الفصل الحادي عشر

الدين والتأليه

(١) الدين

الدين هو الطاعة والانقياد. وفي الجملة هو اسم لجميع ما يعبد به الله، ومثله الديانة وجمع الدين أديان وجمع الديانة ديانات. ودان الإنسان بالإسلام اتخذه دينًا والدينونة القضاء. والديان هو القاضي والمجازي، وهي صفة من صفات الله تعالى. أما اللفظ الأوروبي المقابل للدين فله معانٍ كثيرة وفقًا للأصل المشتق عنه، فمن معانيه بحث موضوع ما، أو رابطة، أو تفكير حول عبادة الآلهة، أو التزام (مديونية) على الإنسان نحو إله غير منظور؛ أي إن الإنسان مدين للإله بالطاعة.

هذا وقد درس رجال الفقه الإسلامي استنادًا إلى ما ورد في القرآن الكريم والأحاديث النبوية، ما يتضمنه الدين والعبادة من المعاني. أما الأوروبيون وبعض الشرقيين فقد درسوا أشكال العقائد والعبادات عند القبائل والأمم والجماعات الدينية دراسة علمية، عالجوا فيها أصل فكرة الدين والتأليه مقابلين — كما فعل هيوم والبيروني — بين المذاهب اليونانية واليهودية والمسيحية والإسلامية والمنشوكوية والصوفية، وفلسفات الهند وآلهتها والزورادشتانية والبراهمية وما إلى ذلك؛ إما لكي يحصوا عدد الأديان والمذاهب، وإما لكي يردوا جميع الأديان أو بعضها إلى أصل واحد ومبادئ مشتركة، وإما لكي يدرسوا دينًا معينًا.

وعند «دافيد هيوم» في كتابه «التاريخ الطبيعي للدين» في ١٧٣٧ أن تقدم الفكرة الطبيعية للدين في المجتمع الإنساني، ترجع إلى البداية الغامضة لعبادة الآلهة مرتقية إلى العقائد الواضحة المحدودة؛ أي إن الفكرة قد تطورت تطور كل شيء آخر في هذا العالم. وعند ﭼ. ﭼ. فريزر في كتابه «الغصن الذهبي» أن التدين مقتبس من عصر السحر، وأن الدين هو التوفيق بين القوى التي تعلو على الإنسان، تلك القوى التي يعتقد الإنسان أنها توجه الطبيعة والحياة الإنسانية وتحكمها.

وعند «هربرت سبنسر» في كتابه «مبادئ الاجتماع» أن أصل العبادة كلها الرجل الميت. وعند الدكتور جيفونز في كتابه «مقدمة لتاريخ الدين في ١٨٩٦» أن الدين الأولي يرجع إلى «التيتو تيميزم» عبادة الحيوان. وعند «تايلور» في كتابه «الثقافة الأولية» أن الاعتقاد في الكائنات مسألة روحية. وعند الدكتور روبرتسون في كتابه «محاضرات عن ديانة الساميين» أن الطقوس الدينية مسألة أولية. أما العقائد والأساطير فمسألة ثانوية، وعند «هويت» في كتابه «القبائل الوطنية في أستراليا الجنوبية الشرقية» أن هذه القبائل تذهب إلى أن القوانين والطقوس الدينية، قد بدأها كائن أعلى مثل «نوراند بيري»، الذين عمل كل شيء على الأرض أو «نوريلي» الذي خلق البلاد بأنهارها وأشجارها وحيوانها.

وعلى الجملة يذهب علماء أوروبا إلى أن «الإله» هو الذاتية التي تتخذ للعبادة، ومن ثم تنطبق على الكائنات التي هي أسمى من الإنسان، والتي تصور في القصص السماوية والأساطير بأنها ذات سلطان على الطبيعة والإنسان ومشخصة في دائرة خاصة من النشاط أو في مادة مرئية أو صنم. فالكائن الأسمى، على وجه عام، هو خالق الكون أو من كان محلًّا لعقيدة أو عبادة دينية.

ويقول دوركيم في كتابه: «صور أولية للحياة الدينية»: إن الحفلات والأعياد والمجتمعات التي كان الإنسان البدائي يشهدها كانت تبعث في نفسه شعورًا بالنشاط والقوة واللذة، ومن ثم يغمره الأمل والزهو، فيحسب نفسه أعلى مرتبة من الأفراد الآخرين. ولما لم يكن عقل ذلك الإنسان قد نضج وأوتي الرجاحة بعد، فقد اعتقد أن هناك قوة فوق طبيعيته تسيطر عليها وتعلو بها عن محيطه.

وهناك جماعات بدائية لم تدرك الفكرة الإلهية على صورة واضحة، فتعددت آلهتها ووظيفة كل إله منها، وشملت الأشباح وجثث الموتى وأنواع الحيوان وما في السماء وما على الأرض، بل شملت — إلى المرئيات والحسيات — المعنويات، منتهية من هذا كله إلى أن هناك قوة أو قوى مجهولة أو سلطات لا حد لها تتحكم في حياة البشر.

ويذهب الفيلسوف الفرنسي «رينان» في كتابه: التاريخ العام للغات السامية ومقاله في الجريدة الآسيوية وكتاب أصل اللغة، إلى أن الجنس في مجموعه ينبغي أن يحكم عليه وفاقًا للنتيجة النهائية التي وصل إليها على غرار الشئون الإنسانية، وأن الصبغة العامة للجنس ينبغي أن توضع تبعًا لصبغة الشعوب الممثلة لهذا الجنس تمام التمثيل، وأن الجنس السامي هو الواضع لمبدأ التوحيد الإلهي والمبشر به كنتيجة لاستعداد جنسي خاص، وأن الأمة اليهودية التي تمثل الجنس السامي لم تنتقل من التعدد إلى التوحيد على أثر تفكير طويل في الإلهيات أو تطور عقلي بطيء انتهى إلى تصور أصدق مما سبقه للسبب الأعلى، وأن من هذا الاستعداد الخاص للجنس السامي جاءت غريزة التوحيد الذي جعل هذا الجنس ينعم بنهج خاص من المناهج الدينية، التي تستند إلى فكرة وجود سلطة عليا مطلقة مركزة في ذات واحدة هي التي خلقت السماء والأرض. وأن هذه الفكرة جاءت إلهامًا فطريًّا كالإلهام الذي أفضى إلى خلق الكلام.

على أن «رينان» لا يذهب إلى أن مبدأ التوحيد كان عقيدة الساميين جميعًا، بل عقيدة الطبقة العالية في أول الأمر، بل أفراد منها، شأن كل العقائد في بداية الأمر. ثم إن «رينان» يذهب إلى أن سمات الساميين الوثنيين لا يستطاع تفسيرها إلا إذا قلنا إنه كانت لهم غريزة فطرية عن الألوهية تناقض تصور الآريين لها، ومن هنا كان الذي يميز الجنس السامي هو نقاء عقيدته من التعقيدات مع الإحساس المطلق بالوحدة، ذلك أن الوحدة والبساطة هما ميزتاه، ومن ثم فهو جنس غير كامل بسبب بساطته، على أن هذه البساطة قد ساعدته على تبسيط التفكير الإنساني والحيلولة دون التعدد والتعقيد الذي كان ديدن الآريين.

(١-١) رأي المؤلف

هذا ما ينادي به «رينان» وعندنا أن التوحيد، كسائر المعتقدات والآراء لا يمكن أن يكون قد جاء دفعة واحدة استجابة للغريزة الفطرية في الجنس السامي وحده، بل إن التوحيد قد جاز مراحل شتى في الحياة البشرية، وأن الكثير من الأحداث والعوامل قد أدى إليه. ذلك أن العرب غير اليهود وهم من الجنس السامي لم يعرفوا التوحيد قبل الإسلام، وأن الآريين، وهم من البشر وإن افترقوا عن الساميين في النشأة وأحداث الحياة ومطالبها، لم يكن هناك ما يدعو إلى أن لا تنبت عندهم هذه الغريزة؛ غريزة التوحيد.

(٢) التأليه

عند الفلاسفة المتأخرين أن التأليه يرجع إلى ثلاثة مصادر: أولها التأليه الأولي أو الاجتماعي، ومبعثه القصص المتوارثة بين عامة الناس والتربية والعادة، أعني أن المميز الفاصل لهذا التأليه هو أنه يؤخذ بالتواتر لا عن الروية وإمعان النظر. وثانيها التفلسف، أعني التأليه الناشئ عن العقل الإنساني الذي هو منحة سماوية؛ فتأليه الذوات والأشياء يجيء ثمرة للتفكير والمنطق، وعند أصحاب هذه النظرية أن الإله هو مبدأ كل وجود وتعقل، وأساس كل معرفة يقينية. أما ثالثها الإشراق، فهي حالة روحية نفسانية نورانية شخصية يشعر بها الفرد شعورًا داخليًّا مستقلًا عن غيره، فيحس أن هناك إلهًا قد خلقه وألهمه ووجهه، دون أن يكون مأتى هذا الشعور محاكاة للجمهور كما في التأليه الاجتماعي أو منطقًا كما في التفلسف.

