ناخت

سليل أسرة عريقة، رَبعة، ذو وجهٍ أبيض مُشرَب بحُمرة، رزينٌ أكثر من أي إنسان، في الأربعين أو نحوها، كان وزير إخناتون، وهو يعيش اليوم في مقاطعته بإقليم دكما في وسط الدلتا. لم يشغل وظيفة في الدولة الجديدة، ولكنه يُدعى من حين لآخر لاستطلاع رأيه في المشكلات الكبرى. رحَّب بي منوِّهًا بالعلاقات القديمة التي تربط بين أسرتَينا، ثم مضى يُدلي برأيه — مُتجاوزًا الأحداث التي باتت معروفةً لديَّ — وهو يقول: دعني أُخبرك بأنني رجلٌ غير سعيد، لم أستطع أن أضطلع بمسئوليَّتي كما يجب، فأفلت مني الملك، وتمزَّقت تحت بصري الإمبراطورية. لقد اعتزلت الحياة العامة، ولكن الهموم لم تعتزل قلبي. وكلما ألحَّ عليَّ الكدر ساءلت نفسي: أي رجل كان مولاي إخناتون الذي وُصف اليوم بالمارق؟

كنت من رُفقاء صِباه مِثل حور محب وبك، ورغم كل ما يمكن أن يُقال عن ضعفه وأنوثته وغرابة منظره فقد نجح في حملنا على حبه، والإعجاب بقوة إدراكه ونضجه المبكِّر، ولكن ثَمة نقطة ضعف اكتشفتها فيه قبل الآخرين، وهي أن شئون الدنيا الواقعية لم تكن تُهمُّه، وكانت تبعث في نفسه الملالة والسقم. وكان يرمق بعينٍ ساخرة حياةَ أبيه اليومية التي تكون النواة الصُّلبة التي ترتكز عليها تقاليد العرش المقدَّسة، مِثل الاستيقاظ في ساعةٍ محدَّدة، والاستحمام، والإفطار، والصلاة، واستقبال المسئولين، وزيارة المعبد. وكان يُغمغم: أي عبودية!

كان يعبث بالتقاليد عبث طفل مدلَّل؛ لذَّته في التحدي وتحطيم الآنية الثمينة، ومن ناحيةٍ أخرى كان يطمح إلى معرفة سر الكون، والسيطرة على الحياة والموت. وتضاعف إصراره على ذلك بعد وفاة أخيه الأكبر تحتمس. لقد انكسر قلبه أمام الموت، ولكنه صمَّم على أن يردَّ الضربة بلا هوادة. وكان ذا خيال وثَّاب، وكان خياله من القوة بحيث وقع في النهاية أسيرًا له وهو لا يدري. ونحن أيضًا كان لنا خيال، ولكنا كنا على وعي بأنه خيال، أما هو فكان خياله يتجسَّد له حقيقةً واقعة؛ من أجل ذلك ظُن به الجنون أو العَته. كلَّا، لم يكُن مجنونًا ولا معتوهًا، ولكنه لم يكن طبيعيًّا أيضًا. كان على حداثته مَبعث قلق لوالدَيه وللكهنة، ومصدر حَيرة لنا نحن أصدقاءه المقرَّبين. يشكُّ في آمون سيد الآلهة، ويعبد آتون، ثم يُسرُّ إلينا باهتدائه إلى الإله الواحد الذي لا إله غيره. لم أشكَّ في صدقه، كما لم أشكَّ في خطئه. كان صادقًا؛ لأنه لم يكذب قط، ولكنه لم يسمع صوت إله، وكان المتكلم قلبه هو. وما من بأس في أن يزعم ذلك كاهن من الكهنة، أما أن يكون الزاعم وليًّا لعهد أمنحتب الثالث فالأمر يختلف. ولم يصمت ذلك الصوت الخفي، ولكنه راح يُبدع للناس رسالةً في الحب والسلام والسرور، ويُضمر للآلهة والمعابد وإمبراطوريتنا الفناء، وإذا بالشاعر يصير ملكًا، وإذا بالحُلم يتجاهل الحقيقة ويحلُّ محلَّها، فتختلُّ الموازين وتقع المأساة. ودعانا عقِب جلوسه على العرش، وعرض علينا دينه الجديد! كان من رأيي الرفض، وقلت لحور محب: قد يعدل عن غيِّه إذا وجد نفسه وحيدًا.

