الفصل الرابع

في حديقة النحل

لم يستيقظ جيمس ماكفارلين قبل عصر اليوم التالي، ولم يستعد وعيه شاعرًا بالانتعاش أو النشاط. حين حاول اتخاذ وضع الجلوس اكتشف أنه كان يشعر بالألم في كل موضع، أن كل عظمة في جسده تتوجَّع وجعًا غير محتمَل، وحين وضع قدمَيه على الأرض وفحصَهما بدقةٍ ثم نظر إلى حذائه، أدرك أن الحذاء سيظلُّ ضيقًا على قدمَيه لبعض الوقت.

وحين تذكَّر أن سيد النحل قد عرَض عليه استخدامَ ملابسه وفراشه، راح يجوب المنزل وهو يعرج حتى وجد غرفة النوم، وقد ندَّت عنه صيحةُ امتنان حين دخل بالمصادفة الحمام الملحَق بها. فقد ساعد الاستنقاعُ التام في المياه الساخنة ثم الاستحمامُ بالمياه الباردة بعد ذلك على تخفيف الوجع والألم إلى حدٍّ كبير. كما أنه استعار ملابسَ داخلية وجدها في خِزانة أدراجٍ داخل غرفة النوم ليمنح نفسَه شعورًا بالراحة، ووجد على أحد الرفوف خفَّين مناسبَين لقدميه.

ثم هبَّت على أنفه رائحةُ طعام مطهوٍّ، وحين دخل غرفة المعيشة كانت المرة الأولى التي يرى فيها مارجريت كاميرون لدى الباب.

لم تكن مارجريت كاميرون تُشبه أم جيمي مطلقًا، لكن بدا عليها سِيماءُ امرأة يجوز أن تكون نموذجًا للأم في المطلق، بل النوع الأمثل من الأمهات. كان وجهها جميلًا الجمالَ البسيط الذي دائمًا ما يدلُّ على روحٍ لا تُقهر. من نظرة واحدة إلى مارجريت كاميرون يمكن للمرء أن يعتقدَ مطمئنًّا أنها تُفضل الغرق وتقطيعَ أوصالها على التخلي عن دينها أو بلدها أو آرائها السياسية أو أسرتها. كانت امرأةً طويلة، وهي رشيقة إذ لم يكن بها أُوقيةٌ من لحم زائد. وشعرها أبيض وعيناها زرقاوان. مع بعض الحُمرة في شفتَيها ووجنتَيها. وقد بدَت لجيمي رائعةً حين ابتسمَت له.

قالت له: «لقد تلقَّيت اتصالًا من الدكتور جرايسون هذا الصباح. حيث اعتقدَ أنك ستكون نائمًا ولم يُرِد أن يوقِظَك. وأخبَرني أنك سترعى الأمور هنا حتى يعود إلينا سيد النحل. لَشدَّ ما يُؤسفني أنني كنتُ غائبةً أثناء مُصابه. كانت شابةٌ من أقاربي بحاجة ماسة إليَّ؛ فقد وقعَت وفاةٌ في أسرتها واضطُرِرتُ إلى الذَّهاب إليها.»

قال جيمي: «أعتقد أنني وفرتُ كل ما احتاجَ إليه سيد النحل، وأعتقد أنني لم أُضِع وقتًا.»

كان ثمة إيحاءٌ بالحسم في الحركة البسيطة التي مدَّت بها مارجريت يدَيها.

قالت بلا مواربة: «ليس لديَّ شك أن سيد النحل حصَل على كل ما يحتاج إليه. لا يوجد على وجه الأرض مَن يرفض أن يفعل أي شيء يطلبه منه مايكل ورذينجتون. إن قصدي هو أنه اضطُرَّ إلى الاستغاثة بغريب، من أجل النجدة التي كنت سأودُّ تقديمها له، بصفتي صديقةً قديمة العهد.»

قال جيمي بهدوء: «أدركتُ مقصدَكِ.» وتابع: «يؤسفني أنكِ لم تكوني هنا. وأعتقد أنكِ محقةٌ أنه لا يمكن لأي شخص أن يرفض له أيَّ طلب؛ فها أنا ذا، رغم أنه لا يمكن أن يوجد في الولاية شخصٌ أقلُّ أهليةً للقيام بما طلبه مني. لكن لأنه طلب ذلك، فإنني هنا لأُحاول.»