(٢-١) الإلهام والوحي

هناك لحظات يغيب فيها بعض الناس عما بين ظهرانيهم، وبعدئذ تتفجر قرائحهم عن أروع الحكم والشعر وصنوف الإنتاج الفكري والابتكار الفني والصناعي، أو تغمرهم موجة روحية تنتهي بهم إلى أن يعتقدوا أنهم أصحاب رسالة ما في الحياة، وأن عليهم أن يؤدوا هذه الرسالة إلى قومهم أو إلى العالم كله، مهما تكن الشقة بعيدة والعقبات غير مشجعة.

وعند علماء الاجتماع أن أصل الديانات يرجع إلى تقديس الحيوان وعبادته (تيتو تيميزم)، أو تعظيم الأشجار. على أن علماء آخرين يذهبون إلى أن تأليه الحيوان أو الجماد إنما جاء على أنه رمز للإله المعنوي أو الآلهة أو القوى غير المنظورة السامية على الطبيعة.

(٢-٢) عبادة الشمس

عبادة الشمس قديمة جدًّا، وقد انتشرت بين الأمم الزراعية خاصة؛ لأثرها العظيم هذا في الزراعة. وكان البابليون يعبدون الشمس المؤلهة في شخص إله يدعى شمش، وقد وجدت صورته على لوحة حمورابي. وكان المصريون يعبدونها في شخص الإله رع. وقد حاول أخناتون الفرعون المصري أن يقصر عبادة المصريين عليه فلم يفلح. وكان سكان اليمن والهنود والفرس والمكسيكيون يعبدون الشمس. ويقال إن عبادتها قد نشأت في مصر وانتشرت في العالم.

(٢-٣) ديانة الهندوس

بعد أن تم للآريين الرعاة، الذين هجروا مواطنهم الأُوَل حوالي بحر قزوين، غزْوُ سهول البنچاب الهندية وأسموا أنفسهم الهندوس متغلبين على «الداسيين» السكان الأصليين؛ تجمع الكتاب المقدس الهندوسي المسمى «الفيدا»، وعند الهندوس أنه وحي من الله إلى الزعماء والأنبياء، وأن الكهنة هم حفظته وسدنته.

ثم ظهرت حركة دينية إصلاحية في الهند أثمرت تعاليم «الفادانتا» التي جاءت على أساس «الفيدا» روحًا لا مبنى، و«البوذية» التي تنكر «الفادنتا»، أما «بوذا» فمعناه العالم الذي حصل على «البوذي» وبالسنسكريتية العلم الكامل، ظهر بين القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد، وأساس تعاليمه أن الألم من لوازم الوجود، وأن الشهوات هي التي أعادت الإنسان إلى حياته الأرضية الحاضرة، وأن الخلاص من الشهوات هو الوسيلة إلى عدم العودة إلى الدنيا بعد الموت، وأنه يجب أن يبعد الإنسان عن العقبات المانعة من خلاصه.

ثم ظهر كتاب «بيورانا» في القرن السادس للميلاد فكان الكتاب المقدس الهندوسي الممتلئ بالأساطير والقصص، ففيه أن «براهما» هو الإله الخالق، و«فيشنو» الإله الحافظ، و«شيفا» الإله المهلك، أو أن الله تجسد ثلاث مرات. مرة في كل إله من الآلهة الثلاثة، وأكثر الهندوس يدينون بالديانة البرهمية.

وعند الهندوس أن الأرواح تتناسخ؛ أي لا تموت ولا تفنى، بل تنتقل من بدن إلى بدن، وتتطور من الأرذل إلى الأفضل حتى تبلغ كمالها وتتحد بالله، وأن الآلهة تحل بالكون على نقيض اليونانيين الذين يؤمنون بأن الإنسان يحل بالآلهة وبالطبيعة، وبأنه محور الوجود.

(٢-٤) الكونفوشية والطاوية والأرواح المؤلهة

ولد الفيلسوف الصيني «كونغ فونشو» التي حرفت من الصينية إلى «كونفوشيوس» في ٥٥١ق.م في تسو الصينية، ومات في ٤٧٩ق.م ومذهبه أقرب إلى الأخلاق منه إلى الفلسفة والدين؛ إذ ليس فيه شيء عن الإله والأرواح والآخرة، وإنما يتحدث عن السلام والنظام واحترام الآباء. ومع هذا فقد عد بعض المؤرخين المذهب الكونفوشي ديانة ما.

قال «كونفوشيوس»: «علقتُ المعرفة في الخامسة عشرة من عمري، وهام بها قلبي في الثلاثين، وانكشف لي سرها في الأربعين، وتعلمت الشريعة في الخمسين. ولما بلغت الستين صرت أفقه لما أسمع. وفي السبعين تسلطتُ على عواطفي وأخضعتها لسلطان العدل.»

وقال أيضًا: «الفقر لا يستلزم التعس، والغنى بلا فضيلة ظل زائل. لا تحزن لجهل الناس بك، ولكن احزن لجهلك بهم. لا تعاملوا الناس بغير ما تريدون أن يعاملوكم به.»

أما مذهب الطاوية فينسب إلى لاوتسي الصيني أو إلى إمبراطور الصين في ١٥٠م. وأساس الطاوية أن أصل الكون قوة غير واعية لا شخصية لها.

وعند أهل شاطئ الذهب أنه إذا مات أحدهم أحاطوا بجثته، وأخذوا يسألونه عن سبب موته وقد يوبخونه؛ لأنه غادر أصدقاءه وأهله يبكونه، ثم يتضرعون إلى روحه أن تحرسهم وتحميهم من الشر، وكانوا إلى أمد غير بعيد، إذا مات أحد رؤسائهم، ذبحوا بعضًا من خدمه ونسائه وأصدقائه ليُدفنوا معه؛ زعمًا منهم أنه يحتاج إلى من يعوله في غربته. قال برتن: «ومن عادات سكان نهر كالابار القديم أنهم إذا فرغوا من جنازة ميتهم بنوا له بيتًا صغيرًا على ضفة النهر يجعلون فيه كل أمتعته الثمينة وفراشًا ينام عليه الروح وبعض أنواع الأطعمة على مائدة.»

ويقدس الفانطيون البحيرات والأنهار وقد يعبدونها. وبعضهم يعد الأفاعي وحيوانات أخرى رسلًا بين الناس والأرواح أو أنها تتقمص الأرواح، والبعض يعبدون التمساح والبعض الآخر يحتفظون بالذباب في وعاء لأنه مقدس.

أما أفراد قبيلتي البولوم والتيماني فيحملون مريضهم إلى قرية، غير التي مرض فيها فرارًا من الساحر الذي يزعمون أنه سبَّبَ له ذلك المرض برقيه، كي لا يبقى لسحره سلطان عليه، فإذا لم تتحسن صحة المريض بذلك الانتقال أسكنوه كوخًا في بعض الغابات وكتموا أمره عن كل إنسان، ولا يخفى ما في هذا الانتقال من الفائدة في شفاء الأمراض؛ لأنه يماثل تبديل الهواء عندنا. ويبدو أن مرضاهم كثيرًا ما كانت تشفى به وهم يحسبون شفاءها من السحر والوهم.

ومن عادات قبائل الأشانتي في شاطئ الذهب أنهم إذا عزموا على حرب صنعوا خليطًا من قلوب أعدائهم ودمائهم، وبعض أنواع العشب المقدس وأطعموا رجالهم من ذلك الخليط، ومن لم يأكل منه خافوا عليه أن يذهب فريسة في أيدي أرواح أعدائهم المقتولين.

•••

يمتاز أفراد الشلوك إحدى قبائل السودان بلغة وعادات وأخلاق خاصة بهم، وهم يقيمون على الشاطئ الغربي للنيل الأبيض بين بلدة تسمى «الروه» على ١٨٠ ميلًا من أم درمان نحو الجنوب، وبلدة «لونقوا» على ٢٠ ميلًا من مصب بحر الغزال من النيل المذكور. وهذا كله على الضفة الغربية للنيل. أما على الشرقية فتنتهي بلاد الدنكة في فشودة، ومنها إلى «كوتام» على نهر سوباط على ٢٠ ميلًا من مصبه، وسكانها من الشلوك، وأكثر بلاد الشلك عمران القسم الجنوبي منها.