فقال لي: سيجد غيرنا ممن لا خلاق لهم ولا خبرة، فيجرُّون البلاد إلى الخراب.

فسألته: أليس من المحتمل أن يقع ذلك بأيدينا؟

فابتسم ساخرًا وقال: إنه أضعف من أن يستهين برأينا!

وهزَّ منكبَيه وتمتم: إنه يملك الكلمات ونحن نملك القوة …

من أجل ذلك أعلنت إيماني بدينه بين يدَيه. واختارني وزيرًا، فتلاشت مخاوفي أو كادت. وكنت ألقاه كل يوم سواءٌ في طيبة أو في أخت آتون، فأعرض أمور الإدارة والمال والمياه والأمن، فيلوذ بالصمت تاركًا الرأي والتوجيه للملكة التي أثبتت جدارةً فاقت كل تصوُّر، أما هو فلم يتحدث إلا عن إلهه ورسالته، وما يتعلق بذلك من توجيهات وقرارات. وواجهت أول تحدٍّ عندما أراد أن يُعلن موقفه من الآلهة، وحذَّرته من العواقب، وإذا به يقول لي كالمُعاتب: يا ضعيف الإيمان!

ومضى بي إلى الشُّرفة فأطلَّ على الجموع المُحتشدة، وكانت له قوة السحر في نفوسهم، فأعلن قراره بقوةٍ مُخيفة، وارتفع هتاف الجماهير إلى السماء، وشعرت بأنني أصبحت لا شيء، وأن ذاك البناء المُتهافت يتفجَّر عن قوةٍ مجهولة لا قِبل لنا بها. ورغم حكمة نفرتيتي كانت تسلِّم له في رسالته، وتتحمس لها كأنها هي صاحبة الرسالة. والحق أن ذلك أدهشني حتى قلت لنفسي: هذه المرأة إما أن تكون شريكته الروحية أو تكون أكبر ماكرة عرفتها البشرية! وفي تقديري أنه مما أكَّد له النجاح أنه لم يتصدَّ لمعارضته سِواي؛ فحور محب لم يتكلم إلا عندما بلغت الأزمة ذروتها، وأما آي المستشار فقد شجَّعه طيلة الوقت مُتظاهرًا بالحماس والورع والتفاني في حب الإله الجديد. ودعني أُصارحك بأنني أتَّهم ذلك الرجل بالمكر وسوء الطوية، إنه رسم خطة ليثب إلى عرش مصر، وإليك تصوُّري كاملًا. لقد اختير مُعلمًا لوليِّ العهد، فوقف على نقاط ضعفه جميعًا. هو الذي وجَّهه إلى ديانة آتون، وهو الذي بثَّ في روحه فكرة الإله الواحد، وأنه صاحب رسالته، وهو الذي دبَّر زواجه من ابنته رغم علمه بعجزه، وأقنعها بالتظاهر بالإيمان الجديد؛ بذلك صار حما الملك ومستشاره المعروف في مصر بالحكيم. وزيَّن له مصادرة الآلهة ليُوقع بينه وبين الكهنة والشعب، فينتهي الصراع بعزله أو قتله إن لم يمت قبل ذلك لضعفه الطبيعي. ولم تكُن تخفى عنه الأسباب التي ترشِّحه للعرش؛ فهو حمو الملك، وهو الحكيم، وهو أيضًا طاعن في السن لا ييئس الطامعون في العرش من انتظار أجله ليحلُّوا محلَّه. ولعله رسم أيضًا أن يتزوج من ابنته نفرتيتي فيدعم شرعيته وتستمر هي ملكةً لمصر. ورأيي هذا لا يستند إلى تصوُّري وحده، ولكن لِما وافاني به بعض العيون، ولكن أفشل خطتَه ولاءُ الشعب للملك أولًا، ثم تولية الكهنة لتوت عنخ آمون عند ذروة الأزمة، ولكني أعتقد أنه ما زال يجترُّ حُلمه القديم.

