الفصل الرابع عشر

معجزة بشرية

لم تتطلب تسويةُ تركة سيد النحل إلا القليلَ من الوقت. إذ كان جلُّ ما يملكه فدَّانَين من سفح الجبل والشاطئ والأموال التي أودَعها في بنك سيتيزنز. ولأنه كان على دراية تامَّة بأمنيات سيد النحل؛ فقد وافق الدكتور جرايسون على أن يُصبح هو منفِّذَ الوصية. وقد تقرَّر مَن الذي سيحوز المنزلَ وفقًا للطريقة المنصوص عليها، فكان من نصيب جيمي. واتُّفِق على تقييم المنزل، ووضعِ قيمته جانبًا لتُدرَّ فائدة بنكية للكشافة الصغير حتى يحينَ الوقت ويرغبَ في إنشاء منزلٍ آخر على الفدان الغربي. واتُّفق على بقاء المنزل مكانَه حتى يرغب جيمي في نقله. واقتُطِع مبلغٌ كافٍ لسداد تقدير المقاول لهذه التكلفة ووُضع جانبًا في رصيد جيمي. وكان الكشافة الصغير ليحصل على أثاث المكتبة وغرفة المعيشة بالكامل عند الطلب. وقُسمَت الأموال المتبقية في البنك بالتساوي، فوُضع نصيبُ جيمي جانبًا في رصيده، ووُضع الجزء الخاص بالكشافة الصغير ليُدِرَّ فائدة بنكية حتى بلوغه السنَّ القانونية. وتقرَّر تقسيم عائدات العسل والحديقة بالتساوي بعد خصم أجور أي عمَّال يُستعان بهم، مع وضع نصيب الطفل في البنك. كان سيد النحل يَجْني المكافأة التي وهَبها الخالق العظيم لرجلٍ ظلَّ على إيمانه، وقد جعل من نفسه إنسانًا دارسًا ونبيلًا من عطاياه الدنيوية.

بعد توزيع التركة لاحظ جيمي وأسرةُ الكشافة الصغير أن الأملاكَ قد أتت بمشكلات ومسئوليات للصغير. فقد أصبح ينزع لتناول عددٍ أقلَّ من السجق وادِّخار المزيد من النقود، وسريعًا ما تبيَّن أن أول تغييرٍ خطَّط له الكشافةُ الصغير في الفدان الغربي هو زراعةُ حوض كبير من زنابق مادونا، التي تُعتبر أسعار جذورها باهظةً مقارنةً بالسجق. إذ إن زراعة حوض يمكن الحصول منه على مبلغ كافٍ صافٍ من المال يتطلب الكثيرَ من التضحيات. وكذلك لاحظَ جيمي مِرارًا الطفلَ وهو يتفحَّص الأرض، بحثًا على ما يبدو عن مَنطِقة مستوية متصلة بالطريق ولا تُشوِّه المكان، وقد عرف هدفه من ذلك. حيث يُخطط لبناء إصطبل للحِصان الذي كان رغبةً سرية في قلب الصغير.

أما جيمي، فقد كان محتارًا حقًّا. صحيحٌ تمامًا أنه وُلد في هذا البلد، وبدأ تعليمَه في مدارسنا الحكومية وأتمَّه في واحدةٍ من أفضل كلياتنا. وصحيحٌ أنه انتمى لبلدنا بالميلاد والنشأة. لكنْ صحيح أيضًا أن الدماء التي في عروقه كانت دماءَ رجل وامرأة وُلدا هما الاثنان في اسكتلندا وترعرَعا فيها، وأن عادات وسمات الاسكتلنديِّين كانت الغالبةَ عليه. كان كلُّ الاسكتلنديين الذين تعامل معهم من قبلُ قد ورثوا ما لديهم من ذَويهم، أو اكتسَبوه بالعمل الشاق. ولم يكن جيمي معتادًا على الهبات. فهو لا يذكر على الإطلاق أن أيَّ أحد قد منَحه أي شيء يُذكَر. فلماذا إذن، فجأةً ومن دون سابق إنذار، قد يُقدَّم له فدان مغطًّى بالفاكهة، ومفروشٌ بالزهور المتألقة، ويعجُّ بالنحل الذي يؤدي عملَه موفرًا له الدخلَ الذي سيعيش عليه؟ ربما شعر جيمي في باطنه أن حكومته كانت مَدينةً له بشيء؛ لكن لم يكن ذلك شعورَه حيالَ سيد النحل.

قال جيمي صراحةً للدكتور جرايسون، ولوالد الكشافة الصغير، ولقاضي محكمة الوصايا، إنه لا يشعر بأن له أيَّ حق في الحصول على نصف حديقة النحل. ووافق تحت ضغطٍ على تولِّي مسئولية رعايتها مؤقتًا، لكنه قال بحزمٍ إنه في حال ظهور أيِّ قريب من أقارب سيد النحل ومطالبته بالأرض، فإنه سيتنازلُ عنها في الحال. وقد انتقده على ذلك صراحةً ثلاثةٌ من الرجال الخبراء شديدي الحُنْكة. إذ أشار الدكتور جرايسون إلى أن سيد النحل كان أدرى بمَن لديه من أقاربَ وأين كانوا، ولو أنه أراد حصولَهم على أملاكه لترَكها لهم. كان من رأي الطبيب أن سيد النحل أراد أن يُقيم في الحديقة الزرقاء رجلٌ راقي الحس، ذو عقلٍ خبير، قدراتُه وتقديره للأشياء ممتازة، رجلٌ مهتمٌّ بالألوان والموسيقى ومظاهرِ البهاء والجمال الصغيرة التي تتضافرُ لتُعطيَ الحياة مَباهجَها الصافية.

وقال السيد ميريديث إن معرفته بسيد النحل كانت سطحية، لكنه أدرك أنه كان سيدًا نبيلًا رفيعَ الثقافة، وحاسمَ القرارات، وذا ذهنٍ صافٍ للغاية، وأن ما رآه مناسبًا ليفعلَه بأملاكه كان مما يُوافقه تمامًا. أما قاضي محكمة الوصايا فقال إن القانون قانون. إذ إن أوراق المِلكية واضحة، وقد مثَل المستفيدان أمامه؛ إذن فالعمل الوحيد الواجب عليه فعلُه هو اتباع الإجراءات القانونية المعتادة. وسواءٌ أراد جيمي أو لم يُرد، لقد أصبح الفدان الشرقي من الحديقة مِلكًا له. أصبح هو والمنزلُ في حيازة جيمس لويس ماكفارلين. ويتعيَّن عليه أن يتولى مسئوليةَ المالك، ويدفع حصتَه من ضرائب التركات، ويُصبح مستعدًّا لضرائب الملكية التي ستُقيَّم وَفقًا للإجراءات القانونية المعتادة.