وهم يعتقدون بإله يسمونه «كوي يكاغو» أو «الجوك» وهو المتسلط على الكون كله، ولا مقر له ولكنه يقبض الأرواح، وله ابن اسمه «لوكاما» يقيم في الماء. وعندهم بيت اسمه «كجور» ويزعمون أنه اسم رجل من الأولياء سكن الأرض في قديم الزمان، فلما مات سكنت روحه الماء، فبنوا له بيتًا قدسوه وأسموه باسمه، وأقاموا فيه السدنة والخدمة من المشايخ والعجائز رجالًا ونساء، فإذا اختلفوا في أمر استخاروه كما كانت العرب في جاهليتهم يستخيرون هبل، وإذا قُتل أحدهم ولم يعرفوا قاتله اجتمع شيوخهم ورؤساؤهم وذهبوا إلى ذلك البيت ومعهم بقرة أو ثور ويرتلون ترتيلة خاصة بذلك، فيخرج خادم الكجور ويستقبلهم واقفًا حتى ينتهي نشيدهم، فيعرضون إليه ما جاءوا من أجله، فيدخل الخادم إلى البيت ويجلس داخله، ويضع البخور المختص بالكجور في قارورة مُعدة لذلك. ويعزم ويرتل فيناجيه صوت من داخل البيت يعتقدون أنه ملاك من الملائكة، فيسأله الخادم: من قتل فلانًا؟ فيصف لهم شخص المقتول ثم يصف القاتل، فيقتلون الثور أو البقرة التي جاءوا بها بحرابهم، وينهضون للأخذ بالثأر أو طلب الفدية. وما الفدية عندهم إلا الاستيلاء على كل ما يملكه القاتل من الماشية أو غيرها.

وإذا انقطع المطر عنهم أخذوا ثورًا وجلسوا خارج ذلك وجثوا على رُكبهم وهم مطرقون وأكفهم على الأرض أمام ركُبهم، ثم يرفعونها ويضعونها على الركُّب، ثم يعيدونها إلى الأرض ويكررون ذلك ثلاث مرات، ثم يمسحون بها وجوههم، ثم تطلب خادمة الكجور من الجوك — وهو الإله عندهم كما تقدم — أن يطردهم ويسقي أرضهم، وبعد التوسل والدعاء يذبحون الثور ويأكلون لحمه هناك، ويرجعون إلى منازلهم وتمطرهم السماء ماءً يروي أرضهم.

(٢-٥) ديانة قدماء المصريين

قال «ماسبيرو» العالم الأثري الفرنسي في كتابه «تاريخ الشعوب الشرقية القديمة» كما قال آخرون: «إن قدماء المصريين كانوا يعبدون إلهًا واحدًا، حاكمًا في السماوات والأرض، رب كل شيء. أب الآباء وأم الأمهات بصيرًا موجودًا بنفسه حيًّا لا يحتويه شيء، لا يفنى ولا يغيب. لم يُخلق ولم يتجزأ ولا تراه العيون، يوجد في كل مكان، وليس له شبيه ولا حد.»

غير أن قدماء المصريين قد أخذوا بعدئذ يرمزون للإله بمعبودات مادية، وبعدئذ أصبح المتأخرون منهم يعبدون هذه الرموز، فعبدوا الشمس والقمر والحيوان والنيل، جاعلين لكل منها إلهًا، كما تعددت الآلهة تبعًا للأقاليم وللمدن والأسر، كذلك كانوا يعبدون العجل أبيس ممثلًا للإله «فتاح» و«نبرات» إله الحبوب.

وعند «چوستاف لوبون» المؤرخ الاجتماعي الفرنسي في كتابه «الحضارة المصرية»: «إن مصر لم تكن تعرف هذا الإيمان الوجداني في أي عصر من عصور تاريخها، فإن الإنسان يستطيع أن يقلب «كتاب الموتى»، وجميع أوراق البردي دون أن يعثر على شيء يمكن أن يدله على وجود الإيمان الحقيقي بإله واحد. وقد عرفت مصر الوحدة السياسية، ولكنها لم تعرف بتاتًا إلهًا وطنيًّا واحدًا.» بل إن «مارييت» نفسه في الطبعة الجديدة لكتابه قد قال: «إن الآثار تدلنا على أنه كان لكل من الرهبان منذ العائلة الأولى آلهته الخاصة، وهي ثلاث فرق: آلهة الموتى، وآلهة العناصر، والآلهة الشمسية.» وقد يكون هناك أحرار مفكرون في العهد الأوسط يعتقدون أن هناك إلهًا واحدًا، ولكن عبادتهم كانت سرية لا يعرفها العامة.

وترجع المعتقدات الدينية في مصر إلى عصور مختلفة، وهي قد بدأت من عبادة الموتى وقد تبع هذا تأليه الملوك الموتى، كما في عصر بناة الأهرام، وقد أضيفت إلى عبادة الموتى، عبادة الشمس والنيل والقوى الطبيعية، فإله الشمس رع القوي المتلألئ نهارًا، وأوزريس الإله الذي يحيي النيل في الظلام وفي الموت الذي هو بمثابة المساء.

وعند هيرودوت أن المصريين كانوا أكثر الناس تدينًا، وكانت للديانة عندهم كالهنود والشرقيين، دخل في أعمالهم العامة والخاصة، فلا نهاية لعدد الكائنات والأشياء المقدسة. وصبغة الآلهة المصرية محلية، فكان «أوزريس» في أبيدويس و«فتاح» في ممفيس، و«آمون» في طيبة، و«هوروس» في إدفو، و«هاتور» في دندرة. وكان للآلهة مراتب بعضها فوق بعض، كما أن بعض الآلهة قد يتفانى في البعض الآخر فتكون إلهًا واحدًا. وكان أكبرهما «مصر» الحياة الآجلة أسوة بالهند، التي كانت الحياة الأرضية عندها ممرًّا وفترة حقيرة في أمد غير محدود ليس غير. أما رمز الشر الحقيقي المتجسم الكامل في مصر، فكان «أباب»؛ أي الثعبان الذي تدوسه الآلهة.

هذا وحوالي عام ٢٠٠٠ق.م حين عظم شأن طيبة وأصبحت عاصمة الديار، اشتد أزر «آمون» إلهها المحلي وأصبحت له سطوة وخطر، فوقف المصريون إزاء ذلك أمام معضلة كبيرة، وتساءلوا: لمن من الآلهة تكون السيادة السياسية؟ «ألرع» وهو الإله العتيد ذو المجد التالد والتاريخ الحافل أم «لآمون» وهو — على حداثة شهرته — رب طيبة عاصمة الملك وإله الفراعنة الحاكمين؟ ولكنهم لم يكلفوا عقولهم عناءً كبيرًا، وبإضافة صغيرة بين الاسمين حُلت المشكلة فصار الإله الأعظم هو «آمون-رع» يجمع بين مزايا هذا وذاك، مع ما هناك بينهما من تناقض.

وكذلك حين تباينت لديهم العقائد من الموت ومصير الأموات — فكان لكل عقيدة مصدر يغاير المصادر الأخرى وتاريخ يختلف عن تواريخ غيرها، وكفوا أنفسهم مئونة التفكير العميق في اختلاف هذه المصادر والتواريخ، وفي أيها أحق بالتصديق واكتفوا بأن قبلوا هذه العقائد جميعها، وآمنوا بها غير عابئين بما بينها من تنافر واضح.

ولكن أقدم هذه العقائد المختلفة — كما أوضحنا — هي العقيدة في حياة جسدية بحت تلبس الجسم وهو في قبره. وإليها وحدها يرجع الفضل في وجود هذه الكنوز العظيمة ومن بينها كنز «توت-عنخ آمون».

أما أسطورة «أوزريس» فخلاصتها هي أن أوزريس «وهو أحد الآلهة التسعة العظام مؤسسي العالم» كان ملكًا عادلًا لرعيته، ولكن أخاه «ست» كان يبغضه فتَحَيَّن الفرص وقتله ثم ألقاه في اليم. غير أن «إيزيس» زوجة «أوزريس» المخلصة استطاعت بتعاويذها أن تعيد الحياة إلى جثة زوجها وساعدها أحد الآلهة فحنطه. ومن ثم صار «أوزريس» إله الأموات وقاضيهم، وأصبح في نظر الشعب المصري المثل الأعلى لكل من يموت، حتى إنهم عدوا كل ميت «أوزريسًا»، وأصبحت المومياوات توضع في توابيت منحوته على هية أوزريس. أما الغرب المقدس «أمنتت» فهو مأوى أوزريس، وكان المصريون يدفنون موتاهم دائمًا في جهة الغرب؛ لأنهم لاحظوا أن الشمس تحتجب في المغرب، ومن هنا صار الغرب لديهم مقدسًا.

