تصدير
نعيش في عالمٍ يحظى بثروةٍ غير مسبوقة، من نوعٍ يكاد يكون مستحيلًا تخيله منذ قرنٍ أو قرنين، وشهد العالم أيضًا تَحوُّلات مهمة تتجاوز النطاق الاقتصادي، وأسَّس القرن العشرون نُظُم حُكْم ديمقراطية وقائمة على المشارَكة لتكون نموذجًا مبرزًا للتنظيم السياسي، وأضْحَت مفاهيم حقوق الإنسان والحرية السياسية جزءًا شِبه أساسي في الخطاب السائد، ويتمتع الناس الآن بمتوسطات أعمار أطول مما عُرف في السابق. كذلك أصبحت الأقاليم المختلفة على نطاق الكوكب أكثر تلاصُقًا مما كانت، ولم يقتصر هذا كله على مجالات التجارة والاقتصاد والاتصال، بل وأيضًا في ضوء الأفكار والمُثل العليا في تفاعلها.
ومع هذا كله نعيش أيضًا في عالمٍ يعاني من مَظاهرٍ قاسية من الحرمان والمسغبة والقهر، وظهرت مشكلاتٌ كثيرة جديدة وقديمة على السواء من بينها الفقر المُزْمِن والعجز عن الوفاء بالاحتياجات الأولية، وحدوث المَجاعات، وانتشار حالة الجوع على نطاقٍ واسع، وانتهاك أوليات الحريات السياسية والحريات الأساسية، وإنكار مَصالح وفعالية المرأة على نطاقٍ واسع من العالَم، وتفاقُم الأخطار التي تتهدد بيئتنا واستدامة حياتنا الاقتصادية والاجتماعية، ويمكن أن نشاهد الكثير من مَظاهر الحرمان هذه مُتجَسِّدة في صورٍ أو في أخرى في البلدان الغنية والفقيرة على السواء.
ويُمثِّل التغلب على هذه المشكلات مِحور الدور الذي تُمارِسه عملية التطوير والتنمية، وندفع هنا بأننا نعترف بدورِ مُختلفِ أنواع الحريات في مواجَهة هذه المآسي، والحقيقة أن الفعالية الفردية تُشكِّل في نهاية المطاف أداة مِحورية للتَّصدِّي لكل صور الحرمان، ونجد من ناحيةٍ أخرى أن حرية الفعالية التي تَتهيَّأ للأفراد من أبناء شعوبنا تحكمها وتصبغها بالحتم الفُرص الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتاحة لنا؛ إذ ثمة علاقة تكامُل بين الفعالية الفردية والتنظيمات الاجتماعية، وكم هو مُهِم الاعتراف في آنٍ واحد بمحورية الحرية الفردية، وقُوَّة المؤثرات الاجتماعية على نطاق ومدى الحرية الفردية، وإن علينا، لكي نَتصدَّى للمُشْكِلات التي تواجهنا، أن نعتبر الحرية الفردية التزامًا اجتماعيًّا، وهذا هو النهج الأساسي الذي يُحاوِل هذا الكتاب استكشافه وتَفحُّصه على نحوٍ دقيق.