عبَرَت وجْهَ مارجريت كاميرون ابتسامةٌ باهتة. وضاقت عيناها وهما تُتابعان خطَّ رؤيةٍ امتدَّ في حجرة المعيشة، مرورًا بالمطبخ وحجرة الطعام المدمجتَين، عابرًا الرِّواقَ الخلفي خارجًا نحو الفراسخ الممتدَّة بلا عدد للبحر بعيدًا؛ البحر الهادئ، المحيط الآمن الذي يبتسم ويستميل ويدعو، ونادرًا جدًّا ما يكشف عن أنيابِ وفكَّي الوحش المتربص في أعماقه.

قالت بهدوء: «أعلم ذلك.» وأضافت: «أعلمُ سبب وجودك هنا، وأستطيع أن أرى أنك لستَ أهلًا للعمل. لقد ذكر لي الدكتور جرايسون أنك بدَوت في غاية التعب. لقد اعتقدَ أنك ربما تكون أحدَ جنودنا، الذين كانوا في الخارج.»

أدخل جيمي أصابعَه في جيبه وأخرج وسامَ خدمةٍ ووسامَين للشجاعة ومدَّها إليها، فتقدَّمت مارجريت كاميرون وضمَّت يديه المرتعتشتَين الشاحبتين بيدَيها وقالت: «فليُبارِكك الله، يا بني! إنني أحفظ روتين سيد النحل عن ظهر قلب، ورغم أنني ليس لديَّ معرفةٌ كبيرة بالنحل؛ لأن كل اهتمام سيد النحل كان تعليم الكشافة الصغير، لكن لديَّ معلومات كافية لأدلَّك على مكان أحواض المياه وكيف تجعلها باستمرارٍ ممتلئةً بالخليط المناسب من المياه، ولا تتعجَّب، فهي تحب أن يوضَع فيها رشةُ مِلح، وأستطيع أن أستعرض معك الزهور وأُرِيَك أيها تحتاج إلى ماءٍ أكثرَ ومتى. أعتقد أنك إذا استرحتَ بضعة أيام فستستطيع أن تُنجز الأمر على أكمل وجه، وسوف أطهو وجباتك كما كنتُ أطهوها دائمًا لسيد النحل. أرجو فقط أن تُخبرني بما تُحبه تحديدًا وكيف تريده. فكلُّ شخص له ذوقٌ خاص.»

قال جيمي: «هذا كرمٌ بالغ منكِ.» وتابع: «إنني على استعدادٍ للإقرار بأنني أتضوَّر جوعًا الآن، وإنني متأكدٌ أن أيًّا ما أتيتِ به فسيكون مناسبًا.»

ومِن ثَم ذهب إلى المطبخ وتناول الطعام الذي أحضرتْه له مارجريت كاميرون. وقد تعلَّم كيف يُشغِّل موقد الغاز في حالِ أراد شرابًا ساخنًا في أي وقت من الأوقات. كما أنه أُخبِر بالمكان الذي يوجد فيه صندوق الثلج الصغير في الشرفة الخلفية حيث يوضع يوميًّا زجاجةُ قشدة وزجاجةُ حليب، ولاحظ سلة بيض وبعضَ الفاكهة، ثم ذهبا معًا إلى الحديقة وعرَف أماكن وصلات الخراطيم المختلفة وأُعطيَ توجيهاتٍ مفصلةً حول رِيِّ الزهور.

وحين لاحظَت كم كانت حركته مضطربة جدًّا وكم كانت قدَماه متورمتَين للغاية، وحين رأت يديه الهزيلتين الشاحبتين وقد نتأتْ فيهما العروق الزرقاء، توصلَت مارجريت كاميرون إلى قراراتها الخاصة. حين اقتربا من الجدران الخلفية تقدمَت ببطءٍ شديد لتُمهل جيمي الوقتَ لمجاراتِها، وحين وصلا إلى الباب الخلفي سألتْه قائلة: «هل لديك مناعةٌ من النحل؟»

نظر جيمي إليها لوهلة في صمتٍ متسائلٍ، متفكِّرًا في ذلك السؤال، ثم قال: «لا أعتقد البتة أنني أعرف قصدك بعبارة «المناعة من النحل».»

قالت مارجريت كاميرون: «عجبًا، أقصد أنَّ هناك أناسًا في هذا العالم لا يُحبهم النحل. هناك أناسٌ إن ساروا عبر أيٍّ من الخطين الجانبيَّين لهذه الحديقة فسيُلاقون موتًا محققًا في غاية البشاعة. هناك أناسٌ يكرههم النحلُ بالفطرة، وهناك آخَرون يكتسبهم أصدقاءَ على الفور. هناك نوعٌ من البشر يمكنه أن يرفع سقف القفير ويغترفَ حفنة من النحلات العاملات. ومنهم رجل يأتي أحيانًا لمساعدة سيد النحل فيتجول حاملًا النحل في قمة قبعته. لكن هذا لا يُثبت أنها قد تكون آمنة لكل شخص.»

