الفصل السابع عشر

الدخيلة

لو لم يكن الكشافة الصغير يضطَلِعُ بضِعف نصيبه من المسئولية عن جيمي الطفل الجديد، لكان من المرجَّح جدًّا ألا يحدثَ لجيمي الكبير قط ما حدَث له خلال هذه المدة، وهو الذي لم يبتعد كثيرًا هو نفسه عن كونه طفلًا في الظروف الحاليَّة. بدايةً، لم يستطع جيمي بعد أن يوطِّن نفسه على واقع امتلاكه فدَّانًا من أرض كاليفورنيا، ومنزلًا أنيقَ الأثاث باستثناء حجرةٍ واحدة. لم يستطع أن يستوعب أنه أصبح يمتلك كمًّا كبيرًا من الزهور، وبستانًا من أشجار الفاكهة، وحديقة خَضراوات، وصفًّا طويلًا من قفائر النحل الذي يُنتج أشهى عسل؛ إذ جُمِعَت نسبةٌ كبيرة جدًّا منه في حديقة النحل الزرقاء الرقيقة والحدائق المجاورة، لم يستطع بعدُ استيعابَ أن أبهى بيتٍ صغير شاهده في حياته ونصف منحل سييرا مادري أصبَحا مِلكًا له. لم يستطع أن يَحمل نفسَه على الشعور بأنه من العدل أو الصحيح أن تُصبح تلك الأشياء من نصيبه.

كان لا يزال ينظر إلى أملاكه وهو في حالةٍ من الذهول. لكن صحيح أنه مَثَل أمام قاضي الوصايا، وأوفى بمتطلَّبات القانون. وانتقلَت الأملاك إليه هو وجين ميريديث وفقًا لمقتضيات القانون. وسُحِبت الأموال من البنك وسُدِّدت ضريبةُ المواريث كما أمر سيدُ النحل. ورغم ذلك فما زال جيمي لا يشعر أنه يمتلك بالفعل الفدانَ الذي في حوزته. كان لديه شعورٌ أنه لو مكث هناك مدةً طويلة، لنقُل عشر سنوات مثلًا، ودرَس النحل وعمل بإخلاص، ولو اتخذ من سيد النحل موقعَ الابن طَوال تلك المدة، ثم تُوفي سيد النحل وترَك له أملاكه؛ لأنه يعرفه معرفةً جيدة ويشعر بأنه يستطيع الاعتمادَ عليه، كانت تلك ستُصبح لجيمي صفقةً مناسبة ومنطقيَّة. وهو لم يدرك أن أي شخص يلقاه ويتمتع بنظرة ثاقبة تمكنه من الحكم على طبيعة البشر، كان من نظرة واحدة لجيمي من رأسه لأخمَص قدميه، سيقول حتمًا رأيه فيه بالدقة نفسِها التي كان سيصفه بها بعد عشر سنوات من معرفته به.

فقد كان جيمي من نوعية الرجال التي تثقُ فيها النساء والأطفال والرجال الآخَرون من دون طرح أيِّ أسئلة. كان جيمي من نوعية الرجال الذين قد ينسَون أكبر المشاكل التي تُكدر صفْوَهم لربط ساقٍ مكسورة لكلب، أو لتضميد جُرح طفل. وإن مأزقه الحاليَّ دليلٌ على ما قد يفعله من أجل رجلٍ آخَر، دليلٌ ساطع على ما قد يفعله من أجل امرأة. لم يكن من طبعه قط أن ينشغلَ بنفسه جديًّا إلى أن مزَّق جرحُ الشظِيَّة صدره، فاضطُرَّ إلى الانشغال به طَوال عامَين. في ظل نظام المستشفيات والعلاج الطبي ظل يُواجه مدةً طويلة جدًّا فكرة أن نهايته لم تكن بعيدةً حتى إنها صارت هاجسًا. لكن شيئًا فشيئًا أتت الحديقة سحرها حتى صار جيمي رجلًا من جديد، رجل يهتمُّ لأمر الكشافة الصغير، ومارجريت كاميرون، والفتاة التي جازفت بحياتها وفقدَتها، وتركَت له بموتها إرثًا ثانيًا، إرثًا كان لدى جيمي استعدادٌ أكبر لقَبوله من الأول.

كان جيمي في غياب مارجريت كاميرون يُنظف المنزل. فقد عوَّدته أمُّه المدبرة على أن يكون مساعدًا لها في طفولته. فكان يعرف كيف يكنس ويُزيل الغبار، وكيف يُرتب الأثاث، وكيف يحافظ على نظافة المنزل. وبينما كان يعمل المكنسةَ في رواق المدخل توقفَت سيارةُ أجرة أمام الباب. خرَجَت منها شابةٌ شديدة الأناقة وتحقَّقت من رقم المنزل. تفحصَت المكان بعينَين مستحسِنتَين وابتسامةِ ثقة على شفتَيها أثارت الذعرَ في قلب جيمي. لم يكن قد شعر بأنه استحق الأملاك، ولم يكن يشعر بأن له أدنى حقٍّ فيها، لكنه كان على يقينٍ تام من أن الله يعلم كم أحبَّها، وكم رغب فيها، وحين تفحَّصَت هذه السيدةُ الشابة الجذابة المكانَ بابتسامةِ ثقة، ثقةٍ بالغة حتى تكادَ تُجافي التربيةَ الحميدة، وتساءلت: «هل أنا مخطئةٌ في الظن بأنَّ هذا هو مقرُّ إقامة السيد مايكل ورذينجتون؟» هز جيمي رأسَه نافيًا.

فقالت السيدة الشابة بنبرةِ ثقة: «أعتقد أنني أستطيع تمييز منزلِ أبي عن أيِّ منزل آخَر في هذا الشارع. فإنه يبدو مثلَه تمامًا.»

كان جيمي يعتقد أنه متأهِّب لهذا الموقف بالذات، لكنه أدرَك حين حدث أنه لم يكن مستعدًّا بالمرة. فقد شعر كأنَّ أحدًا قد ضربه على رأسه بقطعةٍ ضخمة من الخشب بالغِ الصلابة. كان ما تبقى لديه من وعيٍ كافيًا فقط ليُلاحظ شيئًا هو أكثرُ تأدُّبًا من أن يُجازف بالتعبير عنه، فحدَّث نفسَه به قائلًا: «حسنًا، ربما يبدو المنزل تمامًا مثل «أبيك»، لكن الحق أنكِ لستِ كذلك!» وزاد على ذلك قولَه: «وطالما سمعت أن احتمال أن تبدوَ الفتياتُ مثلَ آبائهن احتمالٌ قوي.»

أما ما فعله جيمي ظاهريًّا فكان أنْ ضم قدمَيه، وشدَّ قامته، وانحنى.

وسألها: «هل أفهم من ذلك أنكِ ابنةُ سيد النحل؟»

نظرَت السيدة الشابة إلى جيمي وابتسمَت، ربما بأقصى ما استطاعت من إغراء.

وقالت: «لستُ فقط ابنتَه، لكنني أُسرته كلُّها. بالطبع، حين جاء خبرُ وفاة أبي فجأةً وعلى حين غفلة، كان لا بد أن أقضيَ بعض الوقت للتأكُّد من دفنه على النحو الذي كان سيُرضيه وفِعل كل ما في وُسعي لمواساة أمي.»

فجأةً وجد جيمي نفسه يُبدي ما اعتبره مقاومة.

إذ قال: «لكنني فهمتُ من سيد النحل أن كلًّا من زوجته وابنته قد تُوفِّيتا.»

«لا أعرف الكثير عن زواجه الأول. لا شك أن زوجته الأولى ماتت قبل أن يتزوج أمي، وأعتقد أنهما كان لديهما طفلةٌ فعلًا. أعتقد أنه ذُكر على مَسامعي، لكن ذلك كان قبل أن أُولَد بزمنٍ طويل بالطبع.»