(٢-٦) ديانة اليهود إلى الكتاب المقدس

كان العبريون «اليهود» ينطقون بالآرامية القريبة من العربية إلى أن عبروا الصحراء والأردن ونزلوا فلسطين، فتكلموا الكلدانية المختلطة فسميت العبرية وذلك حوالي ١٤٠٠ق.م، وكانت ديانتهم مشوشة إلى أن ظهرت التوراة.

أما الكتاب المقدس فيشمل العهد القديم «التوراة» والعهد الجديد «الإنجيل». والتوراة، في معناها الضيق، تطلق على الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم الذي ينسب إلى النبي «موسى»، وهي: سفر التكوين، والخروج، واللاويين، والعدد، والتثنية. أما «التلمود» فهو مجموع التعاليم الأدبية والدينية في سنة ٤٠٠ في جزأين: تلمود أوروشليم، وتلمود بابل. غير أن اليهود القرائيين ينكرون «التلمود»، وقد جمع فيما بين القرنين الميلاديين الرابع والسادس، وينقسم قسمين: «مشنا» وهي أحكام شرعية مقاسة على «التوراة»؛ و«جمارا».

(٢-٧) ديانة الإيرانيين

كان الفرس «الإيرانيون» القدماء يعبدون الأوثان إلى أن ظهر في تاريخ يتأرجح بين القرن العاشر والخامس ق.م بينهم «زورادشت»، وعندهم أنه قد عرج إلى السماء وتلقى عن أهورامزدا «الله» الكتابَ المقدس «الأفستا». وعند بعض مفسريه أنه يقول بأن رب الكون واحد لا شريك له، وإن يكن في الكون خير وشر يتنافسان.

(٢-٨) ديانة اليونانيين

أوردت الأساطير اليونانية القديمة أسماء آلهة أقيمت لها التماثيل وسكنت جبل أولمبوس، ومن هذه الآلهة «أبولو» إله الشمس، و«فينوس» إله الجمال، و«چوبتر» إله المشتري، و«وزيوس» الخالد إله النهار والضوء وسيد النظام ورب الأرباب وزوجه «هيرا»، و«بلوتو» إله جهنم، «وميركاري» إله عطارد، و«هفيستوس» إله الحدادين، و«أفروديت» إلهة الجمال، و«آثينا» إلهة الحكمة، و«بوزيدون» إله البحر، و«تيميس» إلهة الشريعة، و«أبنوميا» إلهة الحكم الصالح، وإلهات «اليارك»: الأعمار الثلاثة، و«هادويس» سيد العالم الآخر، و«ديانا» إلهة الصيد.

وآلهة اليونان تماثل الإنسان فهي تتزوج وتغضب وتفرح، وهي ذات علاقة وثيقة بالإنسان والطبيعة، ويتوزع بينها العمل والاختصاص!

(٢-٩) الدين والفلسفة

وعند «سعيد زايد» خريج كلية الآداب في جامعة فؤاد الأول في القاهرة أن هناك صلة متينة بين الدين والفلسفة، وأنه إذا كان الدين في أول أمره يعتمد على مخاطبة القلب قبل العقل، إلا أن المتدينين لا يلبثون أن يواجهوا مشكلات لاهوتية لا تُحل إلا بنور العقل، والسبيل إلى ذلك الفلسفة، فبعد أن استقرت الدعوة الإلهية واستتبت الأمور واتسعت رقعة الدولة الإسلامية، ودخلت أمم كثيرة متمدينة تحت لواء الإسلام، اتسع الوقت للمناقشة والجدل، وواجه المسلمون أقوامًا درسوا الفلسفة والمنطق، لا يكفيهم في الإقناع أن يقال لهم: قال الله تعالى كذا، أو قال الرسول كيت، لا سيما والله تعالى ورسوله يدعونهم إلى تحكيم العقل فيما يدعون إليه. إزاء هذه الحالة لم ير المسلمون بدًّا من الإقبال على دراسة الفلسفة والمنطق، ومن أن يطلبوا حكم العقل في أمور الدين، فنشأت فلسفة إسلامية ترمي إلى التوفيق بين العقل والنقل، واصطنع منهج التأويل.

ففي مسألة الوحدة نجد ابن سينا، الذي عني بهذه المسألة عناية واضحة تبدو للمتأمل في مؤلفاته العديدة، ولا سيما في مباحثه الميتافيزيقية — أي المتصلة بما بعد الطبيعة — في واجب الوجود الذي لا يحتاج في وجوده إلى غير ذاته، فهو علة ذاته وعلة كل الممكنات الأخرى؛ نجد المعلم الثالث «ابن سينا» يحاول من ناحيته أن يثبت بالدليل النقلي ما قد أثبته عن طريق الاستدلال العقلي من وحدانية واجب الوجود، غير أنه لا يتيسر له ذلك توًّا دون الالتجاء إلى تأويل بعض النصوص القرآنية، التي وردت فيها آيات تدلل على أن الله واحد، ولا أظن أن المجال يتيح لنا عرض صور مختلفة لما لجأ إليه ابن سينا من التأويل في كل ما ورد من الآيات فيما يختص بالوحدانية، وإنما يكفي أن نشير إلى تأويلاته في تفسير سورة الإخلاص، متخذين هذا التأويل أنموذجًا يوقفنا على مدى ما ذهب إليه المعلم الثالث في تفسيره وتأويله.

قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ يعود بنا ابن سينا في تفسيره لهذه الآية إلى فلسفته الميتافيزيقية، فيقول: «الهو المطلق هو الذي لا تكون هويته موقوفة على غيره»، أو بمعنى آخر هو أن وجوده متوقف على ماهيته وذاته، على نقيض الممكن الذي يتوقف وجوده على غيره، وإذا كان وجود «الهو» المطلق متوقفًا على ذاته، كان واجب الوجود؛ لأن وجوده هو عين الذات؛ إذ إن اقتران «الهو» بالله يكشف عن أن المقصود «بالهو» هو الهوية الإلهية.

وهذا بحق لازم من لوازم تعريف الألوهية بالوحدانية، لكمال بساطتها وغاية وحدتها. ويعلق ابن سينا على ذكر اللوازم القريبة «للهو هو» بأن ذلك تعريف حقيقي؛ لأن التعريف الحقيقي هو الذي يذكر فيه اللازم القريب للشيء الذي يقتضيه الشيء لذاته، لا لغيره؛ لأنه إذا ذكر فيه اللازم البعيد لا نستطيع أن نقرر أن هذا اللازم معلول للشيء حقيقة، بل كل ما نستطيع أن نقرره أنه قد يكون معلولًا لمعلوله. ثم يتطرق ابن سينا في تفسيره إلى أن يفرض سؤالًا قد يمكن أن يوجه إليه، وهو أن ماهيته تعالى، إذا كان لا يمكن لغيره معرفتها إلا بوساطة صفات السلوب والإضافات، فلِمَ لَمْ يذكر ذلك واقتصر على ذكر اللوازم؟ ويجيب على هذا السؤال بأن الله بوصفه عاقلًا ومعقولًا، واحد ليس له مقومات، بل إنه وحدة مجردة، وبساطة محضة لا كثرة فيه، ولا اثنينية هناك أصلًا، وعقله لذاته، ولا يعقل من ذاته إلا الهوية المحضة المجردة عن الكثرة؛ ولذا عرفها بلوازمها القريبة، وتأكيده بأنه واحد مبالغة في الوحدة، لعدم وجود التشكك في أنه واحد من جميع الوجوه، وأنه منزه عن الكثرة، سواء أكانت كثرة معنوية كالأجناس والفصول، أم كثرة مقومات كالمادة والصورة والأعراض.

ثم إن ابن سينا في تفسيره «الصمد» يقرر أن لهذه الكلمة تفسيرين: أولهما الذي لا جوف له، وثانيهما السيد. ثم يؤول التفسير الأول بأن الصمد صفة سلوب تنفي الماهية؛ لأن كل ما له ماهية له جوف وباطن، وما لا بطن له وهو موجود لا اعتبار لذاته إلا بالوجود، والذي لا اعتبار له إلا بالوجود يكون غير قابل للعدم، فالشيء من حيث هو موجود، يكون غير قابل للعدم، فالصمد يكون بهذا المعنى واجب الوجود من جميع الوجوه.

