الفصل السابع عشر

الصناعة

عرف إنسان عصر ما قبل التاريخ الصناعة الساذجة كما أوضحنا هذا في بعض الفصول السابقة؛ ومن أجل هذا رأينا أن نتحدث هنا عن نشأة بعض الصناعات، وتطورها إلى العصور التاريخية.

(١) النار

يبدو أن الإنسان عرف النار اتفاقًا، ذلك أن النار تشتعل في الغابات إذا ما اشتد الجفاف، واحتكت بعض الغصون ببعضها الآخر، وكذلك إذا سقط حجر على حجر سقوطًا قويًّا، اندفعت شرارة، ومن هنا يبدو أن الإنسان البدائي قد عرف النار، إما عن طريق سكناه إلى جوار الغابات مستخدمًا حريقها الذي أشرنا إليه، وإما عن ضرب حجر بحجر ووضع خرقة مشيطة جافة بين الحجرين، تتقد على أثر انقداح الشرارة.

أما عيدان الكبريت فقد عرفت للمرة الأولى في سنة ١٨٢٧ في إنجلترا.

(٢) دفن الموتى

يبدو أن الإنسان البدائي لم يكن يعرف الدفن أو يمارسه، فكان الميت يُترك حيث مات فتفترسه الوحوش أو يبلى لحمه ويبقى عظمه، بل قد يكون الإنسان الأول غير مستطيع التمييز بين الحي والميت، فشخصية الميت كانت لا تزال حية حتى بعد موته، وعلة ذلك أنه كان يراه في الأحلام فيحسب أنه يأتيه في نومه ويعاكسه، فإذا كان عدوًا شديد البطش وحدث أنه مات فإن موته لا يخيم هذه العداوة؛ لأن هذا العدو يخطر له في النوم ويفزعه بأحلام مرعبة تملأ حياته نكدًا ونغاصة.

لهذا ابتدأ الدفن بتقييد الميت وإلقاء الأحجار الكثيرة عليه حتى لا ينهض في الليل ويقلق الناس وهم نيام؛ إذ إن الغرض من الدفن هو منع الميت من النهوض، فكان أسلافنا يربطون يديه وساقيه، ثم يحفرون له حفرة ويهيلون عليه ويضعون فوقها الأحجار.

ثم نشأ بين الناس الاعتقاد بوجود روح في الجسم، وأن الإنسان يعيش في عالم آخر بعد الموت فنشأ من ذلك فكرتان: الأولى أن الروح تحتاج إلى جسم وطعام وشراب ولباس وأدوات دفاع وزينة، فكانت الأمم التي تعرف أن الجسم يبلى كالمصريين تحنطه، وتلفه في عناية كبيرة وتضع معه الطعام والشراب وكتاب الموتى حتى يقرأه عند الحساب ولا يخطئ، وقد انتشرت هذه العادة من مصر إلى أقاصي آسيا وأمريكا وأفريقيا.

أما الأمم الأقل ثقافة من المصريين فكان عندها الدفن أبسط، ولا يزال بعض الهمجيين يمارسون طرقًا بسيطة في الدفن: فالبوشمان يدفنون الرجل ويضعون عليه حربة، ويضع المازاي مع الميت قرعة مملوءة لبنًا، وبعض الهنود يضعون للآن مع فقيدهم كعكة، ويضعون في بورما آنية الطبخ، أما في الأرض الخضراء فيدفنون مع الرجل كلبًا من الكلاب التي تجر المزالق، وفي الكونغو يدفنون مع الرئيس إذا مات عددًا من عبيده مع بعض النقود، وفي فيجي يدفنون معه بعض زوجاته.

أما الفكرة الثانية فقد جاءت من أنه لما كانت الروح لا تحس وهي القوة العاقلة المدبرة للجسم لم يعد ثَم حاجة إلى هذا الجسم؛ لأن العالم الآخر ليس عالم أجسام بل عالم أرواح خلو من المادة، انتشرت بينهم عادة إحراق الجسم، وامتد انتشارها إلى أوروبا حيث عرفها الإغريق واليونان والرومان والروس. والهنود الذين كانوا يحرقون زوجة الرجل المتوفى حتى تشارك روحها روحه في العالم الثاني، بل كانوا يحرقون بعض أدواته التي كان يستخدمها في حياته اعتقادًا بأنه يحتاج إلى أرواحها لا إلى أجسامها ومادتها، وقد أبطلت الحكومة الإنجليزية عادة إحراق الزوجة، ولكن الهند وبعض الأمم التي حولها التي أثرت فيهم الثقافة الهندية، لا تزال تمارس عادة إحراق الميت، بل فشا في أوروبا شيء يشبه التحنيط المصري، أما العادات الجنازية فقلما تغير أمة عادتها في حمل الجنازة أو دفن الميت، هذا ولما دخلت المسيحية أوروبا وعاد الاعتقاد ببعث الموتى أبطلت عادة إحراق الجسم وكانت قبلًا فاشية في أوروبا؛ لأن المنطق الديني كان يقضي بأن الإنسان سيُبعث في جسمه فيجب إذن العناية به. كما نرى في «الكاتاكومب»، وهي المغاور التي تحت الأديار والكنائس، إذ يُترك الموتى وقوفًا بثيابهم إلى الحيطان وبعضهم يُعلق بالسقف، على أن الكثيرين يؤثرون الآن إحراق الموتى لأسباب صحية، وفي معظم عواصم أوروبا محرقات وفي الصحف الأوروبية إعلانات من شركات الإحراق تغري بها الناس على إحراق موتاهم؛ لأنه أرخص من الدفن.

