بعد الظهر عَبْر ثلاثة أسرَّة

كان جائعًا، والمنبِّه الموضوع فوق جهاز التليفزيون يشير إلى الثانية، وما زالت هناك ثلث ساعة على موعد سيد، وعندئذٍ يبدءون جميعًا الأكل.

ومال برأسه قليلًا يُنصِت إلى حركتها في المطبخ. كان يعرف أنها تنتقل الآن بنشاط، رغم أعوامها الخمسة والستين، بين الحوض والبوتاجاز والمائدة ذات الغطاء الصاج، وأن كل شيء حولها مُتناثِرٌ في فوضى بالغة.

وعندما تُوشِك على الانتهاء ستصيح به من المطبخ: «ألم يَحِن موعدُ عودة سيد بعد؟»

فينظُر إلى المنبِّه ويُدقِّق النظر من خلف عويناته السميكة ثم يجيب: «لا بد أنه في الطريق الآن.»

وفي موضعه الذي اختاره من السرير، كان بوسعه أن يرى باب الشقة عندما يُدير سيد المفتاح فيه، وبنفس الحركة يدفَعه ويخطو إلى الداخل قائلًا: «السلام عليكم.»

وبالرغم من أن زوجته لم تكُفَّ عن الشكوى من أن موضعه هذا يجعلُه عُرضةً لتيارات الهواء، إلا أنه ظل متمسكًا به منذ أصبح المرض المُتكرِّر يُلزِمه الفِراش، كي يكون على مقربة من «الأحداث» على حَدِّ قوله؛ فقد كانت الغرفة تضُم ثلاثة أَسرَّة؛ اثنان منها يحصُران باب البلكونة بينهما، والثالث يصنع مع أحدهما خطًّا مستقيمًا، وعندما يستلقي فوقه يواجه البلكونة، وإذا استدار وجلس بعرض السرير مُسنِدًا ظهره إلى الحائط — كما هي عادته — أصبح باب الغرفة في مواجهته، وبعده الصالة ثم باب الشقَّة.

ولهذا السبب كان باب البلكونة يظل مغلقًا دائمًا بالليل والنهار، وبالصيف والشتاء، حتى إن من يزورهم — وخاصة ابنتهما فادية — كان يشتكي من أن رائحة الشقة لا تُطاق.

وطِبقًا للمنبِّه لا بد أن يكون سيد الآن على رأس الشارع، يتقدَّم بخطواته الطويلة المتمهِّلة وصحيفة اليوم مطويةٌ تحت إبطه. وعندما يصل إلى بائع الخبز سيتوقَّف عنده ليشتري عشرة أرغفة يلفُّها بالصحيفة، ثم يواصل السير إلى الجمعية التعاونية ليرى ما بها من بضاعةٍ جديدة، ولو حالفَه الحظ.

مَصمَص بشفتَيه متمنيًا أن يُحضِر سيد معه شيئًا من البلح «الأَمْهات» الذي يتميَّز، فضلًا عن رخص ثمنه، بسهولة مضغه وابتلاعه وحلاوة طَعمه إذا ما غُمس بالطحينة البيضاء. ولم تكن هذه متوفرة في السوق الآن.

هَزَّ رأسه في حركة من لوازمه، ومدَّ أصابعه تحت الفانلة وجعل يدعَكُ صدره بقوة ليفركَ القذارة التي تكوَّمتْ عليه؛ فبسبب مرضه كان معفيًّا من الاستحمام، وهي عمليةٌ لم يكن يستسيغها منذ صغره لا كرهًا في النظافة وإنما بدافع الكسل. وبهذا الدافع كان وهو صغير ينام بملابس الخروج، كي يختصر الوقت لارتدائها في الصباح قبل الذهاب إلى المدرسة. وهي عادةٌ اضطُر أن يُقلِع عنها عندما أخذ الابتدائية والتحق بالوزارة.

شَبكَ يدَيه على بطنه، وتطلَّع مرة أخرى إلى المنبِّه. بعد عشر دقائقَ يحين موعدُ نشرة الأخبار. ولا بد أن يأتي سيد قبل ذلك ليُدير الراديو الموضوع في الصالة.