أما التفسير الثاني لكلمة «الصمد» بوصفه سيدًا فيؤولها ابن سينا على أن المقصود أنه سيد للكل؛ أي مبدأ الوجود وعليه الأولى …

ويؤول ابن سينا قوله: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد بأنه هو وحده، وأنه وإن كان مصدرًا للوجود فإنه لا يفيض بوجوده مثله، حتى يكون له ولد، ولما كان وجوده من ذاته بهويته لم يكن صادرًا هو عن غير ذاته. وإذا كان الأمر كذلك؛ أي إذا كان واجب الوجود ماهيته هويته، لا يتولد عن غيره ولا يتولد عنه شبيه له لم يكن هناك في الوجود ما يكافئه ويساويه في قوة الوجود؛ ولذلك قال تعالى: وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ.

ثم يستخلص من هذه السورة أن الله بعدم ذكره المقومات في تعريفه الله أَحَدٌ وذكر اللوازم، قد دل على أنه في ذاته بسيط ليس له ما يقومه، واحد ليس له شريك في هذه الوحدانية. ثم إنه بإرداف الواحدية بالألوهية، قد رتب الأحدية على الإلهية ولم يرتب الإلهية على الأحدية؛ لأن الألوهية هي افتقار الكل به على الإلهية إليه. ومن كانت هذه صفاته كان واحدًا مطلقًا.

ويذهب إسماعيل مظهر في كتاب «ملقى السبيل في مذهب النشوء والارتقاء» إلى أنه قد تصدى للنظر في الدين فحول من مفكري القرن الماضي، لو اطلعت على التعاريف التي وضعوها للدين لأيقنت بأن الدين لا يزال كما عهدناه في الإنسان الأول، ظاهرة مرتكزة على الاعتقاد، ظاهرة تطورت الفكرة فيها بتطور عقلية الإنسان، فبلغت حدًّا عرفنا عنده أن الدين عقيدة تتلخص في أمرين اثنين، لو جمع بينهما الفرد كملت ذاتيته بصفته فردًا صالحًا من جماعة تضرب في أصول الارتقاء بسهم بعيد.
  • الأمر الأول: الاعتقاد بوجود قوة مدبرة حكيمة عاقلة سرمدية، لا تدرك حقيقتها العقول البشرية إلا بقدر ما تستطيع أن تبلغ من إدارك لقوة تدبر عالمًا، وقف الفكر أمامه معترفًا بالعجز.
  • الأمر الثاني: أن الدين شريعة أدبية، صلة الفرد بها حاجة للمجموع تؤدي به إلى أبعد غاية من الارتقاء المدني.
وإليك كلمات استجمعها العلامة «بنيامين كيد» لعديد من كبار المفكرين من معاصريه، ومن تقدمهم في عصور المدنية، نأتي عليها لنظهر الباحث الخبير على آخر حالات تشكلت فيها العقلية الفردية في إدراكها لحقيقة الدين:
  • (١)

    الدين معرفة الله والتشبه به «سنيك».

  • (٢)

    ينحصر الدين في اعتقادنا بأن كل واجباتنا أوامر إلهية «كانت».

  • (٣)

    إن الدين شرع أدبي ممسوس بالانفعال «ماتيو أونولد».

  • (٤)

    الدين عبادة الإنسانية «كونت».

  • (٥)

    إن العاطفة الدينية يكونها الانفعال الهادئ مقرونًا بالخوف وحساسية الخضوع للعظمة «إسكندر بابن».

  • (٦)

    إن دين الإنسانية هو المعبر عن أقصى حالة عقلية يعلل بها الكون، هو المعنى المجمل، بل محصل ما يبلغ إليه إدراك الإنسان، من معرفته لحقيقة الأشياء «إدوارد كايرد».

  • (٧)

    إن الدين حد المعرفة الذي تدركه النفس المحدودة المتحيرة، من ماهيتها كنفس مطلقة غير متناهية «هيچل».

  • (٨)

    الدين إجلال المثل الأعلى من الأخلاق، ومحبة العمل على تحقيقه في الحياة «هكسلي».

  • (٩)

    إن ماهية الدين هي توجيه الانفعالات والرغبات بقوة وصدق عزيمة نحو تحقيق مثل أعلى نقنع بأنه أقصى الجود والخير، وأنه فوق كل الرغبات النفسية التي تسوقنا إليها الأنانية «ميل».

  • (١٠)

    إن الدين هو الشيء الذي يعتقد الإنسان في صحته اعتقادًا عمليًّا. هو الشيء الذي يحسه الإنسان بقلبه، ويأخذه على أنه حقيقة واقعة فيما هو كائن من علاقاته المتعددة بهذا الكون المتعمق في الغموض، الأصيل في الاستغلاق، وفيما يتصل بواجباته في هذه الدنيا، ونهاية هذه الحياة «كارليل».

  • (١١)

    إن الدين في أول درجاته، وإبان حالاته، هو ما يمكن أن نصفه بأنه عادة مقرونة بشغف دائم «صاحب كتاب الدين الطبيعي».

  • (١٢)

    إن الدين اعتقاد في إله باقٍ قديم؛ أي إرادة قدسية وعقل قدسي يدبران الكون، في حين أن علاقتهما بالنوع البشري أدبية «دكتور مارتينو».

(٢-١٠) نشأة الأديان الكبرى

يقدر عدد سكان العالم بنحو ألفي مليون. أما قبل التاريخ فالعدد غير معروف، ويدين بالمسيحية ٣٤٪ من سكان العالم موزعين على مذاهبها هكذا: ١٦٫٢ في المائة من الكاثوليك، ١٠٫٧٪ من البروتستنتية، ٧٫١٪ من الأرثوذكس، أما «الكونفوشيوسية» فيدين بها ١٨٫٢٪، و«الإسلام» ١٣٫٤٪، و«الهندوكية» ١٢٫٨٪، و«البوذية» ٨٫٤٪، و«اليهودية» ١٪، والباقون إما أنهم يعبدون الحيوان، وإما موزعون بين مذاهب شتى يتعذر حصرها. أول الأديان الكبرى: البوذية، فالهندوكية، فالكونفوشيوسية، وكلها من القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد، فاليهودية، فالمسيحية، فالإسلام.

وقد نشأ الدين الإسلامي في شبه جزيرة العرب، أما المسيحية فقد نشأت بين بيت المقدس وروما. والكونفوشيوسية نشأت في الصين، والبوذية نشأت في الهند. وكذلك نشأت في بادية الشام الديانة اليهودية التي يقرب عدد المتدينين بها من عشرين مليون نسمة.

ويمكن أن يقال إن أكثر الديانات الكبرى نشأت في بيئة صحراوية تتيح للإنسان أن يتأمل الطبيعة الكبرى، ومن أجل هذا كان الشرق مهد الحضارات القديمة، والأديان مظهر من مظاهر الرقي الاجتماعي. ومن هنا سبق الشرق الغرب في ظهور الأديان كما سبقه إلى نور الحضارة والعمران.

هذا وقد عبر المسلمون إفريقية واستوطنوا الأندلس، ولم يكن ثمة ما يمنع أن ينفذ الدين الإسلامي إلى صميم أوروبا غير أنهم انهزموا في معركتي تور وبواتيه، فأقام المسيحيون حاجزًا من جبال البرانس حال دون بلوغ الإسلام إلى وسط أوروبا وشمالها. ثم إنه لما سارت جيوش العثمانيين غربًا حتى أخضعت دول البلقان، ووقفت على أبواب فينا واتجهت شمالًا إلى بولندا وروسيا كان من المرجح أن يشمل الإسلام جميع تلك البقاع الفسيحة جيلًا بعد جيل، ولكن العثمانيين لم يوفقوا في حروبهم دائمًا بل لحقهم الضعف والتفكك. ولو انتصر الأندلسيون على شارل مارتل ووفق العثمانيون في فتوحهم لدانت شعوب أوروبا بالإسلام؛ إذ ليس في أصوله وتعاليمه ما يجعله خاصًّا بشعب دون شعب.

الدين في القرآن الكريم

وقد آثرنا — إتمامًا للفائدة — أن نورد هنا بعض الآيات القرآنية في هذا الموضوع:

جاء في سورة آل عمران: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا الله وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.

وجاء في آل عمران أيضًا: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئًا وَسَيَجْزِي الله الشَّاكِرِينَ.

وجاء في سورة المائدة: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ.

وجاء في سورة الأنعام: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ.