(٣) بناء الدور والأسوار

لم يكن للإنسان موطن معين أو سكن، بل كان يهيم على وجهه في الفيافي وبين الغابات، ثم اتخذ من ظلال الأشجار مستظلًّا ينام تحته، ثم عرف سكنى الكهوف والأكواخ من أغصان الأشجار، ثم البيوت من الحجر والطين والبوص والخشب.

أما بناء الأسوار حول المنازل والبلاد، فعندنا أنه يرجع إلى ما قبل التاريخ المدون، ذلك أن الغريزة الإنسانية كانت تدعو الإنسان الأول إلى الحرص على ما يملكه من المتاع التافه والحيوان، وإلى الخوف من أعدائه، الذين ينبغي — على ما نفترض — أنهم كانوا أكثر من أصدقائه؛ إذ إن الحالة البدائية كانت حربًا مستعرة بين الإنسان والإنسان، وبينه وبين الحيوان والشياطين والأشباح، بل إنه لا يبعد أن تكون الأسوار قد اتخذت، على الأيام، تقية وتعويذة ليس غير.

ومن الأسوار التي طالما تحدَّث عنها الجغرافيون والرحالة والمؤرخون سور الصين العظيم، المعدود إحدى عجائب الدنيا السبع القديمة، فعند أكثرهم أن السور قد أقيم للحيلولة دون غارات سكان شمال الصين، وعند عامة الصينيين أنه قد أنشئ لوقاية بلادهم من الأرواح الشريرة، وعند قلة من الجغرافيين أن سور الصين لم يقم من أجل الدفاع ضد المغيرين أو الأرواح الشريرة، بل إن عادة الصينيين في القرنين الخامس والثالث قبل الميلاد خاصة، قد جرت ببناء الأسوار لتعيين الحدود ومنع الأهلين من تخطيها إلى غيرها، حين كانت بعض أقاليم الصين منفصلًا عن بعضها الآخر، إلى أن وحد الإمبراطور «هوانج تي» البلاد الصينية وأحاطها بالسور العظيم.

(٤) المرآة

كان الناس قبلًا يرون ظلالهم في الماء ولا يزال هذا شأن الهمج من البشر، ثم صنعت المرايا من البرنز المصقول، وفي القرن الرابع قبل الميلاد صُنعت من الفضة، وكان العرب يعرفونها باسم «الوذيلة»، هذا وقد صُنعت المرايا من الزجاج لأول مرة في البندقية في سنة ١٣٠٠، وكان الزجاج يوضع قبلًا على الفضة لصيانتها حتى لا تنخدش، ثم وُضع الزئبق وراء الزجاج بعد ذلك.

هذا ولم يكن الإنسان قبل ستة آلاف سنة يعرف المرايا، وإنما كانت المرأة تنظر صورتها في الماء فتصلح من شأنها بقدر ما ترى من صفحة الماء، ثم عرفت المعادن بعد ذلك؛ النحاس ثم البرنز، فكانت المرايا تُصنع منهما، ثم عُرفت الفضة فصارت تُصنع المرايا منها، وفي العربية لفظة الوذيلة وهي المرآة الفضية، أما مرايا الزجاج فحديثة ولم تُعرف إلا بعد كشف الزئبق وطريقة دهن الزجاج به، وقد كان الرومانيون أول من صنعوا الزجاج على صورة تفترق عن صناعة المصريين.

