الجريمة

جثم الليل في مَجثَمه ونشر أجنحته السوداء على الكون بأجمعه، فهَجَع تحت ظلالها الأحياءُ جميعًا من بشرٍ وحيوانٍ، ولم يبق ساهرًا وسط هذا السُّكون المخيِّم إلا عينا القائد برانكومير في شِعْب «تراجان» يديرهما ها هنا وها هنا، فينظر بهما تارةً أمامه وأخرى وراءه؛ ليرى هل يرصده أحد أو يتأثَّر حركاته وأعماله، ويقلِّبهما أحيانًا في صفحة السماء فيرى عيون النجوم محدقةً فيه، فيخيل إليه أنها عيون الله ناظرةً إليه نظرات الوعيد والتهديد، وكأن صائحًا يصيح به من جوانب الملأ الأعلى: اصنع ما تشاء أيها الرجل الخائن، واكتم عملك عن عيون الناس جميعًا، فإني ناظرٌ إليك ومسجلٌ عليك هذه الجناية العظمى التي تجنيها على وطنك وقومك!

فيتضاءل ويتصاغر ويمر بخاطره قول أمه له في عهد طفولته فيما كانت تمليه عليه من آداب الحكماء وأقوالهم: «إن كواكب السماء ونجومها تشهد بين يدي الله على جميع جرائم البشر التي ليس لها شُهود!» ثم لا يلبث أن يُسرِّي عن نفسه ويذهب به خيالُه إلى المُلك وعرشه، وتاجه وصولجانه، وعزه ومجده، ثم يلقي نظرة عامة على الجبال المحيطة به، والسهول المنبسطة من حوله، والأنهار المائجة بأشعة النجوم ولألائها، فيقول: غدًا تصبح هذه الجزيرة كلها جزيرتي، وأهلها خدمي وحشمي، يأتمرون بأمري، ويُذعنُون لقوَّتي وسلطاني، وغدًا يتلألأ التاج على جبين بازيليد، فتصبح أسعد نساء العالم جمعاء، وأُصبح بسعادتها أسعد رجاله، ثم يُخيَّل إليه كأنه يرى بازيليد ماثلةً بين يديه تنظر إليه نظراتها الساحرة الفاتنة، فيمدُّ ذراعيه لاستقبالها ويناجيها قائلًا: إنني لا أزال على العهد الذي عاهدتك عليه مذ فارقتُك حتى الساعة، لم أندم ولم أتردد، ولا مر بخاطري أن أحفل بشيء في العالم سوى أن أُنيلك البغية التي تبتغينها.

إن القُبلة التي وضعتها على شفتي منذ ساعة قد أثلجت صدري، وسكَّنت جميع مخاوفي ووساوسي، فأنا أُقدم على الجريمة إقدام الهادئ المطمئن، لا أشعر بثقلها، ولا أفكر في نتائجها، بل لا أشعر أنها جريمةٌ يخفق لها قلبي خفقة الأسف والندم.

لقد أقسمت لك على الوفاء بالعهد، ولا بد لي من أن أبرَّ بقسمي، ولو كنت أقسمت لك على حرمان نفسي منك — وأنت الحياة التي لا حياة لي بدونها — لاستحييتكِ أن أحنثَ في قسمي، أو أن أخيس بعهدي.

أقسمت لك أن أخون وطني، وهأنذا أخونه كما أردتِ راضيًا مستسلمًا لا أندبه ولا أرثي له، فرضاك هو الوطن كله، بل هو الدنيا بأجمعها، فليذهب الوطن كله، وليَفنَ العالم بأسره، فأنت لي كل شيء فيهما.

وكان يحدث نفسه بهذا الحديث وهو جالسٌ على رابية مرتفعة على شِعْب «تراجان» تحت القوس الروماني بجانب هضبةٍ عالية من الحطب أُعدَّت للإحراق إنذارًا للجيش بالعدو عند زحفه، وكانت الهضبات المحيطة بتلك الرابية أو المبعثرة من حولها سوداء قاتمة تتراءى في ظلمة الليل ووحشته في صُور وحوش مخيفة هائلة فاغرةٍ أفواهها، أو مُقْعيةٍ على أذنابها، أو مُتوثِّبة للهجوم، فلا يقع نظره عليها حتى يطير قلبه شعاعًا، فيسرع إلى الاغتماض فلا يفارقه خيالها إلا بعد حين.

وما كان الرجل جبانًا ولا رعديدًا، فهو بطل البلقان وحاميه وسيدُ مَن أنجبتْ به ميادينُ قتاله وساحاتُ نِزاله، ولكنها الجريمة تنتزع قلب المجرم من بين جنبيه، وتغشي على عينيه البصيرتين فيصبح بلا قلبٍ وبلا نظر، يرى ما لا يراه الناس، ويخشى ما لا يخشونه، فهو لا يخاف الوحوش والهوام والجن والشياطين والصخور والأحجار، بل يخاف جرائمه وآثامه!

