مري رع

في الحلقة الرابعة، أسمر خمري، نحيل، ذو نظرةٍ حزينة تصلُح عنوانًا لمأساة، يعيش في بيتٍ صغير، بلا رفيق أو خادم، ذلك الذي كان يومًا الكاهن الأكبر للإله الواحد، في مدينة النور أخت آتون. وقد زرته في بلدته دشاشة على مَبعدة من طيبة بمسيرة يومَين إلى الشمال. ولما قرأ رسالة أبي سألني باسمًا: ولمَ تتجشَّم هذا التعب؟

فقلت ببساطة: لأعرف الحقيقة.

فقال وهو يهزُّ رأسه في أسًى: حسنٌ أن يوجد ولو فرد واحد من طلاب الحقيقة.

ثم مضى يقول: لعلِّي الشخص الوحيد الذي حُمِل بالقوة من أخت آتون بعد أن رفض التخلِّيَ عن مولاه، وقد سكت الصوت الإلهي وتهدَّم المعبد، ولكن الدهر لم ينطق بالكلمة الأخيرة بعد.

ورنا إليَّ طويلًا بعينَيه البُنيتين ومضى يقول: أسعدني حظِّي في صِباي بأن أكون ضِمن حاشية الأمير، فمِلت مِثله إلى الأمور الروحية، ودرسنا معًا ديانة آمون وديانة آتون. ومِثل كثيرين فُتنت به وأُخذت بحديثه الساحر، ورُوِّعت بنضجه السريع الخارق للمألوف. وقد بارَكني بقوله الذي غزا به قلوب أتباعه، فقال لي: إني أُحبُّك يا مري رع؛ فلا تضنَّ عليَّ بحبك.

فتغلغل حبه في قلبي حيث لم تبلغ عاطفة من قبل، حتى أباح لي خلوته على شاطئ النيل في أي وقت أشاء. وهي خلوة في الطرف الغربي من القصر، تُطلُّ على النيل، في هيئة مِظلَّة تقوم على أربعة أعمدة تُحدق بها أشجار النبق والنخيل، أرضها من العشب النضير، تتوسطها حصيرةٌ خضراء ووسادة. كان يستيقظ عند الفجر فيمضي إلى الخلوة ينتظر شروق الشمس، ويتغنَّى لقُرصها البازغ من وراء الحقول. وما زال صوته العذب يجيش في صدري، وينتشر في حواسِّي مِثل رائحة البَخور المقدَّس وهو يترنَّم:

إنك تسطع جميلًا في جبل النور في السماء،
يا آتون الحي يا من عاش أولًا،
إنك إذا أشرقت في جبل النور الشرقي،
ملأت كل بلد بجمالك.
إنك جميل، إنك عظيم.
إنك تتلألأ عاليًا فوق كل بلد،
وأشعَّتك تضمُّ البلاد،
وكل شيء خلقته.
إنك بعيد، ولكن أشعَّتك على الأرض.

وكان يذوب من الوجد، وينبثق من وجهه الصبيح الأنوار، ثم نتجول في الحديقة وهو يقول: لا يوجد سرورٌ خالص إلا في العبادة.

ذلك أن حياته لم تخلُ من منغِّصات. وذات مرة تشكَّى لي قائلًا: يأبى أبي إلا أن يجعل مني مُقاتلًا يا مري رع!

لم يمرَّ تدريبه العسكري الفاشل دون أن يترك في نفسه ألمًا يحز. أو ينظر في المِرآة المؤطَّرة بالذهب الخالص ويقول باسمًا: لا قوة ولا جمال!

أما موت أخيه الأكبر تحتمس فقد حفر في وجدانه جرحًا غائرًا لعله لم يبرأ منه إلا حينما أُصيب بجرحٍ أشدَّ بموت ابنته المحبوبة ميكيتاتون. شدَّ ما بكى أخاه الذي نصبه موته وجهًا لوجه مع حقيقة الموت الصُّلبة الغامضة. وسألني: ما الموت يا مري رع؟

فلُذت بالصمت مُتحاشيًا الإجابات التقليدية التي يضيق بها. فعاد يقول: ولا آي نفسه يعرف، قُرص الشمس وحده يُشرق بعد الغروب، أما تحتمس فلن يرجع إلى هذا الوجود مرةً أخرى!

وهكذا أعلن حربًا أبدية على الضعف والقبح والحزن. ومضى في طريقه المجهول مثل شعاع الشمس، تُنذر بوادره كل يوم بجديد، حتى لقيته ذات صباح مُشرِق شاحبَ اللون في خلوته، مستقر النظرة، ثابت الجَنان، فقال لي دون أن يردَّ تحيتي: ليست الشمس شيئًا يا مري رع.