(٥) الحذاء

يبدو أن الإنسان البدائي كان حافي القدمين مما جعل جلد أخمصيهما غليظًا متينًا، ثم اضطر إلى أن يتخذ لأقدامه ما يقيها حر الرمال ووعورة الطريق، فاتخذ قطعة من الجلد أو الخشب شدها إلى أخمصي قدميه، ثم جعل يتفنن في صنعها. هذا وقد كان حذاء المصريين القدماء نعالًا تُشد إلى القدم بسير قصير يمتد مما بين الإبهام والسبابة إلى أعلى القدم، وسير آخر مشدود من طرفيه بجانبي النعال عند أسفل العقب فيمر بأعلى ظهر القدم، فيشد به السير الأول، أما مادة النعال فكانت على الغالب من الجلد، ولكنهم كانوا يحيكونها أحيانًا من سعف النخل، أو ألياف القنب أو البردي.

أما أحذية الآشوريين فكانت تختلف عن الأحذية المصرية، فإن نعالها كانت تُصنع من الخشب والجلد، وقلما صنعوها من النسيج. وبينما كانت الأحذية المصرية تستطيل من الأمام ثم تنعكف إلى فوق الإبهام، لم تكن الأحذية الآشورية تتجاوز رأس الإبهام من الأسفل، وهي تخالف المصرية بأنها تشد إلى القدم بسيور منحرفة تكسو العقب.

أما أحذية اليونان والرومان فتمتاز بأنها من الجلد غالبًا، وأن نعالها تُشد بسيور تُلف على ظهر القدم والعقب، وتتجاوزهما إلى أعلى الكاحل وأحيانًا إلى منتصف الساق.

أما الأمم الأخرى كالفينيقيين والإسرائيليين، فكانت أحذيتهم ترجع إلى بعض هذه الأشكال، وكان العرب لا يلبسون غالبًا النعال لتصلب بطون أقدامهم فتقوى على تحمل حر الرمال، ولكنهم إذا ساروا في الجبال الوعرة شدوا إلى أقدامهم نعالًا من جلد الغنم.

(٦) المشروبات المخمرة والمسكرة

يبدو أن الإنسان البدائي قد عرف — اتفاقًا — التخمير والمشروبات والأغذية والأعشاب المخمرة، وهي التي يُحدث تناولها ارتخاء أو تخديرًا وانتعاشًا وانتشاء، وأن المخمورين والسكيرين كانوا من جماعات الإنسان القديم.

وعند أحد علماء الكيمياء الألمان أن المصريين القدماء كانوا ماهرين في صناعة الجعة (البيرة)، فقد فحص هذا العالم جرة مصرية قديمة بوساطة الميكرسكوب، فوجد لاصقًا بجدارها من الداخل آثارًا من النشاء ومن الخميرة التي لا تزال تستعمل في صناعة البيرة إلى هذا اليوم، أما الماء الذي كان المصريون يستعملونه فكان من ماء النيل لا من ماء الآبار، بدليل أن آثار أعشاب نيلية وجدت لاصقة بجدران الجرة من الداخل.

(٧) الصابون

يرجح أن الأقدمين استعملوا رماد الخشب والأعشاب لتنظيف أجسامهم، وفي تاريخ بليني أنهم صنعوه من شحم الماعز بإذابته، ومزجه برماد شجر الزان مع الملح.

(٨) النقود

كان الإنسان البدائي في غنى عن استخدام النقود؛ إذ كان يعمد إلى القوة والسلب في أخذ ما يحتاجه، ثم عرف مبادلة السلعة بالسعة والمقايضة بين الحاصلات والمعادن الخام، هذا وأول من استعمل النقود المعدنية هم أهالي ليديا بآسيا الصغرى، وأول قطعة سُكت كانت في سنة ٧١٦ق.م، أما عملة الذهب فالمعروف أن أول من أمر بسكها هو قارون (كروسوس) ملك ليديا في سنة ٥٥٠ق.م، أما الورق فقد بدأ التجار استعماله صكًّا في الصين وبعض الحضارات القديمة، ثم اتخذ منذ القرن التاسع عشر نقدًا يقابل العملة المعدنية، ويحل محلها إلى أن أصبحت له الغلبة في هذا القرن.

هذا وقد كانت الماشية أداة التعامل، ثم اتخذت المعادن أداة للتبادل؛ لما فيها من الثقل والصلابة على هيئة سبائك بأشكال مختلفة، كَحُلي وأدوات أخرى، وكانت توزن عند كل عملية مقايضة، ثم استنبطوا قطعًا معدنية منتظمة محدودة الوزن، ثم تعمد القدماء عند تحديد وزن القطع المعدنية أن يجعلوها ذات قيم صغيرة لتسد حاجة التبادل اليومي، وكانت الصفقات الكبيرة يدفع ثمنها إما بعدد كبير من هذه القطع الصغيرة القيمة من ثلاثة معادن: الذهب والفضة والنحاس، وإما بسبائك من هذه المعادن على هيئة قضبان ثقيلة الوزن توزن بالمين، والتالنت (هي وحدة الموازين الكبيرة. التالنت = ٦٠ مينًا).

