الفصل الرابع والثلاثون

دوي الصوت

ما هي إلا دقائق معدودة حتى دخلت الخادمة على كاترين شراط تقول لها: إن ضابطًا يريد مقابلتها في الحال، فبغتت كاترين وأحست أن داهيةً مفاجئة، فقالت: «ليدخل.» وفي الحال استقبلت في البهو ضابطًا عالي الرتبة، فانحنى لها باحترام ودفع إليها رسالة مغلفة بغلافٍ معنون باسمها، فلما رأته وجفت إذ علمت أنه معنون بخط الإمبراطور، وفضَّتْه وهي تقول لنفسها: ويلاه! أخاف أن أكون قد خُدِعت.

وقرأت فيه ما يأتي:

على حضرة رئيسة دير الراعي الصالح أن تلبِّي طلب البارونة ليوتي إذا كان حقًّا.

الإمبراطور

ما أتمت القراءة حتى صرخت: ويلاه ويلاه! في الأمر خديعة أو حيلة.

فبهت الكولونل هان فرنر وقال: ماذا تعنين يا سيدتي؟

فعبست قائلةً: مَن أعطاك هذا الكتاب؟

– جلالة الإمبراطور سلمنيه أمس الساعة السادسة مساء يا مدام.

– هل كان معك منذ استلمته إلى الآن؟

– لم يفارقني لحظة.

– أَلَا يحتمل أن يكون قد اختلسه أحد منك من غير أن تدري ثم ردَّه إليك؟

– هذا مستحيل يا سيدتي، فإني لم أَنَمْ منذ سِرْتُ بهذه المهمة.

– عجبًا!

– لم أفهم أين العجب يا سيدتي، إن أسئلتك هذه تقلق البال. أليست الرسالة صريحة؟

– ماذا أمرك جلالته أن تفعل غير تسليم هذا الخطاب؟

– أمرني أن أستلم منك ما تسلِّمينيه.

– أَلَمْ يَقُلْ لكَ ما هو الذي أسلِّمكه؟

– لا يا مولاتي، ما أنا إلا رسول جلالته المنفِّذ أمره.

– اعْلَمْ يا هذا إنْ كنتَ شريكَ اللصوص في هذه الخديعة …

– ويحكِ ماذا تقولين؟

– أقول إن ضابطًا قبلك جاءني بأمر جلالته الحقيقي، وأخذ علبة الحلي ومضى منذ دقائق.

– ضابط جاء قبلي بأمر جلالته؟

– نعم، وهذا هو أمر جلالته.

فلما اطَّلَعَ الكولونل على الأمر استغرب وقال: وماذا يشتمل الأمر الذي جئتكِ به يا سيدتي؟

– يشتمل على أمر لرئيسة دير الراعي الصالح، هذا هو فاقرأه.

فلما قرأه الكولونل ازداد دهشةً وفرقًا وقال: لا أدري يا سيدتي، إني استلمت أمر جلالته مختومًا وسلمتكه مختومًا. تقولين أن ضابطًا استلَمَ علبة الحلي؟

– نعم، وقد مضى منذ دقائق في أوتوموبيل.

– يا لله! في أوتوموبيل، لقد رأيت ضابطًا في أوتوموبيل وقد وقف بأتوموبيله لدى فندق الإمبريال، أظنه لا يزال في الفندق.

– ويحك! إليه إليه! ولا تدعه يفلت من يدك، سلِّمه إلى البوليس حالًا.

فاندفع الكولونل من المنزل وهرع مسرعًا إلى ذلك الفندق وهو على قيد ربع ميل من ذلك المنزل، وقد سرَّ حين رأى الأوتوموبيل لا يزال أمام الفندق، فسأل بوَّاب الفندق: مَن صاحب هذا الأوتوموبيل؟

– ضابط ثقيل، قرع بابنا قبل أن نفتح عيوننا لضوء الصباح، ولم أَرَ في حياتي شخصًا يقرع أبواب الفنادق في الفجر غير هذا الثقيل، وهو كالمجنون ما لبث أن نزل من أوتوموبيله حتى قال إنه يريد غرفة وفطورًا في الحال، وما دخل إلى الغرفة حتى خرج منها وهو يقول إنه سيعود عاجلًا، فيجب أن نعِدَّ له الفطور حالًا، ومضى من غير أن يقول ما هو الفطور الذي يريده.

– أَلَا تدري أين مضى؟

– أظنه مضى ليبتاع بنزينًا لأوتوموبيله؛ لأنه سألني ما إذا كان يجد عندنا بنزينًا، فقلت له نحن فندقانيون لا بدالون، ولا أدري أين يجد هذا المجنون الآن بنزينًا قبل أن تفتح الحوانيت؟!

ففكَّر الكولونل هنيهة ثم قال: أود أن أنتظره هنا.

– تفضَّلِ استرِحْ في بهو المقابلات.

فدخل الكولونل وهو يقول: هل كان معه شيء حين دخل إلى الغرفة؟

– كان معه علبة.

– أود أن أراها في غرفته.

– لقد أخذها معه يا سيدي.

فتغيَّظ الكولونل شديد التغيُّظ وقال: إني خارج الآن وسأعود في الحال، فإنْ عاد الضابط قبلي فلا تَقُلْ له شيئًا عني، ولا تدعه يعرف أن أحدًا يسأل عنه.

وخرج الكولونل مترددًا ثم التفت إلى بواب الفندق وقال: حاذِرْ أن تقول له كلمةً عني. خُذْ هذه وسأكافئك أيضًا إذا اجتمعت بهذا الضابط.

فتناول البوَّاب منه قطعة فضية متهللًا جدًّا وقال: إني خادمك يا سيدي، فهل تريد خدمة أخرى؟

– أريد أن تشغل ذلك الضابط عن الخروج إلى أن أعود مهما كلَّفك الأمر، ولك مكافأة عظمى.

ثم ركب الكولونل مركبة إلى دائرة البوليس وأبلغها أنه يحتاج إلى نفرين في الحال للقبض على محتال، وأوعز إلى النفرين أن يذهبا إلى الفندق ويستوقفا كل شخص يجدانه فيه في زي ضابط.

أما هو، فطاف في بعض الشوارع عسى أن يعثر على ضالته، فلم يجد أحدًا، فعاد إلى الفندق فرأى الشرطيين كامنين فيه، وقال بوَّاب الفندق إنه على إثر مزايلة الكولونل لمح الضابط يعبر من شارعٍ إلى آخَر، وأسرع لمراقبته فإذا به قد اختفى، فلا ريب أنه لا يزال يبحث عن بنزين، ولا بد أن يعود ما دام أوتوموبيله أمام الفندق.

فبقى الكولونل في الفندق منتظرًا برهة، وبعد نحو نصف ساعة جاءت مدام شراط واجتمعت بالكولونل وهي في شديد الاضطراب، فأخبرها الكولونل ما كان من حديث بواب الفندق وما فعله من التحوط للقبض على المحتال، ونصح لها أن تسكن روعها؛ إذ لا بد من الظفر بالمحتال على كل حال.

مضت برهة أخرى والضابط المحتال لم يَعُدْ، فاشتد قلق مدام شراط والكولونل معًا، فبث الكولونل بعض الشرطة في ذلك الحي يبحثون عن الضابط المحتال، وانقضت الساعة ولم يقفوا له على أثر.

وأخيرًا لم تَرَ كاترين شراط بدًّا من تلغفة الأمر إلى فينا؛ ولكن بأي أسلوب؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