الفصل الثالث عشر

سمعتُ صوت الطبول وهي تتقدم في الشارع، ثم جاء صوت النايات والمزامير ثم انعطفوا عند الزاوية، وهم جميعًا يرقصون. امتلأ الشارع بهم. رآه مايرا ثم رأيته أنا. حين أوقفوا الموسيقى من أجل الراحة، جثا في الشارع معهم جميعًا، وحين بدَءوها مجددًا قفز لأعلى وراح يرقص في الشارع معهم. بالتأكيد كان ثملًا.

قال مايرا: الحقْ أنت به؛ فهو يكرهني.

لذا ذهبت ولحقت به وأمسكت به بينما كان جاثيًا ينتظر انطلاق الموسيقى وقلت: هيا يا لويس. ويحك لديك جولة مصارعة ثيران هذا العصر. لم يستمع إليَّ، بل كان يتطلع بشدة لبدء الموسيقى.

قلت: لا تكن أحمقَ لعينًا يا لويس. هيا لنعد أدراجنا إلى الفندق.

بعد ذلك بدأت الموسيقى مجددًا وقفز هو إلى الأعلى والتفَّ مبتعدًا عني وبدأ في الرقص. أمسكت بذراعه لكنه أفلت مني وقال: دعني وشأني. أنت لست بأبي.

عدت إلى الفندق وكان مايرا ينظر من الشرفة كي يرى إذا كنت سأُعيده أم لا. عاد إلى الداخل حين رآني، ونزل إلى الطابق السفلي وعلى وجهه علامات الاشمئزاز.

قلت: حسنًا، ما هو إلا مكسيكي همجي جاهل على أية حال.

قال مايرا: أجل، ومن سيقتل ثيرانه بعد أن يُطيحوا به؟

قلت: نحن على ما أعتقد.

قال مايرا: أجل، نحن. نحن من يقتل ثيران الهمج، وثيران السكِّيرين، وثيران راقصي رقصة ريو-ريو. أجل، نحن من يقتلها. نحن من يقتلها بالتأكيد. أجل. أجل. أجل.

أبي

حين أنظر إلى الأمر الآن، أعتقد أنَّ أبي كان مقدرًا له أن يُصبِح رجلًا بدينًا؛ واحدًا من هؤلاء الرجال البدناء القِصار المعتادين الذين تراهم دائمًا، لكنه لم يُصبح كذلك قط إلا في فترة قصيرة في أواخر حياته، ثم إنَّ ذلك لم يكن خطأه؛ فقد كان يقفز بالخيل فوق الحواجز فقط، وكان يستطيع أن يزداد وزنًا في ذلك الوقت. إنني أتذكر كيف كان يرتدي قميصًا مطاطيًّا فوق قميصَين رياضيَّين وفوق ذلك كنزة ضخمة، ويأخذني كي أركض معه في شمس الضحى الحارة. كان يقوم أحيانًا بجولة تجريبية بإحدى خيول راتسو في الصباح الباكر بعد العودة من تورينو في الرابعة صباحًا، ثم يعود بها مسرعًا إلى الإسطبلات في عربة أجرة، وبعدها حين يكون الندى قد غطَّى كل شيء، والشمس تبدأ لتوِّها في السطوع، كنت أساعده على خلع حذائه العالي الرقبة، ويرتدي هو حذاءً رياضيًّا، وكل هذه الملابس، ثم ننطلق.

كان يقول وهو يقفز على أطراف أصابع قدمَيه إلى الأعلى والأسفل أمام غرفة تبديل الملابس الخاصة بفرسان السباق: «هيا يا فتى! لنتحرك.»