قال جيمي: «فهمت.»

«وما دمتَ مسئولًا هنا، فيجوز لي أن أخبرك أيضًا بأن أمي وأبي لم يستطيعا الانسجامَ قط. فدائمًا ما كانت تُقابلهما صعوبات، وفي النهاية اضطُرَّت أمي إلى الحصول على الطلاق. فإنها لم تستطع الحياة مع رجلٍ حادِّ الطبع وشديد الصرامة، رجلٍ لا يريد أن يفعل أيَّ شيء سِوى العكوفِ على كتاب أو الانشغالِ بأمور على شاكلة الثقافة الرفيعة التي لا يمكن أن تُثير اهتمام أحدٍ من البشر. وأنا لم أَلُمْها البتَّة. بل كنتُ في صفها تمامًا. بعد أن حصلَت على الطلاق، ذهب أبي إلى مكانٍ ما. ولم تعلم قط أين ذهب. فإنه لم يتواصَل معنا مباشرة. كان محاميه يُرسل النقود لنفقاتي، وأعتقد أنه هو الذي لا بد أن ألجأ إليه للحصول على التركة التي تحقُّ لي قانونًا بصفتي طفلتَه الوحيدة، والوحيدةَ من ورَثتِه على قيد الحياة.»

فسألها جيمي قائلًا: «ألم يُخبرك أحدٌ أن سيد النحل قد ترك وصيةً وهبَ فيها هذه الأملاكَ لمساعده الذي كان قد ظلَّ معه بضع سنوات، ولي؟»

ضحكَت السيدة الشابة ضحكةً لطيفة.

«كانت هناك إشاعة. قال أحدُ الأشخاص شيئًا عن عدم وجود أملاك — ربما في خطابٍ من الممرضة التي كانت في المستشفى الذي مات فيه أبي — لكن بالطبع، حين يعلم الناسُ هنا أنني الآنسة ورذينجتون والابنة الوحيدة لأبي، لن يكون هناك أيُّ شك بشأن مَن يستحق المكان قانونًا.»

جعل جيمي يُمعن النظر في الشابة الماثلةِ أمامه. لم يستطِعْ أن يرى سببًا يجعلُه لا يُصدق ما قالته، لكنها لم تكن تُشبه سيد النحل بأي طريقة، ولو قليلًا؛ لا في حركاته، ولا مفرداته، ولا شكل يدَيه أو قدميه، ولا في ملامح الوجه وتعابيره. وفي الوقت نفسه، إن كانت هي تحمل وثائقَ تُثبت هُويتها وأن ادِّعاءها صحيح، فليس ذلك سوى ما توقَّعه، وما هو إلا ما ظلَّ يؤكد أنه سيحدث؛ لذلك فقد قال لها: «إن تقدَّمتِ بالدليل على أن سيد النحل كان أباكِ بالقرابة، إن تقدمتِ بالدليل على أنَّ لكِ حقًّا قانونيًّا في تَرِكته، فلن يكون هناك مجالٌ للاعتراض على أن تئول لكِ؛ لكن سيد النحل كان في كامل وعيه، حسَب شهادة الأطباء والممرِّضات، حتى وافَتْه المنية وهو نائم، وكان جازمًا جدًّا في قوله بأن ليس له وريثٌ مباشر من دمِه. ما سيتحتَّم عليكِ فعلُه هو أن تعرضي دليلَكِ، وتُفصحي عن هُويتكِ، وتجعلي ادِّعاءاتك مقنِعة أمام محكمة الوصايا في هذه المقاطعة. إذا استطعتِ أن تفعلي هذا، فلا شك أن التركة ستُصبح من حقكِ. أما الآن فهي مسجلة في الأوراق باسمي واسم مساعد سيد النحل، وأنا المسئول عنها وسأظل مسئولًا لحين التحقُّق من هُويتك وإثبات ادعاءاتكِ.»

فصاحت السيدة الشابة: «وأين لي أن أُقيم؟ إن كنتُ سأُضطر إلى الذَّهاب إلى المحكمة والدخول في صراع قانوني، فقد يستغرق هذا أسابيعَ أو شهورًا، وما لديَّ من نقود كان كافيًا بصعوبةٍ لآتيَ هنا. فالمصروف الذي خصَّصه لي أبي لم يكفِني أبدًا.»

فقال جيمي: «لا علمَ لي بذلك الأمر. وليس لي علاقة به. لكن أعلم أنَّه ثَمة ثروةٌ صغيرة في نحل هذه التركة وأشجارها وزهورها، وأن قيمتها متوقِّفة على مراقبة النحل، حيث يُغير الكثيرُ منه مسكنَه في الوقت الحالي. وهناك عسلٌ لا بد من نقله لأحميَ النحل من البدء في سرقته، وفي كاليفورنيا لا بد دومًا من الاهتمام بالريِّ بنظام. إن حدَث وأُثبت أمام المحكمة ما تمنَّاه سيد النحل وأراده، فلن أُحبِّذ، لخاطر مساعده، الذي صار مساعدًا لي، ولخاطري، أن تتراجَع قيمة المكان، كما سيحدث إن خرجتُ وتركته في رعاية شخصٍ غريب.»

عندئذٍ ظهرَت أول خَصلة قبيحة بحقٍّ في سلوك الفتاة. إذ ضحكت ضحكةً بغيضة.

وقالت: «حسنًا، لا شك أنك ستخرج وستخرج بسرعةٍ عاجلة. لا توجد محكمة في العالم تحرم ابنةً وحيدة ووريثةً وحيدة من ميراثها وتمنحُ تركةَ رجلٍ لشخص يكاد يكون غريبًا تمامًا. سيُصبح ذلك تصرُّفًا في غاية الوضاعة. وحيث إن هذا منزل أبي، فأعتقد أن لديَّ كلَّ الحق في البقاء فيه.»

والتفتَت نحوَ الشارع وأشارت لسائق سيارة الأجرة.

وقالت له آمرةً: «أحضر لي صندوقي وحقائبي!»

وضعَ سائق سيارة الأجرة صندوقَ أمتعة صغيرًا على عاتقه، وحمله إلى داخل المنزل فأنزله في منتصف حجرة المعيشة، واضعًا فوقه حقيبةَ سفر وحقيبةَ ملابس. ثم أخذ مقابل خدماته وركب سيارتَه وانطلق بعيدًا، وخلعت شابةٌ ذاتُ سمتٍ شديد العزم قبعتها وجعلت تنظر حولها.

انهزم جيمي في الجولة الأولى. ما كان يجب أن يسمح لها بدخول المنزل. ما كان يجب أن يدَعَ سائقَ السيارة الأجرة يترك الصندوق. لكنها قالت إن النقود التي لديها غيرُ كافية بالمرة، وهناك احتمالٌ أن يُثبت القاضي ادِّعاءاتها، ومهما كان ما سيفعله جيمي أو لا يفعله فلا بد أن يكون رجلًا نبيلًا. فجعل يُفكِّر سريعًا وكان تفكيره صائبًا. إذ حدَّث نفسه متأملًا: «مارجريت كاميرون مسافرة. لو كانت هنا في هذا الظرف الطارئ لمنحَتْني حُجرة. وسمحت لي بالنوم في فِراش ابنة أخيها، وحيث إنني أعلم مؤكدًا أن هذا ما ستفعله، فلِمَ لا أدخل من نافذتها الخلفية وأستحوذ عليه؟ سوف أروي حديقتَها وأحرصُ على رعاية زهورها حتى عودتِها، وأستطيع في مطبخها أن أطهوَ شيئًا لآكُلَه.»