وقد قال أرسطو: «لقد تخلصنا به نهائيًّا من مضايقات الوزن المستمر.» فقد وضع الختم الرسمي للدولة على هذه القطع المعدنية الموزونة، وهذا هو أساس كل نقد حتى أحسن أنواع النقود الذي تطابق قيمته الاسمية القيمة المعدنية تمامًا، وكان للحكومة الحق في أن تفرض للنقود قوة التعامل، وأن ترغم الناس في كل مكان تحت سلطتها على قبولها، ولم يتحقق استنباط النقود المختومة الرسمية إلا في القرن الثامن وأوائل السابع ق.م، وكل المصادر التاريخية والأثرية تنسب شرف هذا الاختراع إلى الليديين واليونانيين، ثم انتشر عنهما إلى الأمم الأخرى مع انتشار الحضارة اليونانية، وتدل النقوش والمصادر على وجود القطع المعدنية ذات الوزن المحدد من أقدم العصور، ولكن لم نرَ أثرًا للنقود قبل هذا التاريخ.

أما أول عملة فكانت سبيكة بسيطة تحمل نقشًا بمثابة ختم رسمي، على أنه وجدت قبل ذلك بعض قطع تحمل أختامًا خاصة شخصية كضمان لقيمة المعدن، منها واحدة عليها غزال كتب حوله باليونانية «أنا علامة فانوس» كما في الصين الآن، وكان لكل بلد رمز خاص به، وكان في أول الأمر محفورًا في القطعة، ثم صار بارزًا على سطحها، وارتقى فنيًّا حتى صار موضع تنافس المتفننين البارزين في ذلك الوقت، وقد كان الآسيويون يحفرون الرمز على الحجر، ثم يصبون العملة عليه فيظهر على القطعة رمزًا بارزًا، وقد قلدهم اليونان ثم تناولوه بالتحسين حتى وصل إلى درجة رائعة من الفن.

قال «بولكس» المؤرخ: إن أول من ضرب النقود «فيدون» ملك أرجوس اليوناني أو الليديون، ففي النظرية اليونانية أن «فيدون» أول من ضرب العملة من الفضة في اليونان الأوروبية على شكل سلحفاة بحرية، يؤيد ذلك أنه وهب معبد هيريون بعض السبائك بدون أختام من الفضة على شكل مسلات كانت مستعملة قبله في اليونان، وقد وهبها الملك لذكرى اختراعه العملة، أما النظرية الآسيوية، فهي أن الليديين هم أول من ضربوا النقود من الذهب، ويؤيد ذلك المؤرخ «هيرودوت» إذ يقول: «الليديون على حد معرفتنا هم الأول بين الرجال الذين ضربوا العملة من الذهب والفضة.» وأيده المؤرخ «أجزنوفان»، واقتبس عنه «بولكس»، أما أول من ضرب الذهب «الكنروم وهو خليط من الذهب والفضة طبيعي» فهم الليديون، وأول من ضرب الفضة في اليونان هو «فيدون»، ولكن أيهما أسبق؟ فإذا عرفنا أن العملة في ليديا ضُربت بعد انتهاء دولة مرمناو؛ أي في عهد «چيچة»، وأن تاريخ حكم «فيدون» ملك أرجوس غامض لا يعرف هل هو أول بعد حكم «چيچة»، كان لا بد من الاستشهاد بالآثار نفسها، وإذا درسنا أقدم القطع في المجموعتين الليدية واليونانية، وهما بالتأكيد أقدم ما ظهر من العملة وينتميان إلى النصف الأول من القرن السابع قبل الميلاد، وجدنا أن مظاهر الخشونة وعدم الإتقان تبدو واضحة على القطع اليونانية الفضية، وهي مستطيلة الشكل على هيئة سلحفاة بحرية، بينما النقود الذهبية الليدية مستديرة الشكل، وعلى ظهرها ثلاثة نقوش محفورة في نظام، وفي إحداها صورة ابن آوى، وهو رمز إله الليديين «بساريوس»، وليس على وجهها إلا بعض خطوط أدق نسبيًّا وأرقى ما تم من الوجهة الفنية، وليس ذلك دليلًا على أن العملة اليونانية أقدم من الأخرى؛ إذ يرجع السبب إلى تقدم الليديين لأن الحضارة وارتفاع الفن في آسيا الصغرى سبقا بمراحل الحضارة اليونانية في أوروبا في ذلك الوقت، الواقع أن العملة الليدية تمثل الانتقال بين التبادل بالقطع المعدنية ذات الوزن المحدود بدون ختم رسمي، وبين النقود الحقيقية، فهي سبائك عليها ختم الدولة الرسمي، فاكتسبت بذلك ضمانًا قانونيًّا لوزنها ونوع معدنها.

