الفصل السابع

إذَا حَلَّ الثقيلُ بأرضِ قومٍ
فما لِلسَّاكنينِ سوى الرحيلِ

دخلت كاترين إلى البهو فوجدت الدر يتمشى فيه وهو ينظر إلى مفاخره ونفائسه، فقالت: سلامًا يا الدر، ماذا تريد الآن؟ هل من حالة مستعجلة؟

فحملق فيها قائلًا: عجبًا! إذا جاء الرجل إلى بيته فهل يكون طالب حاجة مستعجلة؟

فدهشت كاترين لجوابه وقالت: بيتك؟

– نعم، حيث تسكن زوجتي يكون بيتي.

– لله منك وقحًا! أين حجة بيتك أو أين عقد إيجاره الذي دفعته؟

فقهقه الدر هازئًا وقال: لا فرق بين أن يدفع الرجل أو المرأة ثمن المنزل أو أجرته؛ لأنهما شريكان طول الحياة.

– في أي شرع تدفع المرأة ثمن بيت زوجها أو أجرة سكناه؟

– ليس مَن يضطرك أن تدفعي ثمن بيت أو أجرة سكناه إلا إذا كنتِ تصرين على سكنى بيت خاص بك، فعليك أن تدفعي ثمنه أو أجرة سكناه.

– لا أفهم معنى ذلك كله يا الدر.

– معناه واضح جَلِيٌّ، إنك زوجتي فيجب أن نسكن معًا.

– نسكن معًا؟

– نعم.

– ولكن هذا الصرح …

– إذا أَبَيْتِ أن أساكنك في هذا الصرح، فنسكن في بيت آخَر.

– وأنا أدفع النفقات؟

– لا، بل أنا أدفع كل شيء يجب على الزوج أن يدفعه.

فقهقهت قائلة: اليوم أنت رابح فتدفع، ومتى خسرت فمَن يدفع؟

– إذا اضطررت أن تدفعي فاهجري منزلي إلى صرحك.

ففكرت هنيهة ثم قالت: حسنًا، متى هيَّأتِ المنزل نسكنه؟

– المنزل متهيئ فتفضلي معي الآن.

– عجبًا متى كانت لكَ هذه النخوة؟

– ربما كنتُ قد فقدت نخوتي، ولكنها عادت إليَّ اليوم.

– يسرني ذلك جدًّا فتعالَ غدًا وخذني إلى منزلي الجديد.

– بل تذهبين معي الآن.

– لا، لا أريد أن أذهب الآن.

– لا بأس، أبقى أنا هنا الليلة.

– عجبًا!

– لا أدري أين العجب في أن يكون الرجل مع زوجته؟

– ولا أدري أنا كيف يحتم الرجل أن يكون مع زوجته متى شاء، وأن يهملها متى شاء؟

– الذنب ذبنك في سكوتك على إهمالي الماضي، فلماذا لم تطالبيني بحقك كما أطالبك بحقي الآن؟

فأُفْحِمت كاترين وأُغلِق عليها، فلم تَدْرِ بماذا تجيب وكيف تتخلص من هذا المأزق، وهي كل هنيهة تفتكر أن الإمبراطور ينتظرها قلقًا، فتجلدت وتباسمت وقالت: لا بأس، تعالَ غدًا فنقرِّر أمر المستقبل.

– لا شيء يستوجب التقرير، الأمر مقرَّر شرعًا. إن لم تذهبي معي إلى بيتي فأبقى معك في بيتك، وكلا البيتين لنا كلينا معًا.

– بل أود أن تعفيني الليلة من هذا اللقاء.

– بل أود أن تسمحي لي بالبقاء هنا الليلة.

– وهَبْ أني لا أسمح؟

– لكِ ألَّا تسمحي، ولكن في هذه الحالة يجب أن تذهبي معي.

– وهَبْ أني لا أذهب؟

– تذهبين لأني لا أريد أن تكون امرأتي في منزل وحدها.

– لا أذهب.

– تذهبين بالقوة.

– أية قوة؟

– قوة البوليس الشرعية.

– عجبًا، لا قِبَل للبوليس …

– لا قِبَل للبوليس أن يرفض تنفيذ أمر قانوني.

– وهَبْه رفض؟

– آتي بوزير الحقانية ووزير الداخلية أنفسهما، أقيم القيامة الليلة على رأسك، إن ما أطلبه حق، ونحن في بلادٍ دستورية يخضع فيها للقانون الكبيرُ كالصغير. فهل فهمتِ؟

– بالله مَن لقَّنك هذا الدرس؟

– إني رجل مستوفٍ للمعارف اللازمة، فلا حاجة بي إلى مَن يلقِّنني؟

فامتقَعَ لون كاترين وحارت ماذا تفعل، وأخيرًا قالت: أدفع لك مضاعف حاجتك من النقود.

