مقدمة المترجِم

يُمثِّل هذا الكتاب إحدى الرُّؤى الإبداعية بامتيازٍ للعالَم الثالث إزاء قضية التطوير الحضاري التي يَختزلها السَّاسة والاقتصاديون في عبارة — مسألة واحدة هي التنمية الاقتصادية، وفي مَظهر ومعيارٍ اقتصادي واحد هو الدَّخْل أو إجمالي الناتج القومي، ومُعدَّلات الإنفاق دون كل جوانب الحياة الأخرى النوعية، ودون الحرية بمعناها الواسع، أو أدوات وقدرات الحرية؛ من تعليمٍ، ورعاية صحية، وحق التعبير، والحصول على المعلومات، وفرص اختيار الحياة … إلخ، والنتيجة إخفاق تلو إخفاق وعجز عن المنافَسة …

والكتاب مَرَّة أخرى حَصاد وثمرة تجربة عُمر جذورها وامتدادها في العالَم الثالث، بلاد الأطراف، مع تَفاعُلٍ خصب إبداعي بفكر علوم حضارة العصر في بلدان المَرْكز، ولكن لِيَصوغ المؤلِّف في النهاية رؤية وإطارًا مفاهيميًّا إرشاديًّا لتشخيص وتوجيه الجهود الصادقة لحل مُشكِلات بَدَت مُزْمِنة، وتُضاف هذه الرؤية إلى رُؤًى أخرى تنتمي إلى العالَم الثالث؛ من مثل رؤية هرناندو دي سوتو في أمريكا الجنوبية وغيره.

مؤلِّف الكِتاب أمارتيا صن من مواليد البِنغال، عاش وعايش حياة الهند ومُشكلاتها وهو على أرضها، ولم يَغفل عنها وهو خارجها؛ ولهذا فإن النهج المُتَّبَع هو ثَمرة حياة الهند: الصراع الطائفي، الثقافات الاجتماعية، الانحياز الجُنُوسي أو التمييز الاجتماعي بين الجنسين، رواسب الحقبة الاستعمارية، الحرمان من الحريات، والحرمان من أملٍ في هندٍ موحدة متقدِّمة تملك الإمكانات، والحرمان من فهمٍ علمي عقلاني للقضايا ولرواسب التاريخ ولصراعات وتَناقُضات العصر مما تَمثَّل في سياساتٍ قاصرة، والفهم ضَيِّق الأفق لمعنى الهوية، والصراعات المُزمِنة على أساس هذا الفهم الخاطئ أو صراع طواحين الهواء باسم المُقدَّس، ومن ثم حرمان من حياة القدرة على البناء والتقدم والرخاء … وإن افتقاد الحرية؛ أي افتقاد القدرات والفُرَص هو العقبة الأولى التي تُعيق مسيرتها على الطريق شأن بلدان العالَم الثالث، وإن اختلفَت الدرجات … ونجد صُورتُنا نحن العرب واضحة في جلاءٍ على صفحة مرآة.

ويوضح أمارتيا صن أن افتقاد الحرية الاقتصادية يَرعى ويُغذِّي فُقدان الحرية الاجتماعية، تمامًا مثلما أن افتقاد الحرية الاجتماعية أو السياسية للرجل والمرأة على السواء يمكن أن يُرسِّخ ويُعزِّز فقدان الحرية الاقتصادية.

العمل والإنتاج حرية وقدرة.

التعليم ومحو الأمية حرية وقدرة.

الصحة والرعاية الصحية حرية وقدرة.

المساواة بين الجنسين حرية وقدرة.

حق التعبير والوصول إلى المعلومات والتنظيم حرية وقدرة.

وتَتجلَّى أهمية التنمية-التطوير أكثر وأكثر في ضوء عصر حضارة المعلومات ومُجتَمع المعرفة، ذلك أن هذا المجتمع ينبني تأسيسًا على بِنًى تحتية لها شروطها العصرية: مؤسسات، سياسات، تنظيمات مدنية، شبكات اتصالات، بحوث وتطوير، تمكين بشري للرجل والمرأة … إلخ، وتجليات هذا كله في العلاقات الاجتماعية بين نخبةٍ وعامَّة، حاكم ومحكوم، ذكر وأنثى، مؤسَّسات علمية وتعليمية، ورعاية صحية وفعالية سياسية … إلخ.

إذ يقرر أمارتيا صن أن التنمية-التطوير عملية تطول إدارة الأسواق والإدارات الحكومية والعلاقات بين الحاكم والمحكوم، والمؤسَّسات التشريعية، والأحزاب السياسية، والمُنظَّمات غير الحكومية، والمؤسَّسات القضائية، والمؤسَّسات الإعلامية والتعليمية، والمجتمع كله بعامة … ويتحقق إسهامها في الواقع من خلال تأثيراتها على دعم وتعزيز القدرات — الحريات الفردية للإنسان طفلًا وامرأة ورجلًا …

والحرية في كل هذا هي المحور. إن تنمية رأس المال البشري، تنمية قدرات الإنسان/المجتمع لا تأتي قَسرًا، ولا تتحقق أبدًا في مناخٍ استبدادي أو بناء على قرار سُلْطوي، كما أن العدل الاجتماعي لا مكان له في ظِلِّ نظامٍ الحاكمُ فيه هو الكلمة-الحق النافذة، وهو الصواب والمرشد والمُوَجِّه الهادي، الحرية آلية تطوير حضاري، وهي في الآن نفسه ثمرة متطورة النُّضج لهذا التطوير … سقطت منذ زمن أسطورة المُستَبِدِّ العادل … وإنما العدل الاجتماعي-التطوير يأتي في إطار الحرية شرطًا … الحرية تحرير الإنسان من ربقة الجهل والمرض، والحرية حرية فُرص مُمارَسة القدرة من أجل المشاركة الإيجابية الواعية المسئولة.

