الفصل الحادي والعشرون

ثم تأتي رؤية

حين بلغ جيمي الطريق، عبَره ومضى هابطًا عبر جسر منحدر يؤدِّي لرمال البحر الساخنة وأمواجه المتلاطمة. وأثناء نزوله، لاحظ على يمينه صخرةً ناتئة بطريقةٍ جعلت منها مقعدًا ذا جاذبيةٍ خاصة. ومن خلال ملمسِ الكيس الذي يحمله ظنَّ أنه عرَف ما بداخله. ومِن ثَم مضى جيمي ليجلسَ على الصخرة، التي ظلَّلتْها من ناحيةٍ نبتةُ داتورا ضخمةٍ ضخامةً غير مألوفة، وقد تألَّقَت تألقًا شديدًا أبواقُها البيضاء الشبيهة بالزنابق بحوافها الزرقاء. وعلَت بجانبها نبتةُ خَطْمي وردي، بارتفاع عشر أقدام، في سحابةٍ زاهية ذاتِ لون قَرنفُلي ضاربٍ للوردي زادها تألقًا أوراقٌ خضراء فِضية شبيهةٌ بأوراق القيقب. مدَّ يده في جيبه، وأخرج سكِّينَه وفتحها، وفتح الكيسَ أيضًا، ووجد ما توقَّعه؛ ثمرَتَي طماطم كبيرتَين جدًّا وشديدتَي الحُمرة. فقد حان ميعادُ احتسائه عصيرَ الطماطم الصباحي. وقد اهتمَّت جين بحاجته؛ إذ رأت أنه إن كان لا يستطيع الحصول على العصير، فبإمكانه تناولُ الطماطم والحصول على فيتاميناته بشكلٍ مختلف قليلًا. وهكذا وضع جيمي إحدى الثمراتِ على الورقة بجانبه ونزع بسكِّينه طرَف الساق واللبِّ من الأخرى وبدأ ينزع القشر الرقيق قطعًا صغيرة ويقطع الطماطم إلى شرائحَ صغيرة. وقد وجد نفسَه مستمتعًا بها أيَّما استمتاع. لقد أصبح معتادًا على تناوُل الطماطم. وقد بلغ مرحلةً تثور فيها معدتُه وتُطالب به إن لم يحصل على عصير الطماطم في الساعة العاشرة وثلاثين دقيقة.

بينما هو جالسٌ يستمتع بثمَراته ويُشاهد المئات يتدفَّقون جَيئةً وذَهابًا على الشاطئ، وجماعات أسرية هنا وهناك يحتمون بمظلات الشاطئ، وأناس بملابس السباحة يستَلْقون على الرمال، وأطفال يلعبون في الأمواج، وسبَّاحون يسبحون بعيدًا — وهي مظاهر الحياة اليومية للشاطئ في أوان الصيف — تنامى إلى أذنَيه من خلفِه جَلَبةٌ أقلُّ ما يُقال عنها إنها تسترعي الانتباه، ثم جاء في تدافُع على الجسر الذي على يساره أعجبُ تجمُّع من البشر رآه يومًا مجتمعًا في حشد. مكسيكيٌّ صغير ذو شعر أملس أسود وعينين سوداوَين، ووجنتين متوردتين وشفتين حمراوين وأسنانٍ لامعة. وشخصٌ من الياكي، وهي إحدى قبائل السكان الهنود الأصليِّين، صغيرٌ رزين، ذو شعر أسودَ مزرقٍّ، ووجهٍ مربَّع صغير، وفمٍ واسع وعينَين لامعتين وشفَتَين حمراوين. وإيطاليٌّ صغير، وسيم للغاية، بخصلاتِ شعر مسترسلةٍ ووجنتين بلونٍ قمحي وكالعادة شفتين حمراوين وأسنان بيضاء. وهناك أيضًا صغيرٌ إسباني وسيم ذو عينين نجلاوين، ومن الصين واليابان واليونان، ووجوه هندية صافية صغيرة نُحاسية اللون بشعور ملساء وعيون غائرة يقظة، ووجناتٍ بارزة ووجوه رزينة، ذاتِ أجسام رشيقة مستقيمة ورءوس مرفوعة بإباء من ينتمي إلى أشدِّ الأجناس التي سارت على الأرض فخرًا.