مِن ثَم دخل جيمي غرفة النوم وجمع الملابس التي كان قد أتى بها، والأشياء التي اشتراها منذ سُكْناه، والصُّرة التي ضمَّت أغراض أليس لويز الشخصية. ووضَعها كلَّها في حُزمةٍ وسلَك الممشى، ومن خلال البوابة الجانبية، دخل المنزلَ من نافذة خلفية، وأقام نفسه في الحجرة التي تأكَّد له، من زينة جدرانها وموقعها، أنها تخصُّ ابنة صِهر مارجريت كاميرون. ثم ذهب إلى البقالة الواقعة في الزاوية واشترى بعض الطعام الذي ملأ به صُندوق الثلج. وعلق لافتة «مطلوب ثلج» وأخرج ما يخصُّه من حليبٍ وعصير طماطم وبرتقال في صندوق الثلج الخاص بسيد النحل، وخلال ساعةٍ كان قد طُرِد؛ لكنه ظل محتفظًا بعمله، ظلَّ يقتلع الحشائش، وظلَّ يروي الزرع ويُقلمه ويراقب النحل وأشياءَ أخرى جيدًا.

وبينما هو يعملُ بدا له أن أول ما يجبُ عليه القيامُ به هو أن يتصل بالسيد ميريديث ويتركه يتخذ الإجراء الذي يراه في صالح صغيرِه. فذهب إلى الهاتف، وبعد أن سمع كلَّ التفاصيل الأخيرة بشأن جيمي الصغير مرويَّة بحماس، طلب السيد ميريديث. فأُخبِر بأنه خارج البلدة وسيغيبُ أسبوعًا أو عشَرة أيام. عندئذٍ تردَّد جيمي. فهو يستطيع رعاية مصالح شريكه الصغير بالأسلوب نفسِه الذي سيرعى به مصالحَه. يمكنه أن يرى الإجراءَ القانونيَّ الواجبَ اتخاذُه ويُعلن عنه عندما يحينُ الوقت. فلم يكن ثمة ضرورة لإثارة قلق السيد ميريديث والكشافةِ الصغير وغالبًا ليس في وُسعِهما فعلُ شيء. وهكذا وضع جيمي السماعةَ دون أن يقول إن المنحَل كان في تلك اللحظة بين يدَيْ شخصٍ دخيل.

وبينما كان جيمي يعمل، جاءت الدخيلة إلى الحديقة في جولةٍ للمراقبة. كانت قد بدَّلَت فستانَها بآخَر، خفيفٍ وجذاب. وقد بدَت بعد إزالة آثار السفر أشبهَ بكثيرٍ من الفتيات اللواتي يراهنَّ جيمي كلَّ يوم في كل مكان. المشكلة أنها بدَت شديدةَ الشبَه بهن لدرجة أنها لم تُثِر اهتمام جيمي. فلا بد أن تكون الفتاةُ غيرَ عاديةٍ، مختلفةً، يبدو عليها ولو أقلُّ أمارةٍ من أمارات التمتع بقلبٍ كريم وثقافة رفيعة والاهتمام بالآخرين حتى تشدَّ انتباه جيمي. لكن كان جليًّا أن هذه الفتاة تُفكِّر في نفسها أكثرَ من أي شيء آخر. شاهدها جيمي وهي تتقدَّم نحوه في الممشى الخلفيِّ وقد جعلَتها أشعةُ الشمس واضحةَ المعالم فكان أولَ ما خطر له: «إنها تبدو قاسية».

ظلَّ هو يُواصل عمله. حتى صارت الفتاةُ على بُعد بِضع ياردات منه. فتوقفَت وجعلت تتفحَّصُه بإمعان.

ثم قالت: «لقد خطر لي أنه لا يوجد من الأشياء التي هنا ما قد يتدهور تدهورًا كبيرًا خلال الأيام القليلة التي سنحتاج إليها لترتيب الأوراق حتى أتمكَّنَ من الاستحواذ على أملاكي. لذلك أُفضِّل أن تتركَني في ملكي بلا منازع.»

نظر جيمي إلى الفتاة وابتسَم، فكانت ابتسامتُه ساحرة، ابتسامةً جذَّابة.

وسألها: «ألا تعتقدين أن طلبكِ ثقيلٌ جدًّا على أيِّ كائن ذي طبيعة بشرية؟ فقد ظَلِلتُ أرعى هذا المكانَ مدةً طويلة، وظللت بعضَ الوقت أعتقد أنه ملكي. وإنكِ لتتمتَّعين بثقةٍ غير عادية إن كنتِ تعتقدين أنني سأرحلُ وأُسلِّمك الأملاك المكتوبة باسمي في السجلَّات دون أن أرى أي دليل لديكِ، ومن دون أن أعلمَ إن كنتِ تستطيعين إثباتَ ادِّعاءاتك أمام المحكمة. فهل تنوين إن استحوذتِ على هذا المكان أن تعيشي هنا، وتجعَلي منه منزلَكِ؟»

أخذت الفتاة تنظر حولها. فقد أثار حنقَها شكُّ جيمي.

ثم سألته: «يبدو أنك شخصٌ متخلِّف، أليس كذلك؟» وتابعَت: «أعتقد أننا ابتعَدْنا نحو عِشرين ميلًا عن المحطة التي نزلتُ فيها حتى نصل هنا.»

فأجابها جيمي: «هذا صحيح. إنكِ تُجيدين التخمين.»

«ولماذا قد ترغب فتاةٌ في أن تنعزلَ في مكانٍ كهذا، ولديها الحقُّ في الاستمتاع بحياتها؟ فإن أكثر ما أخاف منه هو النحل. وأكثر الأشياء التي أبغضها هو الجبَل. وما أبغضه أكثرَ من الجبل هو البحر. وإن أكثر الأشياء التي لا أُطيقها بضع ساعات متواصلة هو هذا الهدوء، هذا الهدوء المضجِر المنفِّر. هل تقع أيُّ أحداث على الإطلاق هنا؟»

فأجابها جيمي: «أجل؛ فقد جئتِ بينما النحلُ قد بدأ يُغير مسكنه. والثمار قد حان قطفُها. والزرع لا بد من رشِّه. وهناك أعمالُ عزق وتنظيف وأعمال كثيرة، أكثرُ من أن يستطيع شخصٌ واحد أن يؤدِّيَها بالإتقان الذي يجب إنجازُها به.»

فقالت له الفتاة: «إنك بعبارة أخرى تقترحُ البقاء هنا ومراقبتي.»

فقال لها جيمي: «هذا قولُكِ أنتِ. أما ما قلتُه أنا فهو الاقتراح بالبقاء هنا ورعاية الأرض، ورش الزرع، ورعاية النحل.»

فقالت الفتاة: «لستُ مغفَّلة حتى لا أدركَ سبب رفضك للرحيل.»

فأجابها جيمي: «هذه استنتاجاتكِ الخاصة.» وأضاف: «هذا الجانبُ من الحديقة بحاجةٍ إلى الريِّ اليوم. وسوف أَرويه.» قال قولَه ثم واصل عملَه في هدوء.

وقفَت الفتاةُ ساكنةً لبرهة ثم قالت: «أريد مفاتيحَ الصندوق الذي كان أبي يحتفظُ فيه دائمًا بأوراقه. فلا شك أنَّ فيه أشياءَ ستُساعدني في إثبات حقوقي.»

فقال لها جيمي: «أخبري قاضيَ الوصايا بذلك. إن أراد فتح الصندوق وتسليمَ الأوراق التي بداخله لكِ، فسيُرسل موظفًا للاطِّلاع معكِ عليها وتسجيلها ووضعِها بين الأدلة قبل أن يتلاعب بها أحد.»