(٩) ركوب الماء والسفن

المظنون أن الإنسان عرف مراكب الماء من سفن وقوارب منذ ثلاثين ألف عام وأكثر، وإن لم تكن على الصورة التي وصل إليها صنعها الآن، وأن الإنسان كان يركب الماء جاذفًا على الماء في كتلة من الخشب أو جلد منفوخ، وقد وجد في مصر وسومر القارب المشابه للسلة، وهذا النوع من القوارب لا يزال مستعملًا في أيرلندا وويلز وألسكا وفي خليج بهرنج، ثم عُرفت بعدئذ الكتلة الخشبية المجوفة، ثم تطور صنعها إلى الحالة التي تشبه ما هو قائم من أنواع السفن ذات المجاذيف فذات الشراع، وقد عرفت السفن الصالحة في البحر المتوسط والخليج الفارسي، ثم البحر الأحمر منذ ٧٠٠٠ق.م، وكان أكثرها للصيد وأقلها للتجارة والقرصنة، وقد بدأ سير السفن في الأمواه الداخلية حينما كان التيار المائي هادئًا مدة طويلة، وقد ظل حجم السفن صغيرًا، فلم تعرف السفن الكبيرة الضخمة حسنة البزة جيدة التركيب القادرة على مخر عباب المحيطات؛ إلا منذ ٤٠٠ سنة، فقد كانت السفن الصغيرة قبل هذا تسير بالمجاذيف على مقربة من السواحل، وتسرع إلى الوقوف أو العودة إلى المرسى كلما لاح خطر الأمواج أو العواصف، وكانت الأمم السامية في مقدمة الشعوب استخدامًا للسفن، فأنشأت الثغور والمراسي البحرية في شرقي البحر المتوسط، وكان سكان صيدا وصور على رأس هذه الأمم ركوبًا للبحر محترفين التجارة والغزو والقرصنة، وقد عرفوا باسم «الفينيقيين»، وقد وصلوا إلى إسبانيا طاردين الأيبريين سكان الباسك، وموفدين البعثات ماخرة عباب مضيق جبل طارق، منشئين المستعمرات في شمال أفريقيا، وخاصة قرطاجنة.

وثمة أقوام آخرون متصلون بالمصريين والباسكيين الإسبانيين والبربر كانوا يركبون الماء ويستخدمون القوارب والسفن الصغيرة، وكذلك نوع آخر من سكان الجزر اليونانية في بحر إيجه وآسيا الصغرى سبقوا الحضارة اليونانية، مثل «كنوسوس» في كريت، وهي أقدم ما كشفت عنه الآثار في تلك المنطقة، وهي تماثل الحضارة الفرعونية نشأة وتاريخًا، و«كنوسوس» هذه هي قصر للملك أكثر منها مدينة، وقد بقيت غير محصنة إلى أن ظهر الفينيقيون وقراصنة اليونان النازلون من الشمال، وأصبحوا خطرًا على البلاد الأخرى.

(٩-١) الملاحة في مصر

عرف المصريون الملاحة في النيل ثم البحر، ولقد اتخذ المصريون القدماء السفن في حروبهم فترى على جدران معبد مدينة «هابو» منظر معركة بحرية وقعت في عهد رمسيس الثالث، وكانت هذه السفن كبيرة الحجم، تتسع لكتيبة من الجند، وقد كان للمصريين في عهد الدولة الحديثة أسطول تجاري كبير يسير بعضه في نهر النيل، وبعضه في البحرين المتوسط والأحمر، وكانت سفن النيل تحمل الأثقال الكبيرة مثل أحجار الأهرام والمعابد، والمسلات والتماثيل، وعلى جدران معبد الدير البحري سفينة طولها ٨١ مترًا، وعرضها ٢٧ مترًا، حملت عليها بعض المسلات من محاجر الجرانيت بأسوان إلى الكرنك حيث أقيمت، وكانت هذه السفن تسير من غير مجاذيف، تجرها سفن كثيرة يقدمها عظماء الدولة لفرعون، وكانت تسير في النيل كذلك سفن أخرى لنقل الغلال والماشية والأثقال الصغيرة، وقد سيرت الملكة حتشبسوت أسطولًا تجاريًّا في البحر الأحمر، وأوفدته إلى بلاد «بونت»؛ ليأتي للإله آمون بأثمن حاصلات هذه البلاد ولا سيما أشجار البخور الذكي، وترى مناظر هذه البعثة التجارية منقوشة على جدران معبد الدير البحري.