أثناء تدفُّق هذا الخليط العجيب على الجسر من حوله، لاحظَ جيمي أن كل واحدٍ من الصغار كان إما يحمل سلةً صغيرة أو يُمسك بكيس صغير. بعضُهم من الفتيان، والبعض الآخر من الفتَيات. وجميعهم ذَوو عيون متألقة، وجميعُهم صِغار، وجميعهم يتمتَّعون بالجمال، كلٌّ بطريقته، جميلٌ جمالَ الشيء المثالي في زهرة الصبا.

توقف أولئك الذين وصَلوا الشاطئ أولًا ونظروا وراءهم، فيما جاء عند نهاية الجسر، بجانب جيمي، قريبًا جدًّا منه حتى إنه كان بإمكانه أن يمدَّ يده ويطولها، قدمٌ صغيرة مقوَّسة وساقٌ رفيعة تنتعل حذاءً برقَبة مرتفعة مخصَّصًا للمسافات الطويلة. ثم ظهر سروالٌ ذو لون كاكي، وبعد لحظة أخرى ظهرت فتاةٌ طويلة رشيقة، موليةٌ ظهرها له. كان الشكل لا ينمُّ عن صبيٍّ بالمرة. فقد بدَت واضحةً رَبَلتا الساقَين اللتين غطَّاهما الحذاءُ ذو الرقبة. كما بدَت الأرداف والذراعان مستديرةً والصدر ممتلئًا. وكان العنق مشرئبًّا بسمو، يعلوه رأسٌ جرى قصُّ شعره شديد الكثافة على نحوٍ جعَله يبدو واقفًا على الجوانب ومن الأعلى بينما تبعثرَ في خُصلٍ ملتفَّة كبيرة ناعمة، وتدلَّى على العنق من الوراء مثل شعر صبي.

حين رُفعت القدم وأخذَت خطوةً إلى الأمام، نزل جيمي بنظَره إلى المسار الممتدِّ في الرمال وأخذ نفَسًا عميقًا تعرَّف فيه على عبير المريمية وزهور الربيع وزهور رعي الحمام الرملية، رغم أن الهواء يمتلئ بشدةٍ برائحة الثُّوم والمانجو والتامال (طبق مكسيكي). عندئذٍ تحديدًا توقَّف قلب جيمي وظلَّ متوقفًا وقتًا طويلًا جدًّا حتى إنه لم يعرف إن كان سيعود للنبض ثانيةً أم لا. أغمض عينَيه بشدة فرأى خُصلةً من شعر مبلَّل ترتطم بوجهه وتجتذبه. ثم فتح عينيه ليتأكدَ فرأى الرأس ذا الشعر المقصوص، فصاح في أعماقه وقال: «آه، يا لها من خَسارة! يا لها من خسارة كبيرة! كيف تأتَّى لها أن تُضحي بتاجِ جمالها، شعر حريري كشعرها؟»

جعل يُشاهد الفتاة الرشيقة وحركاتِها الخفيفةَ وهي تسيرُ عبر الشاطئ وتجلس قُبالتَه على بُعد بضع قصَبات. ثم اجتمع الحشد الصغير حولها. وسمع الصوتَ الذي سمعه من قبل، والذي يعرفه حقَّ المعرفة، وهو يقول: «والآن، يا أيها الصغار، قبل أن نتناولَ غَداءَنا وقبل أن نبدأ اللعب، لا بد أن نتعلمَ درسنا، لنرى فقط إن كنتم تتذكَّرون حتى وأنتم في إجازة. ما هذا الذي أمامكم؟»

هتَف الأطفال مجتمِعين: «المحيط الهادئ!»

«وما الذي وراءكم؟»

«جبال سييرا مادري!»

«وما الذي فوقكم؟»

«السماء!»

«وما الذي تجلسون عليه؟»

«رمال!»

