على سبيل التقديم
سألني أستاذنا الكبير يحيى حقي، عندما التقيتُ به مؤخرًا في إحدى المناسبات، عما إذا كنتُ أذكُر النقد الذي وجَّهه إلى روايتي الأولى «تلك الرائحة» عقب نشرها أول مرة في فبراير ١٩٦٦م، وعندما أجبتُ بالإيجاب، سألني عن رأيي الآن، بعد مرور قرابة العَقدَين، في نقده، وفي روايتي عمومًا.
في تلك اللحظة كنتُ قد أوشكتُ أن أنسى كثيرًا من تفاصيل الرواية؛ فقد مرَّت سنواتٌ طويلة منذ قرأتُها لآخر مرة؛ فليس من عادتي أن أعود إلى ما سبق لي كتابته؛ فمثلُ هذه القراءة تثير مَلَلي، إن لم تكن مصدرًا للشعور بالإحباط.
أما النقد الذي وجَّهه الأستاذ يحيى حقي للرواية، فلم أَنسَه أبدًا!
كنتُ قد دفعتُ بالمخطوطة إلى مطبعةٍ بدائية صغيرة في حي الظاهر، في فترةٍ نادرة من تاريخ مصر الحديث، أُلغيَت فيها الأحكام العُرفية، ولم يعُد الكتاب يتطلَّب موافقة الرقابة قبل دخول المطبعة، رسميًّا على الأقل! فقد احتفظ الرقيب بمكتبه ووظيفته كما كان الأمر في السابق، وكل ما حدث من تغيير هو أن مكتبه أصبح بلا لافتة، وأن مصادرة الكُتب لم تعُد تتمُّ قبل الطبع وإنما بعده.
وهذا ما حدث مع كتابي؛ فلم تكَد طباعتُه تنتهي حتى صدر الأمر بمصادرته. ولا أذكُر إذا كنتُ قد استُدعيتُ إلى مكتب رئيس الرقابة أو أني ذهبتُ بنفسي شاكيًا. المهم أني قابلتُ المرحوم طلعت خالد، أحد مُعاوِني عبد القادر حاتم المخلصين، وكان قد جمع لديه بعض كبار موظَّفي مصلحة الاستعلامات ليتسلَّوا بالفرجة عليَّ، وبسَط أمامه نسخة من الرواية المصادَرة، وقد ظهر أثَر القلم الأحمر على هوامش أغلب صفحاتها، ثم سألَني باستهزاء: لماذا رفضَ البطل أن ينامَ مع المومس التي أحضَرها صديقه .. هل هو «مرخي»؟
لم أُعنَ كثيرًا بمجادلَته. وقد كنتُ تمكَّنتُ من استخلاص عددٍ من النسخ المصادرة، فقمتُ بتوزيعها على أصدقائي ومعارفي من الكُتاب والصحفيين، وحاولتُ أن أُوسِّط البعض منهم من ذوي النفوذ في الإفراج عن الرواية، فذهبتُ مع المرحوم الأستاذ زكي مراد إلى الأستاذ أحمد حمروش، الذي كان يرأس تحرير مجلة «روزاليوسف» في ذلك الوقت، ورحَّب الرجل بي بحرارة، وأراني بروفة العدد الجديد من المجلة وبه تعليقٌ صغير له عن الرواية تحت عنوان «لغة العصر». وعندما أبلغتُه بنبأ المصادرة ظهَرتْ عليه المباغتة، ورفَع سمَّاعة التليفون واتصل بقريبه الأستاذ حمدي حافظ في مصلحة الاستعلامات، فاستمع إليه بُرهة، ودون أن يُعيد السماعة إلى مكانها اتصل بمطبعة المجلة وطلب شطب مقاله عن الرواية.
