الدسيسة

بينما كان قسطنطين جالسًا صبيحة يومٍ في غُرفته إذ دخل عليه حارس بابه يستأذنه لبازيليد أرملة أبيه، فانقبض صدره واشمأزَّت نفسه؛ لأنه لم يكن رآها ولا أذن لها بمقابلته مذ مات أبوه حتى اليوم، فأذن لها بعد لَأْيٍ، فدخلت عليه وحيَّته وجلست بجانبه، وأنشأت تُعاتبه في انقباضه عنها ووحشته منها، وسوء رأيه فيها، وتُقسم له بحرمة ذلك الدفين الكريم الذي كان يحبه ويحبها أنها لا تضمر له في نفسها موجدةً ولا حقدًا، ولا تحمل له بين جنبيها غير الحب الخالص والود المتين، ثم قالت له: إنني برغم آلامي وأحزاني التي أعالجها مُذ نزلت بي تلك النازلة العظمى حتى اليوم، لم أر بدًّا من أن آتي إليك في هذه الساعة الشديدة عليك، راجيةً أن أعينك عليها وأهون عليك أمرها، وربما وجدت السبيل إلى خلاصك منها، فالتفت إليها دهشًا، وقال: أي ساعة تريدين؟ وما هي الشدة التي أنا فيها؟

قالت: كأنك لا تعلم أن الخطر الذي يحيط بك عظيم جدًّا لا قِبَل لك باحتماله، وأن جنودك قد أصبحوا ينقمون عليك نقمةً عظمى، ويبغضونك بغضًا لا حدَّ له، ولا تحدثهم نفوسهم بشيء سوى تلمس الطريق إلى الوصول إليك ليقتلوك. فاصفر وجهه وقال: وماذا ينقمون مني؟ قالت: ينقمون منك مخاطرتك بهم في تلك المعارك الهائلة التي تكاد تُفنيهم وتقضي عليه، وفشلك في جميع الوقائع التي قُمت بها مذ وليت قيادة الجيش حتى اليوم، وقد امتد بهم الحقد عليك إلى سوء الظن بك، فأصبحوا يعتقدون أنك خائنٌ ممالئٌ للعدو، وأنك ما سَلَكت هذه الخطة المعوجَّة في حُروبك إلا لتُمكِّن الأعداء من اجتياز الحدود، واقتحام البلاد. فانتفض انتفاضةً شديدة، واربدَّ وجهه، ونزت في رأسه سورة الغضب وقال: من ذا الذي يتهمني بالخيانة؟ قالت: جنودك ورجالك.

قال: إنهم كاذبون فيما يقولون — ما في ذلك ريبٌ — إن كنتِ صادقةً فيما تقولين، قالت: ما كذبت عليك قبل اليوم ولا غَشَشْتُك في النصيحة، ولقد زادهم حقدًا عليك وموجدة أن العدو قد اجتاز الجبال ليلة أمس، وربما لا يمر يومان أو ثلاثة حتى يكون قد وصل إلى أبواب العاصمة، وسيصل بريدك الساعة فينقل إليك هذا الخبر المحزن الأليم. فصرخ صرخةً عظيمةً دوت بها أرجاء الغرفة، ووثب من مكانة ثائرًا وهو يقول: آه يا وطني العزيز! وابتدرَ الباب يريد الخروج منه، فأمسكت بيده واجتذبته إليها وقالت له: مهلًا، أين تريد؟ قال: أدعو جنودي وأجمعُ من تفرَّق منهم في الثكنات والقلاع وأذهب بهم إلى الحدود للدفاع عن القلعة الكبرى؛ فالوطن في خطرٍ عظيم، قالت: لا تفعل؛ فقد خرج الأمر من يدك، واعلم أن جميع جنودك المقيمين في ثكنات المدينة وأرباضها قد أصبحوا متمردين عليك لا يطيعونك ولا يأتمرون بأمرك! فلم يحفل بكلامها وأسرع إلى النافذة وأشرف منها على السَّاحة العامة وظل يصيح: أيها الجنود، النَّفير النَّفير، الأُهبة الأُهبة. فما سمع الجند صوته ورأَوا وجهه حتى هاجوا واضطربوا، وأخذوا يصيحون داخل القصر وخارجه: ليَسقط الخائن! ليسقط المجرم! فظل يشير إليهم بيده يحاول إسكاتهم واسترعاء أسماعهم وهم مستمرون في ضَجيجهم وصيَاحهم لا يهدءُون ولا يفترُون، فعاد إلى مكانه يائسًا متضعضعًا ليس وراء ما به من الهم غايةٌ.

