النهاية

ازدحم الناس يوم المحاكمة في السَّاحة الكبرى ازدحامًا عظيمًا ينتظرون عودة الملك من مجلس القضاء ليعلن حُكمه أمام المتهم، والمتهم هادئٌ ساكنٌ تحت قاعدة التمثال لا ينتظر شيئًا؛ لأنه يعلم أن الموت جزاؤه الحتم، وقد وطن نفسه عليه فلم يعد يحفل به.

وإنهم لكذلك إذ أقبل الملك تحيط به حاشيته، فاشرأبَّت إليه الأعناق لسماع كلمته، ولم يزل سائرًا بين الصفوف حتى وقف أمام المتهم، فنظر إليه نظرةً طويلة ثم صاح بأعلى صوته: يا قسطنطين برانكومير، إن الجريمة التي اقترفتها عظيمةٌ جدًّا لا يفي بها قتلك وسفك دمك؛ لذلك رأى مجلس القضاء أن يحكم عليك بالحياة بدلًا من الموت. فقاطعه الجماهير: الموت! الموت! لا بدَّ من قتله! لا يمكن أن يعيش! فأشار إليهم بالهدوء والسكون حتى يسمعوا بقيَّة كلامه، فهدءوا، فاستمرَّ يقول: وأن تظل طول أيام حياتك مقرونًا بأغلالك هذه إلى قاعدة تمثال أبيك ليتردد وجهه في وجهك ليلك ونهارك، فتموت في مكانك حياءً منه وخجلًا، وأن يؤذن لكل مارٍّ بك من علية الناس وغوغائهم أن يبصُق على وجهك، ويصفعك على قَذَالك، وينال منك ما يشاء إلا أن يسلبك حياتك.

فصاح الجماهير: يعيش الملك! يحيا العدل! يسقط الخائن! وظلوا يرددون هذه الكلمات وأمثالها وقتًا طويلًا.

هنا ذرفت عينا ذلك الرجل العظيم الذي لم يبك في يومٍ من أيام حياته لضربة سيفٍ، أو طعنة رمح، أو رشقة سهم، وعلا صوتُ نحيبه ونشيجه كما يفعل النساء الضعيفات في مواقف حزنهنَّ وثكلهنَّ، وما كان مثله من يبكي أو يذرف دمعةً واحدةً من دموعه لو أن الذي كُتب له في صحيفة الغيب من الشقاء كان الوقوف بين السيف والنِّطع، أو السُّقوط بين آلات العذاب تنال من جسمه وأطرافه ما تشاء، ولكنه الشرف، شديدٌ جدًّا على صاحبه أن تنزل به نازلةٌ مذلَّة، أو يتصل به ظُفْرٌ جارحٌ من أظفار الهوان، فإذا شعر بشيءٍ من ذلك هاله الأمر وراعه، وخارت عزيمته، ووهنت قوَّته؛ فبكى بُكاء الضعفاء، وأعول إعوال النساء. ولقد رضي قُسطنطين من حظه من الحياة بالموت فرارًا من العار الذي لحقه، وهربًا من نظرات النَّاظرين إليه وموجدة الواجدين عليه، أما وقد علم أنه سيعيش والعار معًا رفيقين متلازمين لا يفترقان ولا ينفصلان، فلم يبق له بدٌّ من الجزع، ولم يبق بين يديه سبيلٌ غير البكاء، فبكى ما شاء الله أن يفعل، وأخذ يُرَدد بينه وبين نفسه: يا للبؤس! ويا للشقاء! لقد استحال عليَّ كل شيء حتى الموت!

ثم رفع طرفه إلى السماء وقال بصوتٍ خافتٍ مُتقطع: رحمتك اللهم وإحسانك، فقد أصبحت عاجزًا ضعيفًا لا أملك من شئون نفسي شيئًا، فامددْ إليَّ يد عنايتك ولطفك لأستطيع أن أتمم واجبي إلى النهاية.