ولكن أغلب الكُتاب والصحفيين لم يصلهم نبأ المصادرة في الوقت المناسب، فظَهرتْ تعليقاتٌ عدة في الصحف والمجلات، بينما كان الكتاب يرقد في مخازن وزارة الداخلية. وكان الأستاذ يحيى حقي من الذين أهديتُهم إحدى النسخ، وكنتُ قد تعرَّفتُ إليه قبل شهرٍ عقب خروجي من السجن في منتصف ١٩٦٤م، فذهبتُ إليه في مجلة «المجلة» التي كان يرأس تحريرها، فاتحًا أبوابها أمام كافَّة الكُتاب، والجدد منهم بوجهٍ خاص، تاركًا المكتب الخشبي الثمين الذي يتصدَّر غرفته، مكتفيًا بمقعدٍ جلدي مريح إلى جانبه. وفي أول لقاءٍ معه حملتُ إليه عرضًا لأحدث كُتب الناقد الإنجليزي ستيفن سبندر. وجلستُ أقرأ المقال عليه وهو يُنصِت باهتمام، ويَدرُسُني بعينَيه الذكيتَين، مصححًا لي في رفقٍ ما ارتكبتُه من أخطاءٍ فادحة في النطق. وعندما فرغتُ من القراءة أعلن قَبوله للمقال، وكان أول شيءٍ يُنشَر لي بعد خروجي من السجن، وحصَلتُ من ورائه على عشرة جنيهاتٍ كاملة تكفَّلتْ بنفقاتي لمدة شهر.
ذهبتُ إليه بنسخة من «تلك الرائحة»، فتناولَها مني بحفاوةٍ بالغة، وبعد أن تبيَّن العنوان قال مجاملًا: إن الغرفة أوشكَت أن تعبقَ بالعبير الزكي الذي يفوح منها!
ولم تمضِ أيام حتى صحَّح الأستاذ الكبير غلطتَه بمقالٍ عنيف في عموده الأسبوعي بجريدة «المساء»، قال فيه:
«لا زلتُ أتحسَّر على هذه الرواية القصيرة التي ذاع صيتها أخيرًا في الأوساط الأدبية، وكانت جديرةً بأن تُعَد من خيرة إنتاجنا لولا أن مؤلِّفها زلَّ بحماقة وانحطاط في الذوق؛ فلم يكتفِ بأن يُقدِّم إلينا البطل وهو منشغل بجلد عُمَيرةَ (لو اقتصر الأمر على هذا لهان)، لكنه مضى فوصَف لنا أيضًا عودته لمكانه بعد يوم، ورؤيته لأثَر المني المُلقَى على الأرض. تقزَّزتْ نفسي من هذا الوصف الفزيولوجي تقزُّزًا شديدًا، لم يَبقَ لي ذرة من القدرة على تذوُّق القصة رغم براعتها. إنني لا أهاجم أخلاقياتِها، بل غلظةَ إحساسها وفجاجته وعاميته. هذا هو القبح الذي ينبغي محاشاتُه، وتجنيبُ القارئ تجرُّع قُبحه.»
كان كاتبنا الكبير يسألُني إذن عن موقفي مما أسماه في ذلك المقال بالتعبير الفزيولوجي، لكن ذهني انصرف أثناء حديثي معه إلى تجربتي كلِّها، فأجبتُه بأني أشعُر كما لو أني بدأتُ الآن فقط في تعلُّم الكتابة؛ فكل كتابٍ جديد لي يكشف لي عن جانبٍ كنت أجهلُه من هذا الفن، يزيد من إدراكي لحدود إمكانياتي ولنقاط الضعف والعجز لديَّ، كما يضاعف من تقديري لعتاولة الكُتاب الذين يقتحمون الورق مسلَّحين بأدواتٍ عدة، قبضوا على ناصيتها بإحكامٍ شديد. ولم يكن هذا شعوري عندما بدأتُ أولى خطواتي، وهو ما أعتبره أمرًا طبيعيًّا.
