تي

هي زوجة الحكيم آي، في السبعين من عمرها، صغيرة الجسم، مُمتازة في صحتها بالقياس إلى عمرها، حُلوة المَحضر. وقد تزوَّج منها آي عقِب موت زوجته الأولى أم نفرتيتي، فتلقَّتها تي وهي بنت عام أو عامَين، ثم أنجبت له موت نجمت. ولما رفع الحظ نفرتيتي إلى العرش اختارت تي ضِمن حاشيتها، ووهبتها لقب «مربِّية الملكة». ولولا أنها كانت تُحبها ما فعلت ذلك، وهو ما يدلُّ على أن تي أحاطت نفرتيتي برعايتها وحبها، وأنها لم تكن «امرأة أب» بالمعنى المألوف.

وقد سردت لها المعلومات التي حصلتها عن الأحداث التاريخية، ثم قلت: لا داعي للتَّكرار إن لم يكُن لديك إضافة أو تعديل حفظًا على وقتك وراحتك.

فقالت تي: لم أُخالط الملك رغم قربي من زوجته، ولعله لم يُخاطبني إلا مرَّاتٍ معدودة، ولكن عذوبته لا تبرح القلب أبدًا. وقد عرفنا عنه الكثير من بعيد عن لسان زوجي آي الذي اختير لتعليمه. وأذهلنا ما سمِعنا عن موقفه من آمون، وميله مع آتون، ثم أذهلنا أضعافًا ما قيل عن اكتشافه للإله الجديد. الحق أنه أذهلني أنا وابنتي موت نجمت، أما حبيبتي نفرتيتي فكان لها موقفٌ آخر. ولكن عليَّ قبل ذلك أن أعرِّفك بها، إنها بنتٌ ذكية، وذات روح متوثِّبة تعشق الجمال وتهيم بالأسرار الدينية، ونضجها يفوق سنها بكثير، حتى قلت يومًا لزوجي آي: يُخيَّل إليَّ أن ابنتك ستكون كاهنةً!

وكان ينشب بينها وبين موت نجمت ما ينشب بين الأخوات الصغيرات من نزاع وخصومات عابرة، ولكن الحق كان دائمًا معها، ولا أذكر أنها تورَّطت في خطأ مرةً، وكانت تُصالح أختها كما يُصالح الكبير الصغير. وكانت تتفوق في تعليمها لدرجةٍ خشيت معها على ابنتي من ردة فِعل يتعذر إصلاحها. وجعلت تتلقى كلمات ولي العهد بإعجاب فتميل معه إلى آتون، ثم تُباغتنا بإعلان إيمانها بالإله الواحد. وقالت لها موت نجمت: إنه كافر.

فقالت بيقين: لقد سمع صوت الإله.

فصاحت بها: وأنت أيضًا كافرة!

كانت ذات صوتٍ عذب، وشدَّ ما كان يسرُّنا أن نسمعها وهي تغنِّي:

ماذا عساي أقول لأمي؟
فكل يوم أرجع إليها بالطيور.
أما اليوم فلم أنصب شِباكي؛
لأن حبك قد ملكني.

وبعد إيمانها راحت تغنِّي للإله الجديد وحدها في الحديقة، ولا أحد منا يريد أن يطرب لها، ولكني أذكُر صوتها الذي اقتحم عليَّ حجرتي ذات صباح وأنا أمشِّط شعري:

يا حي،
يا جميل، يا عظيم،
بك عمَّ الفرح،
وأترع الكون بالنور.

هكذا كان قصرنا أول بيت يتردد فيه نشيد الإله الجديد. ودُعينا لحضور الاحتفال بمرور ثلاثين عامًا على جلوس أمنحتب الثالث على العرش، وسُمح لنا باصطحاب بنتَينا لأول مرة لشهود احتفال بالقصر الفرعوني. وزيَّنت البنتَين لعلهما يروقان في أعيُن صفوة الشباب، فارتدَت كلٌّ منهما ثوبًا طويلًا فضفاضًا، وطوَّقت منكبَيها بمعطفٍ مُزركَش قصير، مُنتعلة صندلًا ذا سيور ذهبية. دخلنا قاعة لا تقلُّ مساحتها عن مساحة قصرنا كله، مطوَّقةً بالمشاعل ومقاعد المدعوِّين، على حين تصدَّرها العرش بين جناحَين من الأمراء والأميرات، وبين هذا وذاك ترامى فراغ للعازفين والراقصات العاريات، وتنقَّل العبيد بين المدعوين والمدعوَّات يحملون المباخر والأشربة والأطعمة الفاخرة. وقلَّبت عيني بين صفوة الشباب فتمنَّيت لابنتي حور محب الضابط الواعد وبك المثال الموهوب، ورأيت الأعيُن تسترق النظرات إلى نفرتيتي آتيةً من نخبة الحاشية، حور محب وبك وناخت وماي، خاصةً عندما أُتيحت الفرصة لبنات الأشراف ليرقصن ويُغنين في رحاب الملكين. وقد رقصت حبيبتي برشاقةٍ آسرة، وغنَّت بصوتٍ عذبٍ فاقت به المُطربات المُحترفات. لعلي في تلك الليلة شاركت ابنتي موت نجمت غيرتها الصامتة، غير أنني عزَّيت نفسي قائلةً: «إذا تزوَّجت نفرتيتي خلا الجو لموت نجمت، وتجلَّى نورها دون مُنافس.» وبدافع من حب الاستطلاع اختلست نظرات من نفرتيتي لأكتشف أين تتَّجه نظراتها، فأدهشني أن أراها مُنجذبةً من أعماقها إلى معلمها الروحي … ولي العهد! ونظرت نحوه فهالتني غرابة صورته، ورقَّته الأنثوية المُثيرة للدهشة. ولما التقت عيناي بعينَيها همست لي: حسِبته عملاقًا!

