مقدمة الطبعة الثالثة

صدرَت الطبعة الأولى من هذه المجموعة سنة ١٩٨٦م، بالقاهرة والدار البيضاء، وتلَتها الطبعة الثانية بالقاهرة سنة ١٩٩٣م. وتضم هاتان الطبعتان، كما هو شأن الطبعة الحالية، النص الكامل لرواية «تلك الرائحة».

وكانت طبعتها الأولى قد صدرَت — وصُودرَت — في القاهرة منذ سبعٍ وثلاثين سنة، سنة ١٩٦٦م، وتلَتها طبعةٌ غير كاملة في ١٩٦٩م في القاهرة، وأخرى غيرُ كاملة أيضًا في مجلة «شِعْر» البيروتية، ثم أُعيد نشر الطبعة الناقصة سنة ١٩٧١م في القاهرة، ولم تُنشَر الطبعة الكاملة إلا سنة ١٩٨٦م في الخرطوم، وفي نفس السنة نُشرَت كاملةً أيضًا في القاهرة والدار البيضاء، في مجلَّد يضُم القِصص القصيرة.

وقد سبق أن أشرتُ في تقديم تلك الطبعة إلى عزوفي عن قراءة نصوصي السابقة. وهو ما أفعله مرغمًا عند مراجعة طبعاتها الجديدة. هكذا وجدتُني مُضطرًّا إلى قراءة هذه المجموعة من جديد، وأثارت هذه القراءة شجونًا عدة تتعلق برحلتي الطويلة في الكتابة والحياة، كما واجهَتني مرةً أخرى بأخطائي اللغوية التي لم أكُن أعبأ بها في مستهل عملي، ثم حَرصتُ على تلافيها بعد ذلك .. وما زلت أحاول!

والواقع أن الفترة التي بدأتُ فيها الكتابة كانت تتميَّز بإهمالٍ عامٍّ من الكُتاب لقواعد اللغة والترقيم، التي اعتبروها — وخاصة في الكتابات الصحفية — شيئًا ثانويًّا. ولعبت طرق تدريس اللغة دورًا هامًّا في ذلك؛ إذ اعتمدَت الحفظ أساسًا لها ولم تعبأ بمخاطبة عقول التلاميذ من خلال بسط «منطق» القواعد والتخلُّص من متحجِّراتها. وقد نَجحَت المدرسة في إثارة نفوري من القواعد، وأقامت حاجزًا نفسيًّا منيعًا بيني وبينها.

والقارئ لمقدمة «يوسف إدريس»، التي حَرصتُ على نشرها كما هي، سيلحظ على الفور عدم مبالاته بقواعد النحو والصرف. وأذكر أني استفسرتُ من أحد الكُتاب الصحفيين عن رأيه في لغة إحدى قِصصي الأولى — «الثعبان» — من ناحية القواعد النحوية، فأشاح بيده في لامبالاة قائلًا: إنها مسألةٌ تافهة يمكن علاجها «بواحد أزهري مقابل شلن»!

لكن الأمر في «تلك الرائحة» كان أكبر من مجرد النفور من القواعد والاستهتار بها؛ فقد كان — كما أشار يوسف إدريس في مقدمته — تعبيرًا عن حالة التمرُّد التي سيطرَت على العمل كله. وقد تغيرَت نظرتي للأمر مع الزمن بفعل عواملَ عدة، منها بروز كُتاب — «إدوار الخراط» — جعلوا من اللغة أساسًا لعملهم. وتَواكَب ذلك مع ازدياد الاهتمام العام بسلامة اللغة، نتيجة التقارب مع مراكزَ تحرصُ عليها، مثل دمشق وبغداد، ونتيجةً أيضًا لانتقال «المركز الصحفي» من القاهرة إلى بيروت، ثم الخليج، وربما أيضًا كردِّ فعلٍ للهجوم الاستعماري الضاري على المنطقة وثقافتها.

•••

أثارت القراءةُ الراهنةُ لهذه المجموعة أيضًا فرصة ملاحظة بذور الظاهرة التي ميزَت عملي، وهي تلك الخاصة بالتناصِّ أو تضمين الوثائق، والتفاعُل مع أشكالٍ أخرى من الإبداع الفني؛ ففي «تلك الرائحة» تُوجد وثيقةٌ فريدة، هي الترجمة العربية لقصيدةٍ كَتبها بالإنجليزية المرحوم «شهدي عطية» (١٩١٣–١٩٦٠م)، قبل شهور من اعتقاله الأخير سنة ١٩٥٩م، الذي فقد حياته خلاله تحت وطأة التعذيب، وما زلت أحتفظ بأصل القصيدة بخط يده.

وذكَّرَتني القِصص القصيرة أيضًا بالتأثيرات التي تعرضتُ لها في بداية عملي. ولا شك أن القارئ المدقِّق سيلمس أثَر رواية «الطاعون» لكامي في قصة «الثعبان»، وأثَر أسلوب «جورج سيمنون» المبهر ببساطته وسخريته الخفية في قصة «ثلاثة أسِرَّة»، و«هيمنجواي» في قِصص الطفولة. وأظُن أن استخدامي لتقنية «الفلاش باك» في «تلك الرائحة» بلغةٍ شاعرية تُعارِض لغة السرد الرئيسي، قد جرى بتأثُّر من رواية «ثلوج كلمنجارو»، وقد كان تأثُّرًا لا واعيًا؛ إذ كنتُ من الغرور والاعتزاز بالنفس لأربأ بنفسي عن أي تقليدٍ متقصدٍ لكاتبٍ آخر.