كنتُ — عندما كتبتُ «تلك الرائحة» — خارجًا لتوِّي من السجن، خاضعًا للرقابة القضائية التي تستلزم التواجد في المنزل من غروب الشمس حتى شروقها. وكنتُ أقضي بقية اليوم في التعرُّف على عالم ابتعدتُ عنه أكثر من خمس سنوات. وما إن آوي إلى حُجرتي، حتى أجد نفسي مدفوعًا لأن أُسجِّل بلمساتٍ سريعة ما مَر بي من أحداث ومشاهَدات كانت تهزُّني بعنف وتبدو لي عجائبية، ثم أُزيح هذه اليوميات جانبًا وأعود إلى روايةٍ بدأتُها في السجن، عن عالم الطفولة. وكنتُ قد خطَّطتُ لها أن تتألَّف من عدة قصصٍ مستقلة، تجمع بينها الشخصيات الرئيسية والموضوع العام. وكتبتُ منها عدة فصولٍ نجحتُ في تهريبها إلى خارج السجن بفضل الصديق حسين عبد ربه، الذي حملَها معه عند الإفراج عنه (تضُم المجموعة الحالية اثنتَين من هذه القصص هما «أرسين لوبين» و«أغاني المساء»).
كنتُ أعود إلى الرواية فأجدُني عازفًا عن المُضي في كتابتها؛ فقد ضاع الوهَج الذي لازم العمل فيها بين جدران السجن، واستولى الواقع الجديد على كل مشاعري.
ومن جديد برز السؤال المعهود: ماذا أكتب، وكيف أكتب؟
أقول من جديدٍ لأنه طالما لاحقَني في السجن، منذ اللحظة التي قرَّرتُ فيها أن أهب حياتي لهذا الفن. وأحيانًا ما كنتُ أضرب عُرض الحائط بالشقِّ الأول من السؤال، متحديًا في سذاجة الشباب وحماسه، الصياغة التي ألهبَت خيالنا في الخمسينيات للعلاقة بين صورة العمل الفني ومضمونه، والتي بسطَها الأستاذان محمود العالم وعبد العظيم أنيس في مقالاتهما الشهيرة؛ فقد كان التمرُّد هو طابع الفترة.
كانت السنوات الأولى من الستينيات بالغة الخصب، في السياسة والفن والحياة، كانت فترةَ الصعود لطبقةٍ متوسطة فتيَّة في مصر وبلدان العالم الثالث أمكنها أن تكيل ضرباتٍ قاصمة للاستعمار القديم المتهاوي، مستفيدةً من توازُنٍ عالمي ملائم للقوى، وأن تصوغ حُلمًا للعدالة الاجتماعية لم يُقدَّر لها أن تتمكَّن من تحقيقه. وكانت الحركة الاشتراكية قد استيقظَت على مساوئ عبادة الفرد، وبدا الطريق أمامها ممهدًا لاستخلاص النتائج الضرورية من ذلك. وكان الإنسان قد صَعِد إلى القمر، ودخل السلوك الجنسي إلى المعمل لتتكشَّف أكثر الحقائق إثارة، من قَبيل عدَد مرات الأورجازم لدى المرأة الطبيعية والتي يمكن أن تصل إلى خمسين أورجازمًا في الليلة الواحدة مقابل اثنَين أو ثلاثة في المتوسِّط للذكر المسكين.
ومن وراء أسوار سجن الواحات الخارجة، كنا — أنا وأصدقائي كمال القلش ورءوف مسعد وعبد الحكيم قاسم — نُتابِع في حماسٍ الشعراءَ السوفييت — الشابَّين يوفتوشنكو وفوزنيينسكي والعجوز تفاردوفسكي — وهم يُفجِّرون الأبنية العتيقة، بقَدْرِ ما كنا نُتابِع تجارب الكتابة التلقائية، وفنون الضوء والحركة في أمريكا، وموجة «الرواية الجديدة» في فرنسا. وكانت المجلات القاهرية تَحفِل بالإشارة إلى شتى التجارب الأدبية الجديدة في العالم. وراحت المعارضة اليمينية المقنَّعة للنظام الناصري — وهي التي كانت تُسيطِر بالفعل على كافَّة منافذ النشر والإعلام في البلاد — تُروِّج في دهاءٍ لأعمال بيكيت ويونسكو ودورينمات.