فدنت بازيليد منه وقالت له: قد علمتَ الآن أنني لم أكذبك القول ولم أخدعك، وأنني لم أقدم إليك مقدمي هذا في هذه السَّاعة العصيبة إلا لتخليصك وإنقاذك، وإنقاذ الوطن وأبنائه. فرفع نظره إليها مدهوشًا وقال: أنتِ؟ قالت: نعم أنا، في الوقت الذي لا أجد فيه بجانبك من يأخذ بيدك، أو يعينك على أمرك؛ فأصغِ لما أقول: إن الملك سيزور قصرك الساعة ليستنجد بك على دَفْع هذا الخطر الداهم، وإن شئت فقل: ليستعين بك على الاحتفاظ بتاجه الذي يضن به ضنه، ولا يحفل بشيء سواه، وقد علم الجند ساعة حضوره، فهم ينتظرونه في هذه الساحة، حتى إذا طلع عليهم في موكبه هُرعُوا إليه ضاجين صارخين يتقدَّمهم جرحاهم وزَمْنَاهم، ورموك بين يديه بتلك التهمة العظيمة التي يُردِّدونها الآن، ويصيحون بها في كل مكان، فإما أن يُصدقهم، فقد هلكت هلاكًا لا نجاة لك من بعده، أو يرتاب بهم فلا يرى له بُدًّا من أن يسلك سبيل الحكمة في مُداراتهم ومدافعتهم، فيأمر بعزلك عن القيادة والعهد بها إلى غيرك إرضاءً لهم، وتسكينًا لثائرهم، فإن فعل فقد انتشرت لك في الأمة قالة سوءٍ لا تستطيع أن تمحو عارها عنك أبدَ الدَّهر.

فظل يرتعد ويضطربُ ويُردِّد بينه وبين نفسه: رب ماذا أصنعُ؛ فالخطب أعظم مما أحتمل؟! فاقتربت منه ووضعت يدها على كتفه وحنَّت عليه حُنُوَّ الأم على رضيعها، وقالت له بتلك النغمة العذبة الجميلة التي قتلت بها أباه من قبل: نعم يا بُنَيَّ، إن الخَطْب أعظم مما تحتمل، ولم يبق بين يديك إلا أن تسلُك تلك الطريق التي شرع أبوك في سلوكها قبل موته ثم عجز عن الاستمرار فيها إلى نهايتها، فخسرها وخسر حياته على أثرها. فنظر إليها دهشًا وقال: ماذا تريدين؟ فصمتت لحظةً ثم استنجدت قُوَّتها وشجاعتها وقالت له: أتدري يا قسطنطين لِمَ ذهب أبوك إلى شِعْب «تراجان» وجلس تحت القوس الروماني في الليلة التي مات فيها؟ فرجعت إلى ذهنه تلك الذكرى المؤلمة وقد بدأ يفهم ما ترمي إليه في حديثها، فراعه الأمر وهاله، إلَّا أنه تماسك وتجلَّد، وظل ناظرًا إليها نظراتٍ جامدةً ساكنة أشبه بنظرات الموتى في النَّزع الأخير.

فاستمرَّت في حديثها تقول: إنه ذهب إلى ذلك المكان ليستقبل الجيش التركيَّ عند قُدومه، ويأذن له باجتياز الحدود والوصول إلى فيدين، ولو فعل لنجَّى الوطن من خطرٍ عظيم، ولأطفأ نار هذه الحرب التي تلتهم البلاد التهامًا يكاد يقضي عليها، ولكان اليوم ملكًا جالسًا على عرش البلقان لا تمثالًا أجوف منتصبًا في الميدان، ولكنه عجز في السَّاعة الأخيرة عن الاحتفاظ بقُوَّته وعزيمته، فما رأى سواد الجيش التركي مُقْبلًا نحوه حتى نَسي عهوده ومواثيقه، وابتدرَ الرَّابية الأولى فأشعل نارها وأيقظَ الجيش من رَقْدته واستثاره للأُهبة والدفاع، وما كفاه ذلك حتى جرَّد سيفه للقتال، وخاض المعركة بنفسه، وظل يقاتل حتى هلك!

