الفصل الرابع عشر

الحمأة

كانت الساعة التاسعة حين كان المصوِّر فورسن في غرفة التصوير ينتظر مدام كاترين شراط حسبما أنبأته عن ميعاد مجيئها، وكان يتمشى في غرفته قَلِقًا كأنه ينتظر أمرًا خطيرًا. وما هي إلا دقائق حتى دخلت مدام شراط والابتسام ملء ثغرها وقالت: لك يا هرفورسن كل وقتي قبل الظهر، فعسى أن تكون رائق المزاج لكي تتقن الرسم.

– إن بهاءك يا مدام يلطف كل مزاج، فكيف تريدين أن يكون الوضع؟

– أود أن أكون متكئة على هذا المقعد الحريري، وهذه الأزاهر من حولي، وقد أتيت بثوب رقيق ألبسه فأين أبدِّل ثوبي؟

فابتسم لها فورسن وفتح بابًا وقال: تفضَّلِي ادخلي إلى هذه الغرفة المعدَّة لهذا الغرض يا سيدتي، تجدين فيها كل أدوات التبرج والزينة.

– شكرًا لك.

ودخلت وأوصدت الباب وراءها، أما فورسن فبقي قليلًا ثم نقر على الباب، فأجابته من الداخل، فقال: لا تخرجي يا مدام حتى أدعوكِ؛ لأن هنا مَن يشغلني بضع دقائق.

ثم جمع أهم أدواته في حقيبة وحملها وانسلَّ من غير أن يُسمَع له صوت.

•••

كانت الساعة ربعًا بعد التاسعة حين وقف الأوتوموبيل أمام بناية جميلة فخمة في شارع البرتو، فترجلت منه الإمبراطورة وهي بثوبٍ بسيط ومنقبة بنقاب أزرق يشف عن ملامح سيدة رزينة، وإلى جانبها الكونتس ألما فورتن، ودخلتا معًا وصعدتا إلى الطبقة الأولى وفتحت الكونتس من رحبة المنزل بابًا وانحنت لدى الإمبراطورة، فدخلت هذه ووجدت نفسها في مخدعٍ أنيق الرياش، فيه سرير جميل وسائر معدات التبرج.

فقالت الكونتس: ألتمس عفو جلالتك بأن تنتظري هنا دقيقة بينما أبلِّغ الدوقة خبر تشريفك، حتى لا تُفاجَأ بهذا الشرف العظيم الذي قد يؤثِّر على مزاجها الرقيق؛ لأن الفرح يصدم النفس كالحزن.

فجلست الإمبراطورة على مقعدٍ جميل وهي تقول: أظن هذه غرفتك يا كونتس.

– نعم، إنك تشرفين مخدع عبدتك الآن.

ثم فتحت الكونتس بابًا آخَر ودخلت منه وأقفلته وراءها، وبعد دقائق استبطأت الإمبراطورة الكونتس فبدأت تستاء، ولكنها قالت في نفسها: «لعلَّ لها عذرًا.» ثم سمعت لغطًا وضوضاء فقَلِقت وتغيَّظت، وجعلت الريبة تتطرق إلى نفسها، ثم نهضت من مكانها كأنها تريد أن تخرج، فاتجهت إلى الباب الأول الذي دخلت منه ورامت أن تفتحه لكي تطل على رحبة المنزل الفسيحة فإذا هو موصد لا ينفتح، فاشتد قلقها وأسرعت حالًا إلى الباب الذي دخلت فيه الكونتس، وقبل أن تفحصه انفتح ودخل منه إليها رجلان، فاشتد اكفهرارها، فقال أحدهم للآخَر: هذه هي مختبئة هنا.

فقال الآخَر: بأمر جلالته نقبض عليك.

فوجفت الإمبراطورة قائلة: يا للخيانة.

ثم وقعت على المقعد واهية، فقال أحد الرجلين: لا تخافي يا مدام، الأوتوموبيل تحت مقفل، فلا يراك فيه أحد.

فاشتد جزع الإمبراطورة قائلة: إلى أين؟

– إلى دائرة البوليس.

– يا لله، لماذا؟

– إن واجباتنا تبتدئ وتنتهي عند باب البوليس، وداخل ذلك الباب تسألين هذا السؤال يا مدام، فتفضلي الآن معنا.

– لا أريد أن أأتمر بأمر أحد وأنا صاحبة الأمر والنهي هنا.

فرفع كلٌّ منهما حاشية معطفه، وقرأت على صدريهما شارة البوليس السري، فقالت: أظنكما ضللتما السبيل.