وإنه لكذلك إذ خُيِّل إليه أن إحداها تتحرك من مكانها وتتحلحل تحلحُل الليث المتوثِّب، فاستطير قلبه فرقًا ورُعبًا، وحاول أن يتَّهم نظره ويستريب به فلم يستطع؛ لأنه ما لبث أن رأى في ذروة تلك الهضبة رأسًا يتحرك وينظر إليه بعينين متقدتين، فصرخ صرخة الكلب الجبان الذي ينبح الشَّبح المقبل نحوه، لا جُرأةً وإقدامًا، بل جُبنًا وفرقًا، وقال: من هناك؟ فانحدر الشَّبحُ إليه من أعلى الهضبة وقال له بصوتٍ خشنٍ أجش: لا تَرْتَعْ يا أبتِ؛ فأنا ولدك قسطنطين. فوثب من مكانه وثبة الملسوع وقال له بصوتٍ مُتهدِّج مُختنق: ما الذي جاء بك إلى هنا؟ ومن أنبأك أني في هذا المكان؟ قال له: وأنت ما الذي جاء بك إلى هنا، ومن أنبأك أني في هذا المكان؟ قال له: وأنت ما الذي جاء بك إلى هنا يا أبتِ؟ وماذا تريد أن تفعل؟ إنني أسألكُ عن مثل ما تسألُني عنه!

فأسقط في يده وطار طائرُ عقله، وأحسَّ بالخطر المقبل إلا أنه تجلَّد واستمسك وقال بلهجة الآمر المسيطر: وما سؤالك عن مثل هذا أيها الفتى الجريء؟ وما شأنُك بي وبما أفعل؟ وكيف فارقتَ حصنَك في هذه الساعة من الليل؟ ومَن أذِنَك بذلك؟ قال: لم أستأذن في ذلك أحدًا غير واجبي، إنني أعلم كل شيءٍ يا أبتِ، وأعلم أنك ما جئت إلى هذا المكان إلَّا لترتكب أفظع جريمةٍ يرتكبها إنسانٌ في العالم! فصاح برانكومير وهو يتميز غيظًا وحنقًا: كذبت أيها الغلام الوقح، واجترأت على ما لم يجترئ عليه أحدٌ مِن قبلك! عُد الآن إلى حصنك، ولا تبقَ بعد صدور أمري إليك لحظةً واحدةً، فإن جَاوَلتَنِي في ذلك فأنت أعلم بما يكون! إنك لا تفهم شيئًا من أسراري وخُويِّصَات نفسي، وليس لك أن تسألني عنها؛ لأنك جنديٌّ والجندي لا يسأل قائده، بل يأتمر بأمره ولو كان الموت الزُّؤام! عُدْ إلى مخفرك وتولَّ حراسته بنفسك، ولا تأذن لجَفْنك بالغمض لحظةً واحدةً، وسأحدِّثُك غدًا في هذا الشأن حديثًا طويلًا تعلم منه كل شيء.

فتضعضع قسطنطين أمام هذه اللهجة الرزينة الهادئة، وجثا على ركبتيه بين يديه وقال له: عفوًا يا أبتِ، فقد أخطأتُ في سوء ظنِّي بك، فأنت أشرف من أن تضع نفسك حيث أرادوا أن يضعوك، وما أحسب كلمتك التي قلتها للأميرة منذ حينٍ في تلك الخلوة الرهيبة إلا كلمة مزحٍ ودعابةٍ أردت بها مداراتها وملاينتها، أو الهزء والسخرية بها، حتى إذا فصلت عنك وخلا بك مكانك محوت بظهر يدك عن فمك تلك القبلة الأثيمة التي ختمت بها ذلك العهد الأثيم، ثم قلت لها في نفسك: إنني قد عاهدت الله، أيتها المرأة البلهاء، قبل أن أُعَاهدك على أن أكون أمينًا لوطني، وفيًّا له، فلا أحفِلُ بعهدٍ غير هذا العهد، ولا بيمينٍ غير تلك اليمين، ثم خِفتَ أن تكون قد استرابت بك أو مرَّت بخاطرها خلجة شك في أمرك فأخذت للأمر حيطَتَها من طريقٍ غير طريقك، فجئت بنفسك لتتولى حراسة التُّخوم وحمايتها، حتى إذا شعرت بسواد الجيش التركي مقبلًا أشعلت النيران إنذارًا لجيشك بالخطر الداهم، وخيبت آمال أعدائك فيما يكيدون لك ولقومك.