كان التمرُّد إذن هو وَقُود المرحلة، والتجربة هي شعارها. وأعطى نجيب محفوظ ظهره لكتابته البلزاكية، ليخوض في مغامراتٍ مثيرة، قفَز فيها بالفن الروائي العربي قَرنًا بأكمله. وبرزَت أسماء جديدة مثل إدوار الخراط وغالب هلسا وبهاء طاهر وسليمان فياض وإبراهيم أصلان ويحيى الطاهر عبد الله وغيرهم. وخُيِّل إليَّ أني وجدتُ الطريق عندما وقعتُ على هيمنجواي من خلال كتابَين وجدا طريقهما إلى سجن الواحات الخارجة؛ الأول لكارلوس بيكر، والثاني يضم عدة دراساتٍ أهمها واحدةٌ لناقدٍ سوفييتي قديم، غاب عني اسمه. عُنيتُ بتحليل أدوات الكاتب الأمريكي الكبير، وقد آمنتُ على الفور بهذه الأدوات — وما زلتُ أعتمدُ بعضها — وأهمُّها الاقتصاد والتعبير المشكوم. وبدا ﻟ «جبل الثلج العائم» بريقٌ خاص في مواجهة الترهُّل التقليدي في أسلوب التعبير العربي. وتحت تأثير هيمنجواي بدأتُ أعمل في رواية الطفولة التي لم يُقدَّر لها أن تكتمل.
فسرعانَ ما كنتُ في الحجرة المفروشة التي استأجرتُها في حي «مصر الجديدة» بعد الإفراج عني، أقلِّب مُسوَّداتها في مَلالةٍ وأنا أتساءل عن جَدوى كتابةٍ لا تتعرَّض للصراع الضاري مع الاستعمار، لمحاولات بناء الاشتراكية، وللتناقُضات الملتبسة بكل ذلك؛ الرعب والتعذيب والسجن والموت والشجَن الشخصي.
وذات ليلةٍ لن أنساها، ألقيتُ نظرةً على اليوميات التلِغرافية التي كنتُ أُسجِّلها كل ليلة بعد انصراف الشرطي، وكان قد تجمَّع منها عددٌ قليل — ربما ستة عشر يومًا على ما أذكر — قرأتُها كلَّها مرةً واحدة، فإذا بي أرتجف من الانفعال.
كان ثمَّة تيَّارٌ خفي في ذلك الأسلوب التلِغرافي الذي لا يتوقَّف ليتمعَّن، ولا يُعنَى بانتقاء المترادفات أو سلامة اللغة أو مداراة القبح الذي يصدم النفوس الحساسة. كان ثمَّة «جمال» في جملةٍ ركيكة مثل: «وقال الكاتب إن موباسان قال إن الفنان يجب أن يخلُق عالمًا أكثر جمالًا وبساطةً من عالمنا.» وكان ثمَّة جمالٌ في فعلٍ قبيح من قبيل إطلاق غازات المعدة في صالونٍ برجوازي.
ألا يتطلَّب الأمر قليلًا من القبح للتعبير عن القبح المتمثِّل في سلوكٍ فزيولوجي من قبيل ضرب شخصٍ أعزل حتى الموت ووَضْع منفاخٍ في شَرجه، وسلكٍ كهربائي في فتحته التناسلية؟ وكل ذلك لأنه عبَّر عن رأيٍ مخالف، أو دافع عن حُريَّته أو هُويَّته الوطنية؟
ولماذا يتعيَّن علينا عندما نكتب ألا نتحدَّث إلا عن جمال الزهور وروعة عَبقِها، بينما الخِراءُ يملأ الشوارع ومياهُ الصرف الملوَّثة تغطِّي الأرض، والجميع يشمُّون الرائحة النتنة ويشتكون منها؟
أو أن نصوِّر على الورق كائناتٍ أوشكَت أن تختفي فتحاتُها التناسلية، كي لا نخدش حياءً كاذبًا لدى قُراء يعرفون عن أمور الجنس أكثر مما يعرف السيد الكاتب؟
شعَرتُ وأنا أقرأ يومياتي الوجيزة بأني أمام مادةٍ خام لعملٍ فني، لا يتطلَّب مني بعدُ غير جهد التشكيل والصقل. وشعَرتُ أيضًا أني قد وقَعتُ أخيرًا على صوتي الخاص.