– كلَّا البتة يا مدام، فقد قرأت على باب هذا المنزل رقم ١٦، وهذه هي الطبقة الثانية فيه، فما نحن مخطئان.

– ولكني مَن تطلبان؟

– المرأة التي نجدها في هذا المنزل.

– لست صاحبة المنزل، وإنما أنا ضيفة دقائق فيه.

– ونحن نطلب الضيفة أيضًا، لا صاحبة المنزل فقط.

– أين صاحبة المنزل؟

– لم نجد أحدًا سواك يا مدام، فسواء كنتِ صاحبة المنزل أو ضيفة فإنك مأمورة أن تصحبينا بلا جدال.

– يا لله، منذ دقائق قليلة كانت ربة المنزل هنا.

– لعلها فرَّت قبل أن ندخل.

– عجبًا، عجبًا!

– لا تضيعي الوقت سدى يا مدام هلمي.

– مَن أرسلكما إلى هنا؟

– الهر روفر مدير البوليس، فتفضلي.

– لماذا؟ أما سمَّى لكما مَن تطلبان؟

– لا، بل قال ائتِيَا في الحال بكل امرأةٍ تجدانها في منزل ١٦ من شارع البرتو في الطبقة الثانية وكفى، فهلمي ولا تحرجينا إلى استعمال العنف يا مدام.

– أقول لكما إني لا أأتمر بأمر أحدٍ في بلدي، وإنما أود أن أعلم لماذا يُؤمَر بالقبض على مَن في هذا المنزل؟

– ليس من شأننا الجواب على هذا السؤال، فإذا كنتِ يا هذه لا تخرجين معنا الآن من هنا جررناك جرًّا.

وأمسكها أحدهما من يدها يريد أن يجتذبها، فسخطت به في إبَّان تغيُّظها واقشعرارها قائلة: ويحك، ألم تفهم أني آمِرة لا مأمورة. فقِفَا بعيدًا وأجيباني على أسئلتي.

فقهقها وقال أحدهما: إذا لم تكن هذه المرأة مجنونة، فلا بد أن تكون ماكرة تريد أن تموِّه علينا.

فصاحتْ به: اصمت.

فقال الآخَر: إن هذا الهذيان لا يفيدك شيئًا يا مدام، فالأفضل أن تقفي حالًا.

وأمسك بيدها قائلًا للآخَر: نحملها إذا لم تمش. فصرخت: مكانكما يا هذان، وإلا علقت رأسيكما في ساحة بارولد.

فقهقها وقال أحدهما: لو كانت الإمبراطورة عينها لما كانت تجسر أن تفوه بهذا الهذيان، دَعْنَا نحملها يا فرمان.

فسخطت بهما أشد من قبلُ وقالت: إني آسِفة شديد الأسف أن الهر روفر لا يعرف أن ينتقي رجاله من الأذكياء الذين يعرفون الأشخاص حالًا.

– كوني مَن شئتِ يا سيدتي، فالأمر الذي معنا …

– إني فوق كل أمر.

– إنما نحن نقبض عليك باسم جلالة الإمبراطور.

– إني شريكة الإمبراطور في أوامره.

فشرع الشك يتطرق إلى نفس كلٍّ من الرجلين وقال أحدهما: لا نعرف أحدًا فوق القانون غير جلالة الإمبراطور يا مدام.

– والإمبراطورة أيضًا.

فوجف الرجلان وتغلَّب شكهما على اليقين، وقال أحدهما: ولكن جلالة الإمبراطورة لا تأتي إلى مثل هذا المكان.

– بل الإمبراطورة تتفقد رعاياها أينما كانوا.

– أجل تتفقد رعاياها إلا الساقطين منهم.

فحملقت فيه قائلة: تعني؟

– أعني أن هذا المحل محل دعارة يا مدام، يا صاحبة الجلالة.

فاختلجت الإمبراطورة ووثبت من مكانها وقالت: يا لله، ماذا تقول يا هذا؟

– أقول يا سيدتي إن هذا منزل مومسات سري.

– ويلاه … وأنتما جئتما …

– جئنا لنقبض على امرأة محضة تختلف سرًّا إلى هذا المكان.

– مَن هي؟

– لا نعلم من هنا وإنما الأمر عندنا أن نقبض على كل امرأة نجدها هنا.

– ومَن أوعز بهذا الأمر إلى الهر روفر؟

– نظن أن الأمر صادر من البلاط.

– فاقشعرت الإمبراطورة وقالت: مِن البلاط؟

– نعم.