أليس كذلك يا أبت؟ نعم، إنه كذلك بلا شك ولا ريب، فأشعِلِ النارَ الآن ودَعْها تسطع في هذا الفضاء الواسع، وتبدد بلألائها هذه الظلمات المتكاثفة؛ فإني أشعر بسوادٍ مقبلٍ من بعيد يتقدم شيئًا فشيئًا، وما أحسبه إلا فيالق العدو وجيوشه. انظر يا أبتِ واخترق بنظرك هذا الفضاء الشاسع، ألا ترى تحت خط الأفق أشباحًا تتحرك وتتقدم؟ إنه ليُخَيَّل إليَّ أنها أعلام الجيوش التركية تخفق في أجوائها، وربما لا تمضي ساعةٌ أو بعض ساعة حتى تكون قد وصلت إلى هنا!

أسرع بإشعال النار أو عُد أنت إلى قصرك وخُذ لنفسك راحتها فيه ودَعني أتولَّى عنك إشعالها، فالخطر موشكٌ أن يقع ما من ذلك بُدٌّ!

ما لي أراك جامدًا يا أبت؟ وما هذا الذهول الذي تولَّاك؟ أشعلِ النار أو تنحَّ عن طريقي لأُشعلها، أَشْعِلْها فالوقت أضيق من التأمل والتفكير!

فرفع برانكومير رأسه ونظر إلى ولده نظرةً جامدة وقال له: إذن أنت تتهمني يا قسطنطين وترتاب بي، ما أشقاني وأسوأ حظي! ولدي وفلذة كبدي ووارث اسمي ولقبي يتَّهمني ويتجسس عليَّ، ويقف وراء الأبواب ينظر من خصائصها ليسمع ما يدور بيني وبين زوجي في خلوتي! فيا للعار ويا للشَّقاء! أيها الولد العاق المسكين، اذهب لشأنك؛ فإني أريد أن أبقى هنا الليلة وحدي، ولا تجازف بمخالفة أمر قائدٍ تعوَّد أن يأمُرَ فيطاع، وليس من شأن مثله أن يصبر لحظةً واحدة على مخالفة أمره، إنني سأبقى هنا وحدي، وسأشعل النار بنفسي عندما أريد إشعالها، فلا حاجة بي إلى مشورتك ومعونتك، عُدْ أدراجك إلى حِصْنِك ولا تُضِف إلى جريمة التجسُّس على أبيك جريمة مُعاندته ومخالفة أمره، واعلم أنك الآن جنديٌّ أمام قائده لا ولدٌ بين يدي أبيه.

فأنَّ قسطنطين وتأوه آهةً طويلةً وقال: وا رحمتاه لي ولك يا أبتِ! إنَّ الأمر صحيحٌ لا ريب فيه، والجريمة توشك أن تقع.

ثم صمت صمتًا طويلًا لا تطرف له فيه عين، ولا تنبعث له جارحةٌ، ثم انتفض فجأةً وصاح بلهجةٍ شديدةٍ صارمة: أبي، إنني سأبقَى هُنا!

فدهش الأب لعناده وصلابته وقال له: ما أراني الآن إلا أمام عدُوٍّ لدودٍ لا ولدٍ بارٍّ مطيع! قال: لا يا أبت، بل أمام ولدٍ بارٍّ مُطِيعٍ، ولولا ذلك ما جشَّمت نفسي مشقَّة المجيء إليك في هذه الساعة من الليل، ولا وقفت أمامك هذا الموقف الخطر المميت، إنني لم أفعل ذلك من أجل نفسي، بل من أجلك ومن أجل شرفك، إنني أحبُّك كما أحب وطني، وما على وجه الأرض شيءٌ أحب إليَّ منكما، وكما أتمنى له أن يعيش حرًّا مستقلًّا أتمنى لك أن تعيش شريفًا عظيمًا، فإذا ضاع وطني وكان ضياعه على يدك أنت فقَدتُ في ساعةٍ واحدة جميع ما أُحبُّ في هذه الحياة؛ فارحم ولدك المسكين الذي لا يزال يُضمر لك في قلبه حتى الساعة ذلك الحب القديم الذي تعرفه، واستبق له تلك السعادة التي لم يبق له في الحياة سعادة غيرها، تنحَّ قليلًا عن طريقي وائذَنْ لي أن أصل إلى هذه الرابية لأشعل نارها فيراها حراس الروابي جميعًا فيشعلوا نيرانهم، فينهض الجيش للدفاع عن الوطن؛ فقد أزفت الساعة ولم يبق سبيلٌ للأناة والتفكير.

