الفصل الحادي عشر

عبير روح وزهرة

بعد بضعة أيام جاءت مارجريت كاميرون إلى جيمي بسُترتَين فصَّلَتهما من الشاش غيرِ المبيَّض. شريط عريض يلتفُّ حول صدره ويُثبت بأزرار. ويمتدُّ عبر الكتفَين زوجان من الأربطة، مريحان عند الجلوس، وملاصقان لجسده كفايةً للحفاظ على الضمادات في مكانها عند الحركة. بعد أن ضمد جرحَه وارتدى أحد هذه الابتكارات وثبَّت الأزرار، شعر كأنه حصل على خَلاصِه للتو. فقد كانت الضمادة أخفَّ بكثيرٍ وزنًا، وأسهلَ بكثير في اللبس عما ظلَّ يحمله طوال عامَين. وأهمُّ من كل شيء أنها كانت تؤدي غرَضها من دون أن تُذكِّره باستمرارٍ، بثِقلها والاحتكاك الدائم بكتفَيه وتحت ذراعيه، بأنها موجودة.

ظلَّ هو ومارجريت يعملان معًا طوال أسبوع، وهو ما أسمَياه «تقوية أواصر الصداقة بينهما.» فخصَّصا أفضلَ وقتٍ في اليوم للرش. وظلَّا يعتنيان بالنحل، على قدرِ معرفة كلٍّ منهما. وقد أقدمَ جيمي على كل شيء بتمهُّل وسلاسةٍ بقدر الإمكان. فواظب على النظام الغذائي الذي أعدَّاه، وفي الساعة العاشرة من صباح كلِّ يوم كان يرتدي ثوبَ سباحة سيد النحل، ومزودًا بدِثار قديم ليُغطيَ قدمَيه ومناشفَ لرأسه وذراعَيه، ينزل ويسير بشجاعةٍ إلى المحيط الهادئ. بعد المغامرات القليلة الأولى تخلَّص من الخوف وراح يتوغَّل حتى تتكسَّر عليه الأمواج، وقبل أن يمرَّ أسبوع كان قد اكتشف أنه بالاستلقاء على جانبه الأيمن، وضرَب الماء بيده اليمنى، واستخدام قدمَيه يستطيع أن يُجرجر ذراعه اليسرى ويسبح قليلًا. وقد أسعدَه هذا الأمرُ للغاية حتى إن الشعور بالبهجة وحدَه حسَّن من دورته الدموية. وحين يتملَّكه البردُ من وخز المياه المالحة الباردة، على بقعة اختارها، تبدأ في أكَمةٍ لزهور الربيع الذهبية وتنحدرُ إلى رمال الشاطئ في مواجهة الجنوب الغربي مباشرةً، كان يتمدَّد بقامته الفارعة على الرمال الساخنة، وقد تخلَّص من الدثار والمناشف ليشعرَ بالراحة، ويستغرقَ في النوم. وحين يستيقظُ يجد جسدَه قد اكتسب الدفء من حرارة الرمال تحته وجف وهو مغطًّى بالماء المالح.

ثم يَعبر البوابة عتيقةَ الطِّراز ويصعد ببطءٍ السلَّم المتعرجَ المؤديَ إلى الباب الخلفي. خلال المرات التي كان يصعد فيها اكتشف أنه أصبح يألَفُ كلَّ زهرة من الزهور النابتة على جانبَي المسار. تلك التي لم يكن يعرفها، كانت مارجريت كاميرون تعرفها من سنوات العمل التي أمضتها هي وسيد النحل في حديقتَيهما معًا. وجد نفسَه يتمعَّن الزهور، ويُراقب أي أنواع النحل تذهب أكثرَ إلى أيِّ أنواع الزهور، وحين اكتشف جيمي أن النحل الألماني الأسود يزور زهرةَ أبي خِنجر أكثرَ من أيِّ زهرة أخرى، أبدى استهزاءه. وتذكَّر من أيام دراسته لنباتات الناسترتيوم أوفيسينالي (الاسم العلمي لأسرة هذا النبات). كان ذلك جرجيرًا، لكن زهرة أبي خِنجر تنتمي إلى الأسرة نفسِها. دأب الصِّبية في الفصول على تسمية زهور أبي خنجر «المسئول عن تهييج الأنف»، ألم يكن من الطبيعيِّ لشيء يحمل اسم الألماني الأسود أن يختارَ تلك الزهرة لتصبحَ المفضلةَ لديه؟ راح ذهنه ينشغل بهذه الطُّرفة وغيرها.

حين بلغ المنزل ذهَب إلى الحمَّام مباشرةً ليستحِمَّ، ووضع ضماداتٍ جديدة، وارتدى ملابسه، وحينئذٍ أحضرَت مارجريت غداءه. بعد تناوله تجوَّل في الأنحاء طوال العشرين دقيقة المخصصةِ لذلك، ثم استلقى في الحال على فِراش سيد النحل ونام ساعةً أخرى على إيقاع الأمواج المتكسِّرة. بعد تلك الساعة استيقظ على كوبٍ مُترَع من عصير البرتقال البارد. وبالمواظبة نفسِها تناول عصيرَ الطماطم في الصباح، وبدلًا من الشاي أو القهوة، تجرَّع الحليب مع وجباته. وظلَّ بعد الاستيقاظ من غفوتِه يعمل في الحديقة بقدرِ ما استطاع من دون أن يُرهق نفسَه. ثم ذهب إلى رفوف الكتب، لكن لعزمه الجديد على المقاومة حتى يُصبح ذا جدوى في العالم تجاهلَ مجلَّدات مغريةً من الروايات والتاريخ الطبيعي القديم. إذ استخفَّ بها وراح يكرر عباراتها الثرية من صفحاتها الفريدة وكأنه يخاطبها.