«وبلدُ مَن هذا؟»

فهتف كلُّ من الصغار سواء صبي أو فتاة: «بلدي!»

«ومن يستطيع أن يُلقيَ علينا نشيدَ «بلدي»؟»

جعلَت الأيادي الصغيرة تلوح في الهواء. وأشارت المعلمة في اتجاه الصبي الياكي الهندي الصغير.

«فلتُجرب، يا إزادور!»

وقف الطفل الصغير، وضم قدمَيه معًا، وخلع قبعة القش التي يعتمرُها، ولأن جيمي كان يعلم ما سيقوله الطفل قبل أن يبدأ، فقد استطاع أن يُميزه:

«بك يا بلدي أتغنَّى،
يا أرض الحرية الجميلة …»

ابتسمَت معلمةُ مادة القومية الأمريكية للطفل وقالت: «أصبتَ يا إزادور! يكفي هذا. الآن، من يستطيع أن يخبرنا ما هي «الحرية»؟»

مرةً أخرى زخر الهواء بالأيادي.

أشارت المعلمة إلى فتاةٍ صغيرة مكسيكية.

«فلتُجيبي، يا ماريا.»

أجابت ماريا على الفور، ملوحة بذراعَيها مثل طاحونة هواء نحو الرمال وصوْبَ الجبال والسماء والبحر: «كل هذا … من دون معارك.»

صفقَت المدرسة. ثم سألت: «ومن هو مؤسسُ بلدكم؟»

كان اليابانيُّ الصغير يعلم فقال: «جورج واشنطن.»

«ومن رئيسنا؟»

هتف الصغار اليوناني والإسباني والصيني في فمٍ واحد: «ألفين أوليدج (كالفين كوليدج)!» فضحكَت المعلمة وصفقت مرة أخرى.

في هذه الأثناء اجتمع حشد كبير. إذ احتشد أطفالٌ بوجوه ذاتِ بشَرة فاتحة وراحوا يستمعون ويتطلَّعون. ومر أناسٌ كبار أمام وخلف المجموعة المكوَّنة من واحد وعشرين شخصًا، حسب إحصاءِ جيمي. لكنهم ظلُّوا يُباشرون شئونهم من دون إبداء أيِّ اهتمام. وفتحت المعلمة كتابًا بحجم أطلس المدرسي، وتناولت قلمًا وشرَعَت ترسم.

في حركاتٍ آلية، انتهى جيمي من الطماطم، ومسح سكينَه في الرمال ثم في ساق سرواله، وأغلقَها وأعادها إلى جيبه. ثم نهض وسار على الشاطئ حتى صار على بُعد ثلاث أقدام من ظهر الفتاة التي كان يعرفُها ووقف ينظر من فوق كتفِها بصُحبةِ عدة أشخاص آخرين.

كانت الفتاة قد رفعَت إحدى رُكبتَيها إلى جسدِها ووضعت عليها الكتاب الكبير. بينما تمدَّدَت الساق الأخرى على الرمال بمرونة وراحة. وانحنى رأسُها وهي ترسم بيدها اليمنى بحركات سريعة دقيقة ما ظنَّه جيمي رسمًا كروكيًّا لجسد رجل. حين انتهت من العمل بما يكفي لتبدو الأعضاء الرئيسية واضحة، وضعَت القلم على الرأس المستدير، وفي الحال لمس أغلبُ الأطفال رءوسهم وهتفوا: «رأس!» ثم انتقلوا لأسفل الجسم، ذاكرين العنقَ والكتفين والذراعين واليدين والجسم والركبتَين والقدمين. ثم عادت بالقلم إلى الرأس وبدأت ترسمُ عليه خطوطًا واقفة فرفع كلُّ واحد من الصغار يدَه أو يدها إلى رأسه أو رأسها وصاح: «شعر!» ثم جاءت الجبهة والحاجب والعينان والجفنان والأهداب، وعندئذٍ كانت المعلمةُ مع ذكر اسم كل جزء من الوجه ترسم خطًّا ممتدًّا لهامش الورقة ينتهي بدائرة وداخل تلك الدائرة تكتب بخطٍّ واضح جدًّا: «أنف». «عين». «أذن». كان كلُّ ملمح من ملامح الوجه يُرسم ويُكتب اسمه.