تفكَّر جيمي في الأمر.

«كيف لي أن أكتشف ما إن كان لديَّ «مناعة من النحل»؟» تساءل، وهو يستندُ إلى إطار الباب مواجهًا المرأةَ الواقفة قُبالَتَه وقد لاحظ أنها تكاد تكون بنفس طوله.

قالت مارجريت كاميرون: «هنا بالضبط، يأتي دور الكشَّافة الصغير. لم يترك سيدُ النحل أي شيء يعلمه عن النحل دون أن ينقله بعنايةٍ لمساعده؛ معاونه الأول. أعتقد أنك سيأتيك زائرٌ اليومَ أو غدًا. إن لم يأتِ فسوف أهاتفه. اسمع نصيحتي وابتعد عن القفائر حتى تحصلَ على إرشاداتك.»

بعد ذلك جمعَت مارجريت كاميرون الصحونَ التي استخدمها جيمي في سلة، وعبَرَت الفِناء الجانبي، ودخلت حديقةَ منزلها من خلال بوابة صغيرة.

وقف جيمي يُشاهدها وهي تذهب إلى منزلٍ أبيض من دورٍ واحد بدا مبهجًا ودافئًا، بدا أنه ربما احتاج إلى القدْرِ نفسِه من العمل والمدةِ الزمنية نفسِها في بنائه، لكنه، بطريقةٍ ما، افتقر إلى السِّحر الجذاب الذي تمتَّع به منزلُ سيد النحل.

بعد أن أكسَبَه الطعامُ بعض النشاط، ذهب جيمي إلى منتصف الطريق ووقف ينظر إلى المنزل والأرض. كان هناك تفاوُت طفيف جدًّا في عرض الأفاريز وزاوية السطح، حتى إنه يصعب على المرء أن يحدد أين يكمن الفرق بينه وبين المنازل الأخرى الممتدة حتى آخر الشارع.

وبينما ظل واقفًا يتفحصه، وجد جيمي صعوبة في تحديد الاختلاف لنفسه. ربما كان الموقعَ، وسياجَ الأوتاد الخشبية المطليَّ بالكلس، والشرفةَ المنحدرة الأنيقة. ربما كان اللونَ المميز للطِّلاء الذي حفظ الخشب. ربما كانت الكرومَ النادرة، والشجيراتِ ذاتَ الرائحة العطرة، والزهورَ المبهجة التي احتشدت في كل مكان من دون أي نظام أو دقة. على أي حال، كان ثمة شيءٌ مميز في المنزل، وقد ظلَّلتْه أشجارُ أوكالبتوس باسقةٌ وشجرةُ جاكرندا رقيقة، أحاط بها غطاءٌ زاهٍ من سحر الزهور الزرقاء، أعطته — لم يجد جيمي تعبيرًا آخَر — واجهةً مرحِّبة. فقد بدا كأن له طابعًا آدميًّا وبدا كأنه يبتسم ابتسامةَ ترحيب غاية في الدفء.

ثم نظر جيمي وراءه إلى زُرقة البحر المتلألئة وزرقة السماء المشابهة، ثم ارتقى ببصره نحو مستوًى أعلى. وقف هناك وقد استغرق في التفكير، وقبل أن يُدرك ما كان يفعله كرَّر بلُكْنةِ أبيه العبارةَ التي استخدمها قبل بضعة أيام: «كم أنت كريمٌ معي، يا رب!»

ثم ابتسم جيمي بعينَين حالمتين للمنزل، واتجه إلى داخله، ملاحظًا باهتمامٍ المقاعدَ الجانبية والكرومَ الرقيقة التي شُذِّبت فوق الشرفة. نظر إلى الأبسِطة التي على الأرضيات وخمَّن أنها فارسية عتيقة وثمينة. فلم يكن ضليعًا في أصول عالم الأبسطة. كما أدرك أن الأثاث عتيقٌ وثمين أيضًا. حيث مرَّ بأصابعه في إعجاب على قِطَعٍ من خشب الورد والماهوجني قديمةٍ ولامعة من الاستخدام، وقد صمَّمها حِرفيُّون مهَرةٌ منذ زمن بعيد على الجانب الآخر من البحار البعيدة.