•••

استدعَت القراءة الراهنة أيضًا المشاكل التي جلبَتها لي «تلك الرائحة»، والتي رويتُ طرفًا منها في تقديم الطبعة السابقة.

ولكن المشكلة التي ما زالت تُلاحقني، ونتيجةً أيضًا لأعمالي الأخرى، هي ميل القُراء إلى اعتبار ما أكتبه واقعًا مؤكَّدًا حدث لي. السبب في ذلك بالطبع هو أني أُفضِّل استخدام ضمير المتكلم، لما يُسبِّب لي من راحة (ولأني أيضًا أميل إلى قراءة الروايات التي تستخدمه)، ولأني أستعينُ ببعض المواقف والخبرات التي مررتُ بها بالفعل، كما أن أغلب أعمالي تشير عادةً إلى شخصياتٍ وأحداثٍ حقيقية. لكن ما أكتُبه لا يمكن اعتباره من قبيل السيرة الذاتية. وبعبارةٍ أخرى، فإذا كنتُ أستعين ببعض الخبرات الشخصية، فإنها تتعرَّض لكثيرٍ من التحريف والتغيير طبقًا لأهداف العمل. وقد جلب لي سوء الفهم هذا كثيرًا من المشاكل والمواقف الحرجة؛ فغالبًا ما يسألني أحد القُراء عما إذا كنتُ أنا شخصيًّا «شرف» الذي اغتُصِب في السجن، وعن مصير البنت الروسية التي نِمتُ معها في أسوان، وقطَع البعض بأن «لميا» بطلة «بيروت بيروت» هي فلانة، وأن «ذات» هي زوجتي أو أختي. ووصلَت المسألة إلى ذروة الخطر في حالة «وردة» التي تدور أحداثُها في سلطنة عمان؛ فقد اتصل بي أحد مواطنيها محتدًّا ومهددًا قائلًا بالحرف: «كيف أسمح لنفسي أن أفضح شرف «حُرمة»؟» وهدَّدني بعواقبَ وخيمة إن لم أُصحِّح الأمر. وعبثًا حاولتُ أن أبيِّن له أنني مؤلِّف، وأن شخصيات الرواية بما فيها الراوية ذاتها لا وجود لها في الحقيقة، حتى لو تشابهَت مع شخصياتٍ واقعية، إلا في حالاتٍ محدودة تجري الإشارة إليها.

•••

جلبَت لي «تلك الرائحة» أيضًا مشاكلَ عائليةً عديدة؛ ففيها يتحدث الراوية عن أخٍ وأختٍ وعمٍّ وأقارب، ساردًا تفاصيلَ حميمةً عنهم، من شأن بعضها أن يصدم القارئ. لم يُثِر ذلك شيئًا عند نشرها في المرة الأولى؛ فبعضُ أقاربي الذين تنطبق عليهم هذه الأوصاف كفُّوا عن ممارسة القراءة أو انتهت علاقتهم بفن الرواية عند «يوسف السباعي» و«إحسان عبد القدوس»، ومَن قرأها منهم صدفة — من مُجايليَّ أو من الجيل الأكبر — لم يأخذ عملي على محمل الجد، واعتبره في الغالب نزوةً من نزواتي التي اشتُهرتُ بها وقادَتْني في السابق إلى السجن.

لكن الأحفاد كان لهم شأنٌ آخر.

فعَبْر العقود نشأ جيلٌ منهم وصل إلى الجامعة، ومن سوء حظي أن البعض منهم أُغرم بالقراءة، وقراءة الأدب بالذات. ثم إن العصر صار غير العصر؛ فما كان يبدو مقبولًا منذ ثلاثة عقود، صار الآن رجسًا من عمل الشيطان في ظل الظلامية التي أُسدلَت أستارها على البلاد. ووقعَت إحدى طبعات «تلك الرائحة» في أيدي بعضهم، فحملوها إلى الآباء والأجداد متسائلين، وربما ساخطين.

وجاء اليوم الذي تُوفِّيَت فيه إحدى قريباتي. علمتُ بالخبر في الصباح، وبدأتُ أستعد للقيام بواجب العزاء. وإذا بزوجتي تحمل إليَّ النعي المنشور في جريدة الأهرام قائلة إنه لا يوجد ما يدعوني للخروج. وعرفتُ السبب عندما قرأتُ النعي الذي يضُم أسماء الأقارب؛ إذ وجدت مكان اسمي فارغًا؛ مما يوحي بأن أحدًا تذكَّر بعد إعداده للنشر ما «ارتكبتُه من جرائم»، وتمكَّن من إزالة اسمي في اللحظة الأخيرة!

ربما أمكن اعتبار كل ذلك بعضًا من متاعب المهنة الضرورية، وربما أمكن اعتبارها مؤشرًا على نجاحي في إقناع القارئ بالأكذوبة التي هي الرواية، لكني ما زلتُ أتمنى أن يفصل القارئ بين شخصي والراوية؛ فهو كاذبٌ كبير، حتى لو صدَق!

ص. إ
أكتوبر ٢٠٠٣م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