لاحظ جيمي مع تقدُّم هذه العملية من الأذنين إلى أسفل أن الفراغ الذي خُصِّص للفم كان كبيرًا. وقف شبهَ منقطع الأنفاس وهو يُشاهد كتابة لَثةٍ في دائرة الفم، ثم الأسنان وسن واحدة. كان صوت المعلمة العذبُ يكاد لا ينقطع. وقد فتحَت فمَها فكشفَت عن أسنانٍ قوية في بياض الحليب. ومرَّت بممحاة القلم الرصاص عليها لتُشير إلى أنها جميعًا أسنان. فكشف كلُّ الأطفال عن أسنانهم ومرُّوا بأصابعهم عليها وصاحوا: «أسنان!»

ثم لمست إحدى أسنانها الأمامية وقالت: «سن»، ورفعَت إصبعًا واحدةً وأشارت إلى سنٍّ واحدة. فأشار كلُّ الأطفال الصغار ذَوي البشَرة البُنية إلى سنٍّ «واحدة». أخرجَت لسانها، وهي تضحك، لسانًا في غاية التورد ينطق بالصحة، لا أثرَ لصفارٍ على امتداده، فأخرج كلُّ الصغار ألسنتهم وضجُّوا بالضحك وسريعًا ما شَرَع كلٌّ منهم يتلاعب بملامح وجهِه للآخَر. وقد أغاظ إزادور الطفل المكسيكي بعد أن افتعل وجهًا قبيحًا جدًّا حتى إن المكسيكي رماه بحفنةٍ من الرمال ونشبَت مشاجرة على الهامش. بينما جلست المعلِّمة تشاهدهما وهي تضحك. ثم علا صوتها لتدعوَهما للهدوء. ونطقت كلمةَ «لسان» نطقًا شديد الوضوح، فظلَّ الصغار يُظهرون ألسنتهم وهم يقول بعضُهم لبعض إنها ألسنة. ثم رسمَت لسانًا داخلَ فم الشكل الذي صاغته، ومن طرَفه جرَّت القلمَ حتى الهامش ورسمَت دائرةً أرادت أن تكتب بداخلها الكلمة.

في تلك الأثناء ثارت خلفها حركةٌ غاية في الخفَّة. إذ جثا شخصٌ على ركبتَيه وراءها. ثم امتدَّت يدٌ كبيرة بُنية اللون من فوق كتفها وقبضَت بإحكام على يدها وهي تُمسك القلم، وأمسكَت بها في قبضةٍ لا خلاص منها، وبوضوح شديدٍ انكتَب في الدائرة التي كانت قد رسمَتها، كلمة صغيرة قبيحة مكونة من أربعة حروف. وأُجبرَت على كتابتها ثلاث مراتٍ أخرى، وتحت الأولى وُضع خطٌّ واضح، وتحت الثانية خطَّان، وتحت الثالثة ثلاثةُ خطوط، عريضة جدًّا وسوداء. كانت الكلمات التي كُتبَت:

ثم حُررت يدُها. وصار لها حريةُ استئناف درس مادة التربية القومية الأمريكية.

ظلَّت عينا جيمي على ظهر الفتاة وهو ينهض على قدمَيه، فرأى أنه، باستثناء التوتر البسيط في جسدها الذي شعر به وهو يميل إلى ظهرها، لم تُظهر أقلَّ إشارة على أنها أحست بوجود أي أحدٍ وراءها. لم تكن اليد التي أمسك بها قد أظهرَت مقاومة. فقد استسلمَت لاستخدامه، فاستخدمها في كتابة الكلمة البغيضة بقدر ما تأتَّى له من قوة. وبعد أن أطلَق اليد، رأى اللون الأحمر وهو يتصاعد ملتهبًا في الوجنة المجاورة له، ورأى القلمَ وهو يُرسَل سريعًا ليبدأ في مسح الكلمات التي كتبها.