«يحصل النحلُ على صِغاره من العدم ويضَعُهم في الخلايا، هل هذا صحيح؟ ينزل العسل من السماء، أحقًّا؟ أفضل النحل هو النحل الصغير المستدير المبرقَش، صحيح؟»

هكذا هزل جيمي من علماء التاريخ الطبيعيِّ القُدامى ثم مضى إلى المعاصرين وجلس يقرأ في كتابٍ عن القواعد اللازمة للرجال الذين يودُّون أن يُصبحوا مربِّين للنحل.

كان جيمي قد تصور في قرارة نفسِه أن سيد النحل عند رجوعه سيُصبح من الوهن في غايةٍ حتى إنه قد يمضي عامٌ قبل أن يصبح قادرًا على مواصلة عملِه، وخلال ذلك الوقت سيبقى هو في عمله، إذا أراد السيد، وسوف يتعلم كلَّ شيء لا بد من معرفته عن النحل. وكان كلما فكَّر في الأمر بدا له، نظرًا إلى عدم وجود أيِّ غابات في كاليفورنيا كما هو في الشرق، أنه من الأفضل أن يستمتعَ بالحياة إلى أقصى قدرٍ ممكن وهو يعمل مع النحل كما كان سيستمتعُ بالعمل مع الأشجار.

بعد عشَرة أيام من الالتزام التامِّ بهذا النظام استيقظ جيمي ذاتَ صباح، وبدلًا من النهوض في الحال، ظلَّ راقدًا بلا حَراك ليُقيِّم حاله. مدَّ ساقه اليمنى بعيدًا بقدرِ ما استطاع في الفراش وهزَّ أصابع قدمَيه. رائع! لم يشعر بأيِّ ألم. وجرَّب الساق اليسرى بالنتائج نفسِها. ثم اختبر الذراع اليمنى ثم اليسرى، وبعدها مطَّ جسده كلَّه وألقى بثقله على مؤخرة رأسه وكعبَيه ورفع كتفيه وأنزلَهما بهوادة، فأسعَدَته نتيجةُ التمرين حتى إنه جرَّبه مرةً أخرى. وارتأى أنها ربما ليست فكرةً سيئة أن يضَع نوعًا من أنواع التمرين ويؤدِّيَه كل صباح عند استيقاظه.

لذلك من أجل نفسه، وباختياره وحده، بدأ تمرينًا يوصي به طبيبٌ في العلوم الصحية شديد المهارة لكل الرجال والنساء ليتمتَّعوا ببدنٍ قوي. كان في أغلبه عبارةً عن تمدُّد وانكماش في الصباح الأول، لكنه تطورَ في الأيام التالية إلى تمرينٍ متوازن فيه مطٌّ لكلِّ عضلة في جسده وشدٌّ لها. وبعده يستلقي ليستريحَ نحو نصف ساعة، ثم يذهب ليقومَ بأعماله اليومية وفي جسده إحساسٌ وفي قلبه وذهنه حماسٌ لم يتوقَّع قبل بضعة أسابيع قصيرة أن يشعرَ بهما مرةً أخرى. ومِن ثَم بدأ يُدرك أن الحرارة والتوتر العصبي في سبيلهما إلى مغادرة جسده بطريقةٍ ما. كما بدأ يشعرُ بشِبَع هادئ في معدتِه كأن هناك تياراتٍ باردةً تجري في أوردتِه بدلًا من الدماء المسمَّمة المؤلمة. ونتيجةً لهذا الشعور أصبحَ يستطيع أن يُنجز حجمًا أكبر بكثير من الأعمال بين النحل ومع الزهور.

وحينئذٍ أدرك أن أوانَ حاجته إلى مساعدةٍ يقترب سريعًا. فسوف يحتاج إلى مساعدة حين يتطلَّب الأمر فحص القفائر والتأكدَ بشكل قاطع من أن كل قفير به مَلِكة سليمة وسعيدة، وأنه لم يزحف أيُّ مرض إليه. كما أن مسألة جمع العسل صارت وشيكة، وبدا أنه من الوارد وجودُ عدد كبير جدًّا من الملكات. ومِن ثَم فإنه حين ذهب إلى المستشفى في المرة التالية لزيارة سيد النحل سأله أين يستطيع الحصول على مساعدة حين يتطلَّب الأمر ذلك، فأعطاه سيدُ النحل عُنوان جون كاري، مُربي نحل آخر كان قد تبادل معه الخدمات من حينٍ لآخر في أوقات جمع العسل وإبعاد النحل عن الخلية.

حين جلس جيمي بجانب سيد النحل وأدام النظرَ نحوه، بدا له أن كل يوم يمرُّ كان يُشكِّل مرحلةً واضحة من ويلات المرض الذي راح يُهلك الجسد الهزيل أمامه. وفي كل مرة يذهبُ لزيارته كان يُدرك أن سيد النحل لم يَعُد لديه صوته القويُّ المعهود، وأن قبضةَ يده قد ضعفَت بعضَ الشيء.

بعد أن انتهى من كتابة العُنوان والإنصات للتعليمات التي أعطاه إياها سيدُ النحل، جلس جيمي ينظر إلى الوجه العجوز الوسيم على الوسادة، ببشَرتِه الشاحبة، وشعَرِه الحريري، وبدا له أنَّ ثمة قدرًا هائلًا من السلام والهدوء يتنامى على الجبهة وفي العينَين يومًا بعد يوم، وتأمَّل ما كان الكشافةُ الصغير قد قاله بشأن النوع الجميل من الموت الذي يأتي وديعًا في الليل، وتساءل إن كانت تلك التجرِبةُ قد تأتي إلى سيد النحل في أيِّ ليلة من الآن.

لا بد أن الفكرة نفسَها كانت تدور في ذهنِ سيد النحل أثناء سيطرة هذه الأفكار على ذهن جيمي. فقد بدا صوته خفيضًا جدًّا وعيناه متعَبتَين تعبًا غيرَ عادي حين قال: «جيمي ماكفارلين، فلتتخيَّل أن الزمن عاد بك وابدأ من البداية واحكِ لي كل شيء عن أمِّك التي حملَتك وأبيك وأي بيت ترعرعتَ فيه.»