تصادف أن جيمي كان يتطلَّع إلى وجه الفتاة؛ بعينين مواربتين لكن يقظتين، وهو يُدْلي بقوله ذلك. فرأى أنفاسها وقد احتبسَت، ورأى وجهها وقد بُهِت، ورآها وقد سكَتَت تمامًا واستغرقَت في التفكير، وقال له الصوتُ بداخله الذي يتحدث إليه أحيانًا: «لا يروقُ لها ذلك. فهي لا تريد أن يكون أيُّ شخص موجودًا عند فتح الصندوق. لا تريد كتابةَ محضرٍ بتلك الأوراق. لا تروقها فكرةُ أن يُطلَب من قاضي الوصايا إرسال رجل ليطَّلع عليها معها.»

وفي الحال أطال جيمي الخرطومَ وجعل يعمل صاعدًا المنحدرَ حتى صار في مواجهة النافذة التي لها أفضلُ إطلالة من غرفة المعيشة.

ومضى الوقتُ على هذا المنوال. حيث أقام في منزل مارجريت وظلَّ يُراقب الفتاةَ على مدى يومين وليلة، وكان متعبًا بشدةٍ حين مرَّت الفتاة بمنزل مارجريت كاميرون فشاهدَها وهي تستقلُّ الترام متجهةً إلى المدينة. ثم مضى إلى المنزل. فلم يفهم كيف استطاعت واجهتُه أن تظلَّ محتفظةً بالتعبير نفسِه الذي طالما بدا عليها. كان سيُعزيه لو أنها بدَت مشمئزَّةً ومتكدِّرة بشدة، لكنها لم تبدُ كذلك. وإنما ظل المنزل يُطلُّ على الطريق وجانب الجبل مبتسمًا تمامًا ابتسامةَ الترحيب الهادئة الرائقة نفسَها التي طالما طالَعَه بها. حاول فتح الأبواب، لكنها كانت جميعًا موصَدة. ونظر من النافذة، لكنه لم يستطع أن يرى أيَّ شيء سوى صندوقِ الأمتعة واقفًا في منتصف حُجرة المعيشة وملابس الفتاة وقد بُسِط أغلبُها على ما يبدو على مقعد سيد النحل. رأى أن هذا الوقتَ سيُصبح مناسبًا للعمل في حديقة مارجريت كاميرون، فذهب إليها وفتحَ خرطوم المياه. وكان منهمِكًا حين سمع خلفه خطواتٍ خفيفةً لحذاءِ شاطئ فالتفتَ ليجد الكشافة الصغير في وجهه.

«مرحبًا! كيف الأحوال؟»

«بل كيف الأحوال لديك؟» بادرَه جيمي متفاديًا الإجابةَ.

أجابه الكشافة الصغير: «بخير!» ثم واصل كلامَه فقال: «ما زلتُ أتولَّى كلَّ تلك الأشياء التي أخبرتك بأنني سأفعلها لطفلنا. سوف يصبح طفلًا لطيفًا للغاية. إن أمي مهووسةٌ به. إنها تحتضنُه وترعاه تمامًا كما كانت تفعل مع جيمي، إلا أنها لا تستهويها زجاجاتُ الرضاعة. فهي تقول إن تثبيت الزجاجة أمرٌ مزعج، وتقول إنه مؤسفٌ جدًّا أن يُكتب على أيِّ طفل أن يفقد أمه؛ لأنها تقول إن الطفل، وهو في مثل تلك السنِّ الصغيرة، يحصل على أشياءَ أخرى من أمِّه بخلاف اللبَن. فهي تقول إنه يحصل على فيضٍ متواصل من الحب. تقول إن الرضيع الذي ينام على صدر أمِّه وينظر في عينَيها ويضع يدَه الصغيرة على عنقها، يحصل مع الغِذاء على شيءٍ يبقى معه طَوال حياته. وتقول إنه ليس من الطبيعيِّ ولا الصحيح أن تضَع الرضيعَ وحده تمامًا على وسادةٍ مثبتًا زجاجةَ رضاعة قديمة في فمِه. لكن ليس هذا حالَ جيمي؛ لأنني أحملها من أجله، ولحُسن الحظ أنه جاء أثناء الإجازة المدرسية، فلن تُصدق كلَّ الأشياء التي أفعلها حين لا يراني أحد. فإنني أحملُ الزجاجة وأحيط جيمي بذراعَيَّ فربما أستطيع بذلك أن أُشعِرَه نوعًا ما بأنه حصل مع الحليب على فيض الحب نفسِه الذي حصَل عليه جيمي شقيقي. لكن الحقيقة أن جيمي صغيرَنا رائعٌ للغاية. يا إلهي! ها أنا قد استخدمتُ كلمة نانيت! إنه النعتُ الوحيد الذي تعرفُه نانيت. فحذاؤها رائع، وفستانها رائع، وقَصَّة شعرها رائعة، والحفل رائع، والصورة رائعة، وقد سمعتُها كثيرًا جدًّا حتى إنني أتمنَّى ألا أصبح أنا الآخَرُ رائعًا أيضًا!»

ضحك جيمي.

وقال له: «لستَ بحاجةٍ إلى أن «تصبح رائعًا» يا سيدي قائد الكشافة.» وتابع: «فطالما كنتَ في غاية الروعة منذ ولادتك.»

بدا السرور جَليًّا على الكشافة الصغير. فقد طالت قامتُه قليلًا، وهز رأسه بمرح.

«حسنًا، مَن عساه يرمي النردَ فيُحسن الرمية، ويُسيطر على مجموعة من فتيان الكشافة، ويفعل جملةَ الأشياء الأخرى الكثيرة التي ظللتُ أخوضها طَوال حياتي، ولا يكون رائعًا جدًّا؟ وأؤكِّد لك أنني حريص على هذا المكان! بل إن حماسي له شديد. كنت أخبر أمي هذا الصباحَ أنني بمجرد أن أفرُغَ من دراسة «القراءة» و«الكتابة» و«الرياضيات»، سآتي إلى هنا وأباشرُ عملي. إنها تقول إنني سأذهب إلى الكلية، لكنَّ هناك أشياءَ كثيرة جدًّا لا تعلمُها عني كما ينبغي لها، والكلية واحدةٌ منها.»

ثم أثبتَ قائد الكشافة لجيمي أفضلَ إثباتٍ ما كان قد زعمَه. فقد شعر جيمي به يُطالعه بنظرة طويلة. وشعر بجسده الصغير يقتربُ منه. وشعر بيده نظيفةً على غير العادة تتلمَّس جانبَه الأيسر. وسمع صوتًا في غاية الرِّقة والعذوبة حتى إنه ذكَّره بصوتٍ معيَّن على الهاتف يعرفه.

إذ قال الصوت بعويل: «أوه، يا جيمي! هل تمزَّق جانبك؟ هل ستُضطرُّ إلى اتباع كل إجراءات عِلاجه مرةً أخرى؟»

وضع جيمي ذراعَه حول الكشافة الصغير.

وقال: «مهلًا، بالقطع لا، إن جانبي على ما يُرام! فهو يتحسَّن كلَّ يوم. حتى إنني أنوي ألَّا أضعَ له ولو ضمادة أو رباطًا خفيفًا بعد شهرَين أو ثلاثة.»

رفع قائدُ الكشافة ناظرَيه.

وقال: «ما الأمر إذن؟»

تردَّد جيمي.

«يبدو وجهك شاحبًا وعيناك متعَبتان بشدة. تبدو في غاية الإنهاك. تبدو تمامًا مثلي حين يُشاغب فِتيان الكشافة وأُضطرُّ إلى ضربهم. أحيانًا أُطالع وجهي في المرآة وأنا أغسلُ أسناني فأستطيعُ أن أرى كم هي كبيرة المسئولية التي على عاتقي. أستطيع أن أرى ذلك حول عينَيَّ. والآن أستطيع أن أرى أشياءَ حول عينَيك. فما الخطب؟»

فكَّر جيمي سريعًا. لم يُرد أن يخبر الكشافة الصغيرَ ما الخطب، في غياب السيد ميريديث. إذ لم يُرد أن يَشغَل السيدة ميريديث بتعقيداتٍ قانونية وهي ترعى رعايةً مفرِطةً الرضيعَ الذي تحمَّلَت مسئوليته. فكر سريعًا وبإمعانٍ وجعل الموقف يمر بسلام.