وهنا وقف لازار فوق هضبةٍ مرتفعة — وكان لا يزالُ رأس الفتنة وشعلتها — وأخذ يصرخ بصوتٍ عالٍ قائلًا: إن رأى مولانا الملك أن يأذن لنا بتنفيذ أمره الساعة؛ فقد أوشكت صدورنا أن تنفجر! فصاح الجمهورُ من ورائه صيحته، ودعوا بمثل دعوته، فاصفرَّ وجه الملك وارتجفت أطرافه ارتجافًا خفيفًا، ثم قال بصوتٍ خافتٍ متهافت: لكُم ما تشاءون! وتحوَّل من مكانه يريد الانصراف.

وهنا برزت ميلتزا من بين الجماهير، واندفعت نحو قسطنطين تسبق المندفعين إليه وهي تقول: فليبق لك أيها المسكين على الأقل قلبٌ واحدٌ يرحمك ويعطف عليك! وضمَّته إلى صدرها كأنما تريد أن تقيه بنفسها، فسمع الملك صوتها، فالتفت فرآها، ولم يكن يعرف من شأنها شيئًا، فعجب لأمرها وأشار إلى الجماهير بالسُّكوت حتى يعلم ما خطبها، ثم مشى نحوها وقال لها: أتعلمين أيتها الفتاة من هذا الذي تحمين؟ وما جريمته التي اقترفها؟ فرفعت رأسها إليه وألقت عليه نظرة اللَّيث في عرينه وقالت له: لا أعلم من أمره شيئًا سوى أنني أحبه، ولا آذن لأحدٍ أن يناله بمكروه وفيَّ بقية رمق من الحياة! قال: إنه ارتكب جريمة الخيانة الكبرى للأُمَّة والوطن، وقد حكم عليه مجلس القضاء بالتعذيب، ولا بد من إنفاذ حكمه، قالت: إن الحب فوق العدل، وفوق القانون، وفوق كل شيءٍ في العالم؛ فمزِّقوني إربًا إربًا لتستطيعوا أن تصلوا إليه!

فلمعت في ثغر قسطنطين ابتسامةٌ في وسط هذه الدُّجنة الحالكة من الهموم والأحزان، وضمها إلى نفسه وقال لها: شكرًا لك يا ميلتزا، فقد أحييت نفسي الميتة، وسريت عني هُمومي وآلامي، ذُودي عني يا صديقتي، وصوني وجهي من العار الذي يُريدون أن يُلصقوه به، فلم يبقَ لي في العالم من يرحمني أو يعطف عليَّ سِواك!

وأخذ الجماهير يصيحون: اقتلوهما معًا، مزِّقوا جسميهما بالسُّيوف، وانثروا أشلاءَهُما في الفضاء.

ثم تدافعوا نحوهما تدافُع الصُّخور الهائلة من أعالي الجبال، فصاحت ميلتزا: أيتها الوحوش الضارية، والخلائق الساقطة، مهما كثر عددكم، وعظمت قوتكم، فإنكم لن تستطيعوا أن تصلوا إليه أو تُلحقوا به إهانةً من الإهانات التي تُضمرونها في نفوسكم، فإن أبيتم إلا أن تفعلوا؛ فاعلموا أنني — أنا الفتاة الضعيفة المسكينة — قادرةٌ على أن أُخَلِّصه من أيديكم! فلم يحفلوا بكلامها، ولم يفهموا غرضها، واستمروا في اندفاعهم وتدفُّقهم.

