ثم انكبَّ على السياسة وسار فيها شوطًا بعيدًا كاد يُنسيه الشعر والأدب، وتوفي سنة ١٩٠٨ وهو رئيسٌ فخريٌّ لجمعية الوطن الفرنساوية.

هذا مُلَخَّص حياة ذلك النابغة الذي امتاز على أقرانه بأنه لم يقلد أحدًا من الأوائل ولا من المعاصرين — والتقليد لا يكاد ينجو منه شاعرٌ من الشعراء — وبأن معظم المواضيع التي طرقها كانت إلى عهده جديدةً لم يتقدَّم إليها قبله أحد من المؤلفين، ولقد قال عنه أناتول فرانس ما معناه:

إن نفثات قلم هذا الشاعر قد أثرت في جميع القلوب وتمكنت منها؛ لأن أساسها الطبيعة، وأحسن ما يبرع في الكتابة عنه ويصل فيه إلى أعلى طبقات البلاغة ما كان له مساسٌ بالمشاعر والأخلاق الاعتيادية والحقائق الواقعة. وهذا النوع من الكتابة لا يتيسر إلَّا لأصحاب الأذواق السليمة والذكاء المتوقِّد الخارق، وهو يحتاج إلى مهارةٍ فائقة وبراعة زائدة، فإن أقل خطأ فيه لا يلبث أن يبدو للعيان مجسمًا، وإن في استطاعة كل إنسانٍ مهما كانت منزلته من العلم أن يفهم هذا الشاعر ويتأثر بأغراضه ومراميه، ولكن لا يستطيع أن يسبر كنهه ويتذوَّق طعم أدبه إلَّا من رُزق حظًّا وافرًا من العلم والذَّوق السليم، وبالجملة فقرَّاء هذا الشاعر كثيرون جدًّا، ومن جميع الطبقات، ولكن قُرَّاءه الحقيقيين قليلون.

أما رواية «في سبيل التاج» التي نحن بصددها فمأساةٌ شعرية تمثيليةٌ وضعها المؤلف في سنة ١٨٩٥، وأراد أن يجاري بها عميدي الشعر التمثيلي في القرن السابع عشر: كورني وراسين، وهي روايةٌ أخلاقيةٌ بطلها فتًى تعارضت في نفسه عاطفتان قويتان: حبُّ الأسرة، وحبُّ الوطن، فضحى بالأولى فداءً للثانية، ثم ضحى بحياته فداءً لشرف الأسرة. ولقد تجلت في هذه المأساة عبقرية الشَّاعر ومواهبه الكبيرة، فالأسلوب سهلٌ ممتنعٌ، والأفكار متسلسلةٌ متماسكة، والوقائع جليةٌ واضحةٌ، وأخلاق أشخاص الرواية تفسرها أقوالهم وحركاتهم، فلا غموض فيها ولا إبهام.

ولقد ذهب النقاد في تقدير هذه المأساة مذاهب شتى، حتى قال بعضهم: إنها خير ما أخرج للناس من عهد راسين إلى يوم ظهورها.

قال الأستاذ «إيميل فاجيه» العضو بالمجمع العلمي الفرنساوي عن هذه الرواية في الجزء الثالث من كتابه «آراءٌ في التمثيل» ما معناه:

إذا نظرنا إلى ما في الفصول الثلاثة الأولى من القوة والمتانة والوضوح مع البيان والبلاغة وحسن التصوير، أمكننا أن نحكم بأن هذه الرواية ستمثَّل إلى ما شاء الله بدون أن يملها الجمهور أو يشعر بسأمٍ من سماعها، وأن «فرانسوا كوبيه» بكتابته للفصل الثالث منها على الأخص قد ضمن لذكراه الخلد في ذاكرة الأجيال المقبلة، وهو الفصل المعنون في التعريب بعُنوان «الجريمة».

