قبل أن تقرأ
واكَبَت سنواتُ مُراهَقتي نهايةَ العهد الملكي في مصر. كانت البلاد تَمُوج بدَعوات التحرُّر الوطني من الوجود الإنجليزي العسكري، والتحرُّر الاجتماعي من سيطرة الإقطاع، ومن الأُميَّة والمرض والحَفاء! .. وشكَّلت هذه البيئة وجداني، وخاصةً الحديثَ عن أن المعرفة هي كالماء والهواء يجب أن تكون للجميع وبالمجَّان.
وفي مغربِ يومٍ من سنة ١٩٥١م، كنا أنا وأبي عائِدَين من زيارةٍ لأحد أقاربنا في شرق القاهرة. توقفنا في ميدان العتبة لنأخذ «الباص» إلى غربها حيث نقطن. اتخذنا أماكننا في مقاعد الدرجة الثانية. نعم! كانت مقاعد «الباص» آنذاك — والترام أيضًا — مُقسَّمة إلى درجتَين بثمنَين مُتفاوتَين للتذاكر التي يُوزِّعها «كمساري» برِداءٍ أصفر مميز أثناء مروره على الرُّكاب.
جلسنا أنا وأبي خلف الحاجز الزجاجي الذي يَفصل الدرجتَين، وتابَعتُ في حسدٍ رُكابَ الدرجة الأولى، بينما كان أبي غارقًا في أفكاره التي تُثيرها دائمًا أمثال هذه الزيارات.
قلتُ بحماسٍ طفولي: «سيأتي اليوم الذي يزول فيه هذا الحاجز، بل ويصبح الركوب بالمجَّان.»
تَذكَّرتُ الروايات التي أعشق قراءتَها فأضفتُ: «والكتب أيضًا!»
تَطلَّع إليَّ باستياءٍ من سذاجتي: نعَم! الكتب بالمجَّان؟ يا لها من سذاجة!
ولم أتصوَّر وقتَها أن يأتي اليومُ الذي تُصبِح فيه كتبي أنا متاحةً للقراءة بالمجَّان! وذلك بفضلِ مُبادَرةٍ جريئة من مؤسسةٍ مصريةٍ طَموحة، فشكرًا لها!