ثم اندفع إلى مكان الرابية مُسرعًا فاعترضه أبوه ووقف في وجهه وقفة الصخرة العاتية في وجه الريح العاصف وقال له: لا آذنُ لك بالتقدم خطوةً واحدة، ودون ما تريد الموتُ الزُّؤام! فطاش عقل قسطنطين وجُنَّ جُنونه وقال له: احذَر يا أبتِ؛ فإن في هذه السماء المشرقة علينا بنجومها وكواكبها إلهًا ينتقم من الظالمين، ويُجازي الخائنين بخيانتهم شرَّ الجزاء، وما أنت بناجٍ من عقابه، ولا مُفلتٍ من جزائه! لقد حدَّثتني نفسي في تلك الساعة الهائلة التي سمعتك فيها تُؤامر على وطنك وأمتك بأفظع ما تُحدث به نفسٌ صاحبها، وكنت على وشك أن أرفع أمرك إلى الملك أنت وزوجك، وأكشف له دخيلة أمركما، فلم أفعل؛ لأني ضننت بك على الموت الدنيء الذي يموته الخائنون المجرمون أمثالك، وأشفقت على ذلك الشرف العظيم الذي بلغ في علوه مناط السماك الأعلى أن يُصبح مهانًا مُذالًا تدوسه الأقدام، وتطؤه النعال، وكرهت أن يمرَّ السابلة من رعاع الناس وغوغائهم على قبرك بعد موتك فيبصقوا عليه كأنما يبصقون على قبر الشيطان، وربما نبشوا عن جُثَّتك تشفِّيًا منك وانتقامًا، فأخرجوها من قبرها وأسلموها إلى جوارح الطير وكواسر الوحش تمزق أشلاءها، وتبعثر عظامها.

أشفقتُ عليك من كُلِّ هذا، وأشفقت على نفسي أن يراني الناس في طريقي فيشيروا إليَّ بأصابعهم ويقولوا: هذا هو الولد السَّافل الدنيء الذي وشى بأبيه وأورده مورد التهلكة، فبئس الولد ولبئس الوالد! ولا يلد الخونة المجرمون غير الأدنياء السَّاقطين! فنهنهت نفسي وملكت عليها زمامها وقلبي يذوب حزنًا ولوعة، وقلت: لعلني أستطيع أن أتدارك الأمر عن طريقٍ غير تلك الطريق، وأن أتمكن في آنٍ واحدٍ من إنقاذ أبي وإنقاذ وطني من حيث لا أخسرُ واحدًا منهما في سبيل الآخر، فجئت وقلبي ممتلئٌ أملًا ورجاءً.

أما الآن وقد يئست من كل شيءٍ، فإني أكاد أشعر بالندم على ضياع تلك الفرصة التي ملكتها ساعةً من الزمان فسرَّحتها ولم أنتفع بها، وكأنَّ صوتًا خفيًّا يهتف بي من أعماق قلبي: إنك قد أشفقت على نفسك مرَّةً وعلى أبيك أخرى، ولم يخطر ببالك لحظةً واحدة أن تشفق على وطنك وقومك.

فأسألك مرة أخرى يا سيدي، وربما كانت هي المرة الأخيرة، أن تتنحَّى عن طريقي، فإنني قد عزمت عزمًا لا مردَّ له أن أقتحم هذه الرابية لأضرم نارها رضيت أم أبيت، سقطت السماء على الأرض أم بقيت في مكانها!

فأطرق برانكومير لحظةً ذهبت به فيها الهموم والأفكار كل مذهبٍ، ثم رفع رأسه فإذا دمعةٌ كبيرة تترقرق في عينيه، ونظر إلى ولده نظرة عتبٍ وتأنيب وقال له: نعم يا بنيَّ، إنك قد أخطأت خطأً عظيمًا إذ أضعت الفرصة العظيمة التي لاحت لك، وقد كان جديرًا بك أن تفترصها ولا تُسرِّحها، وأن تلقي في عنق أبيك في تلك الساعة التي رابك فيها من أمره ما رابَك غلًّا ثقيلًا تقوده به إلى حضرة الملك متهمًا إياه بجريمة الخيانة الكبرى؛ ليأمر بقتله، فتُمتِّع نظرَك برؤيته مصلوبًا على باب المدينة والجماهير من حوله يبصقون على وجهه، ويصفعون قذاله، ويرجمونه بالحجارة على مرأًى من ضباطه وجنوده وأسرته وأصدقائه، وربما اشترك هؤلاء جميعًا معهم في عملهم.

نعم، إنها فرصةٌ ثمينةٌ جدًّا قد أضعتها بتردُّدك وتحيُّرك، وقد كان جديرًا بك أن تقدم إقدام العازم المصمم كما كان يفعل أبوك لو كان في مكانك، فقد عوَّدت نفسي أنني إذا عزمت على أمرٍ لا أتردد فيه ولا أتريث، وقد عزمت الآن على ألَّا أشعلَ هذه النار، فلا أُشعِلُها، ولا آذنُ لك بالتحرك من مكانك خطوةً واحدة!