كان قد نهض على قدمَيه وسار عبر الشاطئ. كان متلهِّفًا للنظر خلفه، لكنه لم يفعل. وكان السؤال الذي ظلَّ يُلح في قلبه وعقله هو ما إن كانت ستتبعُه، ما إن كانت ستُحدثه. ليت هناك حجرًا على الشاطئ. ليت بإمكانه أن يصدم إصبَع قدمه؛ ليت باستطاعته التظاهرَ بأنه قد سقط، فينظر خلفه ويرى ما إن كانت ستأتيه. لكن لم يكن هناك حجر. ولم يكن ثمة أدنى عذرٍ للنظر خلفه إلا أن يفعل ذلك عمدًا، وقد كان عناده الاسكتلنديُّ أقوى من أن يسمح للفتاة أن تراه وهو يُدير رأسه من أجلها، هذا إن كانت تنظر نحوه.

كان الأمر برُمته مباغتًا جدًّا ومربكًا للغاية حتى إن دماغه توقَّف عن العمل مع انتهاء الموقف. فلم يستطع بعده أن يُفكر مستشرفًا التبِعات مُخمنًا لها. إنما كان يضَع مسافةً بينه وبين الفتاة التي كذبَت عليه؛ كذبًا شنيعًا. وقد شعر براحة أنه أعلمَها بمعرفته بها وأنه نعَتها بالكاذبة بقدر ما يتيسَّر لرجل من تأكيدٍ وتشديد، لكنه لم يكن قد تمادى في أفكاره أكثرَ ممَّا تمادى في فعله.

وعندئذٍ بلغ نتوءٌ صخري يمتد لأسفل حيث تتكسَّر الأمواج عند قاعدته، وكل موجة تعلو عن التي قبلها. لم يكن جيمي في حالةٍ مِزاجية تسمح بالتوقُّف من أجل المياه. فمضى في سبيله، وأثناء انعطافه وراء الصخور، بدَت له الفرصة سانحةً ليُلقي نظرة سريعة وراءه من دون أن ينكشف. فألقى نظرةً سريعة وراءه وما رآه جعل قلبَه يتوقَّف مرةً أخرى.

حيث وقف بعيدًا خلفه على الشاطئ في دائرةٍ هادئة، صامتين وبعيون متسعة، قابضين على غدائهم بإحكام، منتظرين الأمر من معلمتهم المحبوبة، أطفالٌ صغار ببشَرات سمراءَ وحمراءَ وبلون الشوكولاتة والنُّحاس، وُلدوا في الولايات المتحدة، من إنتاج أرضنا، منَحَتهم قوانينُنا وحكومتنا حقَّ أن يتعلموا مع أطفالنا، ويعيشوا معهم، ويُحبوا معهم، ويُحاربوا معهم، ويموتوا معهم، جميعهم أحرار، وجميعهم متساوون أمام القانون. وقد تجمَّعوا هناك وينتظرون، بينما راحت مُعلمتهم تقطع الشاطئ بخطوات سريعة.

خال لجيمي أنه لم يرَ قط شيئًا بهذا الجمال. إذ كانت فتاةُ العاصفة تركض كما يركض الهنود، لكن ربما كانت قامتُها أكثرَ استقامةً قليلًا، وذقنها أشدَّ شموخًا قليلًا. بينما يلتقطُ نسيمُ المحيط شعرَها الكثيف البنيَّ الضارب للحُمرة ويُرسله للخلف. فاستطاع أن يرى جبهتَها الواسعة البيضاء. ولمعة عينيها الرماديتَين الضاربتين للبني. وتدفَّق الدم ليصبغَ وجنتيها وشفتيها، بل عُنقها أيضًا. استطاع أن يرى تناثر النمش الكثيف الذي لم تكتفِ الشمس بعُبوره قصبةَ أنفها فوزَّعتْه في أنحاء الوجه بالكامل. كانت ستصل إليه خلال دقيقةٍ بالسرعة التي تَعْدو بها. وكل ما استطاع جيمي أن يُفكِّر فيه هو أنه لا ينبغي أن يُضبَط وهو يختلس النظر من وراء الصخرة. حفظًا لكرامته لا بد أن يمشيَ سريعًا على الشاطئ برأسٍ مرفوع، وقامةٍ منتصبة، موليًا ظهرَه لها. فلتركض الكاذبةُ الصغيرة وراءه! فلتلحَقْ به إن كانت تظنُّ أن لديها ما تقوله له!

