أغاني المساء

عندما ظهر الرجل السمين في النافذة أدركتُ أن اليوم انتهى، وأن صوت أبي ما يلبث أن يستدعيني. وأسرعنا نجمع الكرات الزجاجية الملوَّنة من فوق الأرض.

استند الرجل بساعده الأيسر إلى حافة النافذة في اطمئنان، ومد يده اليمنى بطرف خرطوم من المطَّاط الأسود، ثم اكتسح الحارة ببصره كأنما يبحث عن المكان الملائم الذي يبدأ منه.

تعلَّقتْ عيوننا بفُوَّهة الخرطوم، وعندما انطلقَت منها المياه تراجعنا إلى الوراء حتى التصقنا بالحائط، وتابعنا المياه وهي تنهمر فوق المنطقة التي حفرنا فيها دوائر «البلي» الخمس، ورأينا المياه تنساب داخل الحُفَر مكان البلي.

وبعد لحظةٍ بدت الحارة خالية تمامًا، وهي التي كانت منذ قليلٍ تعجُّ بضجيجٍ يُصِم الآذان؛ فقد كانت المياه المتدفقة من الخرطوم تكتسح أمامها كل شيء. وشَعرتُ بالظلام يُطبِق علينا، فتطلَّعتُ إلى أعلى. كان الظلام يتضاءل كلما اتجهتُ ببصري إلى أعلى، وطالَعَني وجه أبي يُطِل من شرفتنا ومن خلفه سماء ما زالت تحتفظ ببقية من ضوء الغروب.

سمعتُ صوته ينادي عليَّ ككل ليلة، وشعرتُ بالأسى ككل ليلة. أعطيتُ البِلْي لأصدقائي، واحتفظت بواحدة في لون السماء الصافية. وسرتُ إلى منزلنا فصَعِدتُ دَرجَه الضيق إلى الطابق الأخير.

وجدتُ باب شقتنا مفتوحًا ومصباح الصالة مضاءً، واتجهتُ إلى المطبخ. كان صوت أختي يأتي من الشقة المجاورة لنا حيث تلعب مع أولاد أم زكية. اغتسلتُ بصنبور حوض المطبخ، وهو الحوض الوحيد في شقَّتنا، ثم هُرِعتُ إلى البلكونة.

كان الظلام قد لَفَّ كل شيء. وأضاء مصباح الصالة جانبًا من البلكونة، لكن أبي كان يجلس في الجزء المُعتِم منها. ووقفتُ في مدخل البلكونة أتأمَّلُه، ولم ألبث أن شعرتُ بالراحة. كان وجهه هادئًا مسترخيًا، ونظرته وادعة سرحانة.

جلستُ إلى جواره في صمت. كنتُ متعبًا، وكان هو غارقًا في تأمُّلاته. وبين الحين والآخر كانت عيناه تستقران على إحدى النوافذ المضيئة المواجهة لنا فيتابع ما يبدو من خلالها، وهو يجذب أنفاس سيجارته متلذِّذًا.

سمعتُ حركةً خلفي في الصالة. كانت أختي قد جاءت من عند أم زكية، احتضَنها أبي وحملها فوق ساقَيه، لكنها أعلنَت أنها تريد أن تنام، فأنزلها على الأرض ووقف، وصحبها إلى الداخل، ثم عاد بعد قليل، فتناول قلَّة المياه التي وضعناها على سور البلكونة لتبرد، وأزاح غطاءها، وجعل يَكرعُ الماء في صوتٍ وادع.

التقطَت أذناي صوت الراديو في شقَّة أم زكية، فقمتُ وأنا أقول: «أنا رايح أنام، تصبح على خير يا بابا.»

كان أبي قد عاد إلى مقعده فاقتربتُ منه وملتُ عليه ثم قبَّلتُ وجنته، وقال: «وأنت من أهله.»

عبَرتُ الصالة الصغيرة التي لم يكن بها غير مقعدٍ هزاز تمزَّق قشُّه من زمن، وساعة حائطٍ كبيرة. ودخلُت حجرتنا فوجدتُ أختي غارقة في النوم، وقد رقدَت على ظَهرها وتناثر شعرها الطويل حول رأسها، وثنَت ساقها إلى أعلى ووضعَت الثانية فوقها. ومددتُ يدي فأطفأتُ النور ثم خطوت ناحية السرير فصعدتُ فوقه وتمدَّدتُ بجوارها. وهبَّت على وجهي نسائمُ خفيفة من النافذة الصغيرة في مواجهتي فأغمضتُ عيني.