وجاء في هذه السورة أيضًا: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ.

(٢-١١) شعوب لا دين لها

هناك شعوب لا دين لها، فقد ذكر الفيلسوف هربرت سبنسر في الكتاب الرابع «أصول علم الاجتماع» أنه «توجد أدلة على أن الناس، الذين فصلوا عن عالم الأفكار المكتسبة مذ طفولتهم لسبب من الأسباب خلوا من كل فكرة دينية، فقد ذكر الدكتور كيتو — الذي كان أصم — في مؤلفه «الحواس المفقودة» صفحة ٢٠٠ شهادة سيدة أمريكية ولدت صماء بكماء، ولم تعلم بالطرق الصناعية الخاصة إلا بعد وصولها إلى سن الرشد. قالت — أو قل كتبت بطريقتها إنه لم يخطر على بالها البتة ولا على بال أحد من الصم الكم الذين كانوا معها في دار واحدة أنه لا بد للعالم من خالق».

ثم يقول سبنسر: «فهذا كله يدل على أنه ليس بالشعوب المتمدينة ميل غريزي إلى الدين.» ولدينا براهين تؤيد صحة هذا الاستنتاج، وتثبت أن فكرة الدين مفقودة أصلًا بين كثير من الشعوب المتوحشة. فقد قدم السِّر چون لوبوك أمثلة على شعوب عديدة من هذا القبيل في كتابيه «العصور السابقة للتاريخ» و«أصول المدنية».

وروى المستر هارستون في مجلة «فور تنيتلي ريفيو»، بالمجلد التاسع عشر، أنهم كانوا يعلمون رجلًا من قبيلة الودي وهو في السجن، فاتضح أن ليس لديه أي إلمام عن الخالق ولا عن الروح ولا عن عالم آخر.

وقال القس صموئيل سمث الذي عاش ٢٨ سنة مع أناس صم بكم يصف أحدهم «أنه ليس له أي إلمام بالخلود، وأنه لم يعثر على واحد من الصم البكم ممن لم يتعلموا عنده أية فكرة عن قوة عليا خلقت العالم وتدبره».

وذكر شون فورت في مؤلفه «أواسط أفريقيا» ما نصه: ليس للبنجرس أدنى فكرة عن الخلود وهم يجهلون كل معتقد ديني. وأما الزولو، وهم على شيء من الذكاء، فإنهم برهان واضح على دعوانا هذه وإليك الحديث، الذي دار بين الرحالة «جاردبز» وأحدهم الذي يدعى تباي.

جاردبز : هل لك إلمام بالسلطة التي خلقت العالم؟ أنت ترى الشمس تشرق ثم تغرب والأشجار تنبت وتنمو، فهل تعلم من يدبر كل هذا؟
تباي (بعد أن سكت برهة) : إننا نرى كل هذه الأمور ولا نعلم من أين أتت، ونعتقد أنها أتت من تلقاء نفسها.

(راجع كتاب رحلة في بلاد الزولو بأفريقيا للرحالة جاردبز ص٧٢).

ويؤيد ما تقدم أيضًا الحديث الذي دار بين السر صموئيل بيكر، وبين رئيس قبيلة من قبائل اللاتوك يدعى كومورو، وإليك نصه:

السر صموئيل بيكر : هل لكم أي اعتقاد في وجود آخر بعد الموت؟
كومورو : وجود آخر! وكيف ذلك؟ هل يمكن الميت أن يخرج من قبره إلا إذا نُبش القبر وأُخرج منه؟!
بيكر : هل تظن أن الإنسان مثل الحيوان يموت ثم يندثر أمره؟
كومورو : لا شك في هذا، فإن الثور أقوى من الإنسان، ولكنه يموت مع أن عظامه أطول وأقوى من عظام الرجل التي تكسر بسهولة؛ لأنه ضعيف.
بيكر : أليس الإنسان أذكى من الثور؟ أليس له عقل يدبر أعماله؟
كومورو : توجد ثيران أذكى من بعض الرجال، فإن الرجال يزرعون الأرض كي يحصلوا على قوتهم. أما الثور والحيوانات المتوحشة فإنها تحصل على قوتها من غير زرع.
بيكر : ألا تدري أنه يوجد فيك شيء آخر خلاف الجسم؟ ألا تحلم؟ ألا تذهب إلى مسافات طويلة في أثناء نومك وجسمك لا ينتقل من مكانه؟ فكيف تعلل ذلك؟
كومورو باسمًا : كيف تعلل أنت ذلك؟ إن هذا الأمر يحصل لي كل ليلة ولكني أجهل أسبابه.
بيكر : أليس لديك أية فكرة عن الأرواح التي هي أقوى من الإنسان والحيوان؟ أليس لك أقل خوف من عواقب الشر، ودع عنك الخوف من العوامل الطبيعية؟
كومورو : إني أخشى الفيلة وحيوانات أخرى حين أسير ليلًا في الغابات ولكني لا أخاف شيئًا آخر.
بيكر : وعلى هذا فأنت لا تعتقد في شيء لا في أرواح الخير ولا في أرواح الشر، وتظن أن كل شيء فيك من جسم وعقل يندثر بموتك. وأنك مثل بقية الحيوانات لا فرق بينك وبينها.
كومورو : طبعًا.
بيكر : ولكن انظر إلى حبة القمح كيف تعفن بعد أن تبذرها في الأرض، ولكن لا تلبث قليلًا حتى تنبت وتنمو منها سنبلة تأتي بحبات كثيرة، فإذا كانت حبة القمح تحيا بعد موتها فمن باب أولى الإنسان الذي هو أعظم المخلوقات.
كومورو : لقد أدركت قصدك جيدًا، ولكن الحبة الأصلية تنعدم بعد الموت فهي تعفن كما يموت الإنسان وينقضي أمرها. أما السنبلة التي تنبت منها فليست الحبة الأصلية بل ثمرتها ونتيجتها. وهكذا حال الإنسان فإني أموت ثم أعفن وينقضي أمري، ولكن نسلي ينمو مثل ثمرة الحبة. وقد لا يأتي الإنسان بنسل كما تفنى الحبة ولا تأتي بثمر. فبعد الموت ينعدم الإنسان كما تنعدم الحبة.

وقال العلامة فيانا دي ليما الدكتور في العلوم الطبيعية والعضو بالمجمع العلمي الفرنسوي في كتابه «الإنسان حسب مذهب التطور» صحيفة ١٧٤ وما بعدها ما يأتي:

ليست الفكرة الدينية من طبيعة النوع الإنساني، وليست هي صفة أصلية فيه تميزه عن سائر الأحياء وما هي إلا حالة مر عليها في أحد أطوار ارتقائه. وعلى كل حال فهي ليست لازمة له وليست عامة بين جميع الشعوب؛ إذ توجد شعوب متأخرة لم تصل في أطوار ارتقائها إلى طور الأفكار الدينية. وتوجد فئات كثيرة بين الشعوب المتمدينة فاقت هذا الطور ويزداد عددها كل يوم، وتوجد شعوب أخرى خطت نحو المدنية خطوات تُذكر ولم تمر مطلقًا بهذا الطور؛ طور التدين والأفكار الدينية. وهذه الشعوب التي لا يدين أفرادها بدين ما يوجد منها في أفريقيا وآسيا وأمريكا وأوستراليا. وذلك بشهادة الرحالين تومبسون، وفان دير كامب، والقس موفات، والرحالة الشهير لفنجستون، والسر صموئيل بيكر «المتقدم ذكره» والدكتور مونات، ودالتون وليختنشتين، وقد ذكر كل من مورتز فجنر في رسائله الثلاث والسر چون لوبوك في كتابيه «أصول المدنية» و«العصور السابقة للتاريخ» — المتقدم ذكرهما — عددًا كبيرًا من الشعوب التي ليست لها أية عقيدة دينية.

روى ليفنجستون الرحالة الكبير في مجلة «الجمعية الأنثروبولوچية الفرنسوية» أن عبادة الأصنام وكل نزعة دينية معدومة بين قبيلة بتشياتا وكثير من قبائل أفريقيا الوسطى. وقد أيد كل من كازاليس والمبشر موفات قول ليفنجستون هذا. فقد قال موفات في كتابه «عشرون سنة في أفريقيا الجنوبية» ما يأتي: «طالما سعيت جهدي في كشف شيء من الأفكار أو الاعتقادات الدينية عند السكان لأتدخل بينهم، فلم أفلح؛ لأنه ليست لديهم أية فكرة من هذا القبيل.»

وقال القس برون مثل هذا القول عن قبيلة الماكولو ببلاد الكفر بأواسط أفريقيا.