ومن المطبخ أتاه صوتُ طشيش التقلية قبل أن يشمَّ رائحتها. واعتدَل في مكانه وهو يطرف بعينَيه خلف النظَّارة السميكة كي لا يفوته باب الشقة عندما فتح ودخل سيد.

وارتفع صوت الأم من المطبخ: «سيد؟ جئت يا حبيبي؟»

عَبَر سيد الصالة بعد أن أغلق الباب من ورائه، ووضع الخبز على مائدة الطعام، ثم اتجه إلى الغرفة التي جلَس أبوه في صدرها وهو يقول في صوتٍ مرتفع حتى يبلغ أمه في نفس الوقت: «السلام عليكم.»

كتم العجوز خيبة أمله عندما تبيَّن أن سيد لم يُحضِر معه شيئًا من الفاكهة، ومدَّ يده فتناول منه الصحيفة قائلًا: «ما هي الأخبار؟»

مطَّ سيد شفتَيه وهو يجلسُ بجوار أبيه على حافَة الفراش، ويمُدُّ يدَه ليفُك رباط حذائه: «لا شيء.»

ثم: «فقط بلاغ عسكري.»

ودبَّ النشاط فجأةً في العجوز إلى أن أضاف سيد: «عشر دقائق من النيران المتبادلة.»

قال العجوز مكافحًا خيبة أمله: «لكن الحرب ستقع.»

حمل سيد حذاءه في يده ومضى يبحث حوله عن شبشب، وعندما لم يجد صاح: «ماما .. أين الشبشب؟»

ففي الثانية والأربعين كان سيد ما زال عاجزًا عن تحديد المكان الذي يتركُ فيه أشياءه المختلفة قبل أن يغادر المنزل في الصباح.

وردَّت الأم من المطبخ:

«عندك يا حبيبي. في نفس المكان الذي تركته فيه.»

وقال العجوز وهو يبسط الجريدة ويتأمل العناوين الكبيرة: «ربما كان في حجرتك.»

مضى سيد حافيًا إلى حجرته ووجد الشبشب بجوار الباب. أكمل خلع ملابسه أمام مرآة الدولاب الكبيرة التي أظهَرتْ وجهه معوجًّا كالعهد بها دائمًا. لكن نعومة بشرته وخُلُو ذقنه من أثَرٍ لشعرةٍ واحدة كان واضحًا على سطحها. ولولا قليلٌ من الشحوب لأخطأه الرائي — وهو ما كان يحدُث كثيرًا — وظنَّه في العشرين.

جذَب مصراع الدولاب ليُعلِّق ملابسه في الشماعة، ثم تناول بيجامته التي ألقى بها على مقعد الصباح دون أن يطويها، وجعل يرتديها.

كان يستخدم هذه الحجرة في تغيير ملابسه وحسب؛ فهو يقضي الوقت كله في الغرفة الأخرى. وعندما مَرضَت الأم زمنًا طويلًا شرع ينام في الفراش الثالث بمواجهتها، وهو الفراش الذي كان خاصًّا بأخته فادية قبل أن تتزوج. ولم تكَد تشفى حتى مرض الأب، فظل سيد ينام في فراش أخته، وفي النهاية استقر في فِراشها بصفةٍ دائمة.

أتاه صوت أمه من المطبخ بعد أن فرغ من ارتداء بيجامته:

«سيد، الصحون يا حبيبي.»

تحوَّل إلى جهاز الراديو القديم وأداره، وانتظر حتى صدر عنه صوتٌ متقطع أشبه بسعال رجلٍ عجوز، واطمأن معه إلى أن الراديو ليس معطلًا، فمضى إلى المطبخ.

كانت أمه منحنية فوق إناء الطعام المستقر فوق الموقد، وقد تجمَّعتْ بضع حبَّاتٍ من العرق فوق شاربها الواضح. تحوَّلَت إليه وسألَته: «هل أحضرت السمن؟»

أجاب: «كان الزحام شديدًا على باب الجمعية ولم أستطع الدخول.» وجعل يجمع الصحون من المطبقيَّة، ثم حملَها إلى غرفة أبيه.

كانوا فيما مضى يأكلون في الصالة عادة، لكنهم في الآونة الأخيرة أصبحوا يأكلون — بسبب المرض — في نفس الغرفة التي ينامون فيها، على مائدةٍ صغيرة استقَر التليفزيون فوق طَرفها. ولم تعُد مائدةُ الصالة تُستخدَم إلا في وجود الضيوف؛ الأمر الذي صار نادرًا.