وفي تلك اللحظة، والغضبُ مستعرٌ في صدره منها، استدار جيمي سريعًا ونظر وراءه. فاكتشف أنه يقف قبالةَ صدعٍ في الصخرة المعلَّقة يؤدي إلى الخلف لما بدا أنه قد يكون مَمرًّا تحت الأرض من نوعٍ ما. وقبل أن يُدرك ماذا يفعل، راح يتوغَّل في لجاج الظلام حتى اصطدَم فجأةً بجدران لم تُتح له أن يتراجعَ أكثرَ من ذلك. فالتفت في الحال ليرى ظلَّ فتاةِ العاصفة وهي تسير خلال الأمواج أثناء مرورها أمام الفتحة. فعاد على الفور إلى المدخل. كانت لا تزال تركضُ عبر الشاطئ في بحثٍ منهمِك. انطلق جيمي عبر الماء متَّخذًا مسارًا دائريًّا وجعل يَعْدو هو الآخر. حين استطاعت فتاةُ العاصفة أن تعود إلى حيث كانت، أصبح هو على الجهة الأخرى من الطريق محتجِبًا وراء أشجار البلوط الحيِّ والمادرونو والمانزانيتا ونباتات المريمية التي تنمو على سفح الجبل. وعلى عجَل أخذ طريقَ العودة إلى الإسطبل.

وقد وجَد جين تمامًا حيث توقَّع أن يجدَها، على صَهْوة فرَس، تدور في المضمار الذي أحاط بالإسطبل حيث تُباع الخيول.

وحين رأتْه، تقدَّمَت للسياج وسألته: «ما رأيك في هذا؟»

كان «هذا»، من وجهة نظر جيمي، أسوأَ الخيول الثلاثة.

سألها جيمي: «ما هي مميزاته؟» ثم ضحك على الفور من النزعة الأنثوية في الردِّ الأول.

«حسنًا، إنه يليق على بدلتي من ناحية. فلن نُضطرَّ إلى إجراء اتصالٍ هاتفي. ومن ناحية أخرى، نفَسُه طويل ويسهل امتطاؤه، كما أنه يُحبني. يبدو أنه يحتاجُ إلى مَن يُجزل له الحبَّ والتدليل. ويبدو أنه سيصبح أفضلَ شكلًا إن تحمَّم كثيرًا، وتغذَّى تغذيةً سليمة، وامتُطِيَ ببعض الحكمة. فأغلب الأطفال الذين يمتطون هذه الخيولَ يعتقدون أنهم راكبون آلةً، ولا يهتمُّون بالرفق بها وعدم تعريضها للإجهاد، ما دامت لا تخصُّهم. هذا الحصان يستحق حقًّا أن يُعامَل معاملة لائقة.»

وقفَت جين على أحد الرِّكابَين، وسحبَت ساقها الأخرى من فوق الحصان وهبطَت إلى الأرض بخفَّة.

وقالت: «لم أُخضِع أيًّا منهم للاختبار النهائي. فهيا نجريه.»

ثم نادت العاملَ وقالت: «فلتأتِ بخيولي وأوقِفْها في صفٍّ مواجهٍ لي. هناك بالضبط.»

كان المقصود ﺑ «هناك بالضبط» خطًّا خياليًّا على بُعد أربع أقدام تقريبًا قُبالتَها. وحين رُتبت الخيل على هذا النحو، وقفَت جين أمامها. وتفحصتها بعناية. حيث اقتربت من كل حصان، وألقَت برأسه كلِّه على جسمها، واحدًا تلو الآخر. وأحاطت أذنَيه بيدَيها، وضغطت على قاعدتها، وشدتها بيدَيها مرتَين أو ثلاثًا، ثم نزلت بيدها تحت كلٍّ من خدَّيه وتحت عنقه واحتضنَت الرأسَ بشدة. لم يستطِعْ جيمي أن يفهم ما الذي كانت تفعله على وجه التحديد بالعنُق والخطم. وقد كرَّرت هذه الحركات مع كلٍّ منهم، وحين جاءت للحصان الذي كانت تمتطيه أخيرًا بدا لجيمي أنَّ لمساتها كانت متأنِّية، وأنها ضمَّته أشدَّ قليلًا. وبالطبع أنهت الأمر بوضع خدِّها أمام أنفِ كلٍّ منها. ثم تراجعَت مبتعدةً ثمانيَ أقدام أو عشرًا وأطلقَت صهيلًا غريبًا قصيرًا، ومن بين الخيول الثلاثة تقدَّم الحصان الذي ركبتْه أخيرًا وذهب إليها في الحال وأحنى رأسَه مرةً أخرى لتلمسه.

وضعَت جين يدَها عليه وقالت لجيمي: «إذا كان هذا الحصان كما أظنه، إذا كان حِصاني، فسوف يتبعني.»

وربتَت عليه بخفةٍ مرةً أخرى حول أذنَيه وفوق أنفِه وقالت للحصان: «هيا، يا تشيف!» وسارت عبر الإسطبل. فتبعها الحصانُ كما قد يتبعها كلبٌ ظلَّت تُدربه مدةً طويلة.

وهكذا حُسمت مسألةُ الحصان. كل ما تبقى لجيمي ليفعلَه هو أن يحجزه، ويُحدد التاريخ والمكان الذي سيصل فيه تشيف، ثم التوقف في طريق العودة لشراء السَّرج والسوط اللذَين أصرَّ عليهما، ثم الذَّهاب إلى حديقة النحل في أقصرِ مدة ممكنة؛ لأنه من المفترض وصول أخشاب لبناء الإسطبل كما سيأتي جون كاري في اليوم التالي لمساعدتِه وكذلك النجار الذي استعان به لبناء مكان لمبيت تشيف.

حين غادرا السيارة ومشَيا في الطريق متجِهين إلى حديقة النحل، بدافع لم يستطع أن يُخمن منشَأه، واجه جيمي جين.

وسألها: «هل لاقى كلُّ شيء قَبولَكِ؟»

وقفَت جين ساكنة، وأخيرًا رفعت عينَيها فرأى جيمي فيهما ما رآه بالضبط في وجه فتاةِ العاصفة حين ترَكَته من دون كلمة لتكتبَ له خطابًا فيما بعدُ تبوح فيه؛ ومِن ثَم فقد تفهَّم.

قبَّلها مرةً أخرى وقال: «فلتُهرَعي إلى المنزل الآن وسوف أتصلُ بكِ حين أنتهي من بناء الإسطبل ويأتي الحصان. تستطيعين عندئذٍ أن تأتي في السيارة وتُحضري أباكِ وأمَّكِ ونانيت لتُريهم تشيف وتُريهم كيف تستطيعين امتطاءه. سوف أخبرهم أن الحصان ولوازمَه هدايا مني لكِ لإعفائي من الدخول في دعوى قضائية أو أيِّ تعقيدات مزعجة من أجل الحفاظ على أملاكي. هل سيُصبح ذلك مناسبًا؟»

لكن جين واسعة الحيلة، جين المستعدَّة دائمًا للكلام، جين المسيطِرة على فِناء المدرسة، المحِبة لطوف الغطس، والشواطئ والجبال، واستديو التصوير، والمدينة والريف على حدٍّ سواء، أدارت ظهرَها الصغير وهي ترتجف، ومضَت بعيدًا، وهي صامتة، بلا كلام.

ذهب جيمي إلى بابه وحيدًا ليكتشفَ أي هاجس منعه من إحضار الطفلة معه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