ونرى في كتابنا هذا، وحسب النهج السائد، أن اتساع نِطاق الحرية يتمَثَّل في أن الغاية التي لها أولوية والوسيلة الأساسية للتطوير والتنمية. وقوام التنمية إزالة مختلف أنماط افتقاد الحريات التي تَحُدُّ من خيارات الناس وتُقلِّص فُرَص ممارسة فعاليتهم المُبرَّرة، ونؤكد هنا أن إزالة المَظاهر الموضوعية لافتقاد الحريات مُكوِّن أساسي للتنمية والتطوير، بيد أنَّنا إذا شِئْنا الوصول إلى فهمٍ كامل عن الرابطة بين التنمية والحرية، فإن علينا تجاوُز حدود هذا الاعتراف الأساسي (مع الإيمان بمحوريته)، ونرى بوجهٍ عام أن الأهمية الجوهرية للحُرِّية البشرية باعتبارها الهدف الأسمى للتنمية إنما تَستكمِله بقوة الفعالية الأداتية لأنواعٍ مُحدَّدة من الحريات من شأنها دعم وتعزيز حريات من نوعٍ آخَر، ولا ريب في أن الروابط بين مُختلف أنماط الحريات هي روابط تجريبية وعلمية وليست تكوينية وتشكيلية، مثال ذلك، ثَمَّة دليل قوي على أن الحريات الاقتصادية والسياسية تساعد في تعزيز بعضها بعضًا، لا أن يُعادي أحدها الآخر (على نحو ما يراها البعض أحيانًا). كذلك بالمثل فإن الفُرَص الاجتماعية للتَّعلُّم والرعاية الصحية التي ربما تستلزم نشاطًا عامًّا من شأنها أن تكمل الفرص الفردية للمشارَكة الاقتصادية والسياسية، وتساعد أيضًا في ترسيخ مبادراتنا للتَّغلُّب على مَظاهر الحرمان التي نعاني منها. وإذا كان مُنطَلق نِهجنا يَتمثَّل في تحديد الحرية باعتبارها الهدف الرئيسي للتنمية، فإن مرمى تحليل السياسة يَتمثَّل في تأسيس الروابط التجريبية التي تجعل النظرة إلى الحرية مُتَّسقة منطقيًّا، ومُقنِعة وقوية باعتبارها المنظور الإرشادي المُوجِّه لعملية التنمية.
ويُحدِّد هذا الكتاب مَعالم دراسة تحليلية متكاملة عن الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تَشمل ضُروبًا مختلفة من المؤسَّسات والكثير من القُوى المتفاعلة، ويُركز بخاصةٍ على الأدوار والترابطات بين عددٍ مُعيَّن من الحريات الأداتية الحاسمة بما في ذلك الفرص الاقتصادية، والحريات السياسية، والتسهيلات الاجتماعية، وضمانات الشفافية، والأمن الوقائي. وجديرٌ بالملاحَظة أن التنظيمات الاجتماعية والتي تشتمل على مؤسَّساتٍ كثيرة (الدولة والسوق والمنظومة التشريعية والأحزاب السياسية والإعلام (الميديا) وجماعات المصالح العامة ومنتديات النِّقاش العامة وغيرها) يبحثها الكتاب في ضَوء إسهاماتها من أَجْل تعزيز وكفالة الحريات الموضوعية للأفراد باعتبارهم العناصر الفاعلة النَّشِطة للتغيير، وليسوا مُجرَّد عناصر سلبية لتَلقِّي المنافع التي تُوزِّعها السُّلطات.
وينبني هذا الكتاب على خَمس محاضرات ألقيتُها باعتباري زميلًا رئاسيًّا للبنك الدولي في خريف ١٩٩٦م، هذا علاوة على محاضرة مُتابَعة واستطراد في نوفمبر (تشرين الثاني) ١٩٩٧م، وتتناول النهج الشامل ودلالاته، وإني أنظر بعين التقدير لما تنطوي عليه هذه المهمة من فرصةٍ وتَحدٍّ، وكم كانت سعادتي بَالغة أن حدَث هذا مع دعوة الرئيس جيمس وولفنسون الذي أُعْجَبُ كثيرًا برؤيته ومهارته وإنسانيته، وحَظِيتُ بامتياز العمل على نحوٍ وثيق وقريب معه حين شغلتُ منصب الأمين العام لمعهد الدراسات المُتقدِّمة في برنستون، ثم عاينتُ باهتمامٍ كبير في فرصةٍ قريبة كيف كانت لقيادته للبنك الدولي آثارها البنائية الإيجابية.