وبعد أن أحضر سيد الملَّاحة والملاعق والسكاكين، ظَهرتِ الأم بظهرها المنحني قليلًا وجسدها المترهِّل المهتَز، وكانت تحمل آنيةً كبيرة من البطاطس المطهية بالطماطم، وضعَتْها وسط المائدة. وذهب سيد إلى المطبخ ثم عاد بطبقٍ امتلأ بالأرز.

تشمَّم الأب بأنفه وهو يغادر فِراشه بصعوبة ويأخذ مكانه إلى المائدة. وبدا بالمقارنة مع صورته المعلَّقة على الجدار كما لو كان قد انكمش إلى النصف.

قال: «كوب ماء لدوائي يا سيد.»

لم تكن به حاجة إلى السؤال لأن سيد — بحكم العادة — كان في طريقه لإحضار كوبَين لا كوبٍ واحدٍ؛ فقد كان كلٌّ من الأب والأم يتناول عديدًا من الأدوية قبل الأكل وبعده وفي أثنائه.

ملأَت الأم طبقًا كبيرًا من الأرز والبطاطس أضافت إليهما السلاطة وقدَّمتْه إلى زوجها، وهي تلهَثُ في انفعالِ مَن أنجز عملًا تاريخيًّا. وقلَّب هو الخليط بملعقته ثم أقبل عليه بشهيةٍ بالغة، وقد نَسِي أمر نشرة الأخبار التي كان المذيع يقرؤها في صوتٍ رصين. وملأَت الأم لنفسها طبقًا مماثلًا بعد أن ابتلَعتْ دواءها. أما سيد فقد بدأ بالبطاطس وحدها، ولم يعُد هناك من صوت غير أفواههم وهي تمضغ الطعام يقطعها لهاثُ الأم بين الحين والآخر.

سأل سيد: «ألم تتكلم فادية؟»

أجابت: «أبدًا.» ومنعها انهماكها في الطعام من الاسترسال، فاكتفت بأن تضيف: «ربما تكلَّمتْ بعد الظهر.»

كان السؤال وإجابته يتردَّدان يوميًّا في نفس الوقت منذ خمسة عشر يومًا؛ ففي ذلك التاريخ أنجبَت فادية أول طفلٍ لها. ولأن الأم أقسمَت قبل ذلك بشهرٍ ألا تضع قَدمَها في منزل ابنتها، كما أقسَم زوج الابنة بدوره أن يكسرها لها إن فعلَت، فالنتيجة أن أحدًا من الأب أو الأم أو سيد لم يقم بزيارة فادية عند الولادة أو في أعقابها؛ الأمر الذي حدا بالزوج أن يُقسِم من جديد بطلاق زوجته إن ذهبَت بالطفل إلى أهلها.

لكن الأم والابنة ظلَّتا على اتصال بالتليفون، وكثيرًا ما كانت الأخيرة تضع سمَّاعته بجوار فم الطفل لتسمع الجدة صراخه أو غمغمته، وإن كان في معظم الحالات لا يُصدِر صوتًا على الإطلاق.

انتهى الأب من طبقه، فملأَت له الأم طبقًا آخر أقبل عليه بنفس الشهية. وانتهَزتِ الأم لحظة تستريح فيها من الأكل لتسأله:

«أعجبك الأكل يا بابا؟»

فمنذُ زواجهما قبل أكثر من أربعين عامًا وهما يخاطبان بعضهما ﺑ «بابا» و«ماما».

قال الأب خلال فمه الممتلئ: «تسلم يدك.» وتساقطَت بعض حباتٍ من الأرز على صدر بيجامته.

تحوَّلتِ الأم إلى سيد الذي كان يأكل بشهية لا تقلُّ عن شهية أبيه: «ألم تعرف بعدُ متى سيجري التحقيق معك؟»

أحاب: «لا.» عادت تقول: «أما كان بوُسعِ رئيس القسم أن يُنهِي الأمر بنفسه دون حاجة إلى تحقيق أو خلافه؟»

هَزَّ سيد كتفه ولم يُجب.

