الفصل الخامس والعشرون

أمواج تتلاطم

البارونة افتتحت الحديث قائلةً وهي لا تزال تقطب جبينها مكفهرَّة: أأنت إذن الذي يسطو على منازل الناس في غلس الليل؟

فقال محملقًا: أَوَأنتِ إذن هي التي تغازل الشبان من شباكها وتدعوهم للوقوع في شباكها.

فأكمدت البارونة تغيظًا وقالت ساخطة: ماذا جئتَ تفعل هاهنا؟

– بل ماذا جئتِ أنتِ تفعلين هاهنا؟

– أما أنا فدخلت من الباب ولم أصعد من الشباك، ولم أفتح لك باب هذا المنزل.

– ولكنكِ أنتِ فتحتِ لي شباكه.

– أجل، أنا دخلت من الباب، ولم أثب من فوق السور.

– أجل، وأنا وثبت من حيث أومأتِ لي أن أثب.

– إنك لكاذب.

– لست كاذبًا، في هذا الشباك رأيتُ الإشارة، وفي هذه الغرفة لا أجد سواك.

– الآن علمت يا فون درفلت أنك احترفت حرفة الطواف في الشوارع لمداعبة السيدات إذا ظهرن في شبابيكهن، حتى إذا أوخذت بدعابة أولت ظهورهن بإشارات دعابية.

– هل تنكرين يا بارونة أنك هامستني وأنا لم أزل تحت هذا الشباك وقلت لي أن أصعد؛ لأن المنزل خالٍ ولا خوف.

– لا أنكر أني فعلت، وإنما فعلتُ لأرى مَن هو هذا الذي يسطو على بيوت الناس، ودهشت إذ رأيت أنه كاتب سر الإمبراطور الثاني، فيا للعار!

– وأنا لا أنكر أني جئت كما تقولين، وإنما جئتُ لأرى من هذه السيدة التي تغازل المارة وتداعبهم وتدعوهم إلى منزلها، فدهشت إذ رأيت أنها رئيسة وصيفات الإمبراطورة. فيا للشنار!

فاحتدت البارونة أي حدة وقالت ساخطة: هذا محض إفك وبهتان، إني في منزل محترم ليس فيه شيء مما تقول، وأما أنت فلا تقدر أن تعلل طوافك في هذا الشارع وحول هذا المنزل إلا بالتجسس. فيا للخسة!

– ربما صَحَّ ما تظنين، وما يحملك على هذا الظن إلا أنك لا تقدرين أن تعللي وجودك غير المنتظر في هذا المنزل الذي لا علاقة لك به إلا بأنك تشتغلين في مؤامرة. فيا للخيانة!

فارتجفت البارونة تغيظًا وقالت ساخطة: إذن لا تنكر أنك محمول على التجسس على رئيسة وصيفات الإمبراطورة، ومَن يتجسس على رئيسة وصيفاتها فكأنه يتجسس على الإمبراطورة نفسها. فيا للدناءة!

– لا تكثري من هذا البذاء يا بارونة؛ لأن مَن يتجسس على رئيسة الوصيفات ليس أدنأ ممَّن يأتمر على جلالة الإمبراطور.

فكالدت البارونة «تنشق» من شدة الغيظ وقالت: إنك لمحاول أن تبرِّر تجسسك بهذا الافتراء عليَّ، فما وجودي في غير منزلي أو في غير البلاط برهانًا على أني مؤتمرة، ولكن وجودك في الشارع في غلس الليل، ووثوبك فوق سور الحديقة يُثبِتان أحد أمرين: إما أنك متجسس أو أنك ساطٍ.

– لا تحتدي يا بارونة، فإذا كنتِ أنتِ غير مؤتمرة فما أنا متجسس ولا ساط، فهل تقولين لي لماذا أنتِ هنا إذا كنتِ غير مؤتمرة؟

فتململت البارونة وقالت: لو كنتُ في موقف تحقيق يا فون درفلت ما كنت أضطر أن أجيب على هذا السؤال.

– لا أضطرك إلى أي جواب، وإنما نفي تهمة المؤامرة عنك يضطرك إلى ذلك يا مدام؟

– عجبًا! ربما كنتُ أفعل خيرًا هنا؛ فهل أنا مضطرة أن أطنطن بفعلي الخيري لكي أبرِّر وجودي هنا؟

– لا يدل هذا المنزل على أن سكانه يحتاجون إلى إحسان.