فلم أدرك مقصده، فجذبني إلى مجلسه فوق الحصيرة وقال: استمِع إلى الحقيقة يا مري رع. ليلة أمس أسكرني الشوق بلا خمر، وتجسَّد لي الظلام جليسًا أنيسًا كالعروس المُتجلية، وحلَّقت بي نشوةٌ آسرة في الفضاء، وهناك عبر ألف خيال وخيال بزغت الحقيقة للفؤاد أقوى من أي منظر تراه العين، وترامى إليَّ صوتٌ أجمل من عبير الأزهار، فقال لي: «املأ وعاء قلبك بأنفاسي، واطرد عنه ما ليس مني، أنا القوة التي تتسلل منها قُوى الوجود، أنا النبع الذي تتدفق منه الحياة، أنا الحب والسلام والسرور، املأ وعاء قلبك مني ويسِّره مَشربًا للمعذَّبين في الكون.»

ومن شِدَّة تألُّقه تراجع رأسي في انبهار، فقال لي: لا تخَف يا مري رع، ولا تبتعد عن السعادة!

فغمغمت وأنا ألهث: يا له من نور!

فقال بعذوبةٍ صافية: تعالَ لتعيش معي في الحقيقة …

فاعتدلت في جلستي وقلت: إني معك إلى الأبد.

ومنذ تلك الساعة السعيدة صار أول كاهن للإله الواحد الذي لا إله غيره، وغدا مُعلمي وأستاذي، ورائدَ من لبُّوا النداء. وقلت له: آمنت بإلهك.

فقال بحبور: أحسنت، ولتكُن أول كاهن في معبده.

وأعلن إيمانه لخاصته، ولكنه لم يتعرض للآلهة إلا فيما بعد، وبالتدرُّج أيضًا، فأعلن كفره بالآلهة الزائفة أولًا، ثم ألغاها ووزَّع أوقافها على الفقراء في خطوةٍ تالية. أما على عهد إمارته فلم يكُن بوسعه في حكم والده أن يكون صاحب قرار. وقد تزوَّج من نفرتيتي وهو وليٌّ للعهد، فوهبه الزواج سعادةً كبرى، غير أن أسعد ما أسعده حظِّي به من إيمانها الصادق بإلهه. وفي أخت آتون تبوَّأت مركز الكاهن الأكبر للإله الواحد، ولما عزم مولاي على مصادرة المعابد قلت له: إنك تتحدى قوةً ذات نفوذٍ قديم على الناس من النوبة حتى البحر.

فقال لي بثقة: ما الكهنة إلا دجَّالون، يستعبدون الضُّعفاء، وينشرون الخُرافات، وينهبون الأرزاق. مَعابدهم مواخير، وقلوبهم ثمِلة بحب الدنيا …

فاكتشفت فيه قوةً حقيقيةً أخفاها عن الأعيُن تهافتُ بُنيانه، وشجاعة لا يحظى بجزء منها حور محب قائد الحرس أو ماي قائد الحدود. وقد حسِبه أناس لغزًا لا يُحَل، لكنه وضح بالنسبة لي مِثل نور الشمس. لقد فنِي في حب إلهه، وأحبَّه الإله، فكرَّس حياته لخدمته مُلقيًا بالعواقب جانبًا، فلم يلتبس عليَّ قرار من قراراته ولا موقف من مواقفه. لم أُدهَش لسلوكه في رحلته المشهورة حول عالم إمبراطوريته، ولم أُدهش لتمسُّكه برسالة الحب والسلام حتى في أحرج الظروف، ولم أُدهش لموقفه الأخير عندما تخلَّى عنه أقرب المقرَّبين إليه. كان يعيش في رحاب الإله ويصدع بأمره، ولا يُبالي بعد ذلك بما يحيق به؛ إذ كيف يمكن من ينغمس في الحقيقة أن يكترث لمكر الساسة ودهاء العسكريين؟! وقد رمَوه بالخيال والحلم والجنون، فكان هو العائش في الحقيقة، وكانوا هم الخياليين الحالمين المجانين الغارقين في أوهام الدنيا الفاسدة. ولم يكن العرش يهمُّه كما يهمُّ الملوك العاديين، بل إنني أذكر أنه عندما دُعي من رحلته لتولِّي العرش بعد وفاة أبيه، تجهَّم وجهه وتساءل: تُرى هل تشغلني الشواغل عن إلهي؟

فقلت له بحماسٍ صادق: بل إنك مدعوٌّ يا مولاي لوضع قوة العرش في خدمة الإله، كما التزم أجدادك بخدمة آلهتهم الزائفة.