بعد ذلك، كنا نبدأ الجري ببطء حول الساحة الداخلية مرة تقريبًا يكون هو فيها متقدمًا ويجري بسلاسة، ثم كنا نخرج من البوابة إلى أحد تلك الطرق التي تتفرع من سان سيرو التي تصطفُّ فيها الأشجار على الجانبَين. كنت أسبقه حين نصبح على الطريق، وكنت أتمكن من الجري جيدًا وأنظر حولي فأراه يهرول بسلاسة خلفي تمامًا، وبعد برهة أخرى عندما أنظر مجددًا يكون قد بدأ في التعرق. كان يتعرق بغزارة، غير أنه لم يكن يفتأ يُثابر مثبتًا عينَيه على ظهري، لكن حين يراني أنظر إليه كان يبتسم ابتسامة عريضة ويقول: «هل أتعرق بغزارة؟» وحين كان أبي يبتسم هكذا، لم يكن بوُسعِ أحد أن يفعل شيئًا سوى أن يبتسم مثله. كنا نواصل الركض باتجاه الجبال ثم يصيح أبي: «جو! تعال!» وكنت أنظر خلفي فأراه يجلس تحت شجرة بمنشفة كان يحملها على خصره وقد لفَّها حينئذٍ على رقبته.

كنت أعود وأجلس إلى جانبه، وكان هو يُخرِج حبلًا من جيبه ويبدأ في الوثب فوقه في الشمس بينما يسيل العرق على وجهه، وكان الحبل يثب في الغبار الأبيض بينما يطقطق: طق، طق، طق، وتزداد الشمس سخونة، ويزداد هو جدية في الوثب ذاهبًا آيبًا فوق رقعة من الطريق. لكَم كان من الممتع أن أرى أبي وهو يثب فوق الحبل! كان يستطيع أن يُدير الحبل بسرعة أو يثب فوقه ببُطء ومهارة. يا إلهي، كان يجب أن ترى الإيطاليين وهم ينظرون إلينا أحيانًا حين كانوا يمرون بنا؛ إذ يسيرون إلى المدينة إلى جانب ثيران بيضاء ضخمة تجرُّ عرباتهم. لقد كانوا بالتأكيد ينظرون إلينا كما لو أنَّ أبي كان مخبولًا. كان يبدأ في الوثب بسرعة إلى أن يتوقفوا تمامًا ويُشاهدوه، ثم يدفعون الثيران إلى الحركة بالصراخ فيها ونخزها بالمهاميز ويتحرَّكون ثانية.

حين كنت أجلس أُشاهده وهو يتمرن في الشمس الحارة، كنت أشعر بالتأكيد أنني شديد الولع به. لقد كان مرحًا بلا شك، وكان يُؤدِّي تمرينه بجِدٍّ شديد ويُنهي بالوثب فوق الحبل بانتظام وسرعة مما يجعل العرق يجري على وجهه كالمياه، ثم يُعلِّق الحبلَ على الشجرة ويأتي ليجلس بجواري ويميل مستندًا على الشجرة، والكنزة والمنشفة ملفوفتان حول رقبته.

كان يقول: «لا شك أنَّ الحفاظ على الوزن أمرٌ صعب للغاية يا جو.» ثم يستند بظهره ثانية ويغمض عينَيه ويأخذ أنفاسًا طويلة وعميقة، ويُتابع قائلًا: «ليس الأمر كما كنت شابًّا.» كان ينهض بعد ذلك وقبل أن يبرد، كنا نجري عائدَين إلى الإسطبلات. كانت تلك هي طريقته في الحفاظ على وزنه. كان قلقًا طوال الوقت. معظم فرسان السباق يستطيعون أن يخسروا ما يُريدونه من وزنٍ بركوب الخيل. يخسر الفارس قرابة الكيلوجرام من وزنه في كل مرة يركب فيها الخيل، لكنَّ أبي كان ضخمًا بعض الشيء ولم يكن بمقدوره أن يفقد ما يُريده من وزنٍ دون كل ذلك الركض.

أتذكَّر ذات مرة في سان سيرو أن ريجولي، وهو إيطاليٌّ شاب، الذي كان يعمل فارسَ سباق لحساب بوزوني قد خرج من ساحة تدريب الخيل قاصدًا الحانة ليشرب شيئًا باردًا، وكان ينقر حذاءه بسوطه بعد أن وزن نفسه للتو، وكان أبي قد وزن نفسه للتو أيضًا وخرج حاملًا السرج تحت ذراعه، وقد بدا محمرَّ الوجه ومتعبًا، وأضخم من الملابس التي يرتديها، ووقف هناك ينظر إلى ريجولي الشاب وهو يقف على الباب الخارجي للحانة هادئًا ونشيطًا. تحدثتُ إليه قائلًا: «ما الخطب يا أبي؟» ذلك أنني قد ظننت أنَّ ريجولي ربما قد اصطدم به أو شيئًا من هذا القبيل، لكنه لم يفعل شيئًا سوى أن راح ينظر إلى ريجولي وقال: «أوه، اللعنة على ذلك.» وتوجه إلى غرفة تغيير الملابس.