وهكذا عاد جيمي إلى الحديقة، وقد اشتعل رأسُه حيرةً. كان أمامه الكثيرُ من أعمال الرش، ومِن ثَم يمكنه التفكير أثناء قيامه بها. كما يمكنه التساؤل حول أسباب ما جرى بينما يُقلِّم الشجيرات ويستخدم المجرفة. لكنه حين جاء لرعاية النحل، منحَه انتباهَه كاملًا. لكن بعد أن انتهى من كلِّ الأعمال التي يقوم بها يوميًّا في الحديقة، موليًا ربما اهتمامًا أكثرَ قليلًا للجزء الغربي لمجرد أن هذه هي أخلاق جيمي، انشغل بتطبيق نظام الغذاء والتمارين الذي وضَعه هو ومارجريت كاميرون. وخلال ساعات المساء الممتدَّة، يظلُّ ساعات منكبًّا على كتب النحل، ثم يخرج في ساعات النهار ويُحاول تطبيقَ ما تعلمه في تجارِبه الشخصية.

لم يكن مسيطرًا على ذهنه في تلك الأيام. كان يُحلق به في آفاقٍ عجيبة، فإذا به يجد نفسه وقد نشأَت لديه عادة، وهي أن يأخذَ كتابًا متى يُتاح له وقتُ فراغ، وتحت ظلال شجرةِ برتقال بعينها عند نهاية الحديقة، يظلُّ يقرأ تارةً ويُراقب الشاطئ تارة. كان لديه شعورٌ أنه ذات يوم، عاجلًا أو آجلًا، ستأتي فتاةٌ طويلة تمشي بخطوات واسعة مثل الصِّبية، فتقطع الشاطئَ وتتسلَّق المدخل الخلفيَّ للعرش، وقد أراد جيمي أن يكون موجودًا ليُشاهدها حين يحدث ذلك. كان الخطاب الذي في جيبه بحالته نفسِها بالضبط منذ قرَأه أولَ مرة، وقد قرأه مراتٍ لا تُحصى منذ ذلك الحين وتأمَّل كل حرف بكل تفاصيله. كان باستطاعته أن يجدَ انسجامًا بين الخطاب والفتاة التي ضمَّها بين ذراعَيه، والسيدة التي وقفَت مُلاصقةً له لتتلقَّى عهود الزواج. لكنه لم يستطع أن يجد انسجامًا بين أيٍّ من هذين الشخصَين والفتاة التي عقدَت أمورها الشخصية لدرجة جعلتها في حاجةٍ ماسة إلى علامات ودلالات خارجية على عفَّتها.

وكان كلما أطالَ التفكير في الموقف، ازداد ذهنُه تصديقًا على الأقل للاعتقاد بأن فتاة الوِديان والجبال والصحراء، الفتاةَ التي تَعْبَق على الدوام بعبير المريميَّة، ذاتَ الخطوات الحذرة، ذاتَ النظرة البعيدة التي تراها في عين الشخص المحب للطبيعة؛ لم تكن لتخضعَ للإغواءات والإغراءات التي تخضع لها الفتاةُ التي تحب الحياة في المدن تحت ضغوطها الشديدة. استطاع جيمي أن يرى كيف قد تقعُ في مشكلة خطيرة أيُّ فتاة تعيش حياتَها مأخوذةً بنفسها وبالملابس الأنيقة وترتادُ في النهار العروضَ السينمائية بالغةَ الابتذال والفحش، وترتادُ ليلًا قاعاتِ الرقص المكتظَّةَ عشوائيًّا بأناسٍ من كل حدب وصوب، بغضِّ النظر عن أوضاعهم في الحياة. استطاع أن يرى كيف أن الاندفاع المجنون بالسيارات من أحد أماكن الترفيه إلى آخَر، وتناوُل الطعام المشبَع بالتوابل دون انتظام، وقلةَ النوم، والتواصل المستمرَّ برجال لم يُربَّوْا تربية صارمة على عادات وأعراف ومبادئ الجيل أو الجيلين الماضيَين؛ ربما أدَّى إلى كارثة عند الفتيات اللواتي هن أصغرُ من أن يُدرِكْن أنهن يُرهقن أجسادَهن أو يُعرضن أرواحَهن للخطر. وكلما أمعنَ التفكير، زاد تعجُّبه من نجاة أي فتاة في تلك الظروف بشرفها أو قدر كافٍ من العافية تعيش بها عمرًا معقولًا حتى. لم يكن يدري بالضبط أيَّ فائدة تعود على البيت أو الأمة من فتاةٍ فاقدة الشرف والصحة. لكن الشيء الوحيد الذي كان يعرفه يقينًا هو أنَّ أولئك الفتيات كنَّ النوعَ الذي يريد تجنُّبَه.

وبينما يقف أمام المرآة ليتفحَّص بإمعانٍ الجانب الأيسر من صدره، وفي يده الضمادةُ التي انتوى وضعها وربطها في مكانها بعد الفحص، شُلَّ جيمي عن الحركة لأول مرة بخاطر لم يَجُل بخاطره من قبل. لم يَدْرِ بالضبط لماذا لم يُفكر في ذلك الشيء تحديدًا من قبل. وبعد أن فكَّر فيه بالفعل، بدا له أنه الشيءُ الذي كان يجب أن يُفكر فيه أولًا. لكنه لم يفعل.

صحيحٌ أن أي سيد اسكتلندي يضع في أعماق قلبه ربَّه وبلدَه وشرفَه وأولئك الذين يحبُّهم فوق أي شيء آخر، لكن طالما كان متأصلًا في قلب كل رجل اسكتلندي حبُّ المال، والمكان الذي يستطيع الحصول منه على المال، والسلطة التي يمكنه شراؤها بالمال، والراحة التي سيمنحها له، والرفاهية التي سيوفرها لأحبائه، والاطمئنان لأنه سيتَّقي ما في العالم من برد وجوع وبؤس. كانت الدفعة الأولى من النقود التي وضعها سيدُ النحل بين أصابع جيمي قد أثارت في روحِه اضطرابًا حتى الأعماق. إذ أمسكها بين أصابعِه. وظل يُحدق فيها غيرَ مصدِّق. فالحقيقة أنه لم يسبق له قط أن امتلك مالًا يخصه ليُنفقه كيفما يحلو له. فكل ما حازه من نقودٍ من قبلُ كان ما يعطيه له أبوه وأمه لشراء ملابسه وسَداد نفقات دراسته، وكان يُرهقهما أشدَّ الإرهاق أن يُوفرا المواردَ الكافية ليفعل أكثرَ ما يحتاج إليه من دون توفير أي كماليات. فهو لم يعرف قط كيف هو شعور أن يُصبح لديه نقودٌ في جيبه ليُنفقها كما يريد، فكانت النتيجة أن أول مكاسبه بصفته مربِّيَ النحل حفَّزته للمعركة التي يبدو الآن أنها من الممكن أن تنتهيَ بانتصاره.