(١٠) المصريون والزجاج

يقال إن صناعة الزجاج الذي قوامه الرمل في مصر البعيدة، قد جاء اتفاقًا منذ أربعة آلاف سنة، وقد مهر المصريون القدماء في تلوينه مخرجين أحد عشر لونًا في المرحلة الأولى من كشفه، وعرفوا الفسيفساء، وخلف لنا الأقدمون مصنوعات زجاجية في أحد جانبي الغرفة الداخلية للأهرام المدرجة في منفيس، ورسومًا تدل عليه في مقابر بني حسين في المنيا، وكان أقدم ما وصل إلينا كرة زجاجية مع بندقية أمنحتب الأول مودعتين متحف أكسفورد، وتمثال رأس الإله هاتور متحف لندن، وألوان من الزهريات والمكاحل والسمك والرءوس، وكان يصنع في طيبة في بداية الأمر في الفيوم فالإسكندرية، ثم انتقل إلى آشور وفينيقيا، ثم إلى روما، فقد أنشأ الإمبراطور نيرون مصنعًا للزجاج عماله من المصريين.

(١١) الطيران

ليس ببعيد أو بمستغرب أو عسير أن يكون الإنسان البدائي قد فكر في الطيران، بل لعل هذا الإنسان مارس الطيران ممارسة غامضة الصورة أكثر مما احتفل له الإنسان المتحضر، ذلك أن الإنسان البدائي كان يعيش مع الحيوان والطيور، وحين كانت الوحوش تطارده، كان يلجأ إلى الأشجار العالية معتصمًا بها أو متنقلًا بينها، ومن المحتمل أنه كان يتخذ جذوعها أذرعة يطير بها قليلًا، على مثال شيء من الطيران الشراعي الملائم لتفكير ذلك الإنسان وحاجته.

(١١-١) فكرة الطيران في مصر السابقة

لقد وجدت بعض النقوش القديمة التي تدل على أن الفراعنة عرفوا سر الهواء وتركيبه واستفادوا من ذلك؛ فقد روى «هيرودوت»، المؤرخ القديم الذي عاصر الفراعنة وسطر عن مدنيتهم الكثير، قصةً سمعها من بعض زملائه المتقدمين، وقال إنه يشك في وقوعها؛ لأنها لم تثبت عنده قطعًا، أما القصة فقد جاءت دليلًا على أن الفراعنة فكروا في الطيران وبدءوا في تنفيذه، قال:

كنت في طريقي إلى بلدة طيبة حين سمعت من بعض شيوخ الفلاحين قصة من أغرب القصص، تدل على أن عقلنا البشري قد انجلت أمامه الحقائق وسهلت المصاعب. قال الشيخ: إنه بعد أن استولى الملك مينا على الوجه البحري وأصبح ملكًا لمصر العليا والسفلي وضم التاجين، أراد أن يوطد ملكه بإكرام العلماء واستغلال عقولهم في ترسيخ أقدام حكمه الجديد، الذي زها عصره، وذهبت إليه وفود العلماء إلا عالمًا شهيرًا اسمه «تاحتب» أبى واستكبر، وحاول الملك استمالته بالطرق كلها فلم يفلح، فأغضب ذلك الملك، فحكم عليه بالموت مرسلًا من يحضره.

وتواتر إلى العالم ما اعتزم الملك فهرب إلى قمة جبل عالٍ مستصحبًا معه نسرًا ضخمًا قويًّا فاتحًا فاه، وربط نفسه إلى رجليه، ثم ألقى بنفسه معه من فوق الجبل، فبسط النسر جناحيه ماضيًا في الفضاء.

وكان الرجل، إذا أراد الانخفاض جذب رأس النسر بيده إلى أسفل، وإذا رغب في الصعود دفعها إلى أعلى، وهكذا طار الرجل في الهواء فوق المدينة بين تهليل الناس وتكبيرهم، وخشي الملك أن يستفحل أمر ذلك العالم الجبار، فأرسل رسله في كل مكان باحثين عنه مادين أيديهم بالهدايا، ولكن ذهبت جهودهم أدراج الرياح.

فهذه القصة التي حرفها بعض الروائيين في قصة «السندباد البحري» تدلنا دلالة واضحة على مبلغ رقي الفراعنة العقلي والعملي، وأن «تاحتب» كان أول ضحايا فكرة الطيران، صحيح أن هيرودوت تشكك في صحة هذه الرواية، لكنها على كل حال تثبت وجود الفكرة عند علماء المصريين القدماء.