حسنًا، ربما كان سيُصبح الأمر على ما يُرام إن كنا قد أقمنا في ميلانو وشاركنا في سباقات الخيل في ميلانو وتورينو؛ ذلك أنه إذا كان هناك أية مضامير يسهل التسابقُ فيها، فهي في هذَين المكانَين. «تمامًا كالعزف على البيانولا يا جو.» كان هذا هو ما قاله أبي حين نزل عن فرسه في حجيرة الفوز بعد سباق الحواجز الذي رأى الإيطاليون أنه سباقٌ رائع. سألته ذات مرة، فقال: «التسابق في هذا المضمار سهل للغاية. أهم ما في الأمر هو الوتيرة التي تسير بها، ذلك هو ما يجعل قفز الحواجز خطيرًا يا جو. إننا لن نسير بأي وتيرة سريعة هنا، كما أن الحواجز ليست بالحواجز الخطيرة أيضًا. غير أنَّ الوتيرة هي ما يُسبِّب المتاعب دومًا، لا الحواجز.»

كان مِضمار سان سيرو هو أروعَ مضمار رأيته، لكنَّ أبي كان يقول إن حياتنا مُملة للغاية؛ إذ كنا نتردد ذَهابًا وإيابًا بين ميرافيوري وسان سيرو ونركب الخيل كلَّ يوم تقريبًا ونركب القطار كل ليلتَين.

كنت مهووسًا بالخيول أيضًا. ثمة شيء مميَّز فيها حين تخرج وتتجه إلى مواقعها في المضمار. إنها تبدو رشيقةً تتراقص بينما يُمسك الفرسان بزمامها بإحكام أو ربما يُرخونه قليلًا ليسمحوا لها بالجري بعض الشيء وهي تتجه إلى مواقعها. وحين تُصبح عند الحاجز، كان ذلك هو أكثرَ ما يَأسِرني. لا سيما في سان سيرو حيث الميدانُ الأخضر الكبير والجبال البعيدة وذلك الإيطالي البدين الذي يُصدِر إشارة البدء وهو يحمل سوطه الكبير والفرسان يتحرَّكون بها قليلًا، ثم ينفتح الحاجز ويدق الجرس، وتنطلق جميعها معًا، ثم تبدأ في التباعد بعضها عن بعض. أنت تعرف كيف تنطلق مجموعة من الخيول. إذا كنت في منصة المتفرجين تُراقب الأمر بمِنْظارك، فكل ما تراه هو اندفاعها بسرعة ثم ينطلق ذلك الجرس ويبدو الأمر كما لو أنه يدق لألف عام، ثم تستدير حول المنعطف. لم أرَ شيئًا كهذا على الإطلاق.

غير أنَّ أبي قال ذات يوم في غرفة تغيير الملابس بينما كان يرتدي ملابسه العادية: «ليست هذه بخيولٍ يا جو. إنَّ مثل هذه الأحصنة الهرمة كانت لتُقتَل في باريس لجلودها وحوافرها.» كان ذلك هو اليوم الذي فاز فيه بجائزة بريميو كوميرتشو إذ دفع بفرَسته لانتورنا في آخر مائة متر إلى خارج الميدان مثلما تندفع الفلينة من الزجاجة.