وتساءل الأب وهو يضع ملعقةً كبيرة من خليط الأرز والبطاطس والسلاطة في فمه: «أكان من الضروري أن تُغيِّر الكون؟»

وهو تعليق كان مفاجأةً لسيد؛ لأنه كان بادرةً بحدوث تغييرٍ في موقف أبيه؛ فحتى الآن كان يعتقد أن الأب والأم في صفه كدأبهما دائمًا. ألم يكونا هما الوحيدان بين الناس اللذان يرمقانه بنظرات الإعجاب عندما يُعلِن عليهما — مثلًا — ما يكتشفه من أخطاءٍ لغوية ونحوية في الصحف بينما لا يُواجِه في المؤسسة عند ذلك بغير نظرات الملل والسخرية وخصوصًا من سليمان؟

فضلًا عن أنه لم يرغب في تغيير الكون أو أي شيء. كل ما في الأمر أنه أراد أن يُعيد الأمور إلى نصابها الحقيقي.

وإلا فما الحكمة في أن تؤرِّخ مؤسَّسةٌ عربية في بلد عربي رسائلها إلى مؤسَّساتٍ عربية أخرى بالأرقام بدلًا من الحروف؟

قالت الأم وهي تتطلع إليه بفخر: «لكن الحق مع سيد.»

قال الأب الذي اهتز إيمانه بابنه في ضوء التحقيق المنتظر: «ماذا سنكسب من كتابة التاريخ بالحروف؟»

انحنى سيد برأسه فوق الطبق وهو يفكِّر في الأمر قانطًا. أليست هناك موسيقى تستريح لها الأذن المدرَّبة في جملة مثل هذه: تحريرًا في الثالث من نوفمبر سنة ألفٍ وتسعمائة وتسعٍ وستين؟ أو .. الرابع من ديسمبر عام ألفٍ وتسعمائة وثمانيةٍ وستين؟ إن تسعين في المائة من الناس اليوم لن ينتبهوا إلى الفرق بين الجملتَين الذي أحدثهَ استبدال كلمة «سنة» ﺑ «عام». وهل هم كثيرون الذين يستطيعون تبيُّن أي الصيغ هي الصحيحة عند كتابة عام ١٩١٢ مثلًا بالحروف؛ اثنتي عشر أم اثني عشر أم اثني عشرة؟

لو لم يعترض سليمان ويرفع الأمر إلى رئيس القسم لما وقعَت مشكلة؛ فمثل أمورٍ كثيرة تحدُث كل يومٍ كان يمكن للتغيير الذي أجراه سيد على كتابة تاريخ الرسائل أن يمر دون أن يلحظه أحد. لكن سليمان — ذلك الذي ليس له من حديثٍ يومي غير غزواته النسائية — شاء أن يجعل من هذه القضية مجالًا لاستعراض مواهبه في الكلام المعسول، فماذا تفعل المؤسَّسة عندما تكتُب إلى مؤسَّساتٍ غيرها في بلدانٍ عربية أخرى تستخدم أسماءً أخرى للشهور؟ هل تُحرِّر الرسائل باسمَين للشهر وأحيانًا ثلاثة؟

ولم يعدم سيد دفاعًا عن فكرته يقدِّمه إلى رئيس القسم؛ فالأرقام دائمًا معرَّضة للخطأ ولهذا تُكتَب الشيكات مثلًا بالأرقام والحروف، ثم هناك الحُجة الأصلية وهي أن الأرقام بصورتها المتداوَلَة دخيلة على اللغة العربية ولا تُستخدَم في بعض البلدان العربية. ولو كان رئيس القسم شخصًا آخر أكثر جدية لانتهى الأمر بقبول اقتراحه ولما حدَث ما حدث.

أفرغ الأب طبقه وترك الملعقة تتدحرج به، ثم تراجع إلى الوراء واضعًا يده على بطنه.

لم يكن طبق الطعام الممتلئ يستغرق منه غير دقائقَ معدودة؛ لأنه لم يكن يمضغ شيئًا منذ فقَد أسنانه كلها من عهدٍ بعيد.

سألَته زوجتُه: «هل أضع لك المزيد؟»

أجاب: «الحمد لله، شبعت.» وتناول حبَّتَين من دواءِ ما بعد الأكل ابتلعهَما بما تبقَّى في الكوب من ماء، ثم قام من مقعده واتجه إلى السرير، فاستلقى على ظهره شابكًا يدَيه فوق صدره.