فقد قال: «إنك على حق أيها الكشافة الصغير. أنت قويُّ الملاحظة بعضَ الشيء. لقد كنتُ قلقًا ليلة أمسِ ولم أنَم جيدًا. إذ ظللتُ أراقب أرضَنا وأرض مارجريت.»

فقال قائد الكشافة: «ألم تَعُد مارجريت بعد؟ تبدو الأمور محاطةً بسرية تامة.»

فقال جيمي: «أعتقد أنها ذهبَت إلى المدينة في زيارةٍ بهدف الترفيه مع مولي التي تتحدَّث عنها دائمًا. وأنا أرعى لها شئونَها في غيابها.»

قال قائد الكشافة مبتسمًا لجيمي ابتسامةً عريضة: «أعتقد أنني سأذهب إلى هناك وأُلقي نظرةً على أرضي.»

فقال جيمي: «حسنًا.»

لم يلحظ أيٌّ منهما أن الدخيلة كانت قد مرَّت بمنزل مارجريت كاميرون بينما كانا يرويان حديقتها وفتحَت الباب الأمامي ودخلَت المنزل المرحِّب بالزوار. قفز قائدُ الكشافة من فوق السياج، وسار في الممشى المفروش بالحصى هَرولةً، ولوَّح مُحييًا شجرةَ الجاكرندا، وانعطفَ مارًّا بمقدمة المنزل لسببٍ بديهي؛ ألا وهو أن الفدان المكتوب في سجلَّات المقاطعة باسم جين ميريديث يقعُ على يمين المنزل حين تأتيه من المدخل. وحين عبَر الطفل الممشى كان ثَمة حركةٌ ملحوظة في غرفة المعيشة، ونفحةُ عطْر كان وقْعُها على الكشافة الصغير مثلَ وقع نفحة قوية من حمض الفورميك، الذي يُفرزه الإنسان عند الشعور بالخوف، حينما يشَمُّها حيوانٌ ما. بفيضٍ هائل من الاطمئنان عبَر قائد الكشافة الرِّواقَ بقفزة واحدة، وفتح الباب الأمامي، فوجد في وجهه صندوقَ الأمتعة المفتوح، والفساتين المبسوطة على مقعد سيد النحل، ووجد أيضًا فتاةً ذاتَ شعر مصبوغٍ صبغةً غير لائقة ووجهٍ مبالَغ في زينته، فتاة بدت لعينَي قائدِ الكشافة مزيجًا فريدًا من كلِّ الأشياء التي لا يجدرُ أن تجدَها في أي فتاةٍ لطيفة. جعل الصغيرُ يُحدق مشدوهًا.

«كيف هذا؟» كانت التحيةَ التي وجَّهها إلى الدخيلة. وأشار بيدَيه معبرًا عمَّا كان يَجيش في نفسه، واحدةٍ في اتجاه صندوق الأمتعة، والأخرى في اتجاه المقعد.

قالت الفتاة: «مَرحبًا أيها الصغير. إنه لَمن حُسن حظي أنك قد جئتَ الآن! خذ العشَرة السنتات هذه واذهب إلى أقرب بقالة وأحضر لي زجاجةَ حليب، وحين تعود لي بها سأعطيك نكلةً مقابل ذَهابك.»

وقف قائد الكشافة ساكنًا وجعل يُحدق في الفتاة، نظر إليها طويلًا وبإمعانٍ وتذكَّر شيئًا لكنه لم يستطع أن يعرف ما هو على وجه التحديد.

«لستِ؛ لستِ أمَّ جيمي، أليس كذلك؟ بالطبع لا يمكن أن تكوني أمَّ جيمي؛ لأن مجيء جيمي جعلها في غاية التعب حتى إنها اضطُرَّت إلى الانتقال إلى الرفيق الأعلى رغم أنفِها. فمَن أنتِ وماذا تفعلين هنا؟»

فأجابته الفتاة قائلةً: «هذا أمرٌ لا يخصُّك. اجْرِ وأحضِر لي الحليب، وعندي بعد ذلك نحوُ خمسين حاجةً أريدك أن تقضيَها. تستطيع الحصول على جزءٍ كبير من الفكة التي لديَّ خلال الساعة أو الساعتين التاليتَين إن كنتَ نشيطًا.»

وقف قائد الكشافة دون حَراك. وبعينَين محدقتين، تكادان أن تكونا مغتاظتَين تفحَّص وجه المرأة. تفحَّص عينَيها على وجه الخصوص باستغراق. صندوق الأمتعة والملابس، والروائح الكريهة للصابون الرخيص والعطور الرديئة، كلُّها أشياءُ انطبعَت في ذهن الطفل بالسلب. هذه المرأة في المنزل وجيمي في منزل مارجريت كاميرون، لا يفعل شيئًا حيالَ الأمر! ذلك هو طبعُ جيمي بالضبط. طالما كان من رأي الكشافة الصغير الخاصِّ أن جيمي كمقاتلٍ قد يصمدُ بين الألمان، لكنه لم يُبدِ رغبةً كبيرة في الصمود حين أراد أحدُ الأشخاص أن يُعطيه جزءًا رائعًا من أملاكه. وبطريقةٍ ما أخذت تتطوَّر الفكرةُ التي بزغَت في رأس قائد الكشافة واتخذَت شكلًا. فمدَّ يده الصغيرة.

وقال: «أعطني العشَرة السنتات! سأقضي لكِ حاجاتكِ بالطبع!»

قابضًا على العشرة السنتات بإحكام في إحدى يديه؛ قفَز قائدُ الكشافة من على السياج وحطَّ قُرب قدمَي جيمي، وعندئذٍ جعل الطفلُ يُحملق فيه بعدوانية.

«مَن تلك المرأة ذات الماكياج السيئ والتنورة القذرة؟»

كان السؤال موجزًا ومباشرًا.

فسأله جيمي: «هل هناك أحدٌ في المنزل؟»

كان مرتبكًا للغاية حتى إنه تحدَّث بلُكْنة أبيه (الاسكتلندية) التي كان يتحدث بها في طفولته.

صاح الكشافة الصغير باللكنة نفسها: «أقول لك إن ثمة أحدًا في المنزل!» وتابع: «ثَمة مهرِّجةٌ هناك»! تلك المرأة غطَّت ملابسُها مقعد سيد النحل بالكامل وصندوقها مفتوح في منتصف الغرفة! لماذا أدخلتَها المنزل؟»

فقال جيمي: «هي التي دخلَته.»

سأله الكشافة الصغير بحدَّة: «ألستَ كبيرًا كفايةً لمنعها؟» واشرأب برأسه لينظرَ نحو جيمي الذي يفوق طولُه ستَّ أقدام.

فقال جيمي: «بلى، إنني كذلك، إن كنتُ سأستخدم القوة، لكنني لستُ معتادًا على استخدام القوة مع السيدات.»

«ولذلك انسحبتَ وجئت إلى هنا مسلِّمًا أملاكَنا لتلك المرأة الشبيهة بجُبن ليمبورجر (نوعٌ من الجبن قويُّ الرائحة)!»

قال جيمي: «للأسف هذا ما فعلتُه.»

قال قائد الكشافة: «حسنًا، لقد وضعتَ أكبر عقَبة وضعها أحدٌ يومًا في طريقي. إنني متأكد أنك خرجتَ مثل ديكٍ رومي وديع، دون حتى أن تُطلق صيحتَه العدوانية!»

فقال جيمي: «لقد طلبتُ منها أن تخبر قاضيَ الوصايا بالأمر.»