بعد بريميو كوميرتشو مباشرة، توقفنا عن المشاركة في أي نشاط وغادرنا إيطاليا. كان أبي وهوربروك وإيطالي بدين، كان يرتدي قُبَّعة من القش وظل يمسح وجهه بمنديل، يتجادلون في مقهًى بالجاليريا. كانوا جميعًا يتحدثون بالفرنسية، وكان الرجلان يُريدان شيئًا من أبي. وفي النهاية توقف أبي عن الكلام وجلس هناك ينظر إلى هولبروك، وظل الاثنان يُحاصرانه بالكلام، يتكلم أحدهما أولًا ثم يتكلم الآخر، وكان الإيطالي البدين يُقاطع هولبروك دائمًا.

تحدث أبي قائلًا: «هلا خرجت وابتعت لي نسخة من جريدة «ذا سبورتسمان» يا جو؟» وأعطاني عُملتَيْ سولدو دون أن يُحوِّل نظره عن هولبروك.

وهكذا خرجت من الجاليريا وسِرت إلى أن وصلت أمام دار أوبرا سكالا وابتعت الجريدة، وعُدت ووقفت بعيدًا بعض الشيء؛ لأنني لم أشأ أن أُقاطعهم. كان أبي يجلس مُسندًا ظهره في مقعده ينظر إلى قهوته في الأسفل ويعبث بملعقة، وكان هولبروك والإيطالي البدين واقفَين، وكان الإيطالي البدين يمسح وجهه ويهز رأسه. دخلت وتصرف أبي وكأن الرجلَين لا يقفان هناك وقال: «أتريد آيس كريم، يا جو؟» نظر هولبروك إلى أبي وقال ببطء وتمعُّن: «يا حقير!» وخرج هو والإيطالي البدين من بين الطاولات.

جلس أبي هناك وابتسم لي بعضَ الشيء، لكنَّ وجهه كان شاحبًا، وبدا سقيمًا للغاية، وكنتُ أنا خائفًا وشعرت بالغثيان بداخلي؛ لأنني كنتُ أعرف أنَّ شيئًا ما قد حدث، ولم أتخيل أنَّ أحدًا قد يصف أبي بأنه حقيرٌ وينجو بفَعلته. فتح أبي جريدة «ذا سبورتسمان»، وراح يقرأ عن سباقات الخيل لبعض الوقت ثم قال: «عليك أن تتحمل الكثير من الأمور في هذا العالم يا جو.» وبعد ذلك بثلاثة أيام، غادرنا ميلانو إلى الأبد في قطار تورينو المتجِه إلى باريس، بعد إقامة مزاد أمام إسطبلات تيرنر بعنا فيه كلَّ ما لم نستطع حمله في صندوق وحقيبة.

وصلنا إلى باريس في الصباح الباكر في محطة طويلة وقذرة، أخبرني أبي بأنها محطة ليون. كانت باريس مدينةً كبيرة للغاية مقارنةً بميلانو. في ميلانو، يبدو لك أنَّ كل فرد يتجه إلى مكان ما وأنَّ عربات الترام تذهب إلى وجهة ما، وليس هناك أيُّ نوع من أنواع التخبط، أما باريس فتعمُّها الفوضى وهم لا يُنْهونها أبدًا. غير أنني قد أحببتها، أحببتُ جزءًا منها على أية حال؛ ذلك أنَّ بها أفضلَ مضامير السباقات في العالم. يبدو أنها كانت هي ما يملأ المدينة بالحيوية والحركة، والشيء الوحيد الذي يُمكنك أن تُعوِّل عليه هو أنَّ الحافلات تسير كل يوم على خطِّها المقرر، مارةً بكل الأماكن التي يجب أن تذهب إليها في مسارها. لم أتمكَّن قط من معرفة باريس جيدًا؛ إذ إنني كنت آتي إليها من ميزون مع أبي تقريبًا مرة في الأسبوع أو مرتَين، وكان هو دائمًا يجلس على مقهى كافيه دي لا بيه على جانب الأوبرا مع مجموعة من أصدقائه من ميزون، وأعتقد أنَّ تلك المنطقة من أكثر مناطق المدينة ازدحامًا. بالرغم من ذلك، فلا بد لي من القول إنه من الغريب أنَّ مدينةً كبيرة مثل باريس لا يوجد بها مركز تجاري مثل الجاليريا، أليس كذلك؟