استولى عليه الخمول وشعر برغبةٍ قوية في النوم. وفي شبه إغفاءة تابع زوجته وابنه وهما يرفعان بقايا الطعام ويُهرعان إلى فراشَيهما فيرقُدان جاعلَين رأسَيهما عند قدمَيه. وأصبَح الثلاثة مثلثًا بست عيونٍ تتطلع في اتجاهٍ واحد هو باب البلكونة.

وفي الماضي كانت غفوةُ ما بعد الغداء تَستمر طويلًا يقوم بعدها نشطًا منتعشًا، لكنها في السنوات الأخيرة أصبحَت قصيرةً للغاية؛ فما يلبث أن يُفيق ويظل مُمدَّدًا يتطلَّع إلى السقف دون أن يتبيَّن تفاصيله. بينما تتراجع الشمس في الخارج في طريقها للاختفاء النهائي ويتناقَص الضوء تدريجيًّا بالغرفة. ويهبُّ برأسه بين الحين والآخر ويدقِّق النظر من خلف عويناته السميكة إلى الفِراشَين الآخرَين. وغالبًا ما تكون الأم قد أفاقت هي الأخرى. والذي يحدث أن يبدأ أحدهما الحديث عَبْر الفِراشَين في الوقت الذي يكون الآخر قد استيقظ لتوِّه بالفعل.

ويبدأ هذا الحديث عادةً بأن يذكُر أحدهما — وهو الأب في الغالب — أن فلانًا من الأقارب لم يزرهم منذ مدة. وهو يذكُر هذه الحقيقة بصوتٍ تقريري لا يوحي بأي شيء في الظاهر؛ عندئذٍ يقوم الآخر — الأم عادة — بعمليةٍ حسابية سريعة لآخر مرة زارهم فيها هذا القريب.

وعندئذٍ يقول الأب متظاهرًا بعدم المبالاة: «لعله مشغول في شيء أو مريض، أو أحدًا من عائلته .. من يعلم؟»

فتردُّ الأم على الفور بأن هذا القريب شُوهد عند فلان في الأسبوع الماضي؛ فدون أن تغادر المنزل كانت على بينة — بواسطة التليفون — بكل ما يحدُث في عالمها الصغير.

وتكون هذه الإجابة التي ينتظرها، فيتنهَّد. وهنا يتفرَّع الحديث في أحد اتجاهَين؛ إما عرض كافَّة المعلومات المتوفِّرة عن الحياة الشخصية لهذا القريب، أو تعداد الأقارب والمعارف الآخرين الذين لم يقوموا هم أيضًا بواجب الزيارة منذ مدة.

لكن الحديث اتخذ اليوم مسارًا آخر بسبب ما أعلنَتْه فادية في التليفون أمسِ من أن زوجها حصل على عقدٍ للعمل في الكويت، وأنهما سيسافران في أقرب وقتٍ تسمح به صحة الطفل.

فقال الأب في صوته التقريري المحايد: «سأموت دون أن أرى الولد.»

وردَّت عليه زوجته على الفور: «بعد الشر. لا تقل هذا.»

ثم: «ربنا ينتقم من الذي كان السبب.» دون أن تُدرِك أنها بذلك لا تُعرِّض غير نفسها للانتقام الإلهي.

فقد كان هناك جانبٌ كبير من الصحة فيما قاله الأب بعد لحظة: «لولا غرامكِ بأبيه ما أعطيناه فادية.»

وهو اتهامٌ لم تعُد تُنكِره، وإنما تُجيب عليه كما أجابت الآن: «غار هو وأبوه.» وهذا لا يمنع أنها كانت في يومٍ من الأيام مغرمة بأبي زوج ابنتها الذي يمتُّ إليهم بصلة القربى. وهو ما اكتشفه الأب في حينه ذات ليلة في الفِراش، عندما صرخَت في لحظةٍ من لحظات النشوة باسم القريب بدلًا من اسمه هو، كما كان المفروض.

وللمرة المائة تساءل: «تُرى من يُشْبه؟»

وللمرة المائة أيضًا أجابت: «أدعو الله ألا يشبه أباه في شيء.»

