الفصل الثاني والثلاثون

الصدى أسبق من الصوت

كانت الساعة التاسعة مساء حين استقل الماجور جوزف شندر أوتوموبيله، والأوتوموبيل مستوفي المئونة والعدد يدل مظهره على أنه جديد العهد. فقذف به بالسرعة القانونية إلى أن صار خارج فينا، ثم اندفع به ملء سرعته لا يلوي إلا حيثما يلتوي الطريق أمامه، وقد نفى من باله كل شاغل وكل هَمٍّ إلا الوصول إلى تريستا بأسرع ما يُستطاع، وكان كله يقظة وانتباهًا حتى لا يعثر به جواده الميكانيكي.

قبل أن ينتصف الليل كان يمر في مدينة ماربورغ، وهي أقرب إلى تريستا منها إلى فينا، ولما تجاوز هذه المدينة مرَّ بحانة في ضاحتيها الجنوبية لم تزل مفتوحة، فتوقف وسأل صاحب الحانة: هل مَرَّ منذ قريب أوتوموبيل فيه ضابط؟

– نعم، وقد توقَّفَ هنا نحو نصف ساعة، وأخذ كأسين من اللبن وكأسًا من الشاي، وخمسة كئوس من الكنياك. أفلا ترتاح هنا دقائق تنعش فيها نفسك بكأس يا حضرة الضابط؟

– لا بأس بكأسين هاتهما إلى هنا، متى برح صاحبنا الضابط؟

– منذ ربع ساعة تقريبًا.

– هذا كرونن فأحضر الكاسين.

على أن جوزف لم ينتظره، بل اندفع بأوتوموبيله كالبرق الخاطف وصاحب الحانة يقول: إن هذا لأجنُّ من ذاك، هذا سكران جنونًا وذاك مجنون سُكْرًا.

وما بلغ جوزف إلى قمة الجبل الذي يشرف على سهل كارينولا حتى لمح نورًا ثابتًا، وما زال يرى النور كأنه في طريقه حتى وصل … فتوقف عنده ورأى رجلًا واقفًا لدى أوتوموبيل، فبادره هذا قائلًا: لقد جئتَ في حينك يا صاح.

وكان نور أوتوموبيل جوزف متَّجِهًا إليه، فرآه جوزف وعرفه الكولونل هان فرنر بعينه، ولكن الكولونل لم يَرَ جوزف جيدًا؛ لأنه كان وراء متجه النور فتقدَّمَ إليه لكي يتبيَّنَه، فقال له جوزف: ما بالك؟

– لقد تعطَّلَ هذا الأوتوموبيل، وأنا أفحصه ولا أدري علَّةَ تعطُّلِه.

وكأن جوزف قد أدرك أن الكولونل لا يزال يترنح من فعل الخمرة، فقال له: مهلًا إني أفحصه.

وترجَّل جوزف وتقدَّمَ نحو الأوتوموبيل وهو يقول للكولونل: هات المصباح ووجِّهْه إلى أسفل الأوتوموبيل لأرى عِلَّتَه.

وبعد أن فحص جوزف الأوتوموبيل قال: أرى بعض مساميره الحلزونية مرتخية تحتاج إلى تشديد، فهات المفك.

– ليس عندي.

– أنا عندي.

وأخذ جوزف المفك من خزينة أوتوموبيله وجعل يعالج المسامير الحلزونية، فحل بعضها وشدَّ البعض وسل بعضها، وأخيرًا قال له: لقد اصطلح.

ثم ركب جوزف أوتوموبيله فصاح به الكولونل: مهلًا يا هذا حتى نمتحنه.

– إني مستعجل.

– وأنا أشد استعجالًا منك.

– ليس ذلك شغلي، يكفي ما تأخرتُ بسببك.

– إني آمرك أن تتمهل ريثما أتأكد إصلاح أوتوموبيلي، وإلا فإني أستخدم أوتوموبيلك.

– بأي سلطة تأمرني هذا الأمر؟

– بسلطتي العسكرية.

– لا قيمة لسلطتك هنا.

– إذن بأمر جلالة الإمبراطور …

وكان الكولونيل قد أمسك بذراع جوزف، فنفضه جوزف عنه حتى ارتمى بعيدًا وقال: وأنا بأمر جلالته أصفعك.

ثم ساق جوزف أوتوموبيله وتركه يلعن ويسخط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