«آه!» صاح قائد الكشافة بأجشِّ وأخشنِ نبرة سمعها جيمي تأتي من حُنجرته الصغيرة. «آه! ما نفعُ قاضي الوصايا؟ لقد كنتَ تعرف سيد النحل وتعرف أنه لم يكن ليفعل أيَّ شيء غير منصف أو غير صحيح. إن أردت أن تكون متراخيًا، فكُن كذلك! بإمكانك أن تُعطيَها نصيبَك إن كنت تريد ذلك، لكن تأكَّد» راح يتكلم معبرًا بيدَيه «تأكد، يا سيد جيمس لويس ماكفارلين أنك لن تُضيع النصف الخاصَّ بي من حديقة النحل تلك؛ لأنها كانت الفرصةَ الوحيدة التي تسنَّت لي يومًا للحصول على حِصان. لم يكن السببُ لعدم حصولي على حصان أن أسرتي ليس لديها المالُ الكافي لشراء حصان، وإنما لأنني لا أستطيعُ الاحتفاظ بحِصان في المدينة. أما هنا فلا أرى سببًا يمنعُني من ذلك. فلا يوجد جيران بجانبي ليعترضوا. سأرى إن كانت تلك المرأةُ ذاتُ الشعر المستعار الأشقر هناك ستستطيع أن تَحول بيني وبين امتلاك حصان!»

مدَّ الكشافة الصغير يدًا وكشف عن عشَرة سنتات.

«سأذهب إلى البقالة وأشتري لها حليبًا، ويوجد «خمسون مهمةً أخرى» بعد ذلك»، ثم على نحوٍ مفاجئ قلَّد الكشافة الصغير تلك المرأةَ التي في المنزل بالنبرة والأسلوب نفسِهما اللذَين تعرَّف عليهما جيمي، إذ قال: ««يوجد نحوُ خمسين مهمةً أخرى بإمكانك إنجازُها لي، أيها الصغير».» ثم تغيرت نبرتُه مرة أخرى. واستأنف: «تأكد تمامًا أن «الصغير» سوف يؤدي المهامَّ، فسوف يجد «الصغير» طريقةً ما ليُخرِج بها تلك المرأةَ من المنزل وسوف يُخرجها منه بأقصى سرعة. فقد تصادف أن «الصغير» على علم بأشياءَ جمةٍ لا تعرفها أنت، وقد بدأ لتوِّه يُدرك من هي تلك الخَصْم!»

ثم لوَّح بيديه؛ إحداهما مبسوطة، والأخرى قابضة على العشرة السنتات. «أؤكد لك أن «الصغير» يدَّخر سهمًا أخيرًا لتلك الخصم التي بالداخل! فإن «الصغير» مَدينٌ لسيد النحل بأن أصيبَها فلا أتركَ فيها موضعًا سليمًا! ربما تظن أنني لا أعلم حقيقتها الآن. ربما تظن أنني لا أعلم مَن الذي دفع بماري الصغيرة فحطم ظهرَها وجعلها تموت! فلترَ ماذا سأفعل! إن كنت لا تنوي المقاومة، فإنني سأقاوم. كيف دخَلتَ هذا المنزل؟»

فأجابه جيمي قائلًا: «سرتُ عبر الباب.»

فقال الكشافة الصغير: «حسنًا. سوف أهاتف أمي وأكلِّف فِتياني بالمهمة، أما أنت فضَع أذنك على الأرض وأصغِ للمعركة. وثِقْ أن «الصغير» سوف يُشعل فتيل الحرب!»

أنزل قائد الكشافة قدمَيه محدِثًا صوتًا معبرًا، وفي الحال سمع جيمي رنين الهاتف وسمع أيضًا صوتَ الكشافة الصغير.

«مهلًا يا أمي! لقد سافرَت مارجريت كاميرون وشريكي هنا بحاجةٍ إليَّ. غالبًا سأُضطَرُّ إلى أن أطهوَ له العشاء. وربما لا أعود إلا متأخرًا. إن تأخَّر الوقت كثيرًا، فسيصحَبُني. لا تقلقي عليَّ. إنني بخير، لكن هذا الطفل الكبير الذي هنا بحاجةٍ إلى رعاية أكثرَ من جيمي الطفل. وسوف أقصُّ ذلك على كل الناس!»

ارتطمَت السماعة بالحامل ارتطامًا كاد أن يُحطمهما، ثم جاء قائد الكشافة من الباب الأماميِّ ومضى يجري بخفةٍ في اتجاه البقالة الواقعة في الزاوية بعيدًا. أما جيمي فقد جلس وجعل يُفكِّر. ثم ذهب إلى الهاتف واتصل بجون كاري. وسأله إن كان بإمكانه الاعتمادُ عليه ليُساعده إذا أنذَر أيٌّ من النحل بتغيير مكانه في اليوم التالي. فكان جوابه بالموافقة. حيث سيأتي كاري في الصباح ويتفحَّصان القفائرَ، ويُحضران بعض القفائر الجديدة الجاهزة لسكن النحل.

وبعد قليلٍ رأى جيمي قائدَ الكشافة وهو يدخل من البوابة الأمامية ويسير في الممشى ومعه زجاجةُ الحليب. ورآه بعد ذلك يحمل رزمةً من الأوراق وأشياءَ متفرقة إلى فرن النُّفايات. ثم رآه وهو يجمع الطماطم والخَضراوات، ويقطف الفاكهة ويحملُها إلى المطبخ، وحين اقترب ليفهمَ ما كان يحدث، رأى أثناء مروره بإحدى النوافذ قائدَ الكشافة واقفًا في منتصف حجرة المعيشة يُعلق الفساتين على شماعات معاطفِ سيد النحل ويُعلقها في خِزانة ملابسه. وبعد قليل خرج إليه الكشافةُ الصغير.

كان جيمي مندهشًا من التعبير الذي ارتسم على الوجه الصغير. فقد صار غامضًا تمامًا. لا يُشبه أي شيء رآه جيمي يومًا. كان شاحبًا قليلًا، وجامدًا قليلًا، وثابتًا لأقصى درجة. فقط حين دنا جيمي بنظره رأى أن جسدَه كلَّه كان متأهبًا مثل وتر كمان، مشدودًا وموترًا ومستعدًّا للاستجابة بالنَّغْمة التي تُطلَب منه. وعلى نحوٍ مفاجئ بزَغ في قلب جيمي شعورٌ بالثقة. فقد قال سيد النحل إن الكشافة الصغيرَ على علمٍ بأسراره. وعندئذٍ بدا لجيمي أنه سيُصبح من الحكمة أن يتولَّى هو الحراسةَ بينما يتصرفُ الكشافة الصغير بِناءً على ما لديه من معلومات أيًّا كانت.