ثم تذكَّرتْ: «هل أُعِد لك فنجان قهوة يا بابا؟»

تساءل بابا دون أن يُحوِّل عينَيه عن السقف: «ألم يستيقظ سيد بعدُ؟»

فسيد هو الوحيد الذي يستفيد من إغفاءة بعد الظهر أتم الفائدة؛ فهو ينام نومًا عميقًا لساعة أو تزيد. وبقيامه من النوم يبدأ برنامج المساء بشرب القهوة، وهي عادةٌ لم تنقطع منذ أخذ الليسانس والتحق بالشركة التي تحوَّلَت أخيرًا إلى مؤسسةٍ حكومية.

ويختار سيد هذه اللحظة ليتقلَّب في فراشه، ويبسُط ساقَيه على سعتهما، ثم يفتح عينَيه ويُطوِّح بذراعَيه متثائبًا في عمق، وعندئذٍ يردد الأب والأم في نفسٍ واحد: «صح النوم يا حبيبي.»

فيُغمغِم سيد ﺑ «صح بدنك» موجهة إلى كلَيهما.

وتسأله الأم: «هل نمتَ جيدًا؟»

فيجيب: «لا بأس.»

وفي اللحظة التي انتبه فيها سيد من النوم تمثَّلتْ له على الفور غرفة رئيس القسم عندما هبَّ واقفًا محتقن الوجه ليعلن في صوتٍ حاسم: «لا بد من إجراء تحقيق.»

لكن رئيس القسم هو الذي كان مسئولًا عن كل ما جرى؛ فما كان له أن يعلن في استهانة أن مشكلة التاريخ بسيطةٌ للغاية لا تحتاج لكل هذا النقاش؛ إذ انتفض سيد عند ذلك — ربما لأول مرة في حياته الوظيفية — مؤكدًا أن أمورًا كثيرة تتوقَّف على هذه القضية البسيطة، وأنها على أية حال محاولةٌ لمحاربة الجهل والتواكُل. وهي إشارة اعتبرها سليمان إهانة له، فرد مُعرِّضًا بذقن سيد التي لم ينبُت لها شَعر حتى الآن. هكذا رفع سيد يده — لأول مرة في حياته بالتأكيد — وصفَع سليمان على وجهه.

انتَزعَه من غرفة رئيس القسم قول أبيه: «ما رأيكم لو يذهب سيد وحده ويأتي لنا بالطفل؟»

فمنذ زمنٍ بعيد، وبناءً على تأكيدات الأطباء، فَقَدَ كل أملٍ في أن يستمر اسمه في الأرض عن طريق سيد. ورغم أن ابن فادية لن يحمل هذا الاسم، إلا أنه بالتأكيد يحمل نصيبًا كبيرًا من دمائه. وها هو الآن يُحرم من رؤيته وهو على عتبة الموت.

شعَرتِ الأم عندما فكَّرتْ في الاقتراح الجديد أنه لن يُحقِّق لها الانتصار التام على زوج ابنتها؛ فقد كان فيه نوعٌ من الإقرار بضعفهما، والأفضل أن يجدا وسيلةً تُرغِمه على أن يأتي بالطفل صاغرًا أو على الأقل يسمح لفادية بذلك.

قالت في غير حماس: «وهل سيقبل؟ سأقول لفادية على أية حال إذا تكلَّمتْ»

وكانوا جميعًا يفكِّرون في نفس الموضوع عندما قال الأب في صوته المحايد: «تُرى .. ماذا يكون مآل الشقة؟»

كانت الشقَّة المشار إليها كبيرة، عبارة عن الطابق الأول من منزلٍ قديم ذي حديقة، لكن أثاثها كله كان جديدًا.

قالت الأم: «ربما أجَّروها مفروشة، أو تركَها لأحد من إخوته.»

فعلَّق الأب في إشفاق: «وعندما يعودون يجدون الأثاث كله تالفًا.»

وكانوا يعرفون الأثاث قطعةً قطعة منذ كان الأب والأم هما اللذان ابتاعاه فيما عدا الثلاجة الأمريكية الضخمة التي أحضَرها زوج الابنة يعلم الله من أين.