وروى المبشر لنجستون هذه الرواية أيضًا عن قبيلة ميونجو في أفريقيا.

وروى الأب سلفادور مثل هذه الرواية أيضًا عن قبيلة أرافيرس وكثير غيرها من قبائل أوستراليا.

وقال هذا القول أيضًا الرحالة ماكليهو مكلي عن سكان جزيرة سلمون، وعن قبائل البابواس التي تعيش على سواحل غينيا الجديدة وعن قبائل خليج بافان.

ولم يعثر المبشر بيسجرت على أي أثر للاعتقاد بالله أو الأصنام أو الخلود أو أي معتقد آخر عند كثير من قبائل كاليفورنيا القديمة. وكذلك الحال عند سكان كاليدونيا الأصليين وقبائل الباشا چوني والفوچيان.

وروى السر چون إيمرسون عن قبائل الفيدا بجزيرة سيلان أنه ليس لهم إلمام بأية عقيدة دينية من أي نوع، وكانوا يسألون السر چون إيمرسون: «أين هذا الأله؟ وعلى أية شجرة أو على أية صخرة يعيش؟» وكذلك حال كثير من زنوج شبه جزيرة ملقا.

وروى السر ميسنجر بردلي مثل هذا عن قبيلة من قبائل أوستراليا والرحالة ديتبورن عن قبائل البوشيمان والإسكيميين، وعن قبائل ليساوخاسياس التي تعيش في شمال الهند.

وفي كتاب «المادة والقوة» للعلامة بختر الألماني صحيفة ٢٥١ من الترجمة الفرنسوية ما يأتي:

أثبت كثير من العلماء والسائحين والتجار والمرسلين والمبشرين أنه توجد شعوب عديدة ليس بها أدنى نزعة دينية. وطالما سمعت وقرأت أن الدين أو التدين هو الصفة المميزة للنوع الإنساني، وهو الحد الفاصل بينه وبين بقية الحيوانات. فلا تخلو الحال من أحد أمرين: إما أن القائلين بهذا القول على خطأ، وإما أنه يوجد عدد كبير من الناس لا شيء يميزهم من الحيوانات.

وقال العلامة بروكا الشهير: «لا ريب عندي في أنه توجد شعوب كثيرة من النوع الإنساني خالية من كل معتقد وعبادة ومن كل فكرة دينية.»

وهنا استشهد بختر بما قال السر چون لوبوك وداروين وغيرهما عن وجود قبائل كثيرة لا تعتقد أي دين مما أشرنا إليه ثم قال:

وأبلغ من هذا كله أن جميع أتباع كونفوشيوس لا دين لهم مطلقًا، فهم لا يعتقدون في إله ولا يؤمنون بخلود الروح. وليس ما يسمونه بدين كونفوشيوس سوى مذهب فلسفي عمراني أخلاقي نشره صاحبه وهو فيلسوف صيني قديم، فاتبعته الطبقة المتعلمة في الصين وكثرة سكان اليابان.

وإليك ملخص مذهب كونفوشيوس نقلًا عن كتاب «الأطلال» للعلامة فولني صفحة ١٣٩:

الحقيقة هي أن كل ما في الوجود وهم وخيال وظواهر باطلة، وليس التقمص الروحي إلا رمزًا إلى التقمص الجسمي المادي الحقيقي؛ لأن مادة الجسم — مثلها مثل المواد التي في الكون — لا تفنى بعد الموت، بل تتحلل وتنتشر في الأرض والهواء وتدخل في تراكيب أخرى. وما الروح إلا القوة الحيوية التي تنتج من خواص مواد الجسم وتأثير أعضائه بعضها في البعض مما يجعله يتحرك ويحيا. أما القول بأن هذه القوة الناتجة من تأثير الأعضاء وخواص المادة الملازمة لها، والتي تولد منها وتنمو معها تبقى — أي تلك القوة — بعد موت الجسم لهو قول خيالي وهمي خلقه تصورنا المخدوع، وما الله إلا مجموع القوى الطبيعية غير المنظورة المنتشرة في جميع أجزاء الكون، والتي تحركه أو مجموع النواميس الطبيعية التي تديره.

ولما كانت هذه النواميس الطبيعية في غاية الدقة، وأغلبها خفي على الإنسان برزت للناس كلغز لا يمكن حله، فقالوا: بوجوب الإيمان بها بغير إدراكها وزعموا أنها فوق العقل البشري.

… «إن الحكمة هي معرفة النواميس الطبيعية، وإن الفضيلة تقوم في اتباعها والشر والرذيلة في جهلها وعدم السير وراءها.» انتهى كلام فولني عن مذهب كونفوشيوس الذي يسمونه دينًا.

هذا ويقول «ناصيف المنقبادي»: إن هناك شعوبًا لم تعرف عقيدة ما، وإن من الشعوب التي لا تدين بدين ما بعض قبائل العرب القديمة، فقد جاء في كتاب «مصادر الإسلام» ما نصه: والعرب الجاهلية أصناف، فصنف أنكر الخالق والبعث وقال بالطبع المحيي والدهر المفني، يؤيد هذا ما ذكره القرآن عنهم في سورة الجاثية: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ.

(٢-١٢) عبادة الكواكب

عند «السيد عبد الرزاق الحسيني» من بغداد أن مظاهر الطبيعة وعجائب الكون قد وجهت نظر الإنسان منذ نشأته إلى إكبارها وتعظيمها، فأكبر العاصفة وارتعدت فرائصه للقوى الطبيعية، ورأى في كل تلك المظاهر قوة مدركة وحياة خاصة فاستصغر قواه بجانبها، ووجدها جديرة بالتعظيم والتقديس. ومن هنا نشأت فكرة العبادة لمظاهر الكون واستمر البشر يؤله ما يخاف منه وما تجهل كنهه، أو يرى فيه شيئًا غريبًا حتى تطورت فكرة الدين بتطور البشر، وأصبحت المظاهر الطبيعية تنضوي قواها تحت قوى محصورة في قوة واحدة، فبعد أن كانت الريح العاصف والشمس المهجرة والنار المتأججة، آلهة تُعبد وأربابًا تُطلب منها المساعدة والمعونة، أصبحت تلك القوى، متمثلة في عدد من الكواكب السيارة وفي قوة تمثلها تلك الكواكب، وتطورت هذه الفكرة فأصبح عدد الكواكب يتضاءل حتى لم يبق إلا إله واحد، وأصبح الخلاف في صفاته بعد أن كان في شركائه وأقرانه.

ولكن على الرغم من هذه التطورات التي طرأت على العقيدة البشرية، فإن جذور تلك الاعتقادات ما تزال باقية وما يزال قسم من البشر يحتفظ بأصول العقائد الأولى وبصفات التفكير القديم، قبل عصر الحضارات ومن هؤلاء الصابئة.

جاء في القرآن الكريم في سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، الآية، وقد ذهب المفسرون في تفسير كلمة «الصابئة» مذاهب شتى لا نرى داعيًا للبحث فيها، غير أننا نقول إن الصابئة الذين ذكرهم الله تعالى في هذه الآية الشريفة قد انقرضوا، فأصبح من المتعذر علينا بيان معتقدهم بالتفصيل.

وذكر أصحاب كتب الملل والنحل نوعًا من الصابئة دعوهم «الصابئة الحرانية»، فظن البعض أن هؤلاء القوم من الصابئة الأقدمين، وهذا وهم وضلال، فقد ذكر ابن النديم في الصفحة اﻟ ٣٢٠ من فهرسته «طبعة أوروبا» أن المأمون اجتاز في أواخر أيامه ديار مصر يريد غزو بلاد الروم فتلقاه الناس يدعون. وكان بينهم جماعة من الحرانية، وكان زيهم إذ ذاك لبس الأقبية وإرسال اللحى، فأنكر المأمون ذلك عليهم وسألهم هل هم من المسلمين أو اليهود أو النصارى، فأجابوه بالسلب، فسألهم هل لهم كتاب أو نبي، فأجابوه سلبًا، فأراد قتلهم مشيرًا إلى أنهم أصحاب الرأس في أيام والده الرشيد، فأجابوه بأنهم يدفعون الجزية، فقال لهم: أنتم كفرة ملاحدة والجزية تؤخذ ممن خالف الإسلام من أهل الأديان الذين ذكرهم الله في كتابه المجيد. وطلب إليهم أن ينتحلوا الإسلام دينًا لهم أو دينًا آخر من الأديان التي جاء ذكرها في القرآن، وأمهلهم إلى عودته من غزو الروم. ويقول ابن النديم إن الحرانيين خافوا على حياتهم، فأسلم بعضهم وقص البعض الآخر شعره وصاروا في ولولة واضطراب، وجاءوا شيخًا من شيوخ حران يطلبون نجوة لهم وقدموا إليه النذور والدراهم، فقال لهم: إذا عاد المأمون من رحلته وسألكم عن دينكم فقولوا له: نحن الصابئة، والصابئة اسم لدين ذكره الله في كتابه.