– من الإمبراطور؟

– لا ندري، ولا نظن أن الأمر من جلالته، لعله من جلالتها.

– لا عِلْم لي بذلك.

– هل في البلاط ترتيبًا تجهله جلالة الإمبراطورة؟

فتمشت الإمبراطورة في الغرفة والرجلان ينظران الواحد في الآخَر، وهما لا يدريان هل يصدِّقان أم يكذِّبان ما يسمعان ويريان، ثم قالت بعد تفكيرٍ قليل: أين المرأة؟

– أية مرأة يا مولاتي؟

– المرأة التي جاءت بي إلى هنا منذ ربع ساعة.

– لم نَرَ سواك هنا يا مدام.

– عجبًا! ابحثا عنها، فقد خرجت من هذا الباب الذي دخلتما منه.

واتجهت الإمبراطورة إلى الباب ودخلت فيه والرجلان إلى جانبيها، والواحد يهمس للآخَر قائلًا: أخاف أن تكون ماكرة بنا.

فرأت الإمبراطورة نفسها في غرفة فيها مقعد من حوله أزاهر وصور زيتية، بعضها معلَّقٌ في الجدار وبعضها مبعثَر، وصقالة خاصة بالتصوير الزيتي، فقالت: عجبًا! إني أراني في غرفة مصوِّر.

فقال أحد الرجلين: لعل إحدى المومسات المقيمة هنا مولعة بالتصوير.

فاختلجت الإمبراطورة وقالت: إذن ليس المنزل منزل دوقة.

– المنزل معروف يا مولاتي، إنه منزل مومسات.

– ويلاه، يا للخيانة، يا لها من مكيدة!

ثم خرجت من بابٍ آخَر، فوجدت نفسها في نفس الرحبة التي دخلت منها أولًا، فالتفتت إلى أول باب عن يمينها فإذا المفتاح فيه، ففتحت الباب وتطلَّعَتْ، فإذا هي في الغرفة التي كانت شبه سجينة فيها حين تركتها الكونتس، ثم قصدت إلى بابٍ آخَر فرأت غرفة أخرى كتلك وإلى جانبها غرفة أخرى. وهكذا طافت المنزل كله، فشعرت أنه منزل أدنس، ولكن ليس فيه أحدٌ سواها. فقالت: يا للعجب أين ربة المنزل؟

فقال أحد الرجلين للآخَر: اذهب وانظر صاحبة المنزل، لعل أحد الشرطيين اللذين يحرسان باب المنزل أبصرها.

وغمزه من طرفٍ خفي، فخرج الآخَر وبعد دقائق معدودة عاد يقول: هذه ربة المنزل في الأوتوموبيل بحراسة أحد الشرطيين.

فقالت الإمبراطورة: ائتوني بها إلى هنا.

فقال هذا: بل تذهبين يا سيدتي وترينها في الأوتوموبيل، هلمي. فحملقت فيه قائلة: ويحك!

– هذا أمر الهر روفر يا سيدتي.

– فليأتِ روفر إلى هنا.

– لقد تلفنت له الآن يا سيدتي فقال: هاتوا السيدة التي وجدتموها في المنزل إلى دائرة البوليس حالًا، فهي المطلوبة بعينها، ونحن مأموران لا آمِران.

– قلتُ لك …

– لا مناص من ذلك يا مدام، هلمي.

وأخذاها بيدها فحرقت الأُرَّم قائلةً: ويل لمَن كاد هذه المكيدة الفظيعة.

ثم نزلت معهما مكرَهة إلى أن دخلت إلى الأوتوموبيل، فوجدت فيه امرأة يدل ظاهرها على حقيقتها، واضطرت أن تجلس إلى جانبها؛ لأنها لم تجد الاحتجاج مجديًا، وفي الحال درج الأوتوموبيل بهما، فقالت الإمبراطورة للمرأة التي إلى جانبها: هل أنت صاحبة ذلك البيت يا هذه؟

– نعم.

– وأين السيدة التي تُدعَى الكونتس ألما فورتن؟

– لا عِلْم لي بهذه الكونتس.

– مَن يسكن عندك؟

– ٣ فتيات.

– أين الفتيات؟

– خرجن كعادتهن منذ ساعة.

– إلى أين؟

– إلى أشغالهن.

– هل إحداهن مصوِّرة؟

– تقول إنها تتعلم التصوير.

– وماذا يحدث في منزلك غير التصوير؟

– لا شيء يا سيدتي إني متهمة مظلومة.

– بماذا اتهموك؟

– يتهمونني بأن منزلي بيت سري، إنهم لمفترون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