كنتُ قد وجدتُ عملًا في حانوتٍ لبيع الكتب الأجنبية، «تخرَّج» منه فيما بعدُ كلٌّ من رءوف مسعد وعبد الحكيم قاسم. وكان عملي يحتِّم عليَّ التواجُد في الحانوت طُول اليوم، وبهذا كانت الفرصة الوحيدة أمامي للكتابة الجادة هي يوم العطلة. ولا زلتُ أذكُر يوم كتبتُ الصفحة الأولى من «تلك الرائحة» في مقهًى بحديقة الأزبكية ذات صباح. ولم ألبث أن أدركتُ عبث هذا الوضع، فتركتُ العمل. وأتاح لي أحد الأصدقاء، وهو الطبيب جمال صابر جبرة، مكانًا يأويني في مسكنٍ مهجور له في مصر الجديدة امتلأ بالكتب القديمة. ووسط مؤلَّفات العلَّامة الأثري سامي جبرة، ومجلَّدات شُهداء القديسين، انقطعتُ للعمل في روايتي الأولى، طَوالَ ثلاثة شهور، شدَّ من أَزْري خلالها التأييد المعنوي من الصديقَين العتيدَين رءوف مسعد وكمال القلش.
قرَّرتُ أن أُحافِظ على النَّفَس اللاهث الذي مَيَّز اليوميات، بعد أن رتَّبتُ محتوياتها بطريقةٍ خاصة، وأضأتُ بعض جوانبها بهوامشَ مستفيضة جمعتُها في نهاية النص، وأطلقتُ على النص اسم «الرائحة النتنة في أنفي».
وكان الدكتور يوسف إدريس — الذي تربطني به علاقةٌ قديمة منذ منتصف الخمسينيات — هو الذي اعتَرض على فكرة الهوامش، واعتَبرَها مغالاةً في التجديد، وأقنعَني بنقلها إلى داخل النص، كما اعترض على العنوان الذي اخترتُه للرواية. وفي العيادة التي افتتَحَها فجأةً في ميدان الجيزة لممارسة العلاج النفسي، توصَّلنا معًا إلى اسم «تلك الرائحة»، وكان كريمًا معي بالمقدِّمة.
وأخيرًا دفعتُ بالرواية إلى المطبعة، بعد أن قدَّمتُ لناشرها عشرين جنيهًا. وأهداني الرسَّام مصطفى حسين تصميمًا للغلاف. وأصدرنا الرواية بمقدمة يوسف إدريس، وبكلمةٍ موجزة على الغلاف، أشبه بالمانفستو، من توقيع كمال القلش ورءوف مسعد وعبد الحكيم قاسم، هذا نصها:
«إذا لم تُعجِبك هذه الرواية التي بين يديك، فالذنبُ ليس ذنبنا، إنما العيبُ في الجو الثقافي والفني الذي نعيش فيه، والذي سادته طَوال الأعوام الماضية الأعمالُ التقليدية والأشياء الساذجة السطحية.
ومن أجل كسر المناخ الفني السائد الذي تجمَّد، نُصمِّم على هذا النوع من الكتابة الصادقة المؤلمة أحيانًا.
في هذا الإطار نُقدِّم هذه الرواية للكاتب الجديد «صنع الله إبراهيم»، وبعدها سنُقدِّم مسرحية «السود» لنبيل بدران، وقصصًا قصيرة لكمال القلش وأحمد هاشم الشريف وعبد الحكيم قاسم، ومسرحيات لرءوف مسعد، وقصائد لمحمد حمام.