حسنًا، لقد ذهبنا لنعيش في ميزون-لافيت، حيث كان يعيش جميع أصدقائنا ما عدا المجموعة التي كانت تعيش في شانتيي، وقد كنا نعيش مع امرأة تُدعى السيدة مايرز وكانت تُدير نُزلًا. تكاد تكون ميزون هي أروعَ مكان للعيش رأيتُه في حياتي. ليست المدينة بالشيء الكثير، لكن بها بحيرة وغابة رائعة كنا نتسكَّع فيها طوال اليوم، أنا وبعض الفتيان، وقد صنع لي أبي مِقلاعًا أصبنا به العديد من الأشياء، لكنَّ أفضلها كان طائرَ عقعق. وفي أحد الأيام، أصاب به دِك أتكينسون الصغير أرنبًا ووضعناه تحت شجرة وكنا جميعًا نجلس حوله، وكان لدى دِك بعضُ السجائر، وفجأة قفز الأرنب وأسرع إلى الأجمات وطاردناه، لكننا لم نتمكن من العثور عليه. لكم حَظينا بالمرح في ميزون. كانت السيدة مايرز تُعطيني الغداء في الصباح وكنت أقضي طوال النهار خارج المنزل. تعلمت أن أتحدث الفرنسية بسرعة. إنها لغة سهلة.

فور أن وصلنا إلى ميزون، كتب أبي إلى ميلانو للحصول على رخصته، وظل يشعر بقلق بالغ إلى أن حصل عليها. كان يجلس مع مجموعة أصدقائه على مقهى كافيه دي باري في ميزون، وكان هناك الكثيرُ من الرجال الذين تعرَّف إليهم حين كان يشترك في سباقات الخيل في باريس قبل الحرب، يعيشون في ميزون، وكان هناك الكثير من الوقت للجلوس؛ إذ إنَّ عمل فارسي السباق في إسطبلات السباق ينتهي كله في التاسعة صباحًا؛ فهم يأخذون المجموعة الأولى من الخيول لكي يَعْدوا بها في الخامسة والنصف صباحًا، ثم يأخذون المجموعة الثانية في الثامنة صباحًا. وهذا يعني الاستيقاظَ في موعد مبكِّر للغاية والنوم مبكرًا أيضًا. وإذا كان أحد فارسي السباق يتسابق لحساب شخصٍ آخر، فهو لا يستطيع الإسراف في شرب الخمر لأنَّ المدرب يُراقبه دومًا إذا كان صغيرًا، وإن لم يكن صغيرًا، فعليه أن يُراقب نفسه دومًا؛ لذا فحين لا يكون لدى فارس السباق من عمل يُؤدِّيه يجلس في معظم الأحيان على مقهى كافيه دي باري مع أصدقائه، ويقضون معًا نحو ساعتَين أو ثلاثٍ يحتسون مشروبًا كنبيذ فيرموث مع ماء الصودا ويتحدثون ويقصون الحكايات ويلعبون البلياردو ويبدو الأمر وكأنهم في نادٍ أو في الجاليريا في ميلانو. غير أنَّ ذلك لا يُشبِه الجاليريا حقًّا؛ لأنَّ هناك الجميع يتجولون طوال الوقت، والجميع يجلسون حول الطاولات أيضًا.

حسنًا، حصل أبي على رخصته بالفعل. لقد أرسلوها إليه دون عناء، واشترك في بضعة سباقات. كان ذلك في مدينة أميان في شمال البلاد وما إلى ذلك، لكنه لم يحصل على عمل ثابت. كان الجميع يُحبونه، وكنت كلما أتيت إلى المقهى في وقت الضحى وجدت شخصًا يُشاركه الشراب لأنَّ أبي لم يكن صارمًا كمعظم فرسان السباق الذين جنَوْا أول دولار لهم من المشاركة في سباقات الفروسية في المعرض العالمي في سانت لويس في عام ١٩٠٤. هذا ما كان أبي يقوله حين يُمازح جورج بيرنز. بالرغم من ذلك، يبدو أنَّ الجميع قد تجنَّبوا إشراك أبي في أيٍّ من السباقات.