وقال الطيار «محمد محفوظ» في كتابه عن «الغزاة في عالم الطيران» إنه قد مضت سنون تطور فيها الفكر والعلم، حتى جاء عصر الأسرة الرابعة التي بنيت في عهد الأهرام، فذكر أن أحد الكهنة تسلق هرم خوفو بعد أن صنع لنفسه جناحين من قماش متين من التيل وطلاهما بطبقة من الشحم؛ ليمنع نفوذ الهواء خلالهما، ثم ألقى بنفسه في الهواء وأخذ يطير محركًا جناحيه، ولكنه كان دائمًا يهبط إلى أسفل؛ إذ لم تكن لديه القوة اللازمة للارتفاع … وبعد أن قاوم الهواء فترة يسيرة، انفصل عن جناحه فهوى إلى الأرض وفاضت روحه، وكان بحق أول ضحايا الطيران الانفرادي، ويذكر بعض المؤرخين أن المهندسين الذين شيدوا الهرم الأكبر استنبطوا النوع الأول من المظلات الواقية، فقد صنعوا نوعًا من القماش الخفيف في شكل أسطواني قريب الشبه بالبرميل، وكانوا إذا أرادوا طلب شيء من سفح الهرم نفخوا في هذه الآلة، وربطوا بها رسالة بما يطلبون، ثم يلقونها في مهب الريح، فإذا كانت غايتهم إلى أسفل مباشرة علقوا بها ثقلًا، وإذا كانت بعيدة عنهم نوعًا خففوا زنة الثقل، فإن كانت بعيدة جدًّا ألقوها دون ثقل ما، وهذه التجارب تدلنا على أنهم حاولوا الاستفادة من فكرة الطيران (الباراشوت)، ومن عجيب ما وصل إلينا أن قدماء المصريين عرفوا أيضًا اتجاه الريح بوساطة جهاز يسمى دليل الريح، فقد كان عصر الأسرة الثانية عشرة عصرًا ذهبيًّا سار الكشف فيه شوطًا بعيدًا عن طريق السفن البحرية، ولم يكن المصريون القدماء إلى يومئذ قد عرفوا القلع، فكان جل اعتمادهم على المجاذيف، ومما لا شك فيه أن الريح كانت تقاوم سيرهم وتوقف تقدمهم، بل كثيرًا ما أوردتهم موارد التهلكة، وفي هذه العصر استنبط أحد العلماء كيسًا من القماش الخفيف مفتوح الطرف، طوله يتراوح بين ذراعين وثلاثة، يعلقونه من طرفه في ناحية عالية بمؤخرة السفينة، وكثيرًا ما ارتفع الكيس في شكل عمودي؛ لتعبئته بالريح القوية ولكنه لم يأتِ بالغرض المطلوب، وفطن أحدهم إلى أنه يجب ثقب الكيس؛ كي يمر منه الهواء وفق فكرتهم تمامًا، وكان هذا الجهاز من أهم عوامل تقدم البحرية الفرعونية، لكنه اندثر واستغني عنه حين استنبطوا القلوع.

وبعد، فنحن لا ننكر أن الغرب أخرج الطائرة إلى حيز الوجود، وأن الطيار «لاتام» كان أول من ركب متن الهواء في سنة ١٩١٠، وأن الإيطالي «فرنسسكودي لانا» هو الذي اخترع المظلة الواقية في سنة ١٦٥٠، وأن الطيار الإنجليزي «هوكر» هو الذي استنبط جهاز الريح حوالي سنة ١٩١٩، لكن لا يجوز لنا أن نتناسى أنه منذ خمسة آلاف سنة فكر المصريون القدماء تفكيرًا علميًّا عمليًّا صحيحًا فيما جعله الغرب حقيقة واقعة في القرن الأخير.

هذا ومنذ عصر الفراعنة حتى قيام الإمبراطورية العربية تجدد البحث في فكرة الطيران، ولكن لم تصلنا دقائق عن تقدم هذا الفن الكبير.

(١١-٢) العرب والطيران: عباس بن فرناس

قال المقري يصف الأندلسيين نقلًا عن ابن غالب: «ومن حكاياتهم في الذكاء واستخراج العلوم واستنباطها أن أبا القاسم عباس بن فرناس حكيم الأندلس أول من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة، وأول من فك بها كتاب العروض للخليل، وأول من فك الموسيقى وصنع الآلة المعروفة بالمثقال ليعرف الأوقات على غير رسم ومثال، واحتال في تطيير جثمانه وكسا نفسه الريش ومد له جناحين وطار في الجو مسافة بعيدة، ولكنه لم يحسن الاحتيال في وقوعه، ولم يدرِ أن الطائر إنما يقع على زمكه ولم يعمل له ذنبًا، هذا وتوفي ابن فرناس في أوائل القرن العاشر.»