فعجب قسطنطين لتلك الجرأَة الغريبة التي لا يشتمل على مثلها صدر امرأة في العالم ولا رجل، ثم قال لها بهدوءٍ وسكونٍ لا يعلم إلا الله ما يكمن وراءهما: وبعد، فماذا تريدين؟ فأطمعها فيه سُكُونُه وهدوءُه، وخُيِّل إليها أنه قد استخذى للأمر واستسلم، فقالت: إن العهد السلطاني لأبيك بملك البلقان لا يزال باقيًا بيدي حتى الساعة، وهو مذيَّلٌ بتوقيع السلطان ومختومٌ بختم آل «برانكومير»، فلسنا في حاجة إلى تغيير حرفٍ منه أو كتابة عهد جديد، وقد قابلتُ رسول القائد التركي ليلة أمس واتفقتُ معه على كل شيء، فكن أعقلَ من أبيك وأبعد منه نظرًا، واعلم أن الترك لا بدَّ مُقْتَحمو هذه البلاد وآخذوها، أبطئوا أم أسرعوا، فقد اجتازوا عقبة الجبال اليوم، وسيجتازون بقية العقبات غدًا أو بعد غدٍ، ما من ذلك بد، فخيرٌ لك أن تُهادنهم وتسالمهم وتتخذ عندهم يدًا تنفعك لديهم غدًا، وأن تفتح لهم بيدك ما استغلق عليهم من أبواب البلاد بدلًا من أن يغلبوك عليها؛ لتحتفظ لنفسك بذلك العرش الذي هو عرشك وعرش أبيك من قبلك لولا طمعُ ذلك المختلس وفضوله!

إن الجنود يضجُّون ويصخبون، ويوشك الملك أن يحضر فيرفعوا إليه أمرك، ويهتفوا بين يديه بسقوطك وخيانتك، فيأمر بالقبض عليك وسجنك، فاغضب لنفسك وافعَلْ ما أشرت به عليك لتستطيع أن تأمر بالقبض عليه وسجنه بعد بضع ساعاتٍ، ويدين لك البلقان من البسفور إلى الأدرياتيك.

أما أنا، فإني لا أطلب جزاءً عندك على نصحي لك وإخلاصي إليك سوى أن تمنحني لديك منزلة الأم الحنون، وتأذن لي أن أجلس على أدنى درجةٍ من درجات عرشك، أخدمك وأمدك برأيي ومشورتي، وأستظل بظلال مجدك وشرفك حتى الموت. ثم أخرجت من حقيبتها العهد السلطانيَّ وأرته إياه، فأخذ يقرؤه وهو في يدها حتى أتمَّه، فقالت له: قم الساعة وسافر إلى الحدود، وقُدْ جيشك بنفسك وتقهقر به كأنك تفعل ذلك مضطرًّا، وأنقذ نفسك ووطنك من هذا الخطر العظيم.

ها هي ذي طبول الملك تقترب منا شيئًا فشيئًا، واعلم أن قلم القدرة معلقٌ الآن بين أصبعي الله ليكتب به في صفحات الغَيْب أحد الحكمين: إمَّا لك بالصُّعود إلى العرش، أو عليك بالهبوط إلى أعماق السُّجون؛ فأحسن الاختيار لنفسك ولا تكن عدوَّها الأحمق المأفون.

فرفع رأسه ونظر إليها نظرةً نارية ملتهبة لو رسمتها ريشة المصور الماهر لأحرقت القرطاس الذي رُسمت فيه! ثم قال لها بهدوءٍ وسكون: قد قلت لي يا سيدتي منذ هنيهة: إن أبي قد ذهب إلى شِعْب «تراجان» ووقف تحت القوس الروماني ليستقبل الجيش التركيَّ عند قدومه، ويأذن له بالمرور، فخانه عزمه ونسي ميثاقه فلم يفعل، وأنا أقول لك: إنك مخطئةٌ في سوء ظنك به، فإنه لم يزل متمسكًا برأيه في تلك الليلة محافظًا على عهده، حتى حالت الحوائل بينه وبين الوفاء.