وكانت آنذاك هذه هي المواضيعَ التي يستطيع جيمي ماكفارلين الحديثَ عنها بفصاحةٍ عند أقلِّ تشجيع؛ لأنه أحبَّ أباه وأمَّه لسببٍ وجيه. فقد كانا صارمَين تمامًا شأنَ الاسكتلنديِّين، لكنهما في الوقت نفسه يَفيضان مثلهم باللطف والحب والرقة، فكانت ذِكرياته عن منزله وطفولته من الأشياء الجميلة. جلس جيمي بجانب الفراش وقد سقط الضوءُ القادم من النافذة على وجهه، وتحدَّث على مهلٍ بالتأنِّي الذي يبحث عن النقاط المهمة، وبالتلقائية المحبَّة التي تُضيف التفاصيل الصغيرة التي توضِّح الصورة كاملةً. بعد أن فرَغ من الوصف الأخير لعودته للديار من الحرب وصدمته لدى معرفةِ أن كلَيهما قد رحل وأنه لم يَعُد لديه أيُّ شيء، جلس ساكنًا تمامًا، مرسِلًا نظرَه عبر النافذة، وكان صوت سيد النحل هو ما أعاده.

إذ سأله: «وماذا حدث بعد ذلك؟»

فبدأ جيمي حديثَه من جديد وأنهى القصة. وقد حكاها بصدق، من دون أي تحريف البتة إلا إغفالَه ليلة العاصفة والنتائج المترتبة عليها.

بعد أن فرَغ من الكلام، ابتسم سيد النحل له، ثم قال: «ماذا عن النحل والأسابيع التي قضيتَها بينهم في الحديقة الزرقاء؟»

أجابه جيمي قائلًا: «بخصوص حالتي الذهنية، فإن الوقت الذي قضيتُه في منزلك محاولًا رعايةَ نحلِك وزهورك وأشجارك هو أجملُ وقت عشتُه في حياتي كلِّها. فقد بدأتُ بنار متَّقدة في صدري وكآبةٍ مريرة في قلبي وعقلي؛ لكن بطريقةٍ ما، بسبب شيء قاله الكشافةُ الصغير لي، وبسبب الهواء النقي وأشعة الشمس المنعشة والجمال المحيط بي من كل جانب؛ تسلَّل إلى قلبي وعقلي نوعٌ من الجمال المماثل، وأعتقد أنه طغى على جزءٍ كبير من الكآبة المريرة. لقد كنتُ متعبًا غاية التعب حين أتيتُك مترنِّحًا على الطريق لأحاولَ مساعدتك على بلوغ المستشفى حتى إنني لا أستطيع أن أصفَ حالتي الجسدية أو الذهنية حين أتيت. لكنني أدرك أنني اليوم أنجزتُ في الحديقة نحوَ ضعف كمية العمل الذي أدَّيته في أولِ يوم حاولتُ فيه بحقٍّ أن أرعى مصالحك.»

حرَّك سيدُ النحل يدَيه النحيلتين فوق الغطاء. وأضاءت ابتسامةٌ نادرة وجهه.

وقال: «هذا أمرٌ جيد!» ثم أضاف: «حسنًا! إذن هل تشعرُ أنه إذا أخرَجوني من هنا محمولًا ذاتَ يوم وأعادوني إلى المنزل، كحُطام رجلٍ لا أقوى على الوقوف على قدمَيَّ والقيام بعملي، هل تشعر أنك ستودُّ البقاء معي، وتحاول تعلُّم أمور النحل منذ نشأتِه وهو بيضةٌ حتى نهايةِ دورة حياته؟»

قال جيمي: «يُسعدني ذلك.» وتابع: «يسعدني أن أخدمَك وأساعدك على استعادة عافيتك على النهج نفسِه الذي وضعتُه لنفسي.»

وهنا راح يشرح لسيد النحل النهجَ الذي وضعَه لنفسه، فهتفَ الصوتُ العجوز الرقيق مرةً أخرى قائلًا: «حسنًا! إنه نهجٌ ممتاز، أستطيع رؤية أنك في تحسُّن. في كل زيارة تأتي خلالها لتُبهج الرجل العجوز قليلًا، أستطيع رؤية أن بشَرتك تكتسبُ لونًا أكثر صحةً، وأن الشعاع الأزرق للألم والإحباط يتلاشى من عينَيك. إنك حتى تتحدثُ بصوتٍ أقوى، بثقةِ رجل امتلك زِمام روحه. إنني واثقٌ أنك ستجدُ سبيلك إلى الصحة والسعادة في الحديقة التي تكاد تكون هي الأقرب في منحي السلوى من بين جميع الأشياء التي جرَّبتها على الإطلاق.»

ظل سيدُ النحل راقدًا بلا حَراك وتمهَّل وقتًا طويلًا. ثم قال لجيمي: «قد يبدو لك أن الثقة التي طلبتها منك لا بد أن تُقابَل بثقةٍ تُساويها، لكنني أجد أن ضعفي قد جعل مني جبانًا. إذا أردتَ ذات يوم من الأيام أن تعرف أي شيء يخصُّني، فلتسأل مساعدي الصغير. كنت أمرُّ بساعةٍ حالكة السواد حين تدلَّى قائد الكشافة الصغير من فوق سياجي الجانبيِّ ليدخل قلبي وحياتي بثقةٍ شديدة لدرجة أنني حين حانت هذه الساعةُ المؤلمة، وقبل أن أدرك ما فعلتُه ألقيت عبئي بأكملِه على عاتقَي طفل، فقط لأتعلمَ أنه مهما بلَغ تفكيرُ الطفل من جِدِّية، ومهما كانت مشاعر الطفل عميقة، لا يبدو أن لديه قدرةً كبيرة على حمل الأعباء. إذ إن الأطفال مشغولون للغاية بالنمو، وبتسلية أنفسهم، واكتشاف العالم الرائع من حولهم، والانسياق وراء دوافعهم للاستكشاف والشجار، حتى إنه ليس من الوارد كثيرًا أن تُثقَل كواهلهم الصغيرة بالمسئولية تجاه أي شخص آخر إلا إذا أخذتهم مصادفةً من رفاقهم، ومن لهوِهم، وأثقلتهم بأعباء مزعجة لمسئوليات ثقيلة غير طبيعية، وهذا غالبًا ما يُولِّد التمردَ في قلوبهم الصغيرة. إن الكشافة الصغير يعرف لماذا تركتُ دياري ودائرةً كبيرة من الأصدقاء وجئتُ هنا وحدي، واستصلحتُ فدَّانَين من الأرض الصخرية وبدأتُ بعدد قليل من القفائر إلى أن أصبَحا فدانين من البهاء وبنيتُ وسَطهما قفائرَ لملايين السكان الصغار المحتشدين في الحديقة. يعلم الكشافة الصغير بمشكلاتي، لكن يعلم الله أنني لستُ بقادر على حَكْي تلك القصة مرةً أخرى! إذا جاء اليوم وشعرتَ أنك بحاجةٍ إلى أن تعرفَها، فأخبِر الكشافة الصغير أنني سمحتُ بأن تُحكى لك، وسوف تسمع روايةً دقيقة عمَّا جاء بي هنا، وعن الألم المضني الذي تحمَّلتُه، والراحة التي وجدتُها في بهاء أشعة الشمس وغناء البحر، وفي علاج الزنابق وعزاء الورود، وفي عملٍ شاق مع أكثرِ فروع تطور الحياة إثارة للاهتمام في العالم بأسره. لقد تعمَّقت بعضَ الشيء في دراسته. وأؤكِّد لك أنك لن تجد في تطور أيِّ كائن حي من كائنات العالم أجمعَ عمليات حيوية أكثر تعقيدًا وأكثر إثارة للاهتمام لحد الشغف، ولا أقربَ للبشر من تطور النحل. أرجو أنك تحصل على فائدة جيدة من قراءة كتب النحل.»

قال جيمي: «أجل، إلى درجة الاستغناء عن أي شيء آخر. لقد نصحَني الكشافة الصغير بأن أبدأ بالكتب التي تحتوي على «نِكات عن النحل» على حد قوله حرفيًّا. وقد كانت النِّكات مسليةً للغاية حتى إنني انهمكتُ فيها. لكن حيث إنني أريد أن أؤدِّيَ عملي بأمانة مقابلَ الأتعاب التي تقاضيتُها، فقد أدركتُ أنني لا بد أن أعمل بفطنة. لذلك سرعان ما وضعتُ النكات جانبًا وعدتُ إلى الواقع. وقد تطوَّرتْ معرفتي لدرجة أنني أصبحتُ قادرًا على التعرف على المَلِكة، والتفرقةِ بين الملكة الإيطالية والملكة الألمانية، وأستطيع أيضًا التفرقةَ بين الممرضة والذكَر وبين الذكر والعاملة. فعن طريق دراسة قفير المراقبة لساعات طويلة أصبحتُ محيطًا تمامًا بما يجب أن يجريَ بداخل كلِّ واحدة من القفائر في تلك الصفوف الطويلة. كان في نيتي أن أدرسَ تقليم الأشجار، كما أخبرتك، لكن أعتقد أنه ما دام لديَّ تلك الفرص لأن أُصبح مُعافًى، وما دمت ليس لديَّ أقارب، فمن الأفضل أن أبقى في الهواءِ وأشعةِ الشمس نفسِهما اللذَين على ما يبدو يعملان عملَ السحر الذي أحتاج إليه لأُصبح رجلًا مكتمل الصحة.»

وافقَه سيدُ النحل ببطء.

وهو يقول: «أجل، أعتقد أنك على حق. أعتقد أنك على حق. وأعتقد أنك حتى قد تجد قدرًا أكبرَ من إثارة الحماس في العمليات الحيوية المعقَّدة والدقيقة لدى النحل عن العمل مع الأشجار عديمة الحسِّ التي تنمو لأنها مجبولةٌ على ذلك، فمهما كانت مثيرةً للاهتمام، ومهما كانت بديعة، تظلُّ حقيقةُ أنها لا تستطيع أن تأتي عمليات حيوية تُقارب كثيرًا التفكيرَ والاستنتاج مثل النحل.»

قال جيمي: «لقد قررت تمامًا أن أدرس باجتهاد. وأنا أتقدَّم بحرص، فإن أعطيتَني الفرصة سأجعل عمَلي بين النحل.»

قال سيد النحل: «ومن ناحية الموقع. ما رأيك في موقعي؟»

ابتسم جيمي.

«لديَّ معرفةٌ بساحل المحيط الأطلنطي وبعض الدول الخارجية. لقد رأيتُ سواحل إنجلترا وفرنسا وتجوَّلت في أنحاء هذه القارة. تقتصر كلُّ معرفتي بالمحيط الهادئ على الخليج الواقع أسفل منزلك، لكنني متأكدٌ تمامًا من أنه لا يوجد في هذا العالم كلِّه ما هو أجملُ من حديقتك ذات الزُّرقة الصافية. هل تتذكر أن الصينيِّين القدماءَ كانوا يُسَمُّون الأزرقَ (اللون المثالي)؟»

هزَّ سيد النحل رأسه مؤيدًا.

وقال: «لقد كان لي في تلك الحديقة ذاتِ الزرقة السماوية، يا أيها الشاب، أيامٌ أنعَمَ عليَّ فيها الله بالراحة، حيث سقطَتْ من ذاكرتي لوهلة صورةُ طفلة ذهبية الشعر، وحيث انمحى لبعض الوقت ألمُ الخطيئة التي ارتكبتُها في حق المرأة التي أحببتُها. وما دامت استطاعت أن تفعل ذلك برجل يحمل العبءَ الذي كان من نصيبي، فهناك فرصةٌ أن يجد شابٌّ مثلُك صحيحُ البدن وبقلب خالٍ من الأسرار النعمة الكبرى نفسَها بفعل الخير يوميًّا.»

نظر جيمي إلى سيد النحل وانقبَض. ظلَّ برهةً جالسًا وشفتاه مفتوحتان ولسانه مستعدٌّ لصياغة الكلمات، ثم تبيَّن أنه ليس من حقه أن يُحدِّث بسرٍّ إلا إذا كان سرُّه وحده. فليس من حقِّه أن يتحدث عن امرأة العاصفة. ليس من حقِّه أن يُخبر أي رجل بطفل الخطيئة الذي تستَّر عليه باسمه. إن كان في المعروف الذي فعله أيُّ شيء نبيل، فسوف يفقد سِمتَه الطيبة، وما قد يحمل من جمال، إن تكلَّم عنه. إن عاش، فربما تُفضي تلك المرحلة من مغامرته إلى شيءٍ آخر. وإن مات، فسوف يُواجه خالقَه رجلًا بحقٍّ إن ظل متكتمًا بخصوص الموضوع الذي ساق امرأةً غاية في النبل مثل السيدة التي تزوجها إلى المسار الذي اتخذَته.

قال سيد النحل: «حين تأتي المرة القادمة، ليكن يومَ السبت، وأحضر قائد الكشافة معك. إنني شغوفٌ بذلك الكشافة الصغير بشدة حتى إنني مشتاقٌ إلى عبَق الخيل، والرائحة النفاذة للكلاب وكل روائح الطبيعة التي تنتشرُ أينما ذهب قائد الكشافة.»

مال جيمي إلى الأمام بابتسامةٍ عريضة على وجهه.

وقال: «هل تستطيع أن تُعطيَني أي معلومة دقيقة بشأن جنس قائد الكشافة، وليكن سرًّا بيننا؟»

مال سيد النحل إلى الوراء.

وقال: «لا تزيدُ معلوماتي عن استنتاجاتي الخاصة.» ثم أضاف: «وليس من الإنصاف تجاه قائد الكشافة أن يُعامل بالتخمين. هل سبق أن تحدَّثتَ معه مطلقًا في هذا الموضوع؟»

قال جيمي: «لقد سألته سؤالًا مباشرًا.»

استفهَم سيد النحل قائلًا: «وماذا قال لك؟»

«قال إنني ما دمتُ لا أستطيع أن أعرف، فلا يوجد أيُّ فرق.»

عاد سيد النحل برأسه إلى الوسائد متقلبًا عليها. وراح يضحك حتى جاءت الممرضةُ مسرعة. وبينما كان يُجفف عينَيه بالمنديل الذي أعطتْه إياه، قال: «حسنًا، حقًّا إذن، أليست تلك الحقيقة؟ هل يُحدِث ذلك أدنى فرق؟»

قال جيمي: «لا أعتقد ذلك.» وتابع: «وإنني متأكد أنه لم يُحدث أيَّ فرق معك كما يبدو. ولا أرى داعيًا لأن يُحدثَ ذلك فرقًا معي.»

وعندئذٍ نهض ليرحل.

وقال: «سنأتي يوم السبت، وأعتقد أنني سأُسأَل ما إن كنتُ جئت بشطيرة «السجق» على النحو الصحيح.»

مد سيدُ النحل يدَه أسفل الوسادة وأخرج ظرفًا صغيرًا؛ ظرفَ أدويةٍ صغيرًا.

وقال: «إن سألني فالشيءُ الوحيد الذي لم أفعله قط هو الكذبُ على مساعدي الصغير. سأخبره بالحقيقة. سوف أُريه النقود وهي منتظرةٌ أسفلَ الوسادة إلى أن يُقرر الطبيبُ السماحَ لي بالحصول على الهدية.»

قال جيمي: «فهمت، وأعتقد أنك على حق. لا أعتقد أننا نُفلح بالأكاذيب التي نخبر الأطفالَ بها.»

قال سيد النحل بصرامة: «لا نُفلح بالمرة. لا نفلح بالمرة. فإنهم يفضحون أمرَنا أو يكتشفون خداعنا لاحقًا في كل مرة.»

نهض جيمي ومضى نحو الجانب الآخر من الفراش وتناول يدَ سيد النحل، ثم انحنى وطبع شفتَيه على جبهته، وقبل أن يُدرك ما كان يفعله وجد نفسه جاثيًا على ركبتَيه بجانب الفراش. وسمع صوته وهو يقول: «حين كنتُ صغيرًا علَّمني أبي وأمي أن أصلِّي. وخلال السنوات التالية كنت شديدَ الثقة من نفسي وكفاءتي حتى إنني أصلِّي خطفًا، لكنني مؤخرًا، منذ أن بلغتُ المرحلة التي استطعت أن أقول فيها صادقًا، كلماتِ الترنيمة القديمة؛ «ليس لي ملجأٌ سِواك»، عدتُ زاحفًا جاثيًا نحو قدم العرش. وإنني أتساءل، إن كان مما ينسجم مع الخطة الإلهية، أن أستعيد قوتي وشبابي، بحيث يمكنني أن أقدِّم بعض العون في جعلِ بلدي مكانًا طيبًا للعيش، والعمل، والحب. سوف أعود للمنزل وسوف أركعُ بجانب فِراشك، وسأطلب من الله إذا كان فيه خيرٌ لك أن يُتيح لك الرجوعَ للمنزل، ويمنحَك عُمرًا أطول، والمزيدَ من الوقت لتستمتعَ بالجمال الذي صنعته، وإذا لم تكن هذه خُطتَه، فسوف أسأله أن يُعطيَك الراحة التي يقول قائدُ الكشافة إنها مُنحت للعمة بيث العزيزة.»

ابتسم سيد النحل.

وقال: «لقد سمعت تلك القصة. أُخبِرت بها عند حدوثها. كان من الرائع جدًّا أن يتسنَّى لهذين الطفلَين إدراكُ ذلك المعنى الجميل عن الرحلة للعالم الآخر، وإنني متأكدٌ تمامًا من أنه المعنى الصحيح.»

قبَّل جيمي جبهةَ مربِّي النحل، ثم رفع إلى شفتَيه يدَي الرجل العليل النحيلتَين، واستدار، ليُغادر الحجرة بهدوء. وبينما هو ذاهبٌ، مر بوعاءٍ أزرق جميل امتلأ حتى فاض بالمزيد من الورود الصفراء التي لم يرَها تنبت إلا في حديقة مارجريت كاميرون.

طوال الطريق إلى المنزل ظل جيمي مستغرقًا في التفكير. هل سيُصبح سيدُ النحل قادرًا يومًا ما على العودة إلى المنزل بواجهتِه البهيَّة المقابلة للطريق، والحديقة الساحرة المطلَّة على البحر؟ هل سيجلس مرةً أخرى على الإطلاق على كرسيِّه الكبير بجانب المدفأة ويقرأ كتبه المفضَّلة؟ أدرك جيمي أنه لم ينتظر الوصولَ إلى المنزل وجانب فراش سيد النحل حتى يتقدَّم برجائه. فقد راح يتضرعُ إلى الله بينما يستقلُّ الترام وسط الشوارع المضطربة للمدينة، المزدحمة على الجانبَين بأناسٍ مشغولين بشئون الحياة، ليمنح ولو مُهلة قصيرة للرجل الذي ما لبث أن دأَب على تبجيله.

وبعد أن غادر الترام سار على مهلٍ صاعدًا الطريقَ المؤديَ إلى منزل سيد النحل. دخل المنزل ووقف دقيقةً دون حَراك، ثم سار نحو الهاتف، واختار من قائمة أعدَّها الرقْمَ الذي كان الكشافة الصغير قد أعطاه إياه. وحين اتصل به، أجابه صوتُ امرأةٍ عذْبٌ وحلو.

عندئذٍ قال جيمي: «أنا جيمس ماكفارلين من منحل سييرا مادري. هل قائد الكشافة موجود؟»

فجاءه الرد: «غير موجود الآن.»

فسألها جيمي وقال: «هلَّا حرَصتِ على إبلاغه بهذه الرسالة؟ لقد ذهبتُ إلى المستشفى في زيارةٍ إلى سيد النحل. وإنه يتوق لرؤية مساعده الصغير. وطلب مني أن يزوره السبتَ القادم تحديدًا. ورأيت أنه من الأفضل أن أخبركِ بالأمر قبل إعداد العُدة مع الفتيان لإقامة رحلةٍ استكشافية أو جولة من نوعٍ ما.»

قال الصوت على الطرَف الآخر من الخط: «نعم، إنها فكرةٌ حسنة. سأدوِّن الرسالةَ وسأحرص على أن تصله. أودُّ أن أعلم كيف حال سيد النحل.»

فقال جيمي: «يصعب وصف حاله. فإنه يبدو في غاية الوهن حتى إن أيَّ تيار هواءٍ شديد يأتي من النافذة التي بجانبه قد يُجْهِز عليه.»

فأجابه الصوت الرقيق وقال: «يا للأسف. شيء مؤسف جدًّا. إن الأطفال يُحبونه حبًّا جَمًّا. الكل يعلم أنه من صنف الرجال الكِرام.»

قال جيمي: «أجل، هذا ما أراه أنا أيضًا. فإن منزله هذا، ومكتبته، وحجرته، والصور المعلَّقة على جدرانه، والأثاث الذي يستخدمه، كل شيء يدل على أنه غايةٌ في الرُّقي.»

فأجابه الصوتُ عبر الهاتف: «لقد سمعت عنك. ما دمتَ راقيًا لدرجة تقدير سيد النحل غاية التقدير، فهذا يدلُّ على أنك أنت نفسك شخصٌ طيب. وإنه يسرُّنا أن تأتيَ ذات يوم مع صغيرنا وتتناولَ معنا العشاء.»

قال جيمي: «بالقطع، شكرًا لك!» وتابع: «إنه لكرمٌ شديد منكِ. لقد ظللتُ متوعكًا وأتحاشى الناسَ لوقت طويل، لكن أعتقد أنه سيُسعدني أن آتيَ مع قائد الكشافة ذات مساء، حين لا يكون عندكم ضيوفٌ والجلوس بصحبتكم لساعة.»

فقال الصوت الذي أحبَّ جيمي كلَّ نبرة من نبراته: «اتفقنا إذن. فلتأتِ متى أحببتَ. فلدينا دائمًا على مائدتنا طعامٌ كافٍ لشخص آخر ومساحةٌ لإقحام مقعدٍ زائد. تعالَ في الحال متى وددت!»

أغلق جيمي الهاتف ونظر حوله. لم يكن لديه مِزاج للقراءة. دخل المطبخ واحتسى حصتَه اليومية من عصير البرتقال، وحين وصل إلى الباب الخلفي كان ثَمة نداءٌ في الهواء، نداءٌ لبَّاه بدمائه. إذ نزل المسار الخلفيَّ وخرج من البوابة ومضى إلى أكَمة زهور الربيع الخاصة به. فتمدَّد على الرمال، وشدَّ قبعته فوق عينَيه ليُظِلَّهما من الشمس، منسجِمَ الجسد مع منحنيات الأكمة، وفي الحال غاب عن الوعي في غيبوبةٍ من النوم العميق المستغرِق المنعش.

وبعد بُرهة استيقظ، وقبل حتى أن يستعيدَ انتباهَه تمامًا، تشمَّم الهواء بأنفٍ مستقصٍ. وقال جيمي مُحدِّثًا نفسه: «يا للعجب! لقد اخترتُ هذه الأكمة لمُنحناها شديدِ الإغراء بالجلوس، لكنني لم أرَ عليها أيًّا من زهور رعيِ الحمام الرملي.»

أخذ جيمي نفَسًا عميقًا ليتأكد من أنه لم يُخطئ بشأن العبير الذي اختلط مع زهور الربيع حوله. وأدرك أنه مع اقتراب المساء تتفتَّح زهور رعي الحمام لتنشُرَ شَذاها الطيب جدًّا. وحينئذٍ فتح عينَيه واستقام لينظرَ حوله، فاكتشف أن يده اليمنى كانت مليئةً بزهور رعي الحمام. راح يُحدق فيها، ثم استدار سريعًا مستندًا إلى ركبتَيه متفحصًا الشاطئ طويلًا من أقصاه لأدناه، ثم غيَّر اتجاهه وجعل يبحث الرمال بعينَين متلهفتَين.

كانت هناك. أثَرُ قدم لامرأة، ليس الأثر مدبَّبَ المقدمة والكعبُ الذي كان يراه أحيانًا غائرًا في الرمال. أثر قدمٍ مخصَّصة للعمل، في حذاء معقول في عرضه، وغريبٍ في طوله، ذي كعبٍ يدل على رجاحة العقل بلا ريب. نهض جيمي، وأمسك بزهوره، واقتفى ذلك الخطَّ من آثار الأقدام طَوال الشاطئ وصولًا إلى العرش. بقلب يدقُّ دقًّا عنيفًا ورأسٍ يدور، تسلَّق إلى العرش وجال فيه ببصَره، فشعر بخيبةِ أمل شديدة حين وجده خاليًا. اتخذ مقعده أقصى الجنوب ليُفكر. ظل هناك، وأخذ يتشمَّم بحرصٍ الصخورَ بجانبه. فوجد أن عبَق المريمية، وعبير رعي الحمام، وزهور الربيع، كانت واضحةً للغاية. وحتى لا يُضيع وقتًا، سلك طريقه هابطًا الصخرة. إلا أن الآثار المؤديةَ إليها لم تتَّصل. فالسبيل من العرش إلى الطريقِ أعلاه مكوَّنٌ من حصًى وأحجار صغيرة وصخور لا يمكن تمييزُ آثار الأقدام عليها. لا بد أنها سلكَت ذلك السبيل. مِن ثَم فقد أخذَه جيمي. لكنه حين بلغ الطريق لم يستطع أن يرى أثرًا لأي شخص يُشبه ولو من بعيد شكلَ الفتاة التي كان يبحث عنها. فعاد أدراجَه إلى العرش ومشى الطريقَ الذي سلكه، ومن عندِ أكمة زهور الربيع التقطَ الأثر واتبَعه جنوبًا على امتداد الشاطئ حتى فقَدَه بين زهورِ الربيع ورعي الحمام المتشابكة، ووسط نباتات التين الحامض. وفي الموضع الذي فقدَه فيه بالضبط اكتشف جيمي السببَ الذي جعله يفقده. فقد مَحاه وطءُ عشَرات الأقدام الصغيرة، آثار أقدام صغيرة مرحة، كلها آثارُ أقدام أطفال. مضى جيمي مندفعًا في الشاطئ، وفجأةً وجد موضعًا كان فيه أثر القدم الذي كان يبحث عنه واضحًا في الرمال بجانب الموقع الذي تنمو فيه زهورُ رعي الحمام، وكان حوله من جميع النواحي مرةً أخرى أسطولُ آثار أقدام الأطفال الطامسةِ لأي شيء.

بعد ذلك ذهب جيمي إلى المنزل. حيث فتح البوابةَ وأغلقها بحرصٍ خلفه. وفي منتصف الطريق وهو صاعدٌ السلَّم جلس. وللمرة الأولى حمل الزهور التي كانت في يده إلى مجال نظره.

قال جيمي لنفسه: «هل هذا معقول!» وتابع: «هل هذا معقول! كانت قابَ قوسين مني، وأنا نائم! لا بد أنني حجَر لا بشر.»

جلس يُحدق في الزهور الرقيقة بلونها الأرجواني المائل للوردي التي كانت، كعادتها في المساء، متفتحةً عن آخرها من حرارة يده وتنشر حوله نفحاتٍ غايةً في الرقة والخفَّة من عطرها الفريد. وإذا بجيمي يتطلَّع نحو البحر.

ويقول: «إنني مصيبٌ إذن.» وأضاف: «إنها تعيش في مكانٍ ما قريبًا من هنا. أو ترتاد هذا الشاطئَ على الأقل. وقد عرَفَتني حتى ووجهي مغطًّى. وإنني، من تلك الناحية، بإمكاني التعرفُ عليها من هيئتها أكثر من وجهها! لكن ما الهدف من ملء يدي بأجمل الزهور الصغيرة في العالم كلِّه إذا لم تكن تريد مني شيئًا آخر؟»

قلَّب جيمي الأمرَ على وجوهه ممعِنًا، ثم حدَّث المحيطَ الهادئ به.

إذ قال: «لنُفكر في الأمر، لقد أدَّيتُ مهمتي معها. وحصَلَت على الاسم الذي طلبَتْه. ولديها الخاتم ولديها العقد. ولا تريد مني أيَّ شيء آخر، لكن هذا يُثبت أنني على بالها، أنها على الأقل لم تستغلَّني وتنسَني.»

حينئذٍ استبعدَ جيمي المحيطَ لكونه محايدًا بعضَ الشيء وقصَر نفسَه على الزهور. فحملها برقةٍ بأصابعه الرشيقة ونظر إليها بعينَين شَغوفتين متساءلتين.

وقال: «ليتك كان بإمكانك الكلام. ليت وجوهَك الصغيرة باستطاعتها أن تُخبرني بما رأيتِه في وجهها وهي تجمعكِ. ليتني أعلمُ بالضبط ماذا كان في قلبها. ليتني أعلم ما إن كانت متأكدةً تمامًا من أنها انتهت مني، أو إذا ما كان بيدي شيءٌ آخرُ أفعله من أجلها.»

ثم انتفض جيمي وجلس منتصبًا.