– قلتُ لكِ إني في غنى عن نقودك.

– إني أتوسل إليكَ أن تُمْهِلني الليلة.

– لا أمهلك لحظة، تبقين أبقى، وإلا فنذهب معًا.

ففكرت كاترين لحظة ثم قالت: تفضَّل اجلس، وسنبحث مليًّا في الموضوع، اسمح لي أن أرتدي معطفي فإني شاعرة بقشعريرة.

وتركته في البهو وأوصت الماس أغا أن يراقبه ريثما تعود، ودخلت على الإمبراطور مكفهرة أيَّ اكفهرارٍ، وروت له محصل ما جرى، فارتبك فرنز جوزف وقال: ادفعي له كل ما عندك من النقود، وإن اقتضى الأمر فبعض الحلي، القصد أن يذهب هذا الثقيل من هنا الليلة.

– ليست المسألة مسألة نقود يا مولاي، وإنما في الأمر.

– في الأمر دسيسة، أنا عارف.

– إذن يجب إبعاده بأية الوسائل، فماذا يمنع أن تصدر أمرك للبوليس بالقبض عليه الآن؟

فضحك الإمبراطور وقال: هنا الأمر والنهي لكِ وحدك يا كاترين.

– مولاي.

– أقول لكَ إني هنا بلا حول ولا طول متى كنتُ في خدرك. فحارت كاترين ولم تَدْرِ ماذا تفعل فقالت: والعمل إذا كنت كشمشون عند دليلة؟

– الحيلة فقط.

– مولاي هاك التلفون، وكلمة إلى وزير الداخلية فيرسل يقبض على الدر هنا.

– وتريدين أن يذاع غدًا في فينا أن الإمبراطور في «صرح كيتي»؟

– إذن؟

– تملقيه.

فهزت كاترين رأسها وقالت: التمليق لا يقاوم دسيسة يا مولاي، ومع ذلك سأجرب مرة أخرى.

وما همت أن تخرج حتى سمعنا ضوضاء وجلبة وخصامًا في رحبة الصرح، ففَهِمَا أن الماس والدر يتصارعان، ثم سمعا الدر يقول: إني حر في أن أدخل إلى كل غرفة في منزلي، لا يستطيع أحد أن يمنعني أو يخرجني.

فارتعدت كاترين وقالت: مولاي مولاي، إنه مقتحم إلى هذه الغرفة، ما رأيك أن أبادره برصاصة في صدره.

فانتهرها الإمبراطور قائلًا: إياكِ أن تفعلي، إنَّ فعلتك هذه تزعزع العرش بأركانه.

– رحماك يا سيدي، يكاد يفلت من بين يدي الماس، فهل تريد أن يراك هنا؟

ولم يكن اكفهرار فرنز جوزف بأقل من اكفهرار كاترين شراط، فقال: لم يَبْقَ لي إلا أن أخرج خروج اللص الآن لأجلك يا كاترين.

ثم انسل من الغرفة إلى غرفةٍ أخرى مجاورة لها، وفي تلك اللحظة دخل الدر وهو يرغي ويزيد ويقول: إن كان ثمة من مانع لطوافي في هذا المنزل، فلا بد من خيانةٍ تُرتكَب فيه، عليَّ أن أتحقق كل ما هو جارٍ في هذا الصرح.

فأمسكته كاترين وانتهرته قائلة: إنك في حجرة طاهرة، فلا تدنسها بمظانك السيئة وأنت قادم من حمأة فجور، اجلس وقُلْ لي الآن: ما الذي بدا لكَ حتى جئت معربدًا؟

– لست سكرانًا ولا مجنونًا، وإنما أنا رجل عاقل، وقد دخلت إلى منزل زوجتي، ومن حقي أن أُوجَد في أي غرفة فيه، إلا إذا كانت زوجتي تخاف اكتشاف فضيحة، لا تقدري أن تقفي في سبيلي.

– لكَ أن تطوف حيث تشاء.

وتركته يدخل في نفس الغرفة التي دخل فيها الإمبراطور، ثم طاف سائر غُرَف الصرح ورحباته، وكاترين تصحبه حتى انتهيا في البهو، فتنهدت كاترين الصعداء وقالت: إن كان قد سكن هياجك الآن فتعالَ نتحدث.

أما الإمبراطور فانسل من تلك الغرفة إلى الرحبة، حيث أخذ قبعته وأسرع مصطحبًا الماس إلى خارج الصرح كحارس له، ثم أمره أن يعود، واستطرق إلى مدخل قصر شن برن السري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