وهنا حدث ذلك الحادث الهائل الذي شخصت له الأبصار، وذهلت له العقول، وجمدت لمنظره الدماء في العروق، فقد علمت ميلتزا أن القضاء واقعٌ لا مفرَّ منه، وأنَّ القوم لا بدَّ بالغون من قسطنطين ما يريدون، وأن لا طاقة لها بحمايته والذود عنه، وهالها هولًا عظيمًا وكبر في نفسها أن ذلك الوجه الشريف المتلألئ بنور الفضيلة والكرم والطهارة والبراءة يصبح هدفًا دنيئًا لهؤلاء الغوغاء الثائرين، يلطمه من يلطم ويبصق عليه من يبصق، فلما أصبحوا على مقربةٍ منها ولم يبق بينهم وبينها إلا بضع وَثباتٍ، حنَتْ عليه وهمست في أذنه قائلة: في استطاعتك يا سيدي أن تُنجي نفسك بكلمة واحدة تعترف فيها بكل شيءٍ! فرفع طرفه إلى السماء ثم ألقاه على تمثال أبيه، ثم نظر إليها نظرةً دامعة حزينة وقال: «لا أستطيع!»

فجرَّدت من منطقتها خنجرها الذي كانت قد استهدته إياه فيما مضى، ورفعته في الهواء ثم طعنته به في صدره طعنةً نجلاء وهي تقول: متْ شريفًا أيها الرجل العظيم كما عشت شريفًا، وسأتبعك إلى سمائك التي تصعد إليها. فسقط مضرَّجًا بدمائه وهو يقول بصوتٍ ضعيفٍ متقطع: شكرًا لك يا ميلتزا.

وكان القوم قد بلغوا موقفهما: فرفعت الخنجر مرة أخرى وطعنت به نفسها، فترنَّحت قليلًا ثم سقطت على مَقربةٍ منه، وكان لا يزال يعالج السكرة الأخيرة، ففتح عينيه فرآها، فأخذ يسحب نفسه سحبًا حتى بلغ مصرعها، فألقى يده عليها وظل يجذبها نحوه كأنما يحاول أن يضمها إلى نفسه، فلم يستطع، فسقط رأسه على صدرها، فشعرت به، فضاءت ما بين شفتيها ابتسامةٌ ضئيلةٌ لم تلبث أن انطفأت وتغلغلت في ظُلُمات الموت، وظلَّا على هذه الحالة حتى فاضت نَفْسَاهما.

فأثَّر هذا المنظر الرهيب في نفوس الجماهير، وسكنوا في مواقفهم سكونًا عميقًا لا تتخلله نأمةٌ ولا حركة، وظلُّوا على ذلك ساعة حتى نطق الملك بصوتٍ خشنٍ أجش تخالطة رنَّة الحزن والأسف قائلًا: أيها المسيحيون، صلوا جميعًا لهذين البائسين الشَّقيَّين، واسألوا الله لهما الرحمة والغفران.

ثم رفع قلنسوته وجثا على ركبتيه، فرفع القوم قبَّعاتهم وجثوا حول الجثتين وأخذوا يتلون صلواتهم بنغمةٍ حزينةٍ مؤثرة، كأنما هم يبكون عزيزًا عليهم، أو شهيدًا من شهدائهم! وما فعلوا غير ذلك لو كانوا يعلمون.

•••

ظلت هذه الحقيقة مجهولةً لا يعلمها أحدٌ من الناس خمسةً وثلاثين عامًا، حتى حضر «بازيليد» الموت، فظلت تهذي بها في مرضها، وترددها في يقظتها وأحلامها، وتتألم لذكراها ألمًا شديدًا على مسمعٍ من كاهنها وعوَّادها، حتى فاضت روحها، فعلم الناس — ولكن بعد عهدٍ طويلٍ، وبعد أن تبدَّلت شئون البلقان غير شئونه — أن «قسطنطين برانكومير» أشرف الناس وأفضلهم، وأعظمهم وطنيةً وإخلاصًا؛ لأنه ضحَّى أباه في سبيل إنقاذ وطنه، ثم ضحَّى نفسَه في سبيل إنقاذ شرف أبيه، فبلغ في وطنيته وشرف نفسه الغاية التي لا غاية وراءها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