فوقف قسطنطين حائرًا ملتاعًا يترجح بين اللهف على وطنه الضائع والإشفاق على أبيه المسكين، لا يستطيع أن يخون وطنه الذي نبت في تربته، وعاش بين أرضه وسمائه، ولا أن يعُقَّ أباه الذي أبرزه إلى الوجود، ووهبه نعمة الحياة التي ينعم بها، فأسند رأسه إلى صخرةٍ كانت بجانبه خائرًا متضعضعًا تتوارد في رأسه الخواطر والأفكار يصارع بعضها بعضًا، ويشتد بعضها في أثر بعضٍ، حتى بلغ منه الإعياء مبلغه، فنظر إلى أبيه نظرةً منكسرة حائرةً تفيض حزنًا ويأسًا وقال: أيُرضيك يا ميشيل برانكومير، يا بطل البلقان وحاميها وأشرف من أنجبت به أصلاب رجالها وأرحام نسائها، أن يملك العدو علينا هذه البلاد العزيزة الكريمة فيقتل أبناءَها، ويستحلَّ حُرماتها، ويُنَكِّس صُلبانها، ويَهدم صوامعها ومعابدها، ويخرس فيها كل صوتٍ غير صوت الأذان على ذرى المنائر؟

قال: نعم، يرضيني ذلك؛ لأنني أحسنتُ إليها فكفرتْ بنعمتي وجازتني شر الجزاء على صنيعي! قال: إن لم تفعل ذلك من أجلها، فافعله من أجل ربك، قال: أي رب تريد؟ إنني لا أفعل شيئًا من أجله، فهو مُمالئٌ مُداجٍ لا يحب إلا قساوسته وكُهَّانه، ولا يرى رءوسًا تصلح للتيجان غير رءوسهم الصغيرة الصَّلعاء، ولكنني سأنتزع بالرغم منه ذلك التاج من ذلك الرأس الذي توَّجَه به وأضعُه على رأسي، قال: ولكنك تعلم يا أبت أن التاج الذي يتناوله متناوله من يد عدوِّه ليس بتاجٍ شريف، قال: ولكنه تاجٌ على كل حال! قال: ألا تخاف أن يثقل يومًا على رأسك فيهبط إلى عنقك ويستحيل إلى طوقٍ حديديٍّ ويقضي عليك؟ قال: إنك تهينني يا قسطنطين وتهددني، ولقد بلغت بوقاحتك الغاية التي لا غاية وراءها، فتجمَّلْ قليلًا ولا تنسَ أنك إنما تخاطب أباك! قال: عفوًا يا أبتِ وغفرًا، فلقد بلغ بي اليأس مبلغه حتى أصبحت لا أفقه ما أقول!

ثم دنا منه وأمسك بيده وأنشأ يخاطبه بصوتٍ ضعيفٍ مُتهافتٍ ويقول: عُد إلى نَفْسك لحظةً واحدةً يا أبت، وراجع فهرس تاريخك الشريف، واذكر تلك الأيام المجيدة التي أَبْليت فيها في الدفاع عن وطنك وقومك بلاءً سجَّله لك التاريخ في صفحاته البيضاء بأقلامه الذهبية، وتلك الوقائع الحربية الهائلة التي كنت تستقبل فيها الموت استقبال العروس ابتسامات عروسه الحسناء ليلة زفافها، وتضحك للهول فيها ضحك الزَّهر لقطرات الندى، والنبت لأشعة الشمس، ثم تعود منها منصورًا مظفرًا يَستقبلُك نساءُ القرى وفتياتها في كل طريقٍ مررت به بدفوفهنَّ وعيدانهنَّ يغنينك ويرقصن بين يديك، ويرتشفن قطرات الدماء من كئوس جراحاتك، ويَنثُرن الأزهار تحت قدميك، وينادينك باسم المخلص العظيم، وخليفة المسيح في الأرض.

اذكر تلك الأعلام الوطنية التي تخفق على أبواب المدينة وأسوارها، وترنُّحها طربًا وسرورًا عند رؤيتك، وتراميها على قدميك كلما مررت بها كأنها تحاول تقبيلهما ولثمهما، واخشَ إن مررت بها بعد اليوم أن تشيح بوجهها عنك احتقارًا وازدراءً، وتضم أطرافها إلى نفسها ترفُّعًا وإباءً حتى لا تلمس جسمك، ولا تخفق فوق رأسك.

لا تبع أُمَّتك يا أبتِ بعرَضٍ تافهٍ من أعراض الحياة، فالتَّاج الذي يتناوله صاحبه من يد عدُوه ليس بتاج المُلك، إنما هو قَلَنْسُوة الإعدام.

كيف يهنؤك ذلك الملك وأنت ترى أُمتك المسكينة راسفةً في قيود الذل والاستعباد تبكي وتستصرخ ولا مُنجد لها ولا معين، وتئنُّ في يد عدوها القاهر أنين المحتضر المشرف ولا مَن يسمعُ أنينها، أو يُصغي إلى شَكاتها.