وقال الأستاذ «جول لومتر» العضو بالمجمع العلمي الفرنساوي في الجزء التاسع من كتابه «خواطرُ في التمثيل» — بعد أن أطنب في وصف شاعريَّة كوبيه وفي تقدير مواهبه: إن رواية «في سبيل التاج» لهي من صنع فتًى قديرٍ وشاعرٍ عظيمٍ، ورجلٍ ذي ضمير حيٍّ وقلبٍ كبير، وإذا كان فيها بعض النقص فهذا النقص لم يخل منه كورني ولا فيكتور هوجر ولا غيرهما من كبار الفنيين.

وقال في موضعٍ آخر من نفس الكتاب: إن المُشاهِد لتمثيل رواية «في سبيل التاج» ليشعر منذ الهنيهة الأولى براحةٍ واطمئنان، ثم لا يلبث حتى يتأكد أنه سيشاهد عملًا متقنًا وفنًّا نظيفًا، ولقد يكونُ أحسن ما في هذه القطعة تنسيق الأفكار، وتحليل العواطف، وترتيب الحوادث، وتصوير النُّفوس والأشخاص.

هذا رأي كبيرين من زُعماء الحركة الأدبية في فرنسا، نورده هنا ليعلم القرَّاء منزلة هذه الرواية من نفوس الأدباء في الغرب ومبلغ تقديرهم لمؤلفها.

ولقد تناول السيد مصطفى لطفي المنفلوطي هذه المأساة، ونقل موضوعها إلى اللغة العربية في قالبٍ روائيٍّ جميلٍ بعد أن أضاف إليها أشياء وحذف منها أخرى، وأخرجها لقرائه قصةً يستهوي أسلوبها القلوب، وتسترعي وقائعها الألباب، بقلمٍ عذبٍ، وعبارةٍ رقيقةٍ، وديباجةٍ بديعة لا نطيل الكلام في وصفها؛ لأن قراء العربية جميعًا يعرفونها لهذا الكاتب العظيم، ويعترفون له بها، ولم يفُته أن ينقُل إلى العربية قطعًا كاملةً من الرواية يستطيع القارئ أن يتبيَّن منها قوة المؤلف، ومع أن الرواية ملخصةٌ تلخيصًا، فقد استطاع الكاتب بمهارةٍ فائقةٍ أن يصور الروح الأصيلة للمؤلف تصويرًا مؤثرًا، وأن يملك من نفوس قرَّاء العربية ما ملكه فرانسوا كوبيه من نفوس قرَّاء الفرنسيَّة.

ولا يفوتنا هنا أن نقول: إن الكاتب قد اشتغل بتلخيص هذه الرواية في إبَّان الحركة الوطنية الأخيرة، ولقد أوحت إليه الحوادث السياسية التي لا تزال ماثلةً في الأذهان صفحاتٍ تفيض وطنيةً وغيرةً، حتى لكأنه قد أفضى إلى أُمَّته في هذا الكتاب بكثيرٍ مما لا يستطيع كتابته في الصحف السياسية، والحق أقول: إننا كثيرًا ما كنا نعتب عليه في سكوته عن الاشتراك بقلمه مع العاملين في هذه الحركة حتى قرأْنا هذه الرواية، فإذا روحه الوطنية الشريفة تَسيل فوق صفحاتها سيلًا، وإذا الرواية رواية الحركةِ الحاضرة بجميع ظروفها ومتعلِّقاتها.

وبالجملة فروايةُ «في سبيل التاج» كتاب الوطنية الخالدة في ثوب قصةٍ خيالية تملك لب القارئ بجمالها، وتتولى تهذيب نفسه بآدابها وفضائلها، وما أحوجنا أن تجريَ الأقلام الأدبية في هذا العصر بمثل ما جَرَى به قلم السيد المنفلوطي في هذه المأساة المؤثرة؛ ليتلقَّى النشءُ الحديث دروس وطنيته من طريق العواطف والوجدان، وقلمَّا تصل الوطنية إلى أعماق القلوب وتتغلغل في شغافها إلَّا من هذا الطريق.

حسن الشريف
أول يونيو سنة ١٩٢٠

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