كنتُ أحب أن أنام كل ليلة في الظلام والنافذة مفتوحة وصوت الراديو يأتيني واضحًا من شقة أم زكية، التي تُجاوِر نافذتها نافذتنا الصغيرة.

وكانت أم زكية لا تُدير الراديو إلا عندما ينام أولادها وتجلس في انتظار زوجها. كان رجلًا أسمر خجولًا، أحول العينَين، لا نكاد نشعر به، ويقضي اليوم كله بالخارج. وقد سمعتُ أبي مرة يتعجَّب مما جمع بينه وبين زوجته البيضاء الممتلئة.

جاءني صوت الراديو واضحًا، فأدركتُ أن نافذتهم مفتوحة، وأَنصَتُّ في ارتياح. كانت أم كلثوم في الغالب هي التي تغني، ولم أكن أعرف ماذا تقول، ولم يحدُث أبدًا أن تبيَّنتُ كلمات أي أغنية، كما كنت أخلطُ دائمًا بين عبد الوهاب ومحمد أمين وفريد الأطرش، لم أكن أهتم إلا بالموسيقى.

فتحتُ عيني في بُطء فوقَعتا على النافذة. كانت السماء قريبة دانية، والنجوم تتحرك في خفَّة، وخفقَت إحداها في اضطراب وضعف. وسكَت الراديو فجأة، ثم سمعتُ حركة في الشقة المجاورة فأدركتُ أن أبو زكية قد عاد. وبدأ وابور الجاز يطن طنينًا خافتًا ثم انطفأ، وسمعتُ صوت ملعقة تصطدم بطبق، ثم جاء صوت المرأة متواصلًا من مكانٍ واحدًا. كان صوتها هادئًا يرنُّ واضحًا في هَدأة الليل، وأغمضتُ عيني، كان ذلك يحدث كل مساء. وظللتُ أُنصِت للطنين الآتي من الشقة المجاورة، كنتُ أحب هذا الصوت أيضًا؛ كنتُ أُحب أن أنام وهو في أذني.

لكني لم أنم؛ فقد دوَّت فجأةً صَفَّارةٌ طويلة متقطعة، وفتحتُ عيني على سعتهما، وأدركتُ أنها صفارة الإنذار، وأخذتُ أُنصِت لها في سرور ولذة. واستيقظَت أختي فزعة، وسمعتُ صوت أبي ينادي عليَّ وهو يتعثَّر في الظلام بعد أن أطفأ نور الصالة، فقلت له: «أنا هو يا بابا.» وجذبتُ أختي من يدها وأنا أقول: «متخافيش.» ثم هبطنا من فوق السرير واتجهنا إلى الباب الذي كان يبدو واضحًا، ولمحتُ شبح أبي في الظلام فاتجهتُ نحوه. مد يده نحونا فاحتضَننا، واستدار ناحية البلكونة، واقتربنا منها. كان الاضطراب يسود الحارة، وأنوار الشقق تُطفَأ على عجل، واستطعتُ أن أسمع في الظلام أصوات الناس الذين كانوا يُهرعون على السلالم إلى المخابئ.

رفعتُ رأسي إلى أبي وسألتُه: «إحنا مش حنروح المخبأ؟»

شعرتُ به يبتسم، ورأيتُ صفاء عينَيه في الظلام. أجاب: «مخبأ إيه؟ خلي اتكالك على الله.» ورفع رأسه إلى السماء وهو يشير بإصبعه مؤكدًا، وتابعتُ حركة إصبعه بعيني. كانت هناك آلافٌ من النجوم على مقربة؛ فقد كانت شقَّتنا في آخر دور ولم يكن فوقنا إلا السطح.

سكتَت الصفارة مرةً واحدة، وساد الدنيا كلها سكونٌ شامل، وكنتُ أسمع الحفيف الذي يُحدِثه الهواء بجلباب أبي.

سحَبَنا أبي من أيدينا إلى الداخل، وتحرَّكنا في حذر حتى تبيَّنَّا طريقنا إلى الحجرة الداخلية. جلسنا على السرير، وقام أبي إلى النافذة الصغيرة فأغلقَها، ثم فكَّر قليلًا وعاد ففتحَها قائلًا: «أحسن القزاز يقع.» سألتُه: «يقع إزاي؟» قال: «لو وقعَت قنبلة جنبنا تعمل هزَّة توقعه.» قلت: «مين عارف؟ .. يمكن تقع علينا.» فأجاب بثقة: «لا. متخفش. مش حتقع.»