وهذه الأسماء التي لم تتعوَّدها ستُقدِّم إليك فنًّا لم تتعوَّده أيضًا، فنًّا يُعاني محاولة التعبير عن روح عصرٍ وتجربة جيل؛ عصر اختفت فيه المسافات والحدود، وانهارت فيه الأوهام، ونفَذ فيه الإنسان إلى حقيقة الوجود، وجيل وُلِد في ظل الملكية والإقطاع وخرج في المظاهرات التي هتفَت بسقوط الملك والإنجليز، ثم تفتَّح وجدانه على ثورة يوليو وعاشها بالوعي والفعل، وشَهِد انهيار الملكية والرأسمالية وقيام الاشتراكية، كل هذه العمليات الهائلة في سنواتٍ قليلة؛ لهذا جاءت تجربته غنيةً عميقة مليئة بكافة التناقُضات والأزمات التي زادَته معرفة ووعيًا بوجوده، وتطلَّبتْ في التعبير كل جرأة وحدَّة حتى تتجسَّد إبداعًا خلاقًا.
هذا هو الطريق الذي اخترناه.»
ولا شك أن القارئ سيبتسم معي — اليوم — لهذه النبرة الحماسية المليئة بثقةٍ لا حد لها (ربما عكسَت انعدام الثقة تمامًا) والكلمات الفخمة من قبيل «حقيقة الوجود»، والأحكام التي ثبت خطؤها مثل «قيام الاشتراكية»، لكنها سذاجة البدايات، أو لعلها دفاعٌ مُستَبقٌ عن النفس.
فما أصعبَ اللحظاتِ التي مرَّت بي منذ صدَرتِ الرواية! ففي ذلك الوقت كانت الكتابات الشائعة في الصحف والمجلات المصرية تعزف على النغمة المعهودة فيما عُرف بالأدب «الواقعي الاشتراكي»؛ عدم إغفال الصورة الكلية، والإنجازات التي تحقَّقتْ … إلخ (وهي دعوى يتَمسَّح بها الآن أكثر الكُتاب تخلفًا ورجعية، مما يُلقي ضوءًا كاشفًا على قيمة الدعوى وجدواها).
وكانت الأمة العربية — ومصر في الطليعة — في مواجهةٍ ساخنة مع الإمبريالية الأمريكية وربيبتها الصهيونية، فضلًا عن الرجعية العربية. وكان من الطبيعي أن يُلاحِقني تساؤل عما إذا كنتُ لا أضُر بلدي بهذا العمل في هذه الظروف.
وبالإضافة إلى ذلك، كان سيف الاعتقال مُصلتًا طول الوقت.
ووجد الكثيرون في الكتاب مادة للتفكُّه والسخرية، وتلقَّفتْه بعض العناصر لتستغلَّه في خدمة مصالحها، فحملَه عبد القادر حاتم إلى الرئيس جمال عبد الناصر، ليُشهِدَه على ما وصل إليه «الشيوعيون» من تبذُّل وانحلال، وتوصَّل «المؤتمر الإسلامي» إلى نتيجةٍ مماثلة. وآلَمَني أن تُستَغل «مغامرتي» للمساس بقوةٍ سياسية أحترم كفاحها وتضحياتها على مدى عدة عقود.
ولاحقَني الشعور نفسه بعد ذلك عندما اضطُرِرتُ لنشرها في بيروت عام ١٩٦٨م، في مجلة «شعر» التي كان يُصدِرها يوسف الخال عن جريدة النهار؛ فكلها جهاتٌ لا تعلو على الشبهات.
لكني لم أندم أبدًا على أني كتبتُ هذه الرواية ونشرتُها في تلك الظروف، ولا ندمتُ على النهج الذي اتخذته في التعبير، ولا فكَّرتُ في التراجع عنه. حقًّا، كثيرًا ما خالجني الشعور بأني قد أجهضتُ عملًا كبيرًا، إلا أني لا ألبث أن أقنَع بالقول إن تلك كانت حدود إمكانياتي حينذاك.