قالت: وما الذي طرأ عليه؟ قال: طرأ عليه الموت، فحال بينه وبين ما يريد! قالت: وهل تعلم كيف مات؟ قال: نعم، أنا أعلم الناس بذلك؛ لأنه لم يكن حاضرًا معه في تلك الساعة وفي ذلك الموقف سواي، فارتعدت ونظرت إليه مدهوشةً وقالت له: ألم يمت قتيلًا بيد أعدائه؟ قال: لا، بل بيد أصدق أصدقائه! بل بيد أقرب الأقرباء إليه وأمسهم به رحمًا! فطاش عقلها وجن جنونها وصاحت: ماذا تريد أن تقول؟ قال: أريد أن أقول: إنني أنا الذي قتلته بيدي جزاءً له على خيانته لوطنه! قالت: أنت يا ولده وفلذة كبده؟ قال: نعم، وأنت التي وضعت في يميني ذلك السيف الذي قتلته به؛ لأنك أفسدت نفسه وقتلت شُعورَه، وأغريته بخيانة وطنه، وسلبته جوهرة الشرف الثمينة التي كانت تضيء ما بين جنبيه، وكانت أكرم الجواهر وأغلاها، فلم أر بدًّا من أن أقتله لأستنقذ الوطن من يده، فتألَّمي ما شئت أيتها المرأة الشِّرِّيرة وتعذبي، وتجرعي كئوس الحسرة والندم على ما أفلت من يدك من أمانيك وآمالك، وحسبي انتقامًا منك على جريمتك التي أجرمتها إليَّ وإلى أبي وإلى الطبيعة، أن تعلمي أنني أنا الذي خيَّبت آمالك، وهدمت بيدي ذلك الصَّرح العظيم الذي أنفقت في تشييده أيام حياتك!

نعم أنا الذي قتلتُهُ بيدي، واقترفتُ أعظم جريمة يقترفها إنسانٌ في العالم، ولولاك لما أقدمتُ على ذلك ولا خطر ببالي أن إنسانًا في الوجود يُقدم عليه، ولو كان في استطاعتي أن أكشف أمرك، وأهتك الستر عن جريمتك لفعلت، ولكنني لا أستطيعُ أن أفعل، إشفاقًا على سُمعة ذلك الرجل المسكين الذي قضى عليه سُوء حظه أن يكون شريكًا لك في حياتك وفي جرائمك، فعيشي مُعذَّبة مثلي، فريسةً لآلامك وأحزانك، واستنفدي ماء شُئُونك حُزنًا على العرش الذي فاتك، والزوج الذي رحل عنك، واسهري لياليك الطِّوال خائفةً مُرتعبةً من شبح الجريمة التي اجترمتِها، وخيال الدماء التي سفكتها، وليَطِرْ قلبك خوفًا وهلعًا كلما ذكرت أنك وضعت في يد الولد سيفًا ليقتل به الوالد، فمات الوالد قتيلًا، وعاش الولد معذبًا؛ ولتطل حياتك على ظهر الأرض لتطول آلامك وأحزانك، حتى إذا نزل بك الموت نزل بهيكلٍ يابسٍ من العظم، قد أحرقته اللَّوعات، وأضوته الحسرات، وافترسته الهموم والأحزان.

وهنا سُمعت ضجَّةٌ عظيمةٌ في الساحة، وهاتفون يهتفون: الملك! الملك! فاكتأب قسطنطين وتقبَّض وجهه، وتهللت بازيليد وتطلَّقت، وطوت وثيقة العهد برفقٍ ووضعتها في جيبها، ثم قالت له: نعم، إنني سأعيش يا قسطنطين حزينةً باكيةً كما قلت، ما من ذلك بدٌّ، ولكنني لا آذن لك أن تعيش يومًا واحدًا بعد اليوم على ظهر الأرض حتى لا ترى بعينيك مصائبي وآلامي، وتشمت بهمومي وأحزاني، فقد دسستُ لك الدَّسيسة في الجيش حتى ثار عليك، ووضع في عنقك ذلك الغلَّ الثقيل، غُلَّ الخيانة الذي لا خلاص لك منه، وسترى الآن بقية ثأري وانتقامي!

وهنا دخل الملك والجنود من حوله يتقدَّمهم لازار وهو يصيح وهم يصيحون من خلفه: إنه خائنٌ يا مولاي، إنه قد مالأ الأعداء علينا، إنه أفنى رجالنا، ورمَّل نساءنا، ويتم أطفالنا، فأعْدِنا عليه وانتقم لنا منه وللوطن! والملك يقول: دعوني وشَأْني، لا أصدق شيئًا مما تقولون، ثم التفت إلى قسطنطين وقال له: أيها البطل العظيم، إنَّ الوطن في خطرٍ، وقد جئت أستنجد بك على دفع هذه النَّازلة التي نزلت بنا، وسأكون في المعركة المقبلة جُنديًّا من جنودك، أقاتل بجانبك، وأبارك خطواتك، ولا تبتئس بما يقول هؤلاء القوم، فإنهم لا يعلمون من أمرك شيئًا. إنا لا نعرف اليوم تحت سماء البلقان بطلًا غيرك، وما كنا نعرف قبل اليوم بطلًا غير أبيك، ولا نضمر لكما في قلوبنا غير الإجلال والإعظام، لمكانكما من خدمة الوطن وحمايته والذَّود عنه. أما الحظ الذي فارقك في تلك الوقائع الماضية، فأُبشِّرك أن عهد فراقِه لا يطول، وأنه سيعود إليك بعد أيامٍ قلائل بالوجه الطلق الجميل، وستمحو بانتصاراتك المقبلة جميع آثار تلك الهزائم السالفة. ثم التفت إلى الجنود وقال لهم: يا أبطال البلقان وحُماته، لا تخذلوا قائدكم، ولا تخفروا ذمَّته، فهو سيدكم اليوم، وابنُ سيدكم بالأمس، واعلموا أنني لا أصغي إلى تهمةٍ لا أعرف لها برهانًا ولا دليلًا.