«يا للهول!» قال مخاطبًا هذه المرةَ زهرةَ خَطْميٍّ صفراءَ وجميلةً جمالًا غير عادي طويلة للغاية ومستقيمة للغاية نمَت بجانب العريشة. ثم تابع: «يا للهول! إنني لستُ على يقينٍ تام من أنها ستجد مني أيَّ فائدة أخرى إن كانت تريدني حقًّا! ثَمة فرق بين أن تُقدم اسمًا لا يُفيدك بأي شيء وجسدًا لن يلبث طويلًا على سبيل الترضية لتجفيف دموع امرأة، ليست دموعَ ندم، ولكن دموع خوف، الخوف من إعراض العالم عن الموصومين بالعار، الخوف من عينَي طفل يملؤهما الاتهام وهو يُحدق في وجهها ويجدها خائرة، وأن تفعل ما تقدر عليه في حين أن الوقت المتاحَ لك لفعل أي شيء محدود للغاية. لم يتبقَّ سوى بضعة أيام على نهاية هذا الشهر، وإذا تفحَّصَت مارجريت كاميرون صدري وقالت بصدقٍ إن الخطر في طريقه ليزول من الجرح، وإذا لم أكن أخادع نفسي بالاعتقاد بأنني أصبحتُ رجلًا ناضجًا أكثر مما كنت عليه طوال ثلاثين عامًا، فسينشأ احتمال آخر. احتمال لم أحسب له حسابًا حين أقدمت على مغامرة الزواج. وإنه احتمال يحتاج إلى قدرٍ كبيرٍ من التفكير. فلا يليق بأي رجل أن يدَّعيَ أنه أتقى من غيره، لكن يجدرُ بالرجل، في الوقت نفسه، أن يفكر مَليًّا قبل أن يُقرر ما إن كان يريد أن يتولَّى تربية طفل أنجبه رجلٌ يحمل في شخصه خصلةَ الحقارة التي جعَلَته يتوانى عن منح ابنه شرف أن يكون له أبٌ.»

تأمَّل جيمي الأمر. ظل يُفكر وقتًا طويلًا. يفكر باستغراقٍ وتمعُّن. يُفكر من منطلق التعصب الاسكتلندي. فتذكَّر الاعتداد بالنفس. وفكَّر من منطلق الرأي العام. ثم طرح كلَّ شيء جانبًا وفكَّر من دون مواربة. فتسلَّل إلى رأسه من مكانٍ ما عبارةٌ قانونية. ألا وهي: «ظروف مخفَّفة.» لم يستطع أن يفكر في جسد فتاة العاصفة الذي ضمَّه بقوة بين ذراعَيه، ولا أن يفكر في شعرها الحرير وعطر أنفاسها والروائح البرية التي أحاطت بها، ولا أن يحمل نفسه على أن يراها إلا نضرةً وشابة وسليمة جسدًا وعقلًا. لم يكن مقبولًا بالمنطق أن تكون قد دنست جسدها ولوثَت روحها، وأن تكون خالفَت شرائع الله وانتهكَت قوانين البشر، وعرَّضَت نفسها بل حياةَ طفل لمَّا يأتِ بعد، لإصبَع الازدراء، ذلك الشيء الفاضح المدمِّر الذي يُوجَّه من دون تمعن.

قال جيمي محدثًا طائرَ محاكي شديدَ النباهة تصادف أنْ حط على أحد عمدان العريشة بقُربه في تلك اللحظة: «أيًّا كان الذي وضع تلك العبارةَ القصيرة «إصبع الازدراء» فهو لم يوفِّها حقَّها من القوة بتاتًا. كان لا بد أن يدعوَه قضيب الازدراء الملتهب، الحديد الذي يُغرس في صدر امرأة فيظل طوال أيامها يكوي روحها ويشتعل من جديد في أي لحظة على حين غِرَّة، وكل ذلك لأنها ربما أحبَّت للحظة رجلًا حبًّا شديدًا أكثرَ مما أحبَّت نفسها حتى إنها ربما خاطرت بروحها وخَسِرَتها، من وجهة نظر العالم. لكنها نعمةٌ أنها لم تخسَرْ روحها عند الله؛ فهناك المجدليَّة التي غفَر لها، وقد كانت المجدلية بغيًّا وربما استحقَّت ما فعله بها الغوغاء. لكن الله غفَر لها رغم كل شيء، ولا يليق أن يعطفَ الله على امرأةٍ ولا يعطف عليها رجلٌ اسكتلندي.»

هز الطائر المحاكي ذيلَه ونظر إليه بانتباهٍ وقال، مقتبسًا قولَ طائر صفارية على شجرة برقوق في الحديقة: «مرةً أخرى! مرة أخرى!»

ابتسم جيمي.

وقال: «هل عليَّ أن أفعل أفضلَ مما فعلتُ؟ حسنًا، ماذا لو قلت إنني سأُخِلُّ بوعدي بألَّا أحاول البحثَ عن فتاة العاصفة، وشرَعتُ في البحث عنها بإصرار؟ وماذا لو قلتُ إنني أشعر بصدقٍ وبحقٍّ أن «الظروف المخففة» تشفع لها، وإذا آلَ بي الحال، لنقل خلال سنة من الآن، وصرت رجلًا معافَى البدن، فربما عندئذٍ تتغاضى عن ندباتي وربما تستطيع أن تشرحَ لي ما حدث، وربما نستطيع العثور على شيءٍ جميل بحقٍّ في الحياة معًا؟»

هنا تذكَّر الطائرُ المحاكي تغريدًا كان قد سمعه على نخلة بلح في المكسيك من طائرٍ أحمر قانٍ، وصاح مرددًا إياه على رأس جيمي مباشرةً: «مرحى! مرحى! مرحى!»

فنظر جيمي إلى الزهور مرةً أخرى ولاحظ أن رءوسها الجميلة بدأت تتدلَّى. فنهض وهمَّ بالبحث عن الوعاء النُّحاسي الصغير ليضعَها في الماء. وبعد أن نسَّقها بحرصٍ شديد في الوعاء، حملها إلى غرفة النوم ووضعها على المنضدة القائمة بجانب الفراش التي يمكن تقريبها من وسادته.

ظل جيمي طَوال ما تبقَّى من اليوم يسير متعثرًا، ليس من ضعف؛ ولكن لأنه كان يحلم حلمًا استحوذَ على انتباهه تمامًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