– قلت لك إني لستُ في محكمة الآن حتى أدافع عن نفسي، وأما أنت فمضطر أن تبرِّر دخولك إلى هذه الغرفة من هذا الشباك في غلس الليل، وإلا فأنت لص.

فضحك الفون درفلت وقال: عفوًا يا سيدتي، ما أنا لص وإنما أنا عاشق، والعشق يسوغ أكثر مما عزوته إليَّ.

فتنهدت البارونة كأن فرجًا جاءها من كلمة الفون وقالت: عاشق؟

– نعم.

– مَن تعشق؟

– الفتاة التي هنا.

– الفتاة التي هنا لا تقبل عاشقًا لا يأتي من الباب.

– بل قبلت فتى غيري يأتي من هذا الشباك.

فسخطت البارونة قائلةً: صه، هذا إفكٌ وبهتان.

– لا يا مدام، لا أظنك كمنت في هذه الغرفة إلا لأنك شعرت أن الضابط الذي يسكن في مقابل هذا المنزل يختلس مقابلةَ الفتاة عند هذا الشباك.

– هَبِ الأمر كما تقول، فما شأنك أنت؟

– إني طالب آخَر للفتاة، وها أنا آتٍ من الباب الذي يأتي منه سائر الطلاب، فما شأنك أنتِ؟

– إني ولية أمر الفتاة، فلا أقبل طالبًا يأتي من الشباك.

– إذا شئتِ فآتِي من الباب.

– لا، لا أشاء.

– لا أنتظر أن تشائي؛ ولهذا لا أطلب هذا الطلب منك يا مدام، بل أطلبه من الفتاة نفسها.

– الفتاة تحت سن الرشد، فليس في وسعها أن تقبل، بل لها أن ترفض فقط.

– إذن أخاطب بهذا الشأن ولية أمرها الحقيقية.

– مَن تعني؟

– أعني مدام مرغريت ميزل صاحبة هذا المنزل، فلا شأن لي معك، إني أريد مقابلتها الآن.

وهَمَّ أن يخرج من باب الغرفة، فاعترضت البارونة في طريقه قائلة: إني صاحبة الأمر والنهي في هذا المنزل، ولا أسمح لك إلا بالخروج المطلق منه.

– لا أخرج قبل أن أرى صاحبة المنزل، أو إذا أخرجني البوليس من هنا بأمرها.

فاشتد سخط البارونة وقالت: عجبًا لهذه القحة!

– لست وقحًا، بل أنتِ الوقحة لأنك تتصرفين هنا تصرفًا لا حق لك به وأنت غريبة عن هذا المنزل مثلي؛ فلا تقدرين أن تحجيني بشيء، وإنما لصاحبة المنزل وحدها هذا الحق، فاستدعيها إلى هنا.

– قلت لك إني أنا صاحبة الحق الأول هنا.

– لا أسلم إلا ببرهان، فهل في وسعك أن تقولي لي ما نسبة الفتاة أميليا إليك؟

– لست ملزَمة أن أقول شيئًا.

– هل هي ابنتك؟

فسخطت قائلة: لا شأنَ لك بهذا البحث.

– ابنة مَن إذا لم تكن ابنتك ولا ابنة مرغريت؟

– مَن قال لك إنها ليست ابنتها.

– إذا كانت ابنتها فما أنت ولية أمرها بوجود أمها؛ ولهذا يجب أن أقابل مرغريت.

– لقد تجاوزت قحتك الحد، فهل تخرج بسلامٍ أو أستدعي البوليس؟

عند ذلك سَمِعَا جرس الباب يقرع فقال: أخرج بسلام.

فبغتت البارونة وقالت: مهلًا، لن تخرج حتى آذن لك.

ثم خرجت من الغرفة وأقفلت الباب، أما فون درفلت فأجال نظره في الغرفة، فوقعت عينه على صورة فوتوغرافية للفتاة أميليا، فأخذها وأخفاها في جيبه، وما هي إلا لحظة حتى عادت البارونة وقالت له: الآن تخرج.

فقال: لَمْ تريدي أن أرى القادم يا بارونة، إذن لقد صدق حدسي.

فصاحت: ما حدسك؟ إنك لشديد اللؤم.

فابتسم قائلًا: قولي ما تشائين يا بارونة، فإني أكثر مما تقولين بعد الذي أصابني من لؤمك.

– لك أن تتلاءم ما شئت، فاخرج الآن.

وفتحت له باب الغرفة، ثم قادته إلى باب المنزل حيث خرج، وأقفلت الباب وراءه وهي تصعد أنفاسها وكأن كابوسًا ارتفع عن صدرها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