كنا نذهب كل يوم بالسيارة من ميزون إلى حيث يذهبون، وقد كان ذلك هو الجانب الأكثر إمتاعًا على الإطلاق. كنت سعيدًا بعودة الخيول من دوفيل وكنت سعيدًا بالصيف أيضًا، بالرغم من أنَّ ذلك كان يعني التوقفَ عن التسكُّع في الغابة؛ إذ إننا كنا سنركب إلى أونجَن أو ترومبلي أو سان كلو ونُشاهدها من مِنصَّة المدربين وفرسان السباق. لقد تعلمتُ الكثير عن سباقات الخيول بالفعل من الذَّهاب مع تلك المجموعة من الأصدقاء، وأمتع ما في الأمر أننا كنا نخرج كل يوم.

أتذكَّر إحدى المرات التي كنا فيها في سان كلو. كان سباقًا كبيرًا بقيمة مائتَي ألف فرنك وسبع خيول كان المتوقَّع فوزه منها هو كِزار. ذهبت إلى ساحات التدريب كي أرى الخيول مع أبي، وقد كانت خيولًا لم يُرَ مثلها. كان كزار هذا فرسًا ضخمًا رائعًا أصفر اللون وكان يبدو وكأنه قد وُلِد للسباق فحسب. لم أرَ فرسًا مثله قط. كان يُقاد فيما بين ساحات التدريب ورأسه للأسفل وحين مر بي اهتزت له روحي؛ إذ كان جميلًا للغاية. لم يوجد من قبل فرسٌ بهذه الروعة والرشاقة وتلك البِنْية المثالية للسباق. وقد سار في ساحة التدريب يخطو بقدمَيه بهدوء وحرص، ويتحرَّك بسلاسة كأنه يعرف ما عليه أن يفعله تمامًا؛ فلم يكن يتحرَّك باندفاع أو يقف على ساقَيه بعينَين جامحتَين مثلما تفعل تلك الخيول الرديئة المحقونة بالمواد المخدرة. كان الجمهور غفيرًا حتى إنني لم أتمكَّن من رؤيته ثانية فيما عدا سيقانه وهو يركض وأجزاء من جسده الأصفر. شق أبي طريقه من بين الحشد وتبعتُه إلى غرفة تغيير الملابس لفرسان السباق في الخلف بين الأشجار، وقد كان هناك حشدٌ كبير أيضًا، لكنَّ الرجل الذي كان يرتدي قبعة مستديرة ويقف على الباب أومأ برأسه تحيةً إلى أبي وسمح لنا بالدخول، وكان الجميع هناك يرتدون ملابسهم ويدخلون القمصان من فوق رءوسهم ويرتدون الأحذية العالية الرقبة وكان الجوُّ حارًّا وتنتشر فيه رائحة العرق وزيوت التدليك، وكان الجمهور يُراقب ما يحدث.

سار أبي وجلس بجوار جورج جاردنر الذي كان يرتدي سرواله وقال: «ما النبأ يا جورج؟» قال ذلك بنبرة عادية تمامًا؛ إذ إنه ما من فائدة في ترقُّب الأجواء؛ فإما أنَّ جورج يستطيع أن يُخبره، وإما أنه لا يستطيع.

تحدَّث جورج بصوت خفيض للغاية وقد انحنى يُزرِّر الجزء السفلي من سروال الركوب، وقال: «لن يفوز.»

تحدث أبي وهو يميل بالقرب منه كي لا يسمعه أحد وقال: «ومن سيفوز؟»

قال جورج: «كيركابن، وإذا فاز، فلتحتفظ لي ببعض التذاكر.»

