الأمل

الحب شقاءٌ كله، وأشقى المحبِّين جميعًا أولئك الذين يحبون بلا أمل ولا رجاء!

إنهم يذرفُون دموعهم وهم عالمون أنهم يسكبونها في أرضٍ قاحلةٍ جدباء لا تنبت لهم راحةً ولا سعادة، ويسهرون لياليهم وهم يعتقدون أن ظُلماتها لا تنحسر عن فجرٍ منيرٍ، أو صبحٍ سعيد، ويطرقون برءوسهم في خلواتهم لا ليفكروا متى تنتهي أيام شقائهم أو تبتدئ أيام سعادتهم، فحياتهم كلها شقاء لا فرق بين أمسها وغدها وحاضرها ومستقبلها؛ بل ليفكروا متى يرحلون عن هذه الدار ليستريحوا من آلامها وهمومها، فإن كان لا بد لنا من أن نذرف قطرةً من دموعنا على شقيٍّ في هذه الأرض، فلنذرفها على والدٍ ثكل ولده في ريعان شبابه، أحبَّ ما كان إليه، وألصق ما كان بقلبه، من حيث لا أمل له في رجعته ولا رجاء في لقائه، أو عاشقٍ علم في ساعةٍ ما كان يتوقعها أن حبيبته قد تزوَّجت من غيره، وأنها ستسافر اليوم أو غدًا إلى وطنٍ ناءٍ لا رجعة لها منه أبد الدهر، فوقف أمامها يودِّعها وداعًا لا يقول لها فيه: إلى الغد أو إلى الملتقى، ولا يأخذ عليها فيه عهدًا أو ميثاقًا، بل يصمت صمتًا تذوب فيه كبده القريحة ذنوبًا، حتى إذا غابت عن بصره، وانقطع آخر آثارها، رجع أدراجه وهو يعلم أن لا نصيب له في العيش بعد اليوم، وأن هذا آخر عهده بالحياة، أو فتاةٍ بائسة مسكينة كتب لها شقاؤها أن يعلق قلبها بعظيمٍ من عُظماء الحياة المُدِلِّين بأنفسهم ومكانتهم، فلا تستطيع الصُّعود إليه في سمائه، وليس من شأن مثله أن يهبط إليها في أرضها، فهي تبكيه ولا يشعر ببكائها، وتهتف باسمه ليلها ونهارها ولا يسمع نداءها، ولا يزال هذا شأنها حتى يُوافيها أجلها فيريحها.

كذلك كان شأن ميلتزا، فإنها أحبت سيدها حب العابد إلهه المعبود، وافتتنت به افتتانًا كانت تحسبه في مبدأ أمرها عاطفة ولاءٍ وإخلاص، فإذا هو لوعة الحب وحرقة الغرام، ولكن أنَّى لها وهي الفتاة النَّورية الساقطة المسكينة أن يمتد بها مطمعُها إلى ذلك الكوكب النائي في سمائه، أو أن تَمُتَّ إليه بسببٍ من تلك الأسباب التي يمُتُّ بها الناس بعضهم إلى بعضٍ، فكانت وهي أقربُ الناس إليه أبعدُ الناس عنه، وأنآهم من مكانه، لا تستطيع أن تتجاوز في موقفها معه منزلة الخادم من المخدوم، والسيد من المسود، والصَّنيعة من صاحب النعمة.

وكان يقلقها أشد القلق ويكاد يذيبها حياءً وخجلًا خوفها أن يطلع منها على سريرة نفسها، أو أن يعثر يومًا من الأيام بتلك اللوعة المتأججة في صدرها، فيَتهمَها في عقلها، ويسخر بينه وبين نفسه بتصوُّراتها وآمالها، فكانت تفر من نظراته كلما وقعت عليها حتى لا يرى في عينيها أثر الدمع ولا حمرة السَّهر، وتهرب من الخلوة به جهدها حتى لا يرتاب في اصفرار وجهها، واضطراب أوصالها، وذهول عقلها، ولجلجة لسانها؛ أي أنها كانت محرومةً كل شيء حتى تلك اللذة الضئيلة التي يتمتع بها أقل المحبين حظًّا، وأخيبهم في الحب سهمًا؛ وهي الإفضاء بمكنون صدرها إلى ذلك الذي تحبه وتعبده. وكان كل ما يعرف قسطنطين من شأنها أنها فتاةٌ مخلصة وفية تحبُّه حب العبد الشكور لسيده المنعم، وكان يجد في بلاهتها وسذاجتها، وطهارة قلبها ونقائه، وصدق لسانها، وإخلاص قلبها ملهاةً يتلهى بها عن همومه وأحزانه، ومتكأً يتكئ عليه في ساعات إعيائه ونصبه، لا يزيد على ذلك شيئًا، فكانت إذا جنَّ الليل وأخذت الجنوب مضاجعها جلست في فراشها تساهر الكوكب وتطالعه، وتزفر زفرات حرَّى موجعة وهي لا تعلم ماذا تشكو ولم تبكي؛ لأنها لا تعرف لها غرضًا ولا غايةً، ولو استطاعت أن تفهم من شئون نفسها ما يفهم الناس من شئون نفوسهم لعرفت أنها إنما تبكي على أن ليس لها في الحياة — كما للناس — أملٌ ولا رجاء.

هذا هو الحب الطاهر البريء الذي لا تشوبه الأغراض والغايات، ولا تحيط به الريب والشكوك، والذي طالما نشده الناس في كل مكانٍ فأضلُّوه، وذابت قلوبهم حسرة عليه فلم يجدوه، وأيُّ سعادةٍ في الدنيا أعظم من سعادة نفسٍ تجد بين يديها نفسًا طاهرةً مخلصة تحبها، وتمتزج بها امتزاج الماء بالخمر والأريج بالزهر؟ ولقد ظفر قسطنطين من تلك الفتاة بهذه النفس المخلصة التي تحزن لحُزنه، وتفرحُ لفرحه، وتغضب لغضبه، وترضى لرضاه، ولا تعرف لها وجودًا منفصلًا عن وجوده، ولا حياةً مستقلة عن حياته، فكانت منه بمنزلة المرآة من الوجه: تقطب إذا قطب، وتبتسم إذا ابتسم، وتطير فرحًا وسرورًا بانتصاراته، وتذوب كمدًا وحزنًا لآلامه وأحزانه، وتحب أباه حُبَّه إياه، وتنفر من زوج أبيه نُفُوره منها، وهو وإن لم يكن يفاتحها في شأنٍ من شئونه الخاصة، ولا يفضي إليها بسرٍّ من أسرار بيته وعلائق بعض أفراده ببعضٍ، فإنها كانت تشعر أن تلك المرأة اليونانية الدخيلة خطرٌ عظيمٌ على الوالد والولد، بل على الأمَّة بأسرها، وكان شعورها هذا يقودها إلى مراقبتها وملاحقتها في كل مكانٍ، وترصُّد حركاتها وسكناتها علها تهجم منها على ذلك السر الهائل الذي تتوهَّمه توهمًا ولا تعرفه، فتكشفه وتُمَزِّق عنه الستار، حتى واتاها القدر يومًا من الأيام فعثرت به.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