قال قائد الكشافة: «إنها تُجرب كل المفاتيح التي في المنزل لتفتحَ بها صندوقي، وقريبًا جدًّا ستجد مِفتاحًا مناسبًا، وذلك الصندوق إنما هو مليءٌ بأشياءَ لا تخصها البتة. فبداخله أغراضُ ماري هايلاند وأغراض ماري الصغيرة. وبه عقودُ زواج وحُجَج. وبداخله أوراقُ عمل. وبداخله الاتفاقُ الموقَّع الذي يجعل تلك الفتاةَ التافهة تستقرُّ هناك مدى الحياة. فإنني أعلم مَن هي. وأعلم ماذا تظن أنها فاعلة. وصدِّقني إنها ستستطيع أن تفعلَه إن فتحَت ذلك الصندوق، وذلك الصندوق يخصُّني. فماذا ستفعل حيال ذلك؟»

سأله جيمي: «أين المفتاح؟»

فأجابه الكشافة الصغير: «إنه مع أبي.» وتابع: «لقد كان بين الأشياء التي بحوزةِ سيد النحل في المستشفى، ويومَ تسوية الأمور أعطاه قاضي الوصايا لأبي ليحتفظَ به حتى أبلغَ السنَّ القانونية. إنه في مكتبه في المنزل. بإمكاني إحضارُه بالذَّهاب سريعًا إلى هناك، لكنني لن أفعلَ ذلك. فقد تذكرت أنها لن تستطيعَ أن تفتح ذلك الصندوقَ بأيِّ مفتاح تجده في المنزل، ولا أي مفتاح يُصنع لها؛ لأن ذلك الصندوقَ به قُفلٌ من نوعٍ خاص فهناك نقشٌ لورقة شجر حيث يجب أن تضغطَ على زنبركٍ حتى يعمل القُفل. في تلك الأيام حين كنتُ أفرُغ من كل الأعمال وأستعدُّ للذَّهاب إلى منزلي، وكان سيد النحل يشعر بوحشةٍ شديدة لشيء حيٍّ وشخص ليتحدَّث إليه، كان يسمح لي بفتحِه بتلك الخطوات ويُريني ما بداخله ويسمحُ لي بمطالعة الصور ورؤيةِ ما بداخله من الأشياء الخاصة بماري الكبيرة وماري الصغيرة. وذلك ما كان يجول بخاطري. فثَمة صورةٌ في الصندوق لتلك المرأة وهي صغيرة، وكانت تبدو قميئةَ الشكل كما تبدو الآن. وقد كُتب عليها اسمٌ وتاريخ، أيضًا، ومن شأن ذلك أن يردَعَها إلى حدٍّ ما إن لم تُراعِ ما ستُخبر به قاضيَ الوصايا. ولا يمكنها أن تفتح ذلك الصندوقَ إلا إذا حطَّمتْه بمِطْرقة، فإن أقدمَت على ذلك بالفعل … ويحي!»

كان الوجه الذي تطلَّع نحو جيمي وجهَ شخص وثنيٍّ صغير يُحقق العدالة. لم يبدُ عليه ذرةُ رحمة، ولم يَشِ بلمحةِ تسامُح. كان عازمًا، وساكنًا مثل وجه تمثال العدالة الذي يحمل الميزان فوقَ مقعد القاضي في مكتب محكمة الوصايا. وقد شعر جيمي بقُشَعريرة باردةٍ تتسلَّل إلى ظهره. ولأول مرة خاطبَ شريكه الصغير باسمه.

إذ خاطبَه قائلًا: «توخَّ أشدَّ الحذر فيما ستفعلُه يا جين. لا أدَّعي أنني لا أتألمُ بالغَ الألم من احتمالِ طردي من الحديقة، والتنازلِ عمَّا أراد لي سيدُ النحل امتلاكَه، لكن مهما كانت أهميةُ نصيبك لديك فهذا لا يُبرر أن تفعل شيئًا فظيعًا فتؤدِّيَ بنفسك إلى السجن أو يَشينُك طَوال حياتك. ثَمة طريقة واحدة لعلاج هذه الأمور، وهي تركُ العدالة تأخذ مجراها.»

جاءه قولُ الكشافة الصغيرِ متَّفقًا معه: «هذا ما خطَر لي بالضبط!» وتابع: «لا أعتقد أنه لا يوجد عدالةٌ في هذه القرية، ولا أعتقد أنها لن تأخذَ مَجراها إذا قفزتُ في الوقت المناسب من مكمني مثل زعيم من الهنود الحمر. لقد أخبرتُك من قبل، وأقول لك الآن ابتعِد عن المسألة وشاهِد ما سأفعله!»

استدار الكشافةُ الصغير وعاد أدراجَه إلى المنزل. وبينما يُواجه الدخيلة، وبنبراتٍ مهذَّبة دمثة، أبلغَها هذه الرسالة: «يقول السيد ماكفارلين إن مفاتيح صندوق السيد ورذينجتون في عُهدة السيد ميريديث، وإن السيد ميريديث سيظلُّ خارج البلدة عدةَ أيام ولا يمكن إحضارُها قبل رجوعه.»

قالت الآنسة ورذينجتون: «حسنًا، وأنا ليس لديَّ وقتٌ لأنتظر!» وتابعَت: «لا بد أن أطَّلع على الأوراق الموجودة في ذلك الصندوق. لا بد أن أفتحَه حتى إن كنتُ سأحطِّمه!»

ابتسم الكشافة الصغير.

«كان السيد ورذينجتون قد قال إن الصندوق جاء من الجهة الأخرى من المحيط مع أغراض جَدِّه المنزلية وهو منحوتٌ نحتًا يدَويًّا وكان في الماضي يخصُّ إحدى الملِكات. فإن حاولتِ كسْرَه لفتحِه وأتلَفْتِه، وإن لم يُرضِ ما وجدتِه بداخله قاضيَ الوصايا بشأن مَن تكونين وما تفعلينه هنا، فسوف توقِعين نفسَكِ في مشكلةٍ خطيرة؛ لأننا هنا في كاليفورنيا نبدأ تربيةَ الأطفال وهم ما زالوا يرضعون من زجاجتهم — وهي مخالفةٌ للطبيعة ولا أحبِّذها، لكنني رأيتُ أنها ستبدو أكثرَ تهذيبًا من ذكر الطريقة الأخرى للرضاعة — على أي حال، نبدأ تربيتَهم من تلك السنِّ المبكرة على الانحناء احترامًا أمام أي شيءٍ «عتيق». ونضربهم على رءوسهم ضربةً شديدة إن لم يفعلوا ذلك. فإننا نعشق العتيقَ من الصناديق والطاولات والمقاعد والأبسِطة وغيرها، ويحسُن بكِ توخِّي الحذر لأنه ليس مقبولًا في كاليفورنيا أن تُتلفي أيَّ شيء عتيق.»

قالت الآنسة ورذينجتون: «مهلًا، فلتُخبرني!» وأضافت: «مَن أنت؟»

«آه، إنني طفلٌ من هذا الحي. ما هو طلبُكِ التالي؟»

«جُرَّ صندوقَ الأمتعة ذلك إلى حجرة النوم.»

تقدم قائد الكشافة وانحنى عند أحد زوايا الصندوق، ونظر عن يمينه وعن يساره ثم قال بتهذيب: «أرجوكِ أن تحملي الطرَفَ الآخَر. فهذه الأبسطةُ عتيقةٌ هي الأخرى ولا يجوز جرُّ الأثاث فوقها، كما أن صندوقَكِ يَزيد عن حجمي مرتَين، مع أنه مجردُ صندوق أمتعة.»

ترددت الآنسة ورذينجتون لوهلةٍ ثم تناولَت الطرفَ الآخر للصندوق وساعدَت في حمله إلى غرفة نوم سيد النحل. نظر الكشافةُ الصغير إلى خِزانة الملابس المفتوحة التي أُخِذت منها ملابسُ جيمي، والأدراج المفتوحة التي أُخذ منها متعلقاته، فهاجت بداخله مشاعرُ غضب كادت تُخلُّ بطابَعِ الرصانة الذي حاول قائدُ الكشافة الصغيرُ الحفاظَ عليه. كان التساؤل الذي طرَأ في الرأس الصغير آنذاك هو ما إن كان بقبضاتٍ محكَمة بما يكفي وعضلاتٍ مفتولة كما ينبغي قادرًا على مهمةِ إلقاء هذه الدخيلة من النافذة لتهبطَ على جانبٍ شديد الانحدار من الجبل يؤدِّي بها إلى البحر. لكنَّ عقل الصغير هو الذي علا صوته.