لم أكن خائفا، واقتربتُ من النافذة، ورفعتُ يدي قليلًا إلى أعلى لأستند على حافَتها؛ فلم يكن رأسي يعلو على الحافة إلا قليلًا، وألقيتُ نظرة على نافذة أم زكية فوجدتُها مظلمة، وتطلَّعتُ إلى السماء. كان كل شيء هادئًا، وهتفتُ فجأة: «شوف يا بابا.» كانت الكشَّافات قد ظَهرتْ في السماء، وأسرعَت أختي بجانبي تريد أن ترى، ورفعها أبي من إبطَيها لتتمكَّن من الفرجة. كانت الكشَّافات تدور في السماء بسرعةٍ محمومة وهي تبحث في اضطراب، وتوقَّف اثنان منها على نقطةٍ مضيئة، وقال أبي من فوقنا: «أهي مسكت طيارة.» ثم أضاف على الفور: «أخ! .. الطيارة هربت.»

تحرَّك الكشافان بسرعة من جديد ثم اختفت الكشافات كلها مرةً واحدة. تساءلتُ: أين ذهبَت؟ ودوَّى فجأة صوت انفجارٍ خافت بعيد. شَعرتُ بيد أبي تقبض على كتفي في عنف، واهتَز جلبابه بجوار رأسي، وأدركتُ أن أختي هي التي تشُده، وقال أبي: «تعالَوا هنا أحسن.»

جذب بطانية من فوق السرير ثم انحنى على ركبتَيه، وزحف إلى أسفل السرير، وبسط البطانية على البلاط، ثم دعانا إلى أن نلحق به. وسرعان ما كنا أنا وأختي تحت السرير بجواره، وكان يجلس على ركبتَيه محنيًا إلى الأمام حتى لا يصطدم بسقف السرير، وكمشنا إلى جواره وهو يحتضننا بذراعَيه، وكنا نضحك أنا وأختي. أما هو فلم نكن نرى وجهه في الظلام، وسمعناه يقول: «دلوقت لو وقعت علينا قنبلة حنقع على اللي في المخبأ، ومش حيحصلنا حاجة، أما هم فحيبقوا عجينة.»

كنتُ قلقًا أتلهَّف على رؤية ما يجري في السماء، وزحفتُ إلى حافَة السرير مقتربًا من النافذة. أخرجتُ رأسي وتطلَّعتُ إلى أعلى فرأيتُ جانبًا من السماء. أخذتُ أتأمل منتظرًا. كانت هناك نجوم كثيرة، وكنتُ أثبِّتُ عيني على كل واحدة حتى أتأكد من أنها لا تتحرك. وما لبثتُ أن ارتجفتُ من الفرح؛ فقد رأيت نجمةً كبيرة تنساب متحركة، وأدركتُ أنها طائرةٌ يهودية، ولم أشأ أن أفوه بكلمة حتى لا يحرمني أبي من الفرجة، ومضيتُ أرقب الطائرة وهي تسير ببطء. وفجأةً ظهَرتْ عدة كشَّافات، أخذَت تتلاقى وتتعانق ثم تفترق، وتَصعَد ثم تهبط من حول الطائرة. وخيل إليَّ أن الطائرة غيَّرت طريقها، وأغمضتُ عينَيَّ ثم فتحتهما لأرى جيدًا. كانت الكشَّافات تذرع السماء، وهمس أبي: «انت رحت فين؟ تعالى هنا.»

عُدتُ إلى جوار أبي والتصقنا ببعض وانتظرنا في صمت. كان السكون شاملًا وسمعنا طنينًا بعيدًا يزداد اقترابًا لحظة بعد أخرى، وبدا كما لو كان يأتي من الجهات الأربع، ولأول مرة شعرتُ بالخوف. وتوقَّف الطنين فجأة، ثم سمعنا صوت انفجارٍ قريب. التصقتُ بأبي، فجذبني إليه في قوة، وشرعَت أختي بالبكاء، وتوالت سلسلة من الانفجارات القوية. وفجأةً زحف أبي إلى الخارج وهو يجذبنا خلفه، وتبعناه في صمت، وتحرَّكنا في الظلام إلى الصالة، ثم ناحية الباب الخارجي. وخطر لي أننا سنهبط إلى المخبأ، لكن أبي لم يفتح الباب، وإنما تجاوزه إلى الكنيف وفتح بابه. كان الصنبور يرسل نقطًا صغيرة من الماء، فلمَّ أبي جلبابه وانحنى إلى الأمام فأحكم إغلاق الصنبور، ثم أخرج علبة كبريتٍ من جيبه، وأشعل عودًا أضاء به الكنيف.