ولم أستطع أن أبوح برأيي لأحد، ولكنني ثابَرت على تقديم نصحي للملك. قلت له: لا شك أن إلهك هو الإله الحق، ولكن دع الناس إلى آلهتهم، شيِّد له في كل إقليم معبدًا، وسيكون له النصر الأخير، ولكن جنِّب البلاد شر الفتن!

ولكن كان أسهل عليَّ أن أُزحزح الهرم عن موقعه عن أن أُزحزح إخناتون عن قراره، وما زاد عن أن قال لي: يا ضعيف الإيمان!

وقمت بالمحاولة نفسها لإنقاذ البلاد من الفساد، والإمبراطورية من الضياع، قلت له: الدفاع عن النفس حق، ولا يتناقض مع الحب والسلام.

فقال لي بحماسه العجيب: حتى الحيثيون أنفُسهم سيخشعون لسحر الحب، الحب أقوى من السيف والكبرياء!

ولما تراكمت سُحُب الظلام اجتمعت سرًّا بكاهن آمون وقائد الدفاع ماي، وقلت لهما: لا بد من الإقدام على عمل، وإلا فقدنا الجدارة والشرف.

فنظرا إليَّ مُستطلعَين، فقلت: فليكفَّ الكهنة عن إثارة القلاقل في الداخل، وليزحف ماي بجيش الدفاع لإنقاذ الإمبراطورية.

فتساءل ماي: أزحف بلا أمر من فرعون؟

فقلت بهدوء: بلى …

فتساءل الكاهن وكان أقوى ثلاثتنا: وبعد؟

فقلت: حينما يتمُّ النصر لماي يُطالب الملك بإطلاق حرية الأديان.

وإذا بالكاهن يقول لي: خطةٌ غير حكيمة؛ فقد يتمرَّد قُواد الجيش على ماي إذا أمرهم بالزحف دون أمر فرعوني …

ثم قطَّب حتى احتنق الدم بوجهه وقال لي: إنك تعمل لحساب مولاك يا نخت لا لحسابنا، فلا شك أنه بلَغك نجاحنا في بث دعوتنا في الأقاليم، فقرَّرت أن تحرمنا من جنودنا المُوالين لنا …

تلقَّيت الطعنة في غضب وغادَرتهما مُوقنًا بأن أحدًا لا يُشغل بإله إلا بمصلحته الذاتية، وأن مصر ضائعة بين أوغاد، وأن تبِعة خرابها تقع على الجميع ما بين مُوالين للملك والمُعارضين له لا على إخناتون وحده، بل لعله أنقى المُذنبين ضميرًا وأصفاهم نية. لقد لعِب به الدُّهاة، ورسموا له خطةً ماكرة ليُحققوا في رحابه جشعهم، ثم ليرثوا ملكه عقِب السقوط الحتمي، ولكنه صدَّق كذبتهم وآمن بها، وتفجَّرت من إيمانه قوة لم يعمل أحدٌ حسابها، فاجتاحتهم فترة من الزمن، وغزت القلوب بسحرٍ عجيب، حتى ارتطمت بصخرة الواقع الحادَّة القاسية، فانجلت عن مأساة وخراب ودموع، ثم لاذ الانتهازيون الجشِعون بقارب النجاة في آخر لحظة، تاركين ضحيَّتهم الأعجوبة يغرق وحده وهو لا يُصدق أن إلهه المزعوم قد تخلَّى عنه حقًّا. ومزَّق الجميع أقنعتهم، وعلى رأسهم آي ونفرتيتي، واختلفت مصائرهم، ولكن لم ينَل أحدهم جزاءه الحق، باستثناء المارق المسكين، ولدرجةٍ ما نفرتيتي التي لم يقبل الكهنة توبتها الزائفة، أما مصر فقد تحمَّلت أخطاء الجميع، وتعدَّدت في جسدها الجِراح …

وصمت الوزير طويلًا ثم تمتم في أسًى عميق: هذه هي قصة الخِداع والبراءة والحزن الأبدي …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