«امضِ وألقِ بها من النافذة! أغلبُ الظن أن جيمي ضخمُ الجثة رقيق القلب سيكون واقفًا بالخارج ليتلقَّفها في مِلاءة ويحملَها إلى الداخل ويضَعَها في الفراش ويظلَّ واقفًا طَوال الليل بنفسه ليرى إن كانت ستفتحُ ذلك الصندوق أم لا، واحتمال ألَّا يمنعَها إن فعلَت. فما الفائدة إن رميتُها؟ فإنه لن ينفعَني شيئًا. من الأفضل أن أُلازم المكان وأواصلَ مهمتي فحسبُ لأرى ماذا ستفعل.»

مِن ثَم أدَّى قائد الكشافة عددًا لا حصر له من المهامِّ وشاهد ودماؤه تكاد تغلي حرفيًّا المنزلَ وهو يُفتَّش من أعلاه لأدناه. فقد أُفرِغَت الأدراج، ونُقِلت الكتب من أماكنها على الرفوف. حتى نَفِد أخيرًا صبرُ الكشافة الصغير.

«حسنًا، ما الذي يُثير جزَعَكِ؟»

فزعَت الآنسة ورذينجتون بعض الشيء.

«هل تعتقدين أنكِ ستعثرين على جوهرة كوهينور أو طبولِ الخطر؟»

سألت الآنسة ورذينجتون بحدة: «ماذا تقصد؟»

فقال قائد الكشافة: «يبدو غريبًا جدًّا أن أسمعَكِ تقولين إنكِ الآنسة ورذينجتون، ثم تتحدَّثين بلهجةٍ دارجة. أعتقد أن سيد النحل كان سيُعلمكِ وأنتِ في الثانية من عمركِ تقريبًا أن تتحدَّثي بلهجةٍ رصينة، ولم أفترض أنكِ ستعرفين ما الذي كنتُ أشير إليه، لكن من الغريب أنه لم يُثقِّف ابنتَه. فهو مَن علَّمَني أن كوهينور هي أكبرُ ماسةٍ في العالم، أما طبول الخطر فهي أكبرُ أحجار زمرُّد. لقد علمتُ بها من أحد الأفلام. لقد كان مثيرًا أيضًا. وبه فتاةٌ غايةٌ في الحسن، فتاةٌ داكنة العينَين والشعر وتضعُ كمية معقولةً من أحمر الشفاه ومساحيقَ زينةٍ بسيطة، وكانت تُجيد التمثيلَ علاوةً على ذلك! أرى أنها إنما كانت رائعة!»

فقالت الآنسةُ ورذينجتون: «ما دمتَ قد تعلمتَ تعليمًا رفيعًا فلماذا تتحدَّث العامية؟»

ضحك الكشافة الصغير.

«أوه، لا بد أن أستخدم هذا النوع من اللَّغْو حتى أحافظَ على حُظْوتي لدى فِتْيان الكشافة. فإنني إن تحدثتُ معهم بالأسلوب الذي يجعلُني أبي أتحدثُ به في البيت فلن أبقى قائدَ الكشافة على مجموعتي مدةً طويلة. إننا حين نلعبُ نُمثل أدوارَ هنود وقطَّاع طرق وقراصنة وأشياءَ من ذلك القبيل، ونتحدَّث بتلك الطريقة ليبدوَ الأمرُ أكثرَ واقعية، وعلى أي حال لا أحد يتوقَّع من طفلٍ في العاشرة من العمر أن يتحدثَ مثل امرأةٍ في الثلاثين.»

قالت الآنسة ورذينجتون محتدَّة: «لستُ في الثلاثين!»

فقال قائد الكشافة: «معذرة، أعلم أنكِ دنوتِ من الأربعين. وإنما قلتُ ثلاثين من باب التأدُّب.»

فقالت الآنسة ورذينجتون: «لقد فرَغتُ من أمرك الآن.» وتابعَت: «يمكنك العودةُ إلى منزلك، لكن يُفضَّل أن تعود مرةً أخرى في الصباح لنرى إن كان هناك ما يُمكن أن تفعلَه من أجلي.»

قال قائد الكشافة: «حسنًا. سوف آتي في الصباح، أما الآن فسأنصرف إلى منزلي متى دفعتِ لي أجري على ما فعلتُه اليوم. فقد ظللتُ أدور بنشاطٍ بالغٍ وقتَ ما بعد الظهر بأكملِه، وإنني أتضوَّر جوعًا لدرجة أنني على استعدادٍ لالتهام كلِّ السجق الموجود في كشك الزاوية!»

فقالت الآنسة ورذينجتون: «سوف أدفعُ لك في الصباح.»

فقال الكشافة الصغير: «سآخذ أجري الآن.» وتابع: «فليس معي فكَّة، كما أنني جائعٌ كما قلتُ لكِ.»

أخرجَت الآنسة ورذينجتون محفظة جيبها، وأخذَت منها بعضَ الفكة الصغيرة وأسقطتْها في اليد الممدودة. فعدَّها الكشافة الصغير مرتين.

«مهلًا، هل تُلقين بهذه الفكة إلى الطيور؟»

بيد أنه كان استفسارًا مرحًا. فقد قرَّر قائدُ الكشافة استئنافَ مهمته في الصباح.

«متى تريدين أن آتي؟»

«يُفضَّل أن تأتيَ قرب التاسعة.»

فقال قائد الكشافة: «حسنًا؛ قد أستطيع المجيءَ قبل ذلك بساعةٍ فأزيل الغبارَ عن الأثاث أو أنظِّم الأشياءَ من أجلكِ، أو ألمع أحذيتَكِ. فإنني كثيرًا ما ألمع أحذيةَ أمي. وأعرف الطريقة.»

فقالت الآنسة ورذينجتون: «فليكن؛ فلتأتِ مبكرًا كما تريد.»

فقال الكشافة الصغير: «سوف آتي مباشرةً، من أجلكِ أنتِ؛ لأنني أكترثُ لأمركِ، ولذلك أؤكِّد عليكِ قبل أن أذهَب أنه من الأفضل أن تتذكَّري كيف تُقدِّر كاليفورنيا الأثاثَ العتيق.»

أغلق الكشافةُ الصغير البابَ ومضى في الممشى، وقفز من فوق السياج وقال لجيمي: «لا أستطيع أن أتعلَّل بسببٍ للبقاء هنا أكثرَ من ذلك، كما أنني أتضورُ جوعًا. إذا استطعتَ البقاء ليلًا وفِعل شيء لردعِها عن ذلك الصندوق حتى الصباح، فسوف أستأنفُ مهمتي بعد السابعة بوقتٍ قصير وسأظلُّ مُرابطًا عليها حتى أتأكدَ من أنه ليس في وُسعي شيء.»

ثم اتَّخذ خطَّ سير نحو أقربِ كشك للسجق. وبعد عدة ياردات استدار الكشافةُ الصغير.

«دعني أُنبِّهك إلى شيء؛ إن استبدَّت بها الرغبةُ في الليل شأنَ المجرم العتيد، فربما تُحاول كسر صندوقي. لذلك من المستحسَن أن تأخذ المطرقة أو أيَّ شيء يمكنها خلعُه به من مخزن الأدوات وثبِّت النوافذَ من الداخل حيث تُقفل وأوصِدْها من الخارج. فإن لم تستطع العثورَ على أي شيء مناسب لتستخدمَه في التكسير، فربما تترك الأمر حتى الصباح.»

وكان ذلك ما فعلتْه الآنسة ورذينجتون. فقد كانت متعبةً هي نفسها. ولتكاسُلِها عن الطهو، تناولَت خبزًا وحليبًا، ثم تحمَّمَت، وذهب إلى الفراشِ مبكرًا، وكانت لا تزال نائمةً حين وصل قائدُ الكشافة في الصباح. ومعتمدًا على التأكيد باستدعائه إن لزمَ الأمر، جعل جيمي يترنَّح من قلة النوم، ثم استلقى على الفراش وراح في النوم. ومِن ثَم أصبح الموقفُ في ذلك اليوم معتمدًا على الكشافة الصغير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