ويُفضِّل أمارتيا صن استخدام عبارة رأس مال القدرة البشرية بدلًا من رأس المال البشري كهدفٍ وأساسٍ للتنمية-التطوير، ذلك أن الدراسات عن رأس المال البشري تنزع إلى التركيز على فعالية البشر كأدواتٍ في زيادة إمكانات الإنتاج … الإنسان هنا أداة ووسيلة إنتاج، ولكن منظور رأس مال القدرة البشرية يضع في بؤرة الاهتمام قدرة — الحرية الموضوعية — الناس على بناء حياة لديهم أسباب عقلانية للنظر إليها كشيءٍ قَيِّم، وعلى تعزيز خياراتهم الحقيقية، وكفالة مُقوِّمات هذه القدرة وتطويرها … وهنا الإنتاج وسيلة لهدف هو حرية ورفاهة الإنسان … الإنسان بمواصفات حضارية جديدة هو الهدف والغاية، والاختلاف بين المنظورين هو في أداة قياس التقدير.

الهدف والمعيار من التنمية-التطوير هو توسيع فُرَص ونطاق الاختبار تأسيسًا على حقٍّ في المعرفة وفي التعليم … إلخ؛ أي الزيادة في نطاق البدائل الفعَّالة المَعروضة والمطروحة صراحة على الناس ذوي القدرة التعليمية، الصحية والفكرية والاقتصادية والاستقلالية في الرأي وفي المشاركة الإيجابية الواعية للرجل والمرأة … وبهذا تَتوفَّر شروط المواطنة في إطارٍ دينامي مُتطوِّر نابِع من تفاعُل الفكر والعمل الاجتماعيين.

وهدف التنمية-التطوير هو زيادة «نطاق الخيار الإنساني» وتهيئة أسباب سيطرة الإنسان على بيئته ومقدراته وقدراته لبناء حاضره ومستقبله من واقع الشعور بالمسئولية الإيجابية الحرة … مسئولية الانتماء الاجتماعي … ومن ثَمَّ يغدو المجتمع على طريقٍ مُمتدٍّ يُفضي إلى اطِّراد المزيد من الحريات والقدرة على المنافَسة في عالمٍ يحكمه منطق الصراع.

وكما قلنا من قبل، إن جوهر أزمة مُجتمَعات العالَم الثالث، ونحن منها، أنها لا تبني وجودها الذاتي الحياتي-المعيش والفكري عند مستوى مُقتضَيات حضارة العصر من قيمٍ وإمكانيات وقدرات (علوم وتقانة) وحريات … بل لا تزال امتدادًا — من بين أمورٍ أخرى كثيرة — للقديم من حيث فضائل الحياة، والحِكَم التي استحالت رذائل، بل أخطارًا.

وأود أن أشير هنا إلى أنني عَمدتُ إلى أن أقرن أو أردف كلمة التنمية بكلمة التطوير؛ ذلك لأن الشائع عندنا في العربية ترجمة development بمعنى التنمية، وهذه تَرجمة مُضلِّلة للمشروع الوجودي ولواجباتنا وتشخيصنا للهدف، وأرى الترجمة الصحيحة: تطوير حسب الدلالة الوظيفية الملائمة في سياق حياة وواقع عالمنا العربي والعالَم الثالث بعامة … ذلك لأن التنمية زيادة كمية على المستوى الأفقي، وتختزلها في زيادة الدخل وإجمالي الناتج المحلي، مع بقاء الحال على ما هو عليه من حيث المستوى الحضاري، هذا بينما التطوير زيادة كيفية على المستوى الرأسي، انتقالٌ كيفي إلى مرحلةٍ حضارية جديدة شاملة الإنتاج والإنسان ومُقدَّراته وفرص حياته ومشاركاته الإيجابية على مستوى مُغايِر لمرحلةٍ سابقة … وهكذا يَتحدَّد هدف مُغايِر … هدف مشروع وجودي تطويري في سباق أو صراع حضاري … علمي وتقاني، ومن ثم، ليس المطلوب زيادة رقمية للإنتاج القومي أو للدَّخل الفردي فحسب، بل بناء أساس مادي علمي وتقاني جديد قَرين فكر وثقافة جديدين، وصوغ عقل جديد لإنسانٍ/مجتمع جديد … التطوير عملية توسيع في الحريات والقدرات الموضوعية للناس، في التعليم وفي الصحة وفي السياسة، وفي الاقتصاد، وفي البحوث العلمية … إلخ، وبذا تكون الحرية كما يقول أمارتيا صن عاملًا فعالًا وسببًا لتوليد تغيير سريع في بناء إنسان جديد يتمتع بالرفاه والحرية معًا … وتتنوع وتتنافس ابتكارات المجتمعات على طريق الوصول إلى هدفٍ واحد على الصعيد الحضاري، متنوع على صعيد آليات وأساليب ومحتوى التنفيذ والإنجاز.
شوقي جلال
القاهرة، فبراير (شباط) ٢٠٠٤م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