كيف يهنؤك ذلك العيش وأنت ترى أبناء وطنك أسارى أذلاء في قبضة أعدائهم يسوقونهم بين أيديهم سَوْق الجزَّار ماشيته إلى الذَّبح، فإن خفق قلبك خفقة الرحمة بهم أو العطف عليهم لا تستطيع أن تمدَّ يدك لمعونتهم وإنقاذهم؛ لأنك قد بعتهم ونفضت يدك منهم فلا سبيل لك إليهم بعد ذلك.

اذكر يا أبت تلك الأيام التي لقي فيها هذا الشعب المسكين على يد هؤلاء القوم الظالمين ما لم يلق شعبٌ في الأرض على يد فاتحٍ أو مغتصب، أيام كنا غُرباء في أوطاننا، أذلَّاء في ديارنا، نمشي فيها مشية الخائف المذعور، وننتفضُ انتفاضة الهارب المتنكر، لا نعلم أيسقط الشقاء علينا من علياء السَّماء، أم ينبعث إلينا من أعماق الأرض؟ وهل يخرج الخارج منا من منزله ليعود إليه، أو ليَردَ المَوردَ الذي لا رجعة له منه أبد الدهر؟

اذكُرْ أيام كانوا يملكون علينا كل شأنٍ من شئُون حياتنا حتى زروعنا وضُروعنا، ومياه أنهارنا، وأشعة شموسنا، فأصبحنا ولا شأن لنا في وطننا إلا كما لعُمال المزرعة ونَوَاطيرها من الشأن فيها، ويُحصون علينا كل حركة من حركاتنا، وكل سكنة من سكناتنا، حتى نبضات قلوبنا، وخواطر أفكارنا، وفلتات ألسنتنا، وأحاديث آمالنا، ويُحاسبوننا على النظرة واللفتة، والأنَّة والزفرة، والقومة والقعدة، ثم يَقْضُون فينا بما شاءوا من أقضيتهم، فلا ينحسر ظلام ليلةٍ من الليالي إلَّا عن مصلوبٍ تهفو به الرياح السَّافيات، أو طريحٍ مرتهنٍ في أعماق السجون!

اذكر أيام كانت كلمة الوطن جريمةً يعاقب عليها قائلُها بحرمانه من ذلك الذي يهتف باسمه، وكلمة الدِّين إثمًا عظيمًا يذهب بصاحبه إلى أحد القَبْرَين: إمَّا المنشور، وإما المحفور.

اذكر الدُّموع التي كانت تذرفها الأمهات على أطفالهن المذبوحين فوق حُجورهن، والصَّيحات التي كانت تَصيحها الزوجات والأخوات الواقفات بأبواب السُّجون على أزواجهن وإخوتهن، والزفرات التي كان يُصعِّدها اليتامى الثاكلون على حافات القبور حنينًا إلى آبائهم وأُمَّهاتهم الهالكين!

اذكر ذلك كلَّه ولا تنسه، لا بل أنت تذكُرُهُ وتعرفه كما تعرف نفسك؛ لأنك أنت الذي قصصته علينا ومثلته لأعيننا وقلوبنا، وأريتنا من ويلاته ومصائبه ما لم نره، ولطالما كنت تبكي عند ذكراه بكاء الطفل الثَّاكل أمه، فنبكي لبكائك ونَنْشِج لِنَشِيجِك.

ألا تسمع هذه الأصوات المخيفة التي تحملها إلينا الرياح من ذلك الجانب الغربيِّ؟ إنها أصوات الموتى من جُنودك وأبطالك يضجُّون في قبورهم صائحين: وا ويلتاه، ها هي ذي السماءُ توشك أن تنقضَّ على الأرض! وها هي ذي أقدام العدو تدنو من تخوم البلقان وبِطاحِه، وتوشك أن تطأ بنعالها قبورنا، وتُزعجنا من مراقدنا، وها هو ذا قائدنا المحبوب برانكومير العظيم الذي سفكنا دماءنا وبذلنا أرواحنا في سبيل ظفره وانتصاره يُساوم عدوَّنا في وطننا، ويُحاول أن يبيعه نساءنا وأولادَنا الذين تركناهم أمانةً في يده، ففي سبيل الله ما سفكنا، وفي ذمة القدر ما بذلنا!

ألا تسمع هذه الهمهمة الهابطة علينا من آفاق السماء؟ إنها أصوات الملائكة الأبرار يصيحون ويصخبون وهم وقوف بين يدي ربِّهم يقولون له: حتى متى يَسعُ حلمُك وأناتك هذا الخائن الغادر الذي يبيع أُمَّة من أمم المسيح إلى أعدائها وأعداء دينها، ويُسلم إليهم أرواحها وأغراضها، فاقضِ اللهم فيه قضاءك العادل، واضربه الضربة التي تجعله عبرةً للخائنين، ومثلًا في الغادرين.