أما التوجُّه ذاته، الإنصات للصوت الداخلي، والاغتراف من صلب الواقع الحقيقي — دون مراعاة للمشاعر البرجوزاية الحسَّاسة، أو لبعض الاعتبارات المرحلية — فما زلتُ أعتمده أساسًا لعملي.
لم تُفلِح المصادرة في القضاء على الكتاب؛ فقد وُجِد. وهو درس يجب أن تعيه جيدًا أجهزة الدولة في البلدان العربية.
وفي سنة ١٩٦٩م، أثناء وجودي في الخارج، أصدرَتْ دار النشر (التي تغيَّر اسمها من «مكتب يوليو» إلى «دار الثقافة الجديدة»)، طبعةً ثانية من الرواية بعد أن انتزعَت منها — ودون إذنٍ مني — كل ما تصوَّرَت أنه قد يثير غضب الرقيب. ولا أستبعد أن تكون قد لجأَت إلى ذلك النوع من الرقباء الذي أفرزَتْه الحياة في ذلك الحين، وهو رقيب «قطاع خاص» يُقدِّم خبرته في الجهاز الرقابي لمن يشاء من المؤلِّفين أو الناشرين. ووفقًا لاتفاقٍ خاص بين الناشر وناشرٍ آخر، وهو «كتابات معاصرة»، أُعيد إصدار نفس الطبعة في القاهرة سنة ١٩٧١م.
وتُعتَبر الطبعة الحالية أول طبعةٍ كاملة منذ مصادرة الطبعة الأولى (فلم تسلم طبعة مجلة شعر من المقصِّ المعهود الذي اقتطَع كلَّ ما من شأنه أن يؤذي المشاعر الحسَّاسة لقُرائها). ومن الطبيعي أني قمتُ بتصحيح الأخطاء النحوية واللغوية التي وردَت في الطبعة الأصلية، بالإضافة إلى حالات السهو، من قَبيل الإشارة إلى طفلٍ بصيغة المذكر ثم الإشارة إلى نفس الطفل في مكانٍ آخر بصيغة المؤنَّث، كما صحَّحتُ مصدر الاقتباس الذي صدَّرتُ به الرواية لجيمس جويس؛ ففي الطبعة الأصلية ذكَرتُ أنه عن رواية «يوليسيز»، وكنتُ قد طالعتُ العبارة المقتبَسة في مقالٍ نقدي بالمُلحَق الأدبي للتايمس اللندنية، ونسَبتها — خطأً فيما يبدو — إلى الرواية الشهيرة. وأثناء إعداد الترجمة الإنجليزية، التي صدَرتْ عن دار هاينمان اللندنية في ١٩٧١م، بحث المترجم دنيس جونسون ديفيز طويلًا عن أصل العبارة في رواية «يوليسيز» دون أن يعثُر لها على أثَر. وبالالتجاء إلى الخبراء بأعمال جويس، أمكَن الاستدلال على أصل العبارة في رواية «صورة الفنان في شبابه».
وكان دنيس جونسون ديفيز هو المسئول عن تعديلٍ جوهري بهذه الطبعة؛ فقد اشتكَت دار النشر الإنجليزية من قلة عدد صفحات الكتاب. وكنتُ قد أضفتُ إلى «تلك الرائحة» خمسًا من القصص القصيرة، لكن دنيس لم يرضَ عن إحدى هذه القصص، وهي من قصص الطفولة وبعنوان «الشيكولاتة». وجعل يُلِحُّ عليَّ أن أكتب واحدةً جديدة، لكنِّي لم أتمكَّن. عندئذٍ فكَّرتُ في تضمين الموقف الأساسي لقصة «الشيكولاتة» بالرواية، وهذا ما تَمَّ بالفعل، وكسبَت دار النشر أقلَّ من صفحتَين جديدتَين. وعند إعداد هذه الطبعة رأيتُ من المناسب أن أفعَل المثل، فأضَفتُ إلى النص الأصلي الفقرة الواردة بين أقواسٍ قُربَ نهاية الرواية.
القاهرة ١٩٨٦م