ظَهرتْ فتحته الدائرية يحيط بها أثَران بارزان على هيئة القدم، وسط قاعدةٍ حجرية مرتفعة. ورفع أبي يده بالعود إلى الأعلى وارتقى القاعدة الحجرية، ثم استدار إلينا، واستند بظهره إلى الحائط حتى ثبَّت قدمَيه فوق القدمَين البارزَين بجوار فتحة الكنيف. وجذَب أختي فأوقفها إلى يمينه، وعندئذٍ انطفأ العود في يده فمد يده إليَّ وقال لي: «اطلع.» وأمسكتُ بيده وصعدتُ إلى جواره، ووقفتُ إلى يساره. وانحنى إلى الأمام فجذب الباب نحونا وأغلقَه علينا.

وقفنا في ظلامٍ تام، لكني كنتُ أشعر بالفرق بين اللون البني الغامق الذي دُهنَت به جدران الكنيف من أسفل حتى منتصفها، وبين اللون الأبيض الذي يُغطِّي الأجزاء العليا، بل كنتُ قادرًا على تبيُّن لمعان اللون البني الذي استُخدم الزيت في طلائه، وكنتُ أشم رائحة الطلاء الزيتي النافذة؛ فقد كانت الشقة جديدة ولم يكن لنا فيها أكثر من شهور.

لم أكن أسمع شيئًا مطلقًا. وبعد لحظة تبيَّنتُ صوت تنفُّس أبي وكان قويًّا، وكان رأسي مستندًا إلى جانبه، فشعرتُ بصدره يتحرك. واحتكَّت قطعة من المعدن في حزام الفتق الذي يلفُّه حول وسطه بأذني فآلمتني، وما لبثنا أن سمعنا صوت انفجاراتٍ متتالية. كان الصوت قريبًا جدًّا كأنه في الشارع المجاور، وتصوَّرتُ أن هناك طائرة تتقدَّم نحو منزلنا، وهي تُسقِط القنابل أثناء تقدُّمها، ولأول مرة توقَّعتُ أن تقع علينا قنبلة بين لحظةٍ وأخرى.

جذَبتْني يد أبي إلى جانبه في قوة، والتصقتُ به أنا في خوف. كان وجهي عاريًا في مواجهة الباب، فأدرتُه وأخفيتُه في ملابسه، ولمس جلبابه فمي فقبَّلتُه، وشَعرتُ به يرتجف، وسمعته يهتف في قوة: «يا لطيفُ الطُف.»

لا أدري كم من الوقت مَرَّ علينا ونحنُ هكذا. لكن سرعان ما أدركتُ أن الانفجارات توقفَت. واسترخت قبضة أبي على كتفي حتى هدأ تنفُّسه، ودام السكون بعض الوقت، ثم دوَّت صفارة حادة طويلة فانتفض أبي وتنهد بصوت مسموع، ورفع يدَه من فوق كتفي وانحنى على باب الكنيف ففتَحه، ثم هبط إلى أرض الصالة وأسرع يُضيء نورها، بينما كنتُ أُسرع خلفه وأختي تُنادي عليَّ لأنتظرها حتى تهبط إلى الأرض.

وفي الصالة وقف أبي تحت المصباح، وأخرج سيجارتَه السوداء من جيبه وأخذ يُشعِلها، ووقفتُ أمامه مباشرة وتطلَّعتُ إليه، ورأيتُ عينَيه محتقنتَين.

جذَبتْني أختي من يدي. كانت تريد أن تنام، وتخاف أن تدخل الحجرة بمفردها، واتجه أبي إلى البلكونة في صمت. أما أنا فتبِعتُ أختي إلى حجرتنا، فأضأتُ النور، وانتظرتُ حتى صعِدتْ فوق السرير، ثم أطفأتُه وصعدتُ خلفَها وتمدَّدتُ في الظلام.

تقلَّبتُ عدة مرات، وأنصتُّ في لهفة منتظرًا أن أسمع صوت الراديو لأنام على الأغاني، لكن الراديو ظل صامتًا، ولم أسمع صوتًا واحدًا من الشقة المجاورة.

سجن المحاريق
بالواحات الخارجة
١٩٦٣م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