مقدمة المؤلف

لا يزال التاريخ يحفظ في صفحاته حتى اليوم تلك الوقائع الحربية الهائلة التي وقعت في القرن الرابع عشر بين الدولة العثمانية والشعوب البلقانيَّة أيام أغارت الأولى على الثانية تريد افتتاحها والاستيلاء عليها، فدافعت الثانية عن نفسها دفاعًا مجيدًا استمر زمنًا طويلًا حتى غُلبت على أمرها فسقطت في يد القوَّة القاهرة، ودخل الترك أرض البلقان وحوَّلوا كنائسها إلى مساجد، وفرضوا على أهلها الإتاوات الثقيلة، وعزلوا ملكها الذي كان يُحاربهم ويناوئهم، وملكوا عليها ملكًا من أهلها اسمه «ميلوش»، فلبثت في حُكم الأتراك عَهْدًا طويلًا عانت فيه من ضُروب الذل والهوان ما يعانيه كل شعبٍ مغلوبٍ على أمره، حتى قيض الله لها رجلًا من رجال الدين المخلصين اسمه الأسقف «أتين» عزَّ عليه ضياع بلاده وسقُوطها في يد أعدائها، وأن تتحوَّل فيها الكنائس إلى مساجد، وتجأر في أرجائها أصوات المؤذنين بدلًا من أصوات النواقيس، وألَّا يجد المسيحيون في عقر ديارهم مكانًا يؤدون فيه فروض صلواتهم غير الصَّحارى والفلوات، فأخذ يتنقل في أرجاء البلاد، ويمشي بين شُعوبها وقبائلها يدعو باسم الدين مرةً والوطنية أخرى، ويستنهض همم الرجال للدفاع عن وطنهم وتحرير بلادهم من يد ذلك القاهر المغتصب، حتى جمع كلمة الأمة كلها من حوله على اختلاف عناصرها ومذاهبها، وكذلك تتفق كلمة الأمة أمام الخطر الداهم والقضاء الشامل.

ثم أشار على ملكه أن يخلع طاعة الترك، ويطرد رعاياهم من بلاده، ويمتنع عن دفع الجزية والإتاوة، وينادي بحرية البلقان واستقلاله، فجبُن الملك عن ذلك في أوَّل الأمر، ثم أسلس له وأذعن لرأيه، ففعل ما أشار به عليه، فأحقد ذلك الترك وآسفهم، واستثار حقدهم وضغينتهم، فوجَّهوا إلى البلاد البلقانية جيشًا عظيمًا وافر العدة والعدد بقيادة أحد أبطالهم العظام أرطغرل باشا، فثار البلقانيون جميعًا رجالًا ونساءً للدفاع عن أنفسهم والذود عن وطنهم، واختاروا لقيادة جيشهم القائد البلغاري العظيم الأمير ميشيل برانكومير، فظل يحارب الأتراك عدَّة أعوامٍ يُدال له عليهم فيها ويُدال لهم عليه، ولكنهم لا يستطيعون اجتياز حُدود بلاده واقتحام جبالها، حتى عيَّ القائدُ التركيُّ بأمره، ورأى ألَّا حيلة له فيه إلا من طريق الدسيسة والكيد، وكذلك فعل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