قال أبي لجورج شيئًا بصوته المعتاد، وقال جورج بنبرة تنمُّ عن المزاح: «لا تُراهن أبدًا على أي شيء أُخبرك به.» وانطلقنا إلى الخارج مُرورًا بالجمهور الذي كان يُراقب ما يحدث واتجهنا إلى آلة تسجيل المراهنات من فئة ١٠٠ فرنك. غير أنني كنتُ أعرف أنَّ شيئًا كبيرًا سيحدث إذ إنَّ جورج هو الذي سيتسابق بكزار. توقف أبي في الطريق وحصل على واحدة من نشرات الرهان الصفراء التي كان مدونًا فيها النِّسَب الأولية للرهان وكان كزار بنسبة ٥ إلى ١٠ فحسب، وكان يليه في ذلك سيفيسيدوت بنسبة ٣ إلى ١، وكان الخامس في القائمة هو كيركابن بنسبة ٨ إلى ١. راهن أبي بخمسة آلاف على فوز كيركابن وأضاف ألفًا على الترتيب، وسرنا حول المدرج المسقوف من الخلف لكي نصعد الدرَج ونتخذ مكانًا لمشاهدة السباق.

كان المكان مكتظًّا للغاية، وفي البداية تقدَّم رجل يرتدي مِعطفًا طويلًا وقبعة رمادية عالية ويحمل سوطًا مَثنيًّا في يده، ثم خرجَت الخيول واحدة بعد الأخرى وعلى ظهر كل منها فارسٌ وصبي من صبيان الإسطبل على كل جانب من جانبَيها يُمسك بلجام كل منها ويسير معها، وهذه المجموعة بأكملها كانت تتبع الرجل العجوز. ظهر الحصان الأصفر الضخم كزار أولًا. لم يكن يبدو ضخمًا جدًّا حين تنظر إليه في البداية حتى ترى طول سيقانه وبِنْيته بأكملها وكذلك الطريقة التي يتحرَّك بها. يا إلهي! لم أرَ حصانًا مثله من قبل. كان جورج جاردنر يمتطيه، وراحا يتحرَّكان ببُطء خلف الرجل العجوز الذي كان يرتدي قبعة رمادية عالية ويسير وكأنه مدير حَلْبة في السيرك. خلف كزار الذي كان يسير الهوينا بصفرته في الشمس، كان هناك حصانٌ أسودُ جيد البِنْية له رأسٌ جميل يركبه تومي آرتشيبولد، وبعد الحصان الأسود كانت هناك مجموعةٌ من خمس خيول تتحرك جميعها ببُطء في تتابع وتمر بالمدرج المسقوف ومنطقة الوزن. قال أبي إنَّ الحصان الأسود هو كيركابن فدقَّقت النظر فيه، وقد كان جميلًا بالفعل، لكنه لم يكن يُقارَن بكزار على الإطلاق.

هلَّل الجميع لكزار حين مر، وقد كان فرسًا في غاية الروعة بكل تأكيد. سارت مجموعة الخيول حول المرج ثم عادت تقترب من نهاية مِضمار السباق، وطلب رئيس السيرك من صبيان الإسطبل أن يتركوا الخيول واحدة بعد الأخرى كي تتمكَّن من العَدْو بجوار المدرَّج في طريقها لمكان الانطلاق ويتمكن الجميع من رؤيتها جيدًا. لم يكد يمرُّ أي وقت على الإطلاق بعد أن وصلت إلى مكان الانطلاق حتى دقَّ الناقوس وكانت الخيول قد انطلقت من مواقعها، وكان يُمكنك أن تراها بعيدًا عبر المضمار تبدأ في الجري معًا عند الدوران الأول كمجموعة من الخيول الخشبية الصغيرة. كنت أُراقبها بالمنظار وكان كزار متأخرًا بعض الشيء، بينما كان يتقدم السباقَ إحدى الخيول ذات اللون البني المحمر. راحت الخيول تندفع وتستدير وعادت وهي تدق الأرض دقًّا وكان كزار متأخرًا للغاية حين مرت الخيول بنا، بينما كان كيركابن هذا في المقدمة يجري بسلاسة. يا إلهي! إنه لأمر مَهيبٌ حين تمر بك ثم يكون عليك أن تُشاهدها وهي تبتعد وتغدو أصغرَ فأصغر ثم تتجمع عند المنعطفات ثم تستدير باتجاه آخر جزء مستقيم من المضمار وأنت تشعر أنك تُريد أن تسبَّ وتلعن وتزداد رغبتك في ذلك أكثر فأكثر. وأخيرًا، عبرت المنعطف الأخير ووصلت إلى الجزء المستقيم وكان كيركابن يسبق بعيدًا في المقدمة. بدا الجميعُ في هيئة غريبة وكانوا جميعًا يُردِّدون: «كزار» بشيء من الاستهجان، ثم اقتربت الخيول وهي تدقُّ الأرض بالقرب من الجزء المستقيم الأخير، ثم برز شيء من بين المجموعة في منظاري، جزء من حصان أصفر الرأس وبدأ الجميع يصيحون: «كزار» وكأنهم مجانين. أتى كزار أسرعَ من أي شيء رأيته في حياتي، واقترب من كيركابن الذي كان يجري بأقصى سرعة قد يجري بها حصان أسود مع ضرب الفارس له بالمنخاس ضربًا مبرحًا، وقد كادا أن يكونا متحاذيَيْن للحظة ثم بدا كزار وكأنه يجري بضِعف السرعة بتلك القفزات الكبيرة وذلك الرأسِ المرفوع، لكن حين صارا نِدَّين كانا قد عبرا خط النهاية وحين ظهرَت الأرقام في أماكنها كان الحصان رقم ٢ في المركز الأول مما كان يعني أنَّ كيركابن قد فاز.