ما زال أمامه بضعة أيام قبل أن تُجرِيَ مارجريت كاميرون فحصها الثاني. وقد بدَت الضمادة التي أزالها جيمي هذا الصباحَ نقية ونظيفة كما كانت حين وضعَها. عصير الطماطم في الصباح، وعصير البرتقال بعد الظهر، والاستنقاع في البحر، والاستلقاء على الرمال الساخنة، والهواء النقي الخالي من الغبار والمشبع بالملح، والعمل المسلي، وقضاء النهار كلِّه بالخارج، مع ذهنٍ لديه ما يستغرق فيه من أشياء مقدَّسة وجميلة، ماذا يأمُل أيُّ طبيب ليُنافس ذلك المزيج، ذلك المعرَّض لقدرات الطبيعة على الإبراء؟ ربما كانت الضمادة النظيفة التي أزالها، هي الدليلَ على أن صدره أصبح مكسوًّا بجلدٍ متينٍ كفايةً لتحمُّل العمل في النهار، والشعور بالهدوء والشِّبَع في معدته، وزوال الحرارة والاضطرام عن دمائه؛ ربما كان مزيجٌ من كل هذه الأشياء هو ما جعل جيمي، وهو واقفٌ يُطالع المرآة ذلك الصباح، يعبر عن يقينه المغتبِط ويقول: «سوف أنجو! وبقدر اليقين بوجود خالقٍ كريم في السموات، سأصبح رجلًا مُعافَى البدن ثانيةً!»

وهنا بالضبط تلقَّى جيمي صفعة، صفعة شديدة، صفعة جعلَته ينكمش ووجهَه يَبْهت ويداه ترتعشان. وبدا صوتُه لأُذنَيه متوترًا لأنه قال بصوت عالٍ: «وقد أقسمتُ بكل المقدسات إنني سأموت! كان جزءًا من اتفاقي أن أغادرَ الحياة خلال ستة أشهر على الأكثر! لقد قلت إنه لا يوجد أملٌ في بقائي على قيد الحياة، وربما ما كانت الفتاة التي تزوَّجتني ستُقدم على ذلك إن لم تعتقد أنني رجل شبهُ ميت.»

وقف جيمي ساكنًا، بينما يُحدق في الضمادة. واستطاع أن يشعر بأصابع الفتاة وهي تمرُّ على صدره مستكشفة. أمكَنه أن يشعر بالقُشَعريرة، الناتجةِ ربما عن شفقة، التي سرَتْ فيها وهو يمرُّ بأصابعها على طرف الضمادات والأربطة التي كان يرتديها آنَذاك. لقد أعطاها بذلك بُرهانًا لإثبات كلامه. وقد صدَّقَت البرهان، ووثقَت في كلماته، وها قد ارتدَّ على عقبَيه وأخذ يفعل كلَّ ما في إمكانه، ويبذل قُصارى جهده ليَبقى حيًّا.

بهدوءٍ وضع جيمي الضمادةَ وربط اللفافة التي تُثبِّتها في مكانها. وبهدوءٍ ارتدى ملابسَه وخرج إلى عمله. كان كل بضع دقائق يتوقَّف ويقفُ محدِّقًا فيما أمامه. فقد قال لنفسه خمسين مرةً ذلك الصباح: «لا يوجد أدنى احتمال أن أموت خلال ستة أشهر أو ستِّ سنوات، أو ستين سنة، ما دمتُ مستمرًّا في التعافي كما أنا الآن. الطريقة الوحيدة التي أستطيع بها الموتَ هي أن أُهلِكَ نفسي، فإذا جاء يوم والتقيت بأليس لويز وجهًا لوجه، وبدَت ظروفها مشفوعةً بالتخفيف، فماذا ستظن بي لبقائي حيًّا؟»

عندئذٍ ظهر على السطح حسُّ الدعابة لدى جيمي.

«إذا آلت الأمور ذلك المآلَ وحظيتُ بفرصة للعيش، فلا أظنها ستطلبُ مني أن أقتل نفسي ما دام الجرح لم يقتُلْني، وإذا فعلَت، فلا أظنُّني قد أتبع أوامرَ حتى سيدةٍ من السيدات إلى ذلك الحد. سأخبرها أنني كنتُ صادقًا، وأن ليلة العاصفة كانت حالكة عليَّ كما كانت عليها، وأن الصراع الذي اضطرب في قلبي كان مثلُه مثلَ العاصفة التي ثارت في قلبها، أو العاصفةِ التي ثارت في البحر. سأخبرها أنني لجأتُ إلى الله فهب لنجدتي بحياةٍ وعملٍ وأمل في السعادة. سأخبرها أنها إن لجأتْ إلى الله فستجد أن في وُسعه حلَّ مشكلاتها كما حُلَّت مشكلاتي. سأخبرها أنه ليس خطَئي أنني ما زلتُ حيًّا. لا، لا أستطيع مطلقًا أن أقول لها ذلك أيضًا. لقد أعطاني الله البداية. ويُحسَب لي أنني اغتنمتُها. أعتقد أنه كان بإمكاني الاستمرارُ في تناوُل أصنافٍ غير متناسبة من الطعام وحمل الهموم على كاهلي؛ كان بإمكاني المضيُّ بينما تستهلِكُني حسرتي على نفسي وتملؤني السموم. حَسْبي من الأمر مسئوليتي عن اتخاذ القرار، والقدرة على القيام بالأشياء الضرورية حين أُتيح المجال. اعتاد أبي أن يقول من منبره إن زمن المعجزات قد ولَّى؛ أما الآن فإن الله يمنحنا الفرص، وإذا أردنا المعجزات فعلينا أن نصنعها نحن البشرَ بأنفسنا.» استغرق حلُّ هذه المشكلة الجزءَ الأكبر من اليوم، لكنها انتهت بأنْ توصَّل جيمي إلى الخلاصة بأنه كان صريحًا فيما قاله، وأمينًا فيما فعله، لكن تبدَّلَت الأحوال بتغيُّر الظروف.