فصمت القوم صمتًا عميقًا، وساد بينهم السُّكوت هُنَيْهَةً، وقد بدأت مراجل غيظهم وموجدتهم تفتُرُ وتتقاصر، وهنا انفرج الجميع وإذا ببازيليد تتقدم رويدًا رويدًا — كما ينساب من مكمنه الأرقم — نحو موقف الملك حتى مثلت بين يديه، وقالت له بصوتٍ عالٍ سمعه جميعُ الجنود: أنا التي أتَّهمُه يا مولاي، وأنا التي أُقَدِّم لك على تُهمته الدليل والبرهان! فدهش الملك عند رؤيتها، وقال: الأميرة؟ قالت: نعم يا مولاي، أرملة القائد ميشيل برانكومير. إنني أتهم هذا الرجل بخيانة قومه وممالأة أعدائهم عليهم، وأقول لك: إنه كتب بينه وبينهم عهدًا على أن يفتح لهم أبواب البلاد في الساعة التي يُريدونها، فيمنحوه في مقابل ذلك عرش البلقان وتاجه، وقد دعاني السَّاعة ليشركني معه في هذه الجريمة التي يُريد اقترافها، ويسألني أن أُساعده عليها، فلم أر بُدًّا من أن أرفع أمره إليك. أمَّا البرهان الذي تريده فها هو ذا.

ومدَّت يدها إليه بتلك الوثيقة، فتناولها الملك ذاهلًا وأخذ يقرؤها وهو يرتعد ويرتجف ويقول في نفسه: ماذا أرى؟ إخلاءُ الحدود! اجتيازُ الجبال! العرش! التاج! ختم برانكومير! يا للهول ويا للفظاعة! ثم نظر إلى قسطنطين فإذا هو تمثالٌ جامد لا يتحرك ولا يَطرف، فتقدَّم نحوه خُطْوةً وقال: ما هي كلمتك يا قسطنطين؟ فصمت ولم يقل شيئًا، فالتفتت إليه بازيليد وقالت له: أتستطيع أن تنكر شيئًا مما أقول؟ فأوثقته وثاقًا لا يستطيع معه قبضًا ولا بسطًا، إلا أنه رفع رأسه ونظر إليها نظرةً غريبةً مبهمةً لم يعلم غيرها ماذا يُريدُ بها، ثم عاد إلى صمته وإطراقه، فهاج الجند وأخذوا يصيحون: القتل القتل، الانتقام الانتقام.

وظل الملك يشير إليهم بيده يدعوهم إلى السُّكون والهدوء حتى هدءوا، فتقدم نحو قسطنطين خطوةً ثانية ووضع يده على كتفه وسأله مرة أخرى: ماذا تقول يا قسطنطين؟ دافع عن نفسك، فإن سُكُوتَك حجةٌ عليك، لا تصمت ولا تُطرق، وقل كلمةً واحدةً؛ فإني أصدقك في كل ما تقول، فاستمر في صمته وإطراقه وهو يقول في نفسه: كيف أدافع عن نفسي، وأي سبيلٍ أسلكه إلى ذلك، والسبل جميعها وعرةٌ شائكة، لا تقوى قدمي على اجتيازها، إنني لا أستطيع أن أبرئ نفسي إلا إذا اتهمت أبي، وقد قتلتُه مرةً فلا أقتله مرة أخرى! ثم ابتسم ابتسامة الممتعض وقال في نفسه: قد كنتُ أطلب الموت بكل سبيلٍ حتى جاءني يسعى إليَّ بقدميه، فلِمَ أخشاه وأرتاع منه؟ فليكُن ما أراد الله أن يكون، ثم رفع رأسه إلى الملك وقال له: ليس عندي ما أقوله لك يا سيدي؛ فاصنع بي ما تشاء.