ويزيد ابن النديم على ما تقدم قائلًا: إن المأمون مات في سفره «٢١٨ﻫ/٨٣٣م»، ولكن المسلمين عقبوا خطته حتى جعلوا الحراني يتظاهر بالإسلام. فإذا تزوج وولدت له امرأته ذكرًا جعله مسلمًا، وإن جاءت إليه أنثى جعلها حرانية أو صابئة بالمعنى الذي أراده الشيخ الحراني لخلاصهم؛ وخلاصة قول ابن النديم أنه لم يكن في حران يوم اجتاز المأمون ديار مضر لغزو الروم صابئة، وليست للحرانيين الذين خرجوا لاستقباله فجرى ما جرى لهم؛ أية صلة بالصابئة، وهذا هو المراد عندنا.

وقد ذكر المسيو هنري بونيون في كتابه تحت عنوان «الفرقة الدستائية»، وهي المندائية التي اشتهر بها الصابئة الحاليون ما مضمونه: إن صاحب هذه الفرقة كان متسولًا، وقد جاء من بلاد ما بين الزابَين — يريد الزاب الأكبر والزاب الأصغر، وهما من أنهار العراق المعروفة — إلى ميسان — يريد جنوبي العراق — وكان مسيحيًّا اسمه «دبدا» واسم أمه «أم كشطا»، ثم توطن ضفاف نهر القاردن في جنوبي البصرة الحالية، وأسس ديانة جديدة مأخوذًا معظمها من المارقيونيين والمانويين والكنتيين وغيرها من الفرق الصابئية القديمة، ثم توسعت هذه الطائفة على مر السنين وسموا بالصابئة؛ أي المغتسلة؛ لأن جميع طقوسهم الدينية لا تتم إلا بالارتماس في الماء الجاري. ا.ﻫ.

تعتقد الصابئة أن المخلوق الأول لله كان روحانيًّا يدعى «هيي قدمايا»؛ أي الحي القديم، وأن الله خلقه وخلق معه عوالم كثيرة مملوءة بالنفوس المقدسة. ثم خلق الحي الثاني أو المخلوق الثاني وهو «هيي تنيائي»، وخلق معه كذلك عوامل مقدسة لا تحصى، ثم خلق المخلوق الثالث وهو «هيي تليثائي»، وخلق معه ما خلق مع سابقيه، وأن هذه النفوس تنقسم قسمين: «أنزي»؛ أي عوام، و«ملكي»؛ أي ملوك. ثم خلق عوالم سبعة تدعى «آلمي دهشوخا»؛ أي عوالم الظلام، وهي تستمد نورها من الشمس، وسكانها عوام وملوك أيضًا، وأرضنا من جملتها.

أما هيئة الأرض فيرونها بشكل مربع وأنها ثابتة غير متحركة، وهي مقامة على هواءين: أحدهما خارجي والآخر داخلي، وتحت الأرض ماء انبسطت عليه، وأما السماء فيعتقدون أنها مكونة من سبع طبقات وأن الشمس تقع في الطبقة الرابعة والقمر في السابعة. ويرون أن الأرض والسماء مركبتان من مادتين هما: النار والماء، وكذلك الكائنات الحية فهي كلها مركبة من هذين العنصرين. ويعتقدون أن الله بعد أن أتم خلق الأرض، أنزلت الملائكة من عالم الأنوار الذي يسمونه «آبي دنهورو» بذورًا للأشجار، وفتحت طريقًا للهواء ولماء الحياة، وفتحت طريقًا آخر للنور تستمد منه الشمس أشعتها لتنير بقية الكواكب بالواسطة.

يسمي الصابئة آدم «كوره قدمايه»، ويقولون إن الله أرسل جبرائيل ويسمونه «إبتاهيل» إلى الأرض؛ ليخلق آدم على صورته فخلقه على صورته من التراب، وخلق من ضلعه الأيسر حواء، ثم أنزل الروح في جسمي آدم وزوجته، وعلم الملائكة آدم كل ما في الأرض، ثم أمر الله الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس، ويسمونه «هادبيشة» قائلًا: خلقتني من نار وخلقته من تراب فكيف أسجد له؟ فطرده الله من الجنة ولعنه.

وضع الصابئة للعالم تاريخًا قدره ٥٨٧٣٠٩٥ سنة أسندوه إلى أساطير.

وفي فكرة الخير والشر ترى الصابئة وتعتقد أن الخير والشر موجودان من قبل الإنسان، ويحدثان بفعله وأن إرادة الإنسان الجزئية، واختياره المطلق هو الذي يجعله مسئولًا أمام الله، وهم يرون فوق ذلك أن الله بَيَّن للإنسان طريق الخير وطريق الشر، فله الحرية المطلقة في إتيان ما شاء ونبذ ما يشاء من دون معارض يعارضه.

تعتقد الصابئة أن الموت انتقال لا اندثار، فالروح بعد أن تخرج من الجسد، لا تفنى ولا تنعدم، إنما تنتقل من عالم لآخر حتى تصل إلى عالم الأنوار. وتعتقد أيضًا بأن الروح لا تطهر إذا لم تخرج من بدن طاهر، ولهذا وجب غسل الميت وتكفينه ساعة احتضاره، لتخرج الروح من جسده وهو طاهر، فإذا مات الميت نجس وحرم مسه. ومن مات فجأة؛ أي بلا غسل وتكفين، عد كافرًا. والبكاء والعويل محرمان على الميت فإن كل دمعة تذرفها العين على الفقيد تكون نهرًا كبيرًا في طريقه يعجزه عن قطعه.

فإذا مات الميت استقبل روحه ملكان من نقلة الأرواح فيحاسبانه على عمله في دنياه، فإن كان الميت حسنًا فإن روحه تذهب إلى عالم الأنوار رأسًا، وإن كان سيئًا تبقى الروح في العذاب حتى تطهر.

أما صلاة الصابئة فهي وضع أولي للصلاة ثلاث مرات وقوفًا وركوعًا وجلوسًا في غير سجود وأذكار، ولا يصومون وإنما لا يأكلون اللحم ٣٦ يومًا، ولهم عادات في الزواج والجنازة والذبح. ولكهنتهم في ذلك نفوذ مطلق.

(٢-١٣) رأي المؤلف

أوردنا فيما تقدم الكثير من آراء العلماء والفلاسفة في «الدين والتأليه»؛ لكي يقف القارئ على أصل هذه الفكرة التي رافقت الإنسان قبل عصر التاريخ والحضارات وبعدهما إلى اليوم.

وعندنا أن الإنسان البدائي قبل أن يعرف شيئًا اسمه «الدين» أو «الإله» كان يخشى القوة، سواء كانت ممثلة في رجل قوي مسيطر، أو زعيم نافذ الكلمة، أو رب أسرة محترم المقام مهيب الطلعة؛ أم في حيوان أو وحش؛ أم في شيء في الطبيعة كالشمس والقمر والنجوم والماء، أم في شبح أو حلم. ومن هذه الخشية نشأ الاحترام والإجلال والتهيب فالحب فالتقديس.

كان الإنسان الأول دائب النظر إلى السماء، مأخوذًا بحرارة الشمس وكسوفها وضوء القمر وخسوفه والنجوم ونورها، وبالعواصف والسحب والصواعق والبرق والأمطار والبرَد — بفتح الراء.

وعندنا أن الإنسان البدائي كان يعبد ما يعبد ويقدس ما يقدس تبعًا للأحداث العارضة، وأنه كان ينتقل من عبادة إلى أخرى في سرعة كلما كان الملقن أو الحدث قويًّا، أو كلما حط عصاه في بلد جديد ذي عبادة أخرى.

وكلما ارتقت الحياة الاجتماعية أحس الأقوياء المسيطرون والمفكرون بحاجة هذا المجتمع إلى رابطة روحية، كما أحس المجتمع ذاته بحاجة إلى هذه الرابطة. ومن هنا كان المجال متسعًا لنشر الدين والتفنن في مذاهبه، فتعددت الأديان والآلهة وتطورت إلى أن ظهرت الديانات الكبرى في الحضارات القديمة وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ قرآن كريم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