ستُسرُّ مارجريت كاميرون سرورًا بالغًا حين تتفحَّصُ صدره المرةَ القادمة. وقد وجد نفسه مبتهجًا جدًّا، ومُفعَمًا بالأمل، حتى إنه كان في غاية الحرص على حماية ذراعه اليسرى وجانبِه الأيسر. فقد بدا لجيمي أنه إن حدَث أي شيء وتهتَّكَت تلك الطبقة الحساسة من الجلد التي غطَّت صدره وعادت البقع الزاهية للظهور في الضمادة التي وضَعها فإنه لن يقوى على احتمالها. إذ أدرك أنه إن حدث فسيأتي على ما تبقَّى لديه من سلامة عقل حتى إنه سيجلس ويبكي مثل أصغر الأطفال. فكان عليه الحفاظ على سلامة تلك الطبقة الرقيقة الحساسة مهما كلَّفه ذلك.

في بداية عمله كان جيمي نادرًا جدًّا ما يُغادر الموقع. فهو لم يذهب إلى البلدة قط، إلا للضرورة القصوى. لكن تدعوه الآن الضرورةُ القصوى للذَّهاب إلى هناك كثيرًا. إذ دائمًا ما ينشأ شيءٌ بشأن تسوية شئون سيد النحل، أو سببٌ يحمله على الذَّهاب لرؤية الدكتور جرايسون أو قاضي محكمة الوصايا أو إلى البنك المحتفظ بأموال تركة سيد النحل. كان علاوةً على ذلك قد شرع يعتاد على الذهاب في زياراتٍ عابرة إلى الرجل الذي كان سيدُ النحل يتبادل معه الخدمات. فقد وجد جون كاري رجلًا ذا شخصية آسرة، رجلًا مسليًا، رجلًا يستحق أن تتخذه صديقًا. فقد كان جيمي في بعض الأحيان لا يفهمُ التعليمات الموجودة في كتب النحل فَهْمًا دقيقًا. فيوضح له كاري كل شيء، ويشرحه بسرعةٍ ومهارة بالغة مما جعل معرفته مفيدة حتى إن اقتصرَت على العمل فقط. ومِن ثَم ظل مربي النحل يُكثر من إنجازه عمله سريعًا والذَّهاب لقضاء بضع ساعات في منحل رجل آخَر.

سرعان ما بدأ جيمي يُلاحظ أن مارجريت كاميرون كانت تُراقبه أثناء عملها في المنزل وفي حديقتها. وما جعله يُلاحظ ذلك أنه كان في كل مرة يغيب عن المنزل يجده عند عودته مرتَّبًا، ويجد الأثاثَ وقد أُزيل عنه الغبار، وملاءات الفراش جديدة، والمطبخ نظيفًا، وإناء زهور على منضدة حجرة المعيشة.

وذات يومٍ عاد إلى المنزل فوجده متألقًا. كانت مارجريت كاميرون في صباح ذلك اليوم قد تفحَّصَت صدره للمرة الثانية وأخبرَت جيمي بما كان يعرفه مسبقًا، أنه مهما كان ضعيفًا، ومهما كان حسَّاسًا ورقيقًا، ومهما كان معرَّضًا للتشقُّق من أقلِّ ضغط؛ فلا شيء يُغير حقيقة أنه كان هناك نسيجٌ من الجلد يُغطي الجرح الذي في صدره بالكامل. كانت مارجريت كاميرون في مثلِ عُمر أمه. وقد ألقت ذراعَيها حول عنقه وقبَّلتْه، ورقَصا رقصةً مرتجلة بفرحةٍ عامرة في الغرفة الصغيرة. كانت مارجريت قد نسقت ورودها الصفراءَ في المزهرية. وسحبت مقعد سيد النحل للأمام ووضعَت أمامه الخفَّ الذي ينتعلُه جيمي. كانت هذه طريقتَها لدعوته لاتخاذ وضعِه بصفته ربَّ المنزل. كما وضعَت منضدة عليها الجريدة اليومية بجانب المقعد، وقد تَزيَّن بالزهور كلُّ ما في المنزل من مِزْهريات وأباريقَ سبق أن وُضعت فيها زهورٌ من قبل.

ابتسم جيمي سعيدًا وهو يجول بنظره في أنحاء حُجرة المعيشة. وتأمَّل كم هم قليلون في العالم الرجالُ الذين يستطيعون أن يأتوا بأشياءَ جامدة ويجعلوا منها حُجرةً مناسبة للمعيشة؛ كما فعل سيد النحل بالحجرة التي طبَعَها إلى الأبد بذوقه وفكره ونزعاته الفنية. بعد ذلك فتح جيمي البابَ ووقف ساكنًا؛ ساكنًا مثل السكون الأخير قبل اندلاع عاصفةٍ عاتية. إذ وجد حجرة النوم قد أُزيل عنها الغبار، ووُضع فرشٌ نظيف؛ كانت متألقة، وتعبقُ برائحة المريمية — رائحة لم تقترن قطُّ بمارجريت كاميرون ولو بأقلِّ درجة — وعلى المنضدة المجاورة للفراش حيث مكانُ المصباح وقارورةُ المياه الحافظة للحرارة، وضع الوعاء النحاسي، وقد فاض بزهور رعي الحمام الرملي. كانت الزهور البديعة، مع التأثير المنعِش للمياه في ساعة المساء، كعادتها تنكمشُ وتنشر في الأنحاء عبيرها الخفيف الرقيق، أجمل عطرٍ لزهرة في عالم الزهور بأسْرِه في رأي جيمي. تقدَّم جيمي وتناولَ الوعاء. ونظر أسفله. وتفحَّص المنضدةَ بحرص. ونظر في أنحاء الأرض. ورفع الوسادة. وبحث في أركان الحجرة الأربعة. فربما كانت هناك رسالة، وطيَّرتْها بعيدًا نفحةُ رياح. وبعد ذلك توجَّه مباشرةً إلى مارجريت كاميرون.

وقد وجَدها في الحديقة. فأخذ مقصَّ تقليم الزرع من أصابعها واصطحَبها إلى مقعدٍ مصنوع من فروع الأشجار تحت غصونٍ ظليلة لشجرة سنط كانت قبل بضعة أشهُرٍ مثل شلالٍ من الذهب المتدفق، مثل الذهب السائل في انسكابه وتدفُّقِه وانسيابه. ثم جلس بجانبها وقبَض على يديها وحوَّل وجهها نحوه.

وقال: «تعلمين يا مارجريت كم أنا ممتنٌّ لكِ على كل ما تفعلينه لي من أشياءَ تُراعينني بها وتَحْنينَ بها عليَّ كالأمهات، أفعالٍ كريمة تشدِّين بها من أزري. من الوارد أن تكوني مدركةً لما كان عليه منزلُ صِباي من نظافةٍ وحرص على طهارة لا يَشوبها دنس. إنكِ تُدرِكين كم أقدر وأستريح وأزداد بأسًا وأشعر بتحسُّن مع رعاية المنزل على النحو الذي كانت ستتبعُه أمي، لو لم يتوفَّها الله قبل رجوعي. أشعر أن منزلي أروعُ منزل في العالم كلِّه اليوم. فلن أقايضَ به مقابل أيِّ منزل لأي مليونير في أي مكان في ولاية كاليفورنيا. الكشافة الصغير محقٌّ في اعتقاده أنه من الممكن أن يشعر الإنسانُ بالرضا بما يمتلكه؛ فحسبه أن يكون لديه منزلٌ وحديقة زهور وضمانُ قوت يومه. الحياة رائعة اليوم يا مارجريت، رائعةٌ للغاية. فقد قضيت وقتًا ممتعًا مع كاري ونحلِه. لقد حسمتُ أمري وقرَّرت أنه ما دام سيد النحل أراد أن أحصلَ على المنزل والحديقة، فسوف أحرص عليهما بقدر ما أراد حصولي عليهما. لم يكن ثَمة شكٌّ مطلقًا في رغبتي فيهما. وإنما كنتُ أشعر أنني قد أسطو على حقوق رجلٍ آخَر. أما إذا طرَأ أنها امرأةٌ التي سطوتُ على حقوقها، فبالطبع …»

قاطعَتْه مارجريت كاميرون: «فبالطبع، ستبلغُ بك الحماقة أن تهمَّ بالمغادرة وتتركَ ما يحقُّ لك شرعًا!».

فقال جيمي: «إذا استطاعَت إقناعي بأن لها حقًّا في المكان فعلًا، فسوف أغادر، بالطبع، مهما كان حبِّي له.» ثم أضاف: «لكنني لم آتِ للحديث عن المغادرة. لقد جعلتِ حجرةَ المعيشة رائعة، يا مارجريت، بما وضعتِه فيها من زهور كثيرة. فلتُخبريني بحق، هل أنتِ مَن وضع الزهور في غرفة نومي؟»

أدارت مارجريت كاميرون نحوه وجهًا مندهشًا اندهاشًا حقيقيًّا.

وقالت: «لا، لم أفعل. فإنني لا أحب مطلقًا أن تكون حجرة النوم مكتظةً بالزهور. فلا يروقني النومُ مع عطر زهورٍ أقوى من الذي يأتي من النوافذ. لا أعتقد أنه من الصحيِّ الاستلقاءُ طَوال الليل في جوٍّ معبَّأ. إنني لم أضَع أي زهور في غرفة نومك.»

فقال جيمي: «حسنًا، إذن، لو أنكِ لستِ من وضعهم، فإنك الوحيدةُ التي لديها مفاتيحُ الغرفة وتملكين دخولها. وباستطاعتك إخباري مَن فعل ذلك.»

فقالت مارجريت كاميرون: «ذلك ليس باستطاعتي مطلقًا؛ فلا دراية لي به البتة.»

سألها جيمي: «هل جاء الكشافة الصغير إلى هنا؟»

فأجابَته مارجريت كاميرون: «على حدِّ علمي لا.» وتابعت: «إنني بالطبع لا أدَّعي أنني أراقب ذلك الصغيرَ في ذَهابه ومجيئه، لكنني لن أنفيَ أن النافذة قد تُشكل مدخلًا أنسبَ من الباب. تعلم أن ثمة بوابةً بيننا، وتعلم أنك لم ترَ الكشافة الصغير قط إلا قافزًا من فوق السياج.»

ابتسم جيمي.

«أعلم. إنه جزءٌ من نظام التدريب. لقد أصبحَت معرفتي بالكشافة الصغير قوية. أولًا: الصغير ليس مُغرَمًا بجمع الزهور. وثانيًا: هذه الزهور قُصَّت بعناية شديدة بمِقصٍّ أو سكين، وثالثًا: لقد نُسقَت بذوقٍ وجمال لم يبلُغْهما الصغيرُ بعد. بعض السيقان طويلة والبعض الآخر قصير، وبعض الرءوس منتصبٌ والبعض الآخَر، الذي لديه أوراقٌ أقل، تدلَّى على حافَة الوعاء وخرَج إلى مفرش المنضدة، وهي إجمالًا بديعة بدرجة كافيةٍ لإرضاء ذوقِ أشدِّ فناني اليابان تدقيقًا في تنسيق الزهور. إن كان الكشافة الصغير مَن جمعها كانت ستُحشر في حُزمة ضيِّقة وتُلقى عشوائيًّا في الوعاء بأبسطِ طريقة. ألا تعتقدين ذلك؟»

أجابته مارجريت كاميرون قائلة: «أعتقد أنه محتمل جدًّا.»

ابتسم جيمي ابتسامته بالغةَ الود.

وقال: «سوف تُخبرينني إذا عرَفتِ، يا مارجريت، أليس كذلك؟»

فأجابته مارجريت، وهي تُسايره وتردُّ على ابتسامه بابتسام: «حسنًا، بالقطع أعتقد أنني سأفعل». وتابعت: «فلا أرى أيَّ سبب يجعلُني لا أفعل ذلك. أعتقد أنني سأخبرك إذا عرَفت؛ لكنني بصراحةٍ وصدق يا جيمي ليس لديَّ أدنى فكرة مَن عساه قد يكون الذي نسَّق الباقة بالذوق الفني الرفيع الذي وصفتَه بحماس شديد. هل صادقتَ أيًّا من الجيران؟»

قال جيمي: «تعلمين أنني لم أفعل!» وتابع: «لا يوجد أيُّ جيران على الجانب الغربي. قد يصبح هناك جيرانٌ في المستقبل، وأنتِ جارتي من الجهة الشرقية، ولا معرفة لي بمَن بعدك من جيران. بالطبع يوجد بالأسفل على الشاطئ يوميًّا مئاتُ الناس، لكن بعيدًا عن كونها أشدَّ زرقة، ربما تبدو هذه الحديقةُ مثلَ أي حديقة أخرى منحدرة إلى الشاطئ. فلا يأتيها زوَّار على حدِّ علمي. الحقيقة يا مارجريت أن المنزل اليوم يشوبُه شيءٌ يُحيرني. والباقة التي في غرفة نومي أحد الأشياء. كما أن كرسيَّ سيد النحل سُحب إلى جانب المدفأة ووُضِع أمامه الخفُّ الذي أرتديه، فهل أنتِ مَن فعَل ذلك، ما دمنا نتحدث في الموضوع؟»

فقالت مارجريت كاميرون: «لا، لم أفعل ذلك. لقد شعرت أن كرسيَّ سيد النحل شيءٌ جدير بالتبجيل والتكريس له، وقد احترمتُ نقاءَ سَجيَّتك الذي منَعَك من الاستيلاء عليه. لا بد أن أوطن نفسي على عدم المبالاة برؤية رجلٍ آخر يستخدمُه. وإنني صراحةً أُفضِّل أن أراك أنت تستخدمه عن أي شخص آخَر أعرفُه، لكنني لا أستطيع أن أراك جالسًا عليه الآن من دونِ أن أستاء.»

قال جيمي: «خُيِّل لي أنه سيعتريكِ ذلك الشعورُ الذي اعتراني، ورغبةً في أن أكون أكثرَ جدارة باكتساب المزيد من السنوات والمزيد من المعرفة، لأبلغ أفضلَ مستوًى أستطيع الوصولَ إليه؛ فلا أجرؤ على الطموح بشَغْل ذلك الكرسيِّ قبل أن أرتقيَ وأصلَ لأقصى ما في وُسعي. لقد أخبرتِني أنَّ لديك ابنةً مسافرة للتدريس في إحدى المدارس وأنَّ لديكِ ابنةَ صهرٍ تأتي لزيارتك باستمرار، وإنني أتساءل إن كانت إحداهنَّ قد تكون أتت معكِ وربما هي التي رتَّبت الأشياءَ بطريقةٍ مختلفة عن طريقتكِ.»

هزَّت مارجريت كاميرون رأسها نفيًا.

«لقد سافرت لولي إلى أقصى شمال الولاية مع المدرسة التي قبِلَتها، متَّجهةً إلى ساكرامنتو رأسًا. ولا يمكنها التنقل مجيئًا وذَهابًا حتى انتهاء الفصل الدراسي. لا أجد غَضاضة في الإقرار بأن المنزل أشبهُ بالقبر من دونها، وقد ذرفتُ الدموع لأنها في واحدٍ أو اثنين من آخرِ خطاباتها ألمحَت إلى أنها قد لا تعود للديار لقضاء إجازة الصيف، وأنها قد تذهب مع معسكرٍ للبنات إلى يوسيميتي. ولأحدِّثك بالحقيقة، لقد انتابني شيءٌ من الاستياء من مولي. إذ أشعر في قرار نفسي أنها أسهَمَت في إلحاق ابنتي بمدرسةٍ بعيدة عن المنزل، ولا أعلم لماذا فعلت ذلك. التذرُّع بأنها ستحصل على راتبٍ أكبر لا يضع في الاعتبار أنها ستُضطرُّ إلى إنفاق جزءٍ كبير جدًّا من راتبها على الطعام والسكن، في حينِ أنها لو ذهبَت للتدريس في المدينة، لأمكَنها استخدامُ الترام والعودةُ إلى المنزل للمبيت ليلًا وقضاء يومَي السبت والأحد. لم أجرُؤ على قول أيِّ شيء لمولي إذ إنني قبل بضعة شهور — ذلك الوقت حين كنتُ مسافرة عندما جئت أنت — ذهبت إلى المدينة لرؤيتها. كانت مصدومةً صدمة مروعة. لم يكن لها سوى قريبٍ واحد مباشر في الدنيا، هو أخوها التوءم دونالد، ومنذ غرق أبوها وزوجي في البحر معًا، آويتُهما في منزلي حتى بلَغا في التعليم ما يُؤهِّلهما للعمل والتكفُّل بأنفسهما. كانوا كلُّهم أصدقاءَ. لكن كانت الصداقة بين دون ولولي أشدَّ مما أردتُها. فلم يكن دون متمتعًا بما لدى مولي من حزم، ولا برؤيتها للحياة. أعتقد أنه كان خائرَ القوى وواهنَ العزيمة نوعًا ما، وقد ظَلِلنا جميعًا نُجاهد سنواتٍ لمنعه من التورط في العديد من الأشياء التي ما كان يجب أن ينجرفَ إليها. كانت لولي دائمًا مَن تستطيع كبْحَ جِماحِه والسيطرةَ عليه، إذا أمكن من الأساس. كنت سعيدةً بعض الشيء حين التحقَ بعمل وابتعد، لكنَّ ذهاب مولي للعمل في مدرسة في المدينة جعل هذا المنزلَ خاويًا وموحشًا للغاية حتى إن ابنتي سارعت لحزم أمتعتها ورحلَت هي الأخرى، وأنا أشعر في قرارة نفسي أن مولي خطَّطَت لذلك، وهو ما لم يَرُقْ لي.

ومِن ثَم، على نحوٍ مُفاجئ، اتصلت بي مولي لآتيَ سريعًا، إذ كانت في ضائقة، وحين وصلتُ وجَدتُها في حالة من الانهيار لم أتخيَّل قط أنها قد تصلُ إليها. فقد جاء خبرٌ بوفاة دون. كانوا قد وجَدوا له عملًا؛ وظيفةً جيدة، في مصنعٍ كبير للمساحيق في سان جواكين، وبدا أنه كان يحبُّه ويُبلي فيه بلاءً حسنًا. لستُ على علمٍ كافٍ بالكهرباء لأعرفَ كيف حدَث ما حدث، لكنه ارتكب خطأً ما؛ فما لبث أن مات مصعوقًا بالكهرباء على نحوٍ سريع. وقد استدعَيْنا لولي، لكنها لم تأتِ. بعثَت برسالة تقول إنها حزينة حزنًا بالغًا حتى إنها مرضَت ولازمت الفراش، ولن تستطيعَ الحضور، وقد توقَّعتُ أن تحزن حزنًا بالغًا يجعلها سقيمةً وتُلازم الفراش. فإن لولي ابنتي. رُزقت بها في زواجي الأول. فلم تكن قريبة قرابةً حقيقية للطفلين الآخرين. كان السيد كاميرون زوجَ أمها، وربما كانت مشغولةً بدونالد أكثرَ بكثير مما كنتُ أعتقد. على أي حال، اضطُرِرتُ أنا ومولي إلى دفنِه وحدنا. وكانت مولي في كربٍ شديد حتى إنني أكادُ أكون سامحتُها. كما أنني لا أدري حقًّا، إن كانت هي التي خطَّطَت لإبعاد لولي عن المنزل. كان ذلك شعوري فحسب. لقد انزعجت من الأمر برُمَّته كثيرًا مؤخرًا، حتى مولي لم تَعُد تأتي كثيرًا كما اعتادت أن تفعل، ولا أعرف السبب، فأنا في الحقيقة كان يُهمني كثيرًا أمرُ الفتى وكان من الممكن أن أشاركها الحدادَ عليه بصدقٍ وإخلاص.

والآن تأتيني خطاباتٌ من لولي تُلمح إلى أنها ستذهب إلى أقاصي الشمال في الولاية في إجازة الصيف ولن تأتيَ الديار إلا بضعة أيام قُبيل نهايتها، وتعود بعدَها مرةً أخرى للعمل من أجل العام الدراسي الجديد. ما كان يُفترض أن يُصبح هذا حالنا. أتساءل أحيانًا إن كنتُ أبالغ في التهذيب والتدقيق بشأن خروج الفتيات وما يفعَلْنه. لا يبدو من الحال الذي أصبح عليه الشبابُ اليوم أنه يمكن للأمِّ أن تُبالغ في التدقيق، فهي إن فعلَت فستبعد صِغارها عن البيت، ولا أظن أنها ستجني من ذلك سِوى حسرةٍ شديدة. ومِن ثَم، كلا، لم تكن أيٌّ من فتاتَيَّ معي. وإذا كان ثمة لمسةٌ أنثوية في منزلك اليوم لا تعرف مصدرَها، فإنني أقول لك صراحةً إنني لا أعرف مَن صاحبتها أو مِن أين جاءت.»

جعل جيمي يُمعن التفكير.

ثم قال أخيرًا: «حسنًا، ما دمتِ لا تعرفين فلا بأس، ذلك جلُّ ما أردت معرفته. سينبغي عليَّ أن أقوم بتحرياتي الخاصة.»

قال قولَه ذلك مازحًا، لكن ظلَّت الفكرة تُراوده. إذ إنه عاد للمنزل ومنه إلى الممشى الخلفي. ثم رفع مزلاجَ بوابة الشاطئ بأصابع مستكشِفة. واتخذ المسار الممهَّد بالطين الصلب والحصى نزولًا إلى حيث تلتقي الرمالُ بالبحر، ووقف يجول بنظره بإمعانٍ شديد وحِرص بالغٍ في الرمال. وبعد بُرهة خُيِّل له أنه بدأ يُميز أثر قدم، وبعد بضع ياردات وجد ما كان يبحث عنه، أثرٌ كان قد رآه من قبل، شكل الحذاء نفسُه، العرض نفسُه، والكعب العريض نفسُه الدالُّ على رجاحة العقل. وعندئذٍ أيقن من دون أي شك أن فتاةَ العاصفة كانت في منزله.

مضى متقدمًا في الشاطئ نحو الجنوب، مقتفيًا آثارَ الأقدام، وأخيرًا وجد الأكمة الرملية نفسَها حيث كانت تنمو زهورُ رعي الحمام. ووجد السيقانَ التي قُصت منها الزهور. ثم خطَرَت لجيمي فكرة، فدار وكاد يركضُ في اتجاه العرش. وبقلبٍ خافق صعد المسار المؤدِّيَ إلى القمة، وتسلَّق الصخور، حتى أصبح في مواجهة الموضع الذي صمَد فيه هو وفتاةُ العاصفة أمام العاصفة معًا.

راحت الشمسُ في ذلك المساء تهبط إلى المحيط في هالةٍ من الجلال حمراءِ اللون. فيما كان الغيمُ في الأفق يبدو أقربَ إلى حُمرة الدمِ في أشعتها، والمياهُ تلوَّنَت بزُرقة نيلية داكنة في أبعادها الممتدَّة حتى الصين، وبلونٍ زمرُّديٍّ فاتح ساحر قرب الشاطئ، بينما تلوَّن السطح في بهاءٍ تارةً أرجواني وتارةً وردي داكن مع الأمواج الخفيفة التي جعلت تتدفَّق في هوادة. وكان زبَدُ الشاطئ والرمالُ نفسُها متلونةً بألوانها في رقَّة. وفي موضعٍ قريب جدًّا راح طائرُ محاكٍ يُغرد ونوارسُ بيضاء تُحلق عائدة لأعشاشها، وبضعةُ طيور طيطوي صغارٍ تتشاجر على الشاطئ. كان ثَمة أشياءُ كثيرة أجدرُ بجيمي أن يراها ويُعجَب بها ويحمد الله عليها، لكنه لم يرَ سوى أن سيدة العاصفة جلسَت في مكانها ونسقت الزهور التي أحضَرَتها له. حيث أُلقِيَت على الصخور عند قدمَيه أوراقٌ صغيرة ذابلةٌ من رعي الحمام، وأُسقِطَت براعمُ مهملة لكونها عجوزًا جدًّا. تقدَّم جيمي خطوة أخرى وجعل ينظر، فكان في مكانه على الصخور ثلاثةُ براعم بديعة، وساقٌ طويلة ممتدَّة وأخرى متوسطة وأخرى قصيرة محبوكة معًا ببراعة، ومجدولة من بعد الأوراق وقد وُضعت حيث كان يجلس كما قد نضعُ إكليلًا جميلًا على قبر أحد الموتى. وعندئذٍ طرأتْ لجيمي تلك الفكرةُ نفسها.

فقال: «يا إلهي! ترى ماذا قد تظنُّ إن عرَفَت أنني أفضلُ عشر مرات عمَّا كنتُ يومَ تزوجتُها! أتساءل إن كانت ستظن أنني كنتُ مخادعًا إن عرَفَت أنني أبذل قُصارى جهدي لأصبح بكامل صحتي. وأتساءل ماذا ستظنُّ إن عرفَت أنني لم أحفظ وعدي بعدم محاولة البحث عنها. أتساءل ماذا ستظن إن عرَفَت أنني حنَثتُ به حين ذهبتُ إلى مارجريت كاميرون لأرى إن كانت تستطيع إخباري بأي شيء، وحنثتُ به مرةً أخرى حين قطعتُ الشاطئ مقتفيًا أثرَ قدم أعرفه. أتساءل ماذا ستظنُّ إن عرَفَت أنني من أعماق قلبي أكاد أكون عاشقًا لها. أتساءل ماذا ستظن إن عرَفَت أنه منذ الليلة التي ضمَمتُها فيها بين ذِراعَيَّ لم تمر عليَّ بضعُ دقائق دون أن تَرِدَ على ذاكرتي وأريدَها وأتألَّمَ من أجلها وأعملَ من أجلها وأفكِّر فيها، حتى بلغ بي الحالُ أنني لم أعُد أكترث كثيرًا لسبب احتياجها إلى اسمي. وأتساءل ماذا ستظنُّ إن عرَفَت كم مرةً قرأتُ خِطابها وكم راق لي، وأتساءل ماذا خطر لها وهي تجمع زهورَ رعي الحمام لتضعَها بين أصابعي وتحملَها على بُعد بِضع أقدام من وسادتي. ويحي! أتساءل إن كانت قد اطمأنَّت لي كفايةً حين تزوَّجتُها حتى إنها قد تأثرَت قليلًا بشخصيتي! أتساءل إن كانت تشعر أنني بحقٍّ حُطام رجل على أيِّ حال. أتساءل إن كانت الأيام الصِّعاب قد أوشكَت وإن كانت بحاجةٍ إلى رجلٍ بمقدوره رعايتُها والتسريةُ عنها وفعلُ ما بوسعه ليُمِدَّها بالقوة. أتساءل إن كانت تلك الزهور إلى جانب وسادتي هي طريقتَها لتطلب مني مخالفةَ وعدي، والبحثَ عنها، ومساعدتها؟ أتساءل إن كانت هي طريقتَها لتقول إنها تحتاج مني إلى أكثرَ من اسمي؟»

ظل جيمي جالسًا حتى الغسَق، ثم نهض ببطءٍ وسلك الطريقَ إلى منزله لتناوُل غَدائه. وبينما يعبر الرواق الخلفيَّ طرأت له فكرة. سار عبر الممشى وانعطَف إلى نافذة غرفةِ نومه، وبينما كان يتفحَّصُها عن كثب لفَت نظرَه كومةٌ من رعي الحمام على الأرض. لقد أخبرَته مارجريت كاميرون الحقيقة. إنها لا تعرف مَن هي فتاة العاصفة. ولم تُزوِّد أحدًا بالمفتاح لتُتيح الدخول إلى منزله. لقد فعلت فتاةُ العاصفة ما كانت قادرةً تمامًا على فعله. فقد تخفَّت في الممشى الخلفي في خلوة الشجيرات، التي حجَبتها عن الشوارع والمنازل المجاورة ودخلَت من نافذته. كان ذلك ما حدث إذن، وهو ما لم يُساعده البتة على اتخاذ خُطوات نحو الموت. بل إنه دعاه، في واقع الأمر، إلى التفكير أكثرَ وأعطاه المزيدَ من الأسباب للعيش أكثرَ من أي أسباب سيطرَت عليه من قبل.

بعد تلك الواقعةِ عاش جيمي في ترقُّب دائم. فلا شكَّ أنها يومًا ما ستأتي مرةً أخرى. يومًا ما سيوجد في الحديقة حين تأتي، أو سيجدُها على العرش. كاد يحمله الهوى على كتابة رسالةٍ وترْكِها هناك، لكنْ أثْناه عن ذلك معرفتُه أن العديد من الناس يتسلَّقون المسارَ الوعر المؤدِّيَ لقمة الصخرة المتعرِّجة. لم يستطع أن يُجازف فيعثر أيُّ شخص آخر على الرسالة الموجَّهة لفتاة العاصفة. لم يستطِعْ في أعماق نفسه الامتناعَ عن التفكير فيها كما رآها، مكروبةً وحزينة في وهج البرق، أو بشفتين مرتعشتَين وعينين محدقتين كما كانت حين تركَتْه. لم يستطع ألَّا يُحاول تخيُّلَ كيف قد يبدو وجهُها وهو متلهِّف ومتوهجٌ بالسعادة، وكم قد تلمع عيناها وهي مسرورةٌ ومتحمِّسة، وكم ستُصبح رفيقةً رائعة عند مواجهة الأمواج أو تسلُّق الجبل، أو العمل في الحديقة، أو عند الجلوس قبالة المدفأة. مهما يكن ما قد ظنَّه عنها حين رآها امرأةً غامضة، امرأة تجلَّى عِرْقُها وأصلُها في وجهها وحركاتها ونبراتِ صوتها، امرأة يملك دمُه حقَّ أن يهفوَ إليها لأنهما ينتميان للجنسيَّةِ نفسِها، من ناحية الجَد، تظل الحقيقة أنه لا يمكن أن تكون غامضةً بالنسبة إليه قط. فقد انطبعَت في ذاكرته في وعيه بطريقةٍ مختلفة عن أي امرأة أخرى.

قال جيمي: «لأنها زوجتي أمام الله وأمام القانون، وهو الواقع الذي لا يُمكنني التملُّصُ منه، ولا تستطيع هي التملُّصَ منه. لا يمكنها أن تتزوج أيَّ رجل آخر من دون الإعلان عن نفسها والطلاق مني.»

وإذا بجيمي يتلقَّى صفعةً أخرى أرْدَته فاقدَ النطق وربما فاقدَ الحسِّ لبرهة.

إذ قال لنفسه وكل ما حوله حين اكتسب طاقةً كافية ليتحدث: «كذلك أنت يا جيمس لويس ماكفارلين، لا تستطيع الزواج من أيِّ امرأة، ولا يمكن أن يصبح لديك بيتٌ حقيقي ولا عائلةٌ ما دمتَ متزوِّجًا شرعًا من فتاةٍ لا تريد سوى اسمك، أو على وجه الدقة من واحدةٍ لا تريدك أنت شخصيًّا على الإطلاق!»

جلس جيمي بغتةً وأقرَّ بأنه كان مشغولًا بسبيلٍ واحد. فقد كان ذاهبًا في السبيل المؤدِّي إلى الموت والزوال حين أقدم على مُغامرة الزواج الحمقاء هذه. أما الآن فهو في السبيل المؤدي إلى بيت، وإلى مهمة في الحياة، وإلى الأشياء التي يرغبها كلُّ الرجال حين يكونون عُقلاء وأصحَّاء، لكنه أصبح مقيدًا بأشدِّ القيود التي يستطيع القانون تقييدَه بها بالسِّجلات الموجودة في مكتب أذون الزواج التابع للبلد الذي يعيش فيه. كان ذلك أمرًا آخَر يستدعي التفكير. وهكذا مضى جيمي يؤدِّي مهامَّ مربي النحل، وسيدِ المنزل، وشريكِ الكشافة الصغير، بينما ذهنه منشغلٌ بعدة مشكلات مُلحَّة جدًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