ومما يروى أيضًا أن عباس بن فرناس لبس لباسًا على هيئة الطائر، وله جناحان مثبت فيهما ريش طويل، فاستطاع بتحريكهما أن يرتفع عن الأرض فترة ما هوى بعدها على مقعده فقتل، وعلى هذا فلا يمكن أن نعده مؤسس الطيران؛ لأن محاولته لم تأت بنتيجة ما؛ لأنه لا صلة بين فكرته والفكرة التي قامت عليها الطيارة الحديثة.

أما من يرجع إليهم الفضل في تأسيس الطيران، ففي مقدمتهم الأخوان الفرنسيان «أورفيل رايط» و«ولبر رايط» فقد صنعا طائرة — ما زالت موجودة في أحد متاحف لندن — من القصب الهندي وكسواها بقماش أشرعة السفن، وطار بها أحدهما لأول مرة يوم ١٧ ديسمبر سنة ١٩٠٣، وارتفع بها ٨٥٢ قدمًا، وبقي في الجو ٥٩ ثانية؛ أي أقل من دقيقة، وكانت قوتها ١٠ أحصنة، وفي خلفها مروحتان ضعيفتان، وليس بها مكان يتسع لجلوس الطيار، فكان ينبطح على جناحها.

وهذه أول طائرة يحركها «موتور»، أما البالونات فقد عُرفت قبل ذلك، وكانت تُملأ بالأيدروچين الذي تقل كثافته عن كثافة الهواء فترتفع، وقد شهدت القاهرة بالونات تحلق فوقها منذ ١٤٠ عامًا، أطارها نابليون في أثناء حملته على مصر إرهابًا لأهلها.

(١٢) زينة الإنسان البدائي

يبدو أن الإنسان الأول كان يزين جسمه بالحلي قبل أن يكسوه بالملابس، على نحو ما يفعل الهمجيون الآن؛ وذلك لأن الإنسان أطوع لعامل غروره وكبريائه منه لعامل حاجته، أضف إلى هذا أن الإنسان الأول، لما كان له من الشعر الوفير لم يكن في حاجة إلى اللباس، وإنما نشأ هذا من الزينة على توالي الزمن، على أن بعض الهمجيين الآن لا يعرف من اللباس إلا الوزرة التي تستر عورته، أو قد لا يعرفها أحيانًا، ولكنه مع ذلك يعرف كيف يزين رأسه بريش الطيور، وكيف يعلق قلائد الصدف والودع حول عنقه، وكيف يحز الحزوز المختلفة حول جسمه، ومنهم أيضًا من يعرف الوشم، والحز والوشم كلاهما من ضروب التحلي، وفي إنجلترا تعيش طائفة من الصيادين ببيع الصدف، وهي تصيده للتجار، وهؤلاء يقايضون به زنوج أفريقيا في الغرب على سلعهم المختلفة.

على أن أقدم ما يُعرف من الحلي وجد في مصر، فقد كان من عادة المصريين أن يضعوا مع الميت بعض أدواته أو أمثلة مختصرة منها إذا ضنوا بالأصل أن يوضع في القبر، وكانت الحلي المصرية بين أصناف الحلي القديمة، وقد كانت هذه الحلي رمزية في معناها مما يدل على أن القصد لم يكن التحلي ليس غير، وإنما كانت هناك غاية سحرية أخرى كوقاية الجسم مما يضمره عدو أو مرض تجلبه الآلهة، فكانت الأقراط والقلائد والأساور تُصنع على جلود الثعابين أو صقور لها وجه إنسان أو غيره، وكان الذهب يستعمل لهذه الغاية، ولم يكن يتحلى به سوى فئة قليلة جدًّا من الناس، وكان المصريون يستعملون الزجاج الطبيعي الذي كان يتكون من انهيار بعض الأحجار وتبلورها في باطن الأرض، وكانوا يتزينون بقطع صغيرة منه كما نتزين الآن بالجواهر، وقد أبدى المصريون براعة عجيبة في صنع الحلي مع قلة وسائل الصناعة يومئذ في ذلك الوقت؛ إذ لم يكونوا يعرفون الحديد وقد عرفوا النحاس قبيل المسيح بمدة كبيرة، وكان الفينيقيون جوابين للآفاق بلغوا إنجلترا بسفنهم، وبعضهم يقول إنهم استعمروا جزءًا منها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