فسُرِّي عنه وتمتم: نطقت بالحق يا مري رع، فكما قدَّموا لآلهتهم قرابين من البشر المساكين، سأقدِّم قُوى الشر قرابين لإلهي، محطِّمًا الأغلال التي يرسف فيها من لا حول لهم.

واعتلى العرش ليخوض أشرس معركة خاضها ملك، ولكن في سبيل الحقيقة والحب والسلام وسعادة البشر، وأثبت في غِمارها أنه أقوى عشرات المرَّات من تحتمس الثالث نفسه، وكان رجاله يمثُلون أمام عرشه فتصرِّف نفرتيتي أمورهم اليومية، أما هو فلا يني عن إعادة خلقهم من جديد ليكونوا جديرين حقًّا بالنعمة الإلهية والنُّبل البشري. وتجلَّى سحره كأقوى ما يكون في نشر دعوته بالأقاليم، وقد فُتِن الناس به، وسكِروا بخمر رسالته، وألقَوا عليه محبَّتهم مع الأزهار والرياحين. وسكت مري رع ليتنهَّد طويلًا، ثم واصَل حديثه: ثم جاءت سُحُب الأحزان يتبع بعضها بعضًا مسوقةً بأنفاس الحقد في داخل البلاد وخارجها، وتلقَّاها كل رجل بحسب قوة إيمانه، ولم يعبأ بها مولاي، وراح يردِّد: لن يخذلني إلهي.

وقال لي يومًا في المعبد: الرجال ينصحونني بالاعتدال، وإلهي يأمرني بالإيمان، فأيَّهما أتبع يا مري رع؟

ولم يكُن سؤاله الساخر في حاجة إلى إجابة. ولما مضت الأزمة في الاشتداد جاء حور محب لمقابلتي في المعبد، وقال لي: أيها الكاهن الأكبر، إنك أقرب الرجال إلى الملك.

فأجبته وأنا أحدس ما سيقول: تلك نعمة الإله عليَّ.

فقال بصراحة: الأمور تقتضي تغيير السياسة.

فقلت له بثبات: أستمع لصوت الحقيقة وحدها.

فقطَّب فيما يُشبه الضجر وقال: أتوقَّع أن أسمع كلامًا معقولًا.

فقلت بحِدَّة: لا تفاهُم إلا بين المؤمنين.

ولما علِمت بقرارهم في التخلِّي عن الملك بحُجة الدفاع عن حياته قلت لآي: من ناحيتي لا أُقرُّ العودة إلى الكفر.

ورفض مولاي التراجع خطوةً واحدة، ولكن كانت له خُطته أيضًا في تجنُّب الحرب الأهلية؛ فكان عازمًا على مواجهة الشعب وحده والجنود المُتمردين، وكان كامل الثقة في قدرته على إعادتهم إلى حظيرة الإيمان، ولكن الحاشية آمنت بأنه سيُقتَل حتمًا، وأنهم سيلحقون به جزاء بقائهم على الولاء له. وتخلَّى عنه الجميع، وقد ضمُّوني إلى قافلتهم المرتدَّة بقوة الجند، وأمروا الحرس بمنعه بالقوة إذا صمَّم على مواجهة الشعب. وحِيل بينه وبين ما يريد بالفعل، ووجد نفسه وحيدًا حبيسًا في قصره، حتى نفرتيتي ذهبت مع الذاهبين، وعند ذاك غزا الحزن قلبه أمام ضعف الإيمان الذي بذل حياته الغالية في بثه وتثبيته. وقيل لنا عقب ذلك إن المرض تمكَّن منه وقضى عليه. والحق أني أشكُّ في ذلك، وأرجِّح أن الأيدي الآثمة امتدَّت إليه في عُزلته وانتزعت منه روحه الطاهرة الخالدة. وقد مات دون أن يعلم بأنني ما تخلَّيت عنه إلا بالقوة، وفي اعتقادي أن نفرتيتي أُبعدت عنه بالقوة أيضًا، ولا أتصوَّر غير ذلك أبدًا.

وصمت مرةً أخرى ليتنهَّد، ثم رنا إليَّ طويلًا وقال: ولكنه لم يمُت، ولا يمكن أن يموت، إنه الحقيقة الباقية والأمل المُتجدد، ولينتصرن عاجلًا أو آجلًا، ألم يَعِد الإله بأنه لن يخذله؟!

ومال إلى خِزانة فاستخرج منها لفافةً من البردي، فأعطاها لي وهو يقول: إنها تحوي رسالته وأناشيده، اقرأها يا فتى، وليستجيبن لها قلبك المُحب للحقيقة، فإنك لم تقُم برحلتك لغير ما سبب …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