إليَّ أيتها الذكريات القديمة، والانتصارات العظيمةُ، والأيامُ الغُرُّ المحجَّلة المكتوبة بمداد الذهب في صفحات التاريخ، مدِّي إليَّ يد مساعدتك، وأعينيني على ذلك الرجل البائس المسكين، وتمثلي أمام عينيه لتُذكِّريه بنفسه وتاريخك، علَّه يحمر خجلًا عند رؤيتك، ويقشعر بدنه رهبةً من خيال الجريمة التي يريد ارتكابها.

إليَّ أيتها الفضائل الإنسانية والكمالات العالية، من شرفٍ وعزَّة، وترفُّعٍ وإباءٍ، وأمانةٍ وإخلاص، تَعالينَ إليَّ جميعًا واجثين معي بين يديه، واضرعن إليه أن يُنصفكن، ويعدك في أمركن، ولا يقضي للرذيلة عليكنَّ، وقلن له: إنك إن خذلتنا ونفضت يدك منا؛ فلن نجد لنا من بعدك ناصرًا ولا معينًا.

يا أطفال البلقان وصغارها الناشئين من فتية وفتياتٍ، أقبلوا إليه جميعًا، واجتمعوا مِن حوله، وتعلَّقوا بأهداب ثوبه، واسكُبوا ما تستطيعون أن تسكبوا من دموعكم وشئونكم تحت قدميه، وقولوا له: رحمةً بنا أيها الأب الرحيم، والسيِّد الكريم، وحنانًا علينا، لا تكلنا إلى أعدائنا وأعداء وطننا، ولا تجعل مستقبلنا ومستقبل بلادنا في أيديهم يسُومُوننا الخسف، ويُذيقوننا ألوان العذاب، فإن أبيت إلا أن تفعل، فجرد سيفك من غمده واقطع به أعناقنا؛ فذلك خيرٌ لنا من هذا العيش المؤلم المرير.

وكان يتكلم ودموعه تنهمر على خديه دائبةً ما تهدأ ولا ترفأ، وأبوه يضطرب بين يديه اضطراب الدوحة الماثلة في مهابِّ الرياح الأربع، ويزفر زفراتٍ محرقةً ملتهبة، وقد قامت في نفسه تلك المعركة الهائلة التي تقوم في كل نفسٍ شريفةٍ بين الواجب والشهوة، يتمثل له الأوَّل في وجه قسطنطين العبوس المكتئب، فيرتعد ويضطرب، وتتراءى له الثانية في وجه بازيليد الضاحك المشرق، فيخور ويتضعضع، لا يستطيع أن يُعرض عن نداء وطنه؛ لأنه نداءٌ يصل إلى أعماق قلبه، ويبلغ صميمه، ولا أن يُفلت من سلطان شهوته؛ لأنه سلطانٌ قاهرٌ جبار لا يفلت منه قويٌّ ولا ضعيفٌ، فوضع إحدى يديه على عينيه، ومدَّ الأخرى أمامه كأنما يُطارد أشباحًا مخيفة هائلة تتقدَّم نحوه، وظل يصيحُ بأعلى صوته: اصمت يا قسطنطين! اصمت يا ولدي! لا أستطيع أن أحتمل أكثر مما احتملتُ، آهٍ من القدر وأحكامه، والدهر وتصرُّفاته، وويلي من الشقاء المكتوب، والبلاء الحتم، من لي بيدٍ قوية تنقذني من هذا الشقاء المحيط بي، فقد أصبحت وما على وجه الأرض أحد أجدر بالرحمة والشفقة مني، العنُوني جميعًا يا أولادي وأبناء وطني، وانتقموا مني بأفظع أنواع الانتقام؛ فإنني خائنٌ لئيمٌ لا أستحق رحمتكم ولا مغفرتكم، ثم صمت صمتًا عميقًا لا ينبس فيه ولا يتحرك، وظل على ذلك هُنيهةً ثم نظر أمامه نظرة الدهشة والذهول، فخُيِّل إليه أنه يرى شبحًا يتقدم نحوه، فمد يده إليه وأخذ يناجيه ويقول: بازيليد، ألا تستطيعين أن تُحلِّيني من ذلك القسم الذي أقسمته لك، فقد ضعُف كاهلي عن احتماله واحتمال أثقاله، لا أريد مُلكًا ولا تاجًا ولا صولجانًا، بل لا أريد أن أبقى على ظهر الأرض يومًا واحدًا؛ الموت! مَنْ لي به في هذه الساعة فأنجُو من همومي وآلامي؟