ولكن انبهارها غطَّى على دهشتها، ولم تكُن تحلم بما يدَّخره لها القدر. ورجعنا إلى قصرنا، فقلت لزوجي آي: سيطرُق بابَنا الخُطابُ يا آي، فدبِّر أمرك …

فقال بهدوئه المألوف: الآلهة ترسم لكلٍّ مصيره.

وبعد مرور يوم أو يومَين فاجأني آي بقوله: الملكة تيى ترغب في مقابلة نفرتيتي …

فأذهلنا الخبر، وسألته: ماذا يعني ذلك؟

فتفكَّر مليًّا ثم قال: لعلها سترشِّحها لوظيفة في القصر!

– ولكنك تعرف أشياء ولا شك!

فقال: كيف بمعرفة ما يدور في رأس الملكة العظمى!

وأخذ يلقِّنها أصول الآداب المتَّبَعة في لقاء الملوك، وقلت لها: فليُباركك آمون برعايته …

فقالت بثبات: إني أسأل الإله الواحد رعايته …

فهتف بها آي بحزم: حذارِ أن تتفوَّهي بحماقة في حضرة الملكة.

وذهبت نفرتيتي. ورجعت شديدة الانفعال، فطوَّقتني بذراعها وأجهشت في البكاء، أما آي فقال: اختارتها الملكة زوجةً لولي العهد!

عصف الخبر بأفئدتنا عصفًا، سمَت به حبيبتي نفرتيتي فوق الغَيرة والمنافسة. ها هي تفتح لنا باب الحظ السعيد لننفُذ منه إلى الأسرة المالكة. لقد أظلَّنا حظها بجناحَيه العريضين، وحلَّق بنا فوق الجميع؛ من أجل ذلك هنَّأتها من أعماق قلبي، وكذلك فعلت موت نجمت. وراحت تحدِّثنا عما دار بينها وبين الملكة العظمى، ومن شدة تأثُّري لم أُتابعها بالدِّقَّة المتوقَّعة، وليس في ذاكرتي اليوم أثارة منه، وما أهمية الحديث إذا قيس بالنتيجة التي انتهى إليها؟ وتم الزواج في حفلٍ رائع أعاد إلى ذاكرة المُخضرَمين ذكرى زفاف الملك أمنحتب الثالث. وصِرنا جميعًا ضِمن الأسرة المالكة، واختارتني حبيبتي لوظيفة المربِّية الخاصة لها، وهو مركز في القصر يلي مركز الأميرات مباشرةً! وبالزواج صارت نفرتيتي والأمير وَحدةً لا تتجزَّأ، ولا يُفرق بين نصفَيها إلا الموت. وقد شارَكته الأفراح والأحزان إلى ما قبل النهاية بساعات، ودبَّرت له شئون ملكه بمهارة امرأة خُلقت للعرش، وشارَكته حمل رسالته الدينية كأنها كاهنةٌ مُختارة حقًّا بعناية الإله الواحد. صدِّقني لقد كانت ملكةً عظيمة بكل معنى الكلمة؛ لذلك صُعقت عندما علِمت بهجرها المُفاجئ لزوجها في ذروة محنته، ولعله أول قرار اتخذته دون علمي، فهرعت إليها في قصرها، وجلست عند قدمَيها مُستسلمةً لنوبة من البكاء. ولم يبدُ عليها أنها تأثَّرت لحالي، وقالت لي بهدوء: اذهبي بسلام …

فقلت برجاء: إنهم يذهبون وقايةً للملك من أي شر.

فكرَّرت ببرود: اذهبي بسلام.

فتساءلت في حَيرة: وأنت يا مولاتي؟

فقالت ببساطة: لن أُغادر هذا القصر.

فهمَمت بالكلام، ولكنها قاطَعتني بنبرةٍ آمرة: اذهبي بسلام.

وغادَرتها كأتعس امرأة على وجه الأرض. وفكَّرت طويلًا فيما دفعها إلى الاختفاء، فلم أهتدِ إلا إلى فرضٍ واحد، هو أنها كرِهت أن تشهد هزيمة الملك وإلهه، فلاذت بالهرب خلال لحظة يأس طارئة، على أن ترجع إليه بعد ذهاب الجميع. ولا أشكُّ في أنها سعت إلى ذلك، ولكنها مُنعت بالقوة. ولا تُصدق أي تفسير آخر لهجرها القصر. سوف تسمع أقوالًا مُتضاربة، وسيُدلي كل رجل بما يؤكِّد أنه الحق، بينما ينطق عن هواه. لقد علَّمتني حياتي بألا أثق في أحد ولا أُصدق أحدًا. وها هو الزمن يمضي وأنا أتساءل دائمًا: أكان مولاي إخناتون يستحقُّ تلك النهاية المُحزِنة؟ كان النُّبل والصدق والحب والرحمة، فلمَ لم يُبادله الناس نُبلًا بنُبل، وصدقًا بصدق، وحبًّا بحب، ورحمة برحمة؟ لماذا انقضُّوا عليه كالوحوش يُمزقونه ويُمزقون ملكه كأنه عدوٌّ أثيم؟! ولقد رأيته في المنام منذ أعوام مطروحًا على الأرض والدمُ ينزف من جرحٍ غائر في عنقه، فاستحوذ عليَّ شعورٌ قوي بأنهم قتلوه قتلًا مدَّعين كذبًا أنه مات ميتةً طبيعية.

وسكتت وهي تنظر فيما أمامها بأسًى، ثم تمتمت: لقد عاشَرنا رجلًا لا يتكرَّر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