قالت: «ربما لن يمكُث بالكويت سوى سنةٍ واحدة، وفي هذه الحالة لا داعي لتأجيرها.»

فاندَفع سيد مترجمًا الفكرة التي لاحت في الأفق: «وفي هذه الحالة يمكن أن يعطينا الثلَّاجة بدلًا من تركها في شقَّةٍ مغلَقة.»

فعلى مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، استطاع الأب من معاشه البسيط ومرتَّب سيد، أن يزوِّد مسكنه على التوالي بموقدٍ غازي وسخَّانٍ للمياه ودُشٍّ مُتحرِّك وتليفون، وأخيرًا تليفزيون ما زال يُسدِّد أقساطه.

وفي كل مرة يُقرِّرون شراء الثلَّاجة يقف الأب أمام الثلَّاجة الخشبية القديمة ويُربتُ على سطحها قائلًا إنها تستطيع أن تحمل عبء الصيف القادم، والأفضل أن يبتاعوا شيئًا آخر.

وكان سيد هو الذي يشتري الثلج مرتَين كُل يومٍ في الصيف ليضعوه فوق أنابيبها، وفي الشتاء تُتركُ مهملةً تمرح الصراصير في جنباتها.

قال الأب: «الثلاجات في الكويت برخص التراب، ويمكنه أن يُحضِر معه واحدةً جديدة.»

وعلَّق سيد: «كل شخصٍ هناك يملك سيارة.»

وتصوَّرتِ الأم سيدًا في سيارةٍ حمراءَ فارهةٍ أمام باب المنزل.

وكان سيد يُفكِّر في مشط ماكينة الحلاقة الكهربائية الذي تَلِف منذ مدة. وهي واحدةٌ من ثلاث ماكينات ابتاعَها من غزة في إحدى الرحلات التي كانت المؤسَّسة تُنظِّمها لموظَّفيها قبل يونيو ١٩٦٧م، وعندما تحطَّم مشطُها وضَعَها جانبًا لأن قِطَع غيارها لم تكن متوفرة في السوق (أما الآلتان الأخريان فقد باعهما بضعف ثمنهما).

تنهَّدتِ الأم قائلة: «أنشرب القهوة الآن؟»

وأجاب الاثنان في صوتٍ واحد: «أجل.»

غادَر سيد فراشه ومَرَّ بأصابعه على شَعر رأسه، ثم ذهب إلى الحمام، وعند عودته وجد أمه قد أحضَرتْ كنكةً وملأَتْ ثلاثة فناجين قام سيد بتوزيعها، ثم استقر كلٌّ منهم في فراشه من جديد.

واصل الأب الحديث قائلًا: «ربما أعجبَتْهم الحال واستقَروا في الكويت.»

وعلى الفور أخذَت القضية بُعدًا جديدًا في أذهانهم، لكن أحدًا لم يجرؤ على ترجمة هذا البُعد إلى كلمات؛ فقد جعل كلٌّ منهم يتصوَّر عصاري الصيف فوق مقاعد القش في الحديقة، والهواء يهبُّ خفيفًا، وكلَّما أوغل الليل ازدادت رطوبته، أو صباحيات الشتاء في الجانب الآخر من المنزل، والشمس تسقط مُتردِّدة في البداية ثم تزداد دفئًا كلما تقدَّم النهار.

قال الأب بعد قليل: «لماذا لا نتصل نحن بفادية نسألها عن صحتها وعن الولد؟ إنها ابنتنا قبل كل شيء.»

ردَّت الأم: «لا أحتمل أن أسمع صوته يرد عليَّ.»

لكنَّ صوتَها رقَّ وهي تُضيف: «إن لم تتكلم في ظرف ساعة فسأفعل.»

انتهى سيد من فنجان قهوته وأشعل سيجارة، وسأله أبوه: «ألا تنوي الخروج يا بابا؟»

لم تكن عادة سيد أن يخرج بعد الظهر، ومع ذلك كان الأب يُوجِّه إليه هذا السؤال كل يوم، ويُجيب سيد أيضًا كل يوم: «كلا، سأبقى في المنزل.»