فتهلل وجه قسطنطين غبطةً وسرورًا، ووقع في نفسه أن الرجل قد تلوَّم واستخذى، وبدأ يستفظع ذنبه ويستهوله، فَتَرامى على عُنقه واحتضنه إليه وظل يقولُ بنغمة الفارح المغتبط: أحمدُك اللهم قد أنقذتَ لي أبي! فحنا أبوه عليه وظلَّا متعانقين ساعةً لا يُسمعُ فيها إلا تردُّدُ أنفاسهما، ونشيجُ بكائهما، ثم افترقا بغتةً واشرأبَّا بأعناقهما حينما سمعا في لحظةٍ واحدة حَسِيس جيش العدو وهو مقبلٌ من ناحية الشَّمال، وكان ما سمعاه في هذه المرة حقيقةً لا وهمًا، فارتجلا في وقت واحد حركتين مختلفتين؛ إذ وثب قسطنطين إلى الرابية وثبةً عظمى ليُضرم نارها، ووثب أبوه وثبة أعظم منها فاعترض سبيله وصرخ في وجهه: قف مكانك، لا تتقدم خطوةً واحدة! فأصاب قسطنطين مثل الجنون وقال له: تنحَّ عن طريقي، أيها المجرم الأثيم؛ فقد فرغ صبري، قال: إنك لا تستطيع أن تمرَّ إلا على جثتي. فارتعد قسطنطين وبرقت عيناه وذهبت به الأفكار مذاهبها، وقال له: أيُّ كلمةٍ هائلةٍ نطقت بها أيها الرجل الشقي؟! وأيُّ قضاءٍ قَضَيْتَ به على نفسك؟! تنحَّ عن طريقي؛ فإن نفسي تُحدِّثني بأفظع ما تحدث به نفسٌ صاحبها في هذا العالم، قال: إنك لا تستطيع أن تقتل أباك، قال: أستطيع أن أفعل كُلَّ شيءٍ في سبيل وطني، إنني وقفت سيفي طول حياتي على خدمتك وحمايتك والذود عنك أيام كنت لوطنك وقومك، أمَّا الآن فإني أغمد ذلك السَّيف نفسه في صدرك طيب النفس مثلوج الفؤاد؛ لأني أعتقد أني لا أغمده في صدر أبي، بل في صدر خائنِ وطني، قال: لا تنس أن لي يدًا أقوى من يدك، وسيفًا أمضى من سيفك، قال: إني لا أجهل ذلك، ولكنك تُقاتل في سبيل الدَّناءة والخيانة، وأُقاتل في سبيل الواجب والشَّرف، والله مطلعٌ علينا من علياء سمائه، وهو الحكم العدل بيننا. فجرد برانكومير سيفه وهجم على ولده هجمةً قوية، فجرَّد الآخر سيفه وتلقى ضرباته بأشد وأنكى منها، وما هي إلَّا جولةٌ أو جولتان حتى حكم القاضي العادلُ حكمَه؛ فسقط الظالمُ ونجا المظلوم!

فنظر قسطنطين إلى جُثَّة أبيه السَّاقطة تحت قدميه نظرةً جامدة صامتة لا يعلم ما وراءها، ثم أغمد سيفه وصاح بأعلى صوته: رحمتك اللهم؛ فإني لا أستطيع أن أفعل غير ما فعلت. ثم هجم على الرابية فأشعل نارها، فضاءت بها أرض البلقان وسماؤها.

وفي اليوم الثاني نشر الملك ميلوش على الأُمَّة هذا البلاغ:

حاول العدوُّ ليلة أمس تَبييت جيوشنا وأخذها على غرَّة، وكاد يظفر بذلك لولا أن انتبهت الفرقة الأولى من الجيش ونهضت للدفاع بقيادة ضابطها العظيم قسطنطين برانكومير، فأبلت في المعركة بلاءً عظيمًا، ووقفت العدو في مكانه ساعةً كاملة، حتى نهضت بقية الفرق لمساعدتها، فدارت معركةٌ هائلةٌ بين الجيشين انتهت بانتصارنا وانهزام العدو إلى مواقعه الأولى، ولكنَّ المصاب العظيم الذي عمَّ الجيش وشمل الأمَّة بأسرها هو موت قائدنا العظيم «ميشيل برانكومير»؛ فقد وُجد في أثناء المعركة قتيلًا بضربة سيفٍ في خَاصرته بين صُخور «تراجان» تحت القوس الروماني، وسيُحْتَفَل بتشييع جنازته غدًا احتفالًا عسكريًّا جليلًا يليق بمقام شهيد الوطن وبطله العظيم!

أما الذي خَلَفه في قيادة الجيش، فهو ولده الضابط الشُّجاع منقذ الأمة والوطن «قسطنطين برانكومير».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