فصاح الجمهور: ليسقط الخائن! ليقتل المجرم! وهجموا عليه ليفتكوا به، فاعترض الملك طريقهم وقال لهم: دعوه وشأنه، فإنَّ أمره موكولٌ إلى مجلس القضاء، أما نحن فليس بين أيدينا إلا أن نفكر الآن في الطريق إلى الدفاع عن وطننا وحمايته، ودفع هذه النازلة الملمة بنا؛ فسيروا بنا أيها الجنود الأبطال إلى ساحة الحرب وأنا قائدكم.

ثم التفت إلى الحُرَّاس وأمرهم بالقبض على قسطنطين والذهاب به إلى السجن حتى يفصل القضاء في أمره.

فهتف به قسطنطين وقال: لي كلمةٌ واحدةٌ أحب أن أقولها لك يا مولاي. فذُعرت بازيليد، وارتعد لازار، واشرأبَّ القوم بأعناقهم، والتفت إليه الملك وقال: ماذا تريد أن تقول؟ قال: أنت تعلم يا مولاي أنني جنديٌّ قديم، وُلِدْتُ في ساحة الحرب، وقضيت حياتي في ميادينها، ولا أُمنية لي في الحياة غير أن أموت فيها، وأنت الآن قائد الجيش وصاحب الأمر والنهي فيه، فأذن لي أن أسير في ركابك جنديًّا صغيرًا، لا قائدًا ولا أميرًا، لأُقاتل معكم حيث تقاتلون، ولك عليَّ عهد الله وميثاقه ألَّا أعود من تلك المعركة إلا منتصرًا أو محمولًا على الأعواد إلى حيث آوي إلى منزلي الأخير الذي لا رجعة لي منه، علَّني أكفر بذلك عن زلَّتي التي زَلَلْتُها، وأنتقم من نفسي بنفسي. فعجب الملك لأمره وظل يردد نظره في وجهه هنيهة وكأن نفسه كانت تحدثه ببراءته وطهارته، إلا أنه لم يلبث إلَّا قليلًا حتى زوى وجهه عنه وقال له: لا أستطيع أن آذن لك بشيءٍ؛ فالموت في ساحة الحرب منزلةٌ لا ينالُها إلا الأُمناء المخلصون!

فتنفس الجمع الصُّعداء وخرج الملك يحيط به جنوده وحُرَّاسه، وهو يردد بينه وبين نفسه: وا رحمتاه لك أيها الفتى المسكين!

فتقدم الحراس إلى قسطنطين فقيَّدوه، وجاءت بازيليد فوقفت بجانبه، وقالت له بصوتٍ خافتٍ لا يسمعه سواه: نعم، إنني سأقضي ما بقي من أيام حياتي حزينةً باكية متألمةً كما قلت، ولكني قد انتقمت لنفسي، وحسبي ذلك وكفى. فلم يرفع نظره إليها احتقارًا وازدراءً، بل رفع رأسه إلى السماء وقال: قد كنت أسألك الموت يا رب في كل حينٍ، وأضرع إليك فيه ليلي ونهاري، فبعثت به إليَّ، ولكن في أفظع صورةٍ وأهولها؛ فامدد إليَّ يد معونتك ورحمتك لأستطيع أن أشرب الكأس حتى ثمالتها، وخذ بيدي في شدتي؛ فقد تخلى الناس جميعًا عني، وأصبحت أحتمل ما أحتمل من الآلام وحدي، وليس بجانبي من يخفف عنِّي لوعتي، أو يمسح بيده دمعةً من دُموعي.

فخرجت ميلتزا من وراء ستارٍ كانت مختبئةً في طيَّاته وتقدَّمت نحوه وجثت تحت قدميه الموثقتين وقالت له: لست وحدك يا مولاي، فهأنذا! فتهلَّل وجهه بعد عبوسه وقال: أحمدك اللهم حمدًا كثيرًا. ثم خرج مع الجنود يرسف في قيوده حتى وصلوا به إلى السجن فأودعوه، وأوصدوا الباب من دونه، فربضت ميلتزا على عتبة الباب ربوض الكلب الأمين على قبر سيده الدفين، وأنشأت تندبه وتبكيه بكاءً تهتز له جوانب الأرض وتتداعى له أركان السماء!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