ومنذ خمس عشرة سنة كانت هذه الإجابة تُفعِم قلب الأب بالأسى؛ فبينما كان غيره من الشباب في سنه يتزينون ويتعطَّرون ويَسعَون خلف البنات، ثم يتزوجون وينجبون، شرع فجأةً يفقد حيويته البالغة التي كان يتميَّز بها وهو بعدُ في المدرسة ثم الجامعة، وقبع في المنزل يشرب القهوة ويدخِّن صامتًا، ويقرأ الروايات ويتفرَّج على التليفزيون.

وبمرور الزمن نسي الأب هذه المشاعر القديمة، وأصبح الآن عندما يقول لسيد: «اخرج يا ابني قليلًا بدلًا من أن تسجن نفسك هكذا.» يَشعُر بالرضى والسعادة عندما يَردُّ هذا: «وأين أذهب؟ لا أَحسَن هناك من قعدة المنزل.»

فبذلك كان ثمَّة ضمانٌ لكلٍّ من الأب والأم أن يحصُلا في الوقت المناسب على الإسعاف اللازم إذا ما داهمَتْهما إحدى نوبات المرض التي أخذَت تُلاحِقهما في الآونة الأخيرة. وإن كان من الغريب حقًّا أن هذه النوبات لا تقع في فترة الصباح، التي يكون سيد خلالها في المؤسسة، وإنما تحدُث دائمًا بعد الظهر، وخصوصًا بالليل بعد أن يخلُد سيد للنوم؛ عندئذٍ يصرخُ أحدهما: «آه ياني.» وفي ثانيةٍ يكون سيد إلى جانبه يسأله عما حدَث ويُناوِله الدواء، أو يُهرَع إلى التليفون ويتصل بالطبيب الذي يُهوِّن الأمر بصوتٍ ملول، ويأمر بتكرار نفس الدواء المذكور في الروشتة.

ولا ينتهي دور سيد عند هذا الحد؛ ففي أقرب فرصة، وبتعليمات من الأب والأم، اللذَين يلزمان الفراش غالبًا في وقتٍ واحد، يبدأ الاتصال بأفراد العائلة واحدًا بعد الآخر ليعلن إليهم النبأ في ذلك الصوت التقريري المعهود: «والله تعبان قليلًا.» أو: «هما في الفراش من أمس.» ولكي ينفي شبهة المبالغة: «يقول الطبيب …» ثم: «وماذا؟ بالأمس، بينما كانا نائمَين.» ويَسردُ ما حدَث بالتفصيل.

ثم يقبع الثلاثة فوق أَسرَّتهم في انتظار ردِّ الفعل.

كان الأب قد استدار على جانبه الأيسر بحيث واجه الصالة وقال: «شوفوا لنا ماذا في التليفزيون الليلة.»

وتمنَّى الأب أن يحتوي البرنامج على أحد الأفلام القديمة التي دأب التليفزيون على عرضها في الآونة الأخيرة؛ فما أجمل عبد الوهاب الشابَّ عندما يُزرِّر سُترتَه ويُحكِم وضع طربوشه على رأسه مائلًا إلى اليسار ثم يمُر براحة يده فوق شعره، عند حافة الطربوش اليمنى، ويشرع في الغناء. أو يوسف وهبي عندما يجمع أطراف روبه بأصابعه باسطًا قامته إلى مداها، ويزأر بصوته الفخم أنَّ شَرفَ البنت مثل عود الكبريت لا يشتعل غير مرةٍ واحدة.

وعندئذٍ سيُغادِر فِراشه ويجلس أمام التليفزيون مباشرةً كي يتمكَّن من الرؤية، وتجلس زوجته إلى يمينه وسيد إلى يساره بعد أن يطفئوا النور. ويميل الثلاثة على المائدة معتمدين عليهم بمرافقهم، إلى أن تنتهي السهرة.

وفي الخارج كان الظلام ينتشر بسرعة. وقام سيد فأضاء النور، وعاد ينحني فوق الجريدة مُتمعِّنًا في برنامج السهرة.

وقالت الأم: «لم تتكلَّم فادية بعدُ.»

واعتدَل الأب على ظهره وسقطَت عيناه من جديد على السقف دون أن تتبيَّنا تفاصيله، ثم مر بيده على بطنه قائلًا: «نتصل بها إن لم تتكلَّم بعد ساعة.»

ثم: «ماذا سنتعشَّى الليلة؟»

برلين
١٩٦٩م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