وجديرٌ بالإشارة أن البنك الدولي لم يكن دائمًا وأبدًا مُنظَّمَتي الأثيرة؛ إذ كانت القدرة على فعل ما هو جيد تتساوق تقريبًا دائمًا مع إمكانية عمل العكس، وإنني كاقتصادي مُحترِف واتَتْني الفرصة في الماضي لأتساءل عمَّا إذا كان البنك الدولي بمقدوره أن يفعل ما هو أفضل بكثير. إنني أُسَطِّر هذه التَّحفُّظات والانتقادات للطبع؛ لذلك لستُ بحاجةٍ إلى أن أُقدِّم «اعترافًا» أُلامِس فيه أفكارًا شَكِّيَّة، ومع هذا كله تَهيَّأتْ لي فرصة الترحيب بأن أُقدِّم للبنك آرائي الخاصة، عن التنمية وعن صَوغ السياسة العامة.
بيد أن هذا الكتاب ليس مُوجَّهًا أساسًا إلى العاملين في البنك أو العاملين له، أو غيره من المُنظَّمات الدولية، وليس مُوجَّهًا فقط لصُنَّاع السياسة والقائمين على التخطيط في الحكومات القومية، وإنما هو على الأصح عَمَل عام عن التنمية والتطوير والأسباب العملية التي تُشكِّل أساسًا مهمًّا، ويستهدف بخاصة المناقَشة العامة، ولقد أعدتُ تنظيم المحاضرات السِّت لِيتشَكَّل منها اثنا عشر فصلًا؛ متوخِّيًا كُلًّا من الوضوح وجَعْل الصيغة المكتوبة أكثر فَهمًا للقراء غير المتخصصين، وحاولتُ في حقيقة الأمر أن أجعل المناقشة بعيدة قدر المستطاع عن اللغة الاصلاحية الفنية، واكتفيتُ بالإشارة إلى الدراسات التي يغلب عليها الطابع الشكلي في الهوامش المُثبتة في نهاية الكتاب وهي مُخصَّصة لمن لديهم مَيل لهذا الضرب، وقدَّمتُ أيضًا تعقيبات على تَجارب وخبرات اقتصادية حديثة العهد وقَعَت في فترةٍ تالية لتاريخ المحاضَرات (التي أُلْقِيَت عام ١٩٩٦م)، من مثل هذه الأزمة الاقتصادية الآسيوية (التي أكَّدَت لي صِدْق أسوأ المَخاوف التي عَبَّرتُ عنها في تلك المحاضرات).
وإنني إذ أؤكد أهمية دَوْر المناقشات العامة باعتبارها أداة التغيير الاجتماعي والتَّقدُّم الاقتصادي (كما سيوضح النص) فإنني أيضًا، وفي اتِّسَاق مع هذه النظرة، أُقدِّم كتابي هذا أساسًا للتداول الصريح في الرأي، وللدراسة النَّقدية الفاحصة، لقد تَجنَّبتُ طوال حياتي أن أَتقدَّم بالنصح «لأصحاب السلطان»، والحقيقة أنني لم أعمل أبدًا مستشارًا لأية حكومة، مُفضِّلًا أن أطرح اقتراحاتي وانتقاداتي — أيًّا كانت قيمتها — للساحة العامة، وحيث إنني كنتُ سعيد الحظ بالحياة في ظل ثلاث ديمقراطيات لها أجهزة إعلامها التي تَعمل دون مُعوِّقات (الهند وبريطانيا والولايات المتحدة)، فإنني لم يكن لدي أبدًا سَبَب للشكوى من نقص الفُرص لعرض ما أرى وما أُفكِّر فيه على الجمهور، ومن ثَمَّ فإذا أثارَت دراستي أي اهتمامٍ وأَفضَتْ إلى المزيد من النقاش العام بشأن هذه المسائل الحيوية، فإنني هنا يكون لي كل الحق بأن أشعر بأنني كُوفِئتُ بخير الجزاء.