راح جسمي كله يرتجف وشعرت بشيء من الإعياء، ثم حُشِرنا جميعًا مع الناس عند نزول الدرج للوقوف أمام اللوحة حيث كانوا سيعرضون ما حقَّقه كيركابن. والحق أنني كنت قد نسيت في أثناء مشاهدة السباق ذلك المالَ الكثير الذي راهن به أبي على كيركابن. كنت أرغب بشدة في فوز كزار. أما الآن وقد انتهى كل شيء، فقد كان من الرائع أن أعرف أننا قد حظينا بالفائز.

قلت لأبي: «كان سباقًا رائعًا يا أبي، أليس كذلك؟»

نظر إليَّ بتعبير طريف بعض الشيء وقبعته المستديرة على ظهر رأسه، وقال: «جورج جاردنر فارسُ سباقٍ رائعٌ بالتأكيد. من المؤكد أنَّ منع ذلك الحصان كزار من الفوز كان يستلزم فارسًا بارعًا.»

لقد كنت أعرف أنَّ في الأمر شيئًا غريبًا طوال الوقت، لكنَّ قول أبي لذلك صراحة بهذا اليقين قد سلب مني كل متعة ولم أشعر بتلك المتعة الحقيقية بعد ذلك قطُّ، حتى حينما عرضوا الأرقام على اللوحة ورن الجرس ورأينا أنَّ أرباح كيركابن كانت ٦٧٫٥٠ لكل ١٠. كان جميع المحيطين يقولون: «مسكين كزار! مسكين كزار!» أما أنا فقد كنت أتمنى لو أنني كنت فارس سباق وسابقت بكزار بدلًا من ذلك الحقير. وقد كان من الغريب أن أُفكِّر في جورج جاردنر على أنه حقير؛ إذ إنني كنت أحبه، ثم إنه قد أخبرنا بالفائز، لكنني أعتقد أنَّ تلك هي حقيقته على أية حال.

جنى أبي الكثيرَ من المال من وراء ذلك السباق وصار يزور باريس كثيرًا. حين كانوا يتسابقون في ترومبلي، كان يطلب منهم أن يُوصِلوه إلى باريس في طريق عودتهم إلى ميزون وكنا نجلس أنا وهو في الخارج على مقهى كافيه دي لا بيه ونُشاهد الناس وهم يمرون. الجلوس هناك أمر مُسلٍّ؛ فهناك تمرُّ حشودٌ من الناس ويأتي إليك أنواعٌ شتى من الناس يُحاولون أن يبيعوا لك بعض الأغراض، وقد كنت أحب الجلوس هناك مع أبي. كان ذلك هو أكثرَ وقت نستمتع فيه. كان يمر بنا رجال يبيعون أرانبَ مضحكة تقفز حين تضغط أنت على زر، وكانوا يأتون إلينا ويُمازحهم أبي. كان أبي يُتقن الفرنسية إتقانَه للإنجليزية وكان جميع هؤلاء الرجال يعