التمثال

انتصر الملك في الواقعة التي حضرها وقاد فيها الجيوش بنفسه انتصارًا عظيمًا كان الفضل الأكبر فيه لتلك الرُّوح الدينية التي كان يبثها في نفوس جنده أثناء المعركة، فقد كان يمشي بين الصُّفوف بطَيْلسانه الأسود، والصليب في يده، يهتف باسم المسيح والمسيحيَّة ويُنادي: دافعوا يا أبناء يسوع عن دينكم وكنيستكم، واعلموا أنكم إن غُلبتم اليوم على أمركم فلن تقوم للصليب قائمة أبد الدهر، وهم يستبسلون ويستقتلون ويصبرون للموت صبر الكرام، حتى بَرقَت لهم بارقة النصر، فأطبقوا على جيوش العدو من كل جانب، فتقهقرت أمامهم إلى ما وراء الحدود، وتخلَّت عن جميع المعابر والجبال التي اجتازتها بالأمس، فاحتفل الشعب بهذا النصر احتفالًا عظيمًا دام عدة أيام، ولم يكن للناس حديثٌ فيه سوى حديث قسطنطين وجريمته التي اجترمها، والجزاء الذي سيلقاه في سبيلها، وكلُّهم يتمنى بجَدع أنفه أن يشاهد مصرعه، ويرى دماءه تتدفَّق من بين لحييه.

ولم يزل هذا شأنهم حتى دنا اليوم الذي يجتمع فيه مجلس القضاء للنظر في تلك القضية، فذهب الملك ليلة المحاكمة إلى السجين في سجنه، وخلا به ساعةً يسأله عن جريمته وشركائه فيها وأعوانه عليها، وحاوله في ذلك محاولةً كثيرة فلم ينطق بشيءٍ، ولا دافع عن نفسه بحرفٍ واحد، حتى عيَّ الملك بأمره، فأمر بإخراجه من السجن إلى السَّاحة العامة المُقام فيها تمثالُ أبيه، وأمر أن يشد بأغلالٍ إلى قاعدة التمثال نكايةً به وتمثيلًا، ثم قال له: انظر أيها الخائن ماذا بنَى أبوك لنفسه من المجد، وماذا صنعت يدك بذلك البناء الذي ابتناه! وتركه وانصرف.

فلما انفرد بنفسه أطرق ساعةً يفكر في شأنه وفي مصيره الذي صار إليه، ثم رفع رأسه إلى التمثال، وكان الليل قد هدأ وسكن ونامت كل عينٍ فيه حتى عيون العسس والحراس، فأنشأ يناجيه ويقول: هنيئًا لك أيها الرجل مجدك وعظمتك وتمثالك الشامخ الرفيع الذاهب بعلوه في آفاق السماء!

هنيئًا لك الصيت البعيد، والشهرة الذائعة، والشرف الخالد المسجل لك في صفحات التاريخ، وأن الناس لا يمرُّون بتمثالك حتى يجثوا تحت قاعدته جثيَّهم تحت قدمي الإله المعبود!

أترى بعد ذلك أنك مظلومٌ أو مغبونٌ، أو أن الضَّربة التي أصابتك من يدي قد حَرَمَتْك شيئًا في هذه الحياة تندبه وتأسف عليه؟

لقد كنت في السَّاعة الأخيرة من أيام حياتك، ولم يكن بينك وبين الانحدار إلى قبرك إلا بضع خطواتٍ قصار، فكل ما كان مني لك أنني أنقذتك من تلك الميتة الدنيئة السافلة التي كنت تريدها لنفسك، وقدمت إليك بدلًا منها ميتةً شريفةً مقدسة ترمقها العيون، وتتقطع من دونها الأعناق، وألبستك تاجًا أشرف من ذلك التاج الذي كنت تطلبه وتسعى إليه، وأجلستك على عرشٍ أرفع من جميع عروش الأرض، وهو عرش التاريخ!

لا تستبقِ في نفسك شيئًا من الضغن عليَّ، ولا تُضمر لي في قلبك وأنت في عالم الحقيقة المجردة، الذي لا يخالطه كذبٌ ولا رياء، غير ما يجب على المريض المبلِّ أن يضمره لطبيبه الذي شفاه من دائه، وأنقذه من شقائه، فإن كان لا بد لك أن ترى أنني قد أجرمت إليك ووترتك؛ فهأنذا أكفر عن جريمتي بأعظم ما كفَّر به مجرمٌ عن جريمته!

انظر يا أبت ماذا صنعتْ فعلتك التي فعلت بولدك، ها هو ذا الغلُّ يحيط بعنقه حتى كاد يخنقه، وها هي ذي القيود تعض قدميه وتدميهما، وها هو ذا السيف مجردٌ فوق هامته لا تطلع الشمس من مشرقها حتى يسقط عليها فيفصلها عن جثتها، وها هم أولاء الناس جميعًا رجالًا ونساءً، كبارًا وصغارًا، يلعنونه بألسنتهم وقلوبهم في كل مكان، ويضمرون له من الحقد والبغضاء ما لو امتد إلى جسمه لأحرقه وأحاله رمادًا باردًا.

أنت المجرم وأنا المعاقب، أنت الخائن وأنا المأخوذ بخيانتك، أنت المتمتع بنعمة الشرف العظيم الذي لا تستحقه، وأنا المتسربل بسربال الإهانة الدائمة التي لا أستحقها! لقد أخطأ القدر في أمرنا مرَّتين: فرفعك من حيث تستحق الوضع، ووضعني من حيث أستحق الرفع، ولو أنه أنصف في حكمه بيننا لأخذ كلٌّ منا مكان صاحبه، فأصبح التمثال لي، وأصبح السجن لك!

هنيئًا لك مجدك وشرفك، ووصِيتك وسمعتك، وما أُهنِّئك تهنئة الهازئ الساخر، بل تهنئة الفارح المغتبط؛ لأنك أبي، ورئيس أسرتي، وسيد قومي، وحبيبٌ إليَّ جدًّا أن يعيش أبي عظيمًا في حياته وبعد مماته!

إنَّ آلامي يا أبت عظيمةٌ جدًّا لا تستطيع أن تحتملها نفسٌ بشريةٌّ في العالم، ولكن يُهَوِّنها عليَّ أنني أموت من أجلك، وفي سبيل مجدك وشرفك، وأنني لم أخرج من الدنيا حتى رأيت تمثالك العظيم مشرفًا من علياء سمائه على جبال البلقان وهضابها، كما تشرف الشمس من أبراجها على ما تحتها.

ما أنا بنادمٍ على ما كان، ولا خائف مما يكون، فليأتِ الموت إليَّ في الساعة التي يريدها، فقد قمت بواجبي لك ولبلادي، وحسبي ذلك وكفى.

كان لا بد لي أن أقتلك ففعلت، ولكنني قتلتُك فيجب أن أُقتل بك.

كلانا أجرم، وكلانا لقي جزاء إجرامه.

أجرمتَ إلى الوطن فانتقمتُ له منك، وأجرمتُ إلى الطبيعة، فمن العدل أن تنتقم لنفسها مني، فما ظلم أحدٌ منا صاحبه ولا اعتدى عليه.

ارفع رَأْسَك أيها الرجل تيهًا وعجبًا، وزاحم بمنكبيك أجرام السَّماء وكواكبها، فقد غسل ابنك بدمه جرمك وعارك، فإن لم تكن شريفًا بنفسك، فحسبك شرفًا أنك والد الولد الشريف!

ولم يزل في مناجاته هذه حتى مضت هدأةٌ من الليل، فالتفَّ بردائه ووضع رأسه على قاعدة التمثال وأسلم نفسه إلى نومٍ طويل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