استحوذَت خِزانات الكتب، الممتدَّة من الأرض للسقف، في جميع أنحاء الحجرة تقريبًا، على انتباهه بضعَ لحظات، ثم توقف أمام طاولة للكتابة، مفتوحة، حيث كانت ريشةُ سيد النحل في حامل صغير للحبر مصنوع من قرون الحيوانات، وأوراق خطابٍ لم يكتمل مُلقاة على الدفتر. وبدافع الرقيِّ الأصيل في قلب رجلٍ نبيل من اسكتلندا، التقط جيمي الأوراق، ورفع الدفتر، وقلَبها على وجهها على الخشب الماهوجني لطاولة الكتابة، وأعاد الدفتر إلى مكانه. سيظلُّ الخطاب هناك دون أن يُمس إلى حينِ عودة سيد النحل.

بعد ذلك انتقلَت عينا جيمي إلى الخِزانة فوق طاولة الكتابة. كان مِن البداية قد قرأ أسماءً بارزة في الأدب، لكن بدا أن كل مجلد في تلك الخِزانة الصغيرة كان إما خاصًّا بالنحل كليةً أو متعلقًا به بطريقةٍ ما. وعلى الفور ارتفعت يدُ جيمي لفتح أحد المجلدات. قد تكون ضخامةُ المجلد هي ما نبَّهه إلى واقعِ أنه من الأفضل له أن ينعَم بالراحة بضعةَ أيام أخرى قبل أن يشرَع في مهمةٍ قد تنتهي سريعًا أو تستغرق وقتًا طويلًا. بعد ذلك تفقَّد غرفة النوم المجاورة بالتفصيل، ملاحظًا تنظيمَها، ودقةَ ترتيبها، وبهاء النقوش والزخارف ودقتها، ونُدرة الكتب الملقاةِ هنا وهناك، والأناقةَ البسيطة للمفروشات.

وعاد من خلال المطبخ والرِّواق الخلفي وخرَج إلى الضوء المنبلِج لشمس بعد الظهيرة. كان في حالٍ من الهزال والبرد تجعله يحبُّ دفئها.

بينما كان واقفًا هناك يجول ببصره في المساحة الممتدَّة من الحديقة إلى البحر، أحسَّ أنها ضمَّت أجمل صورةٍ رآها على الإطلاق. كانت تُغطي فدَّانَين من جبال سييرا مادري حيث تلتقي بالمحيط الهادئ. ويمتدُّ عبرها ممشًى وعرٌ، مرصوفٌ بأحجار جُمِّعَت من جانب الجبل، وبه درجات تهبط حتى الشاطئ بالأسفل. كما توجد عريشةٌ عامرة بالأعناب مثل تلك الموجودة في حدائق الشرق، لكن ينمو بينها بوفرةٍ زهورُ الوستريا والياسَمين البري، والورود والكروم، وهي كروم لم يكن يعلم بأسمائها ولا عاداتها ولا أوان إزهارها. ونبَتَت على الجانبَين، أحيانًا على ما نتَأ من صخور كبيرة منحدرة، وأحيانًا على هِضاب صغيرة خِصْبة، وأحيانًا أخرى على منحدَرات سهلة، كل أشجار الفاكهة التي يحلو لها الازدهار في تربة كاليفورنيا وشمسها — البشملة والتين، والبرتقال والليمون، والبرقوق والخوخ، والكُمَّثرى والنكتارين، والتمر والجريب فروت — شجرة أو شجرتان فقط من كل نوع، وقد زُرِع بينها وأسفلَها أحواضٌ صغيرة للخَضراوات.

ثم استرعى انتباهَ جيمي وهَجٌ أحمرُ أرجواني حيث نبتت بوفرة، على أوتادٍ لافتة للنظر، بمحاذاة الممشى حتى منتصف الطريق الهابط على جانب الجبل سيقانُ الطماطم حاملةً ثمارًا ضخمة، منها ما نضَج حتى امتلأ عن آخرِه، وانتشرت في كل ناحية الأشجار القصيرة والشجيرات والكروم والزهور، والمزيد من الزهور، ولما تعرَّف جيمي على كلٍّ منها تقريبًا، أدرك أنها كانت الزهور الساحرة القديمة التي كانت أمُّه وجدَته تزرعانها. كما وجد هناك زنابقَ مادونا، التي تفتَّحَت مزدهرةً في التربة الدافئة وأشعة الشمس المغرية، بارتفاعٍ أقلَّ قدمَين أو ثلاثة عن ارتفاعها في حدائق الشرق الباردة. افترش الأرضَ حولها أحواض زهور القرنفل، التي مسَّت الهواء المالح المنعِش بحلاوتها النفَّاذة، وزهور البليحاء ورقيب الشمس، وزهور أذن الفأر وزهور الآس الزرقاء الرائعة التي لم يرَ جيمي مثيلًا لها قط؛ عالم كامل من الزهور والفاكهة.

وتصاعد من كل جهة، باطِّرادٍ وبُطء، طنينٌ منخفض من ملايين النحلات العاملات؛ نحلات تسكن في قفائر، ليست مثلَ البيوت المسطحة القبيحة المستخدَمة في عددٍ لا حصر له من المناحل التي مر بها أثناء رحلته، وإنما قفائر وُضع كلٌّ منها في بقعة منفصلة ارتفعَت فوق الأرض على منصَّة منخفضة ولها سقفٌ مستدير مدبَّب أعطاها جمالًا وجاذبية وانسجامًا مع المكان. عند إمعان النظر اكتشف جيمي أن كل قفير وُضع في حوض من زهور الآس الزرقاء مثل زُرقة السماء. ثم رأى أن السياج القائم خلف القفائر كان جدارًا من نبات البلمباجو الأزرق، صفوف رقيقة منها. وبالأعلى، توجد أشجار جاكرندا الرقيقة الرائعة، واحدة تِلو الأخرى، حاملةً سحبًا من الزهور الزرقاء امتدَّت إلى عَنان السماء. ثم أدرك أنَّ هناك عالمًا من اللون الأزرق، في مواجهة القفائر وحولها وقُربَها: بنفسَج أزرقُ ورقيب الشمس وأذن الفأر والفيربينا الزرقاء والزنابق الزرقاء وزهور العائق وزهور عُشبة الجريس والفلوكس ورعي الحمام الأزرق، وأيضًا المزيد من اللون الأزرق؛ إذ مرت فوق رأسه ووجهه طيور الطنان المزدانة رقابها والمتوجة رءوسها، وقد اجتذبتها الألوان الحمراء والزاهية حول المنزل، أما النحل فقد عاش في عالمٍ كامل من اللون الأزرق. حيث بدا كأنَّ الزهور الزرقاء تُحب بشدة أن تتسلَّق هذه القفائرَ البيضاء، لتعترشَ حولها، وتتشبثَ بها، وتزدهرَ فوقها. ولما اقترب جيمي من الممشى الخلفيِّ وحيدًا، لاحظَ عدة قفائر كبيرة قائمةً بمفردها على مساحةِ عدة أقدام كان عليه أن يمرَّ بها في أول رحلة له بامتداد الحديقة؛ ليخرجَ من البوابة، ويعبرَ شريط الرمال حيث كان المحيطُ يأتي متوثبًا على الشاطئ، في خليجٍ فسيح، لينزلقَ متراجعًا مرةً أخرى، على مهلٍ وبِرِقَّة، ناشدًا أغنيةً هامسة خفيضة فحسب هي أفضل شيء في العالم لتُهدهد رجلًا متعبًا حتى ينام.

ببطء، وبقدمَين مضطربتين، شقَّ جيمي طريقه عابرًا الطرَفَ الخلفي من المنزل. تحت شجرة جاكرندا على الجانب الشرقي رأى مقعدًا غايةً في الجاذبية. فذهب وجلس عليه تحديدًا في الموقع الذي ألقت فيه فروعُ الشجرة فوق رأسه ظلًّا مخلخلًا تاركةً جسده النحيل ممدودًا في ضوء الشمس. جلس وحاول أن يُفكر. ولأن السماء كانت جميلة جدًّا، والبحر جميل جدًّا، والحديقة جميلة لكن جمالًا يُثير القلق، فقد راوَدَته الفكرة القديمة التي ظلَّ يجترُّها أينما ذهب طَوال العامَين الماضيين: حتى متى؟ وما الوقتُ المتاح له، على أي حال؟ متى ستفقد السماء واقعَها الأبدي ويتوقَّف البحرُ عن الابتسام، ومنظر الزهور وشدْوُ الطيور وطنين النحل وصرير صراصير الليل؛ متى ستُصبح في طيِّ الماضي بالنسبة إليه؟

ولأنه قد أجهَد نفسه جهدًا مؤلمًا جدًّا، ولأنه كان منهكًا أشد الإنهاك ومتعبًا بدرجة مفرطة من رحلته، فهو لم يكن متفائلًا جدًّا. فقد بدا كلُّ شيء يخصُّه كئيبًا أكثرَ من أي وقتٍ مضى. كانت الضمادات التي نزَعها من أجل الاستحمام ملطَّخةً بصديدٍ فاقع، لتُخبره مجددًا بقصة الجروح الساخطة التي تأبى الاندمال. هكذا بدا لجيمي أن حالته الخاصة في عصر ذلك اليوم ميئوس منها أكثرَ مما بدت له حين نهض في تمرد محموم وخرج من كنف حكومته. لكن كانت المفارقة في الموقف برُمَّته أنه في الوقت الذي يرى فيه أن الأمور قد بلغَت درجةً غير مسبوقة من القتامة، كان قد حلَّ بأحد المواقع الأروع جمالًا على وجه الأرض.

قليلةٌ هي الأماكن التي يبني فيها الحبُّ والصنعة منزلًا صغيرًا بواجهةٍ مرحِّبة. وقليلةٌ هي الأماكن التي يُقيم فيها الحب والفطرة السليمة حديقة، نصفها نباتات برِّية ونصفها الآخر أشياءُ قديمة ساحرة تطورَت من دون مساعدة التهجين والتسميد وغيرهما من البدائل التي تؤدي إلى نمو شديد التفشِّي والضخامة حتى لَيصعب على المرء أن يُصدق أن الزهور كائناتٌ حية. قليلةٌ هي الأماكن التي ينخفض فيها ارتفاعُ جانب جبل ما سيرًا وانزلاقًا وقفزًا، ويتعرَّج في مسارات ملتفَّة مُزدانة بالزهور حتى يصلَ إلى الرمال البيضاء لبحرٍ أزرقَ متلألئ، ويسهل تصديقُ أن مكانًا كهذا بالطبع يُصبح مأوًى لبيوت صغيرة مستديرة بيضاء ذات أسقف مستديرة حيث تصنع ملايينُ النحلات العسلَ لتحلية الطعام لعالم بأكمله.

ومن الطبيعي توقُّعُ أن يجذب طنينُ النحل وأريجُ الزهور الطيورَ إلى مكانٍ كهذا، فلا بد عبر أيِّ مساحة من شاطئ المحيط أن تجد مساحاتٍ شاسعةً ممتلئة بطيور البجع الرمادية الكبيرة والزقة الأمريكية سوداء الجناح، والبط البري، وطيور النوارس ناصعة البياض وسنَوْنو البحر معقوفة الأجنحة، كأنها طيورٌ من العاج المنحوت، تُحلق وتطوف فوق المياه مدفوعةً بالحب الخالص للسماء الزرقاء والمياه الزرقاء، وللاستمتاع بقدرتها على الطيران. ولا بد أن ترى طيور النوء وطيور الطيطوي الصغيرة طويلة السيقان وطيور الزقزاق وهي تميل على امتداد الشاطئ، ولا بد من وجود أطفالٍ صغار يحفرون في الرمال، وأشخاصٍ كبار ينعمون بساعة من البهجة ممدَّدين في أشعَّة الشمس، سائلين الأرض أن تُبْرئ أجسادهم وخالقَ الشمس أن يشفيَ قلوبهم.

حين جلس جيمي على المقعد تحت شجرة الجاكرندا شاعرًا بسقم شديد حتى إن دموع رثائه لحاله راحَت تُلهب عينَيه الرماديتين النجلاوين، تساءل تساؤلًا مبهمًا عمَّا قد يحدث له إن نزل إلى البحر ونقع جسده في المياه الباردة المالحة وترك الشمس تُنفِذ داخل جسده كلَّ الخواص الطبية التي تحتوي عليها مياه البحر. لقد ظل عامًا يُجرب الاستشفاء بالمياه الساخنة القادمة من أحشاء الأرض المستعرة. فكيف سيكون الأمر إن جرَّب عامًا من الاستشفاء بالمياه الباردة القادمة من بحار سطح الأرض مع شمس السماء؟

الْتوَت شَفتا جيمي في أسًى. ربما هو الآن أقربُ ما يمكن له على الإطلاق من النعيم إلى أن يحينَ وقت خروجه من هذه الجنة، وربما تنتهي مدةُ تولِّيه مهامَّ المنزل الأبيض الصغير والحديقة الجبلية بعد بضعة أيام فحسب، ويُصبح نصيبه أن يُواصل الترحال إلى أن تزداد حالته بؤسًا حتى عمَّا كانت في تلك اللحظة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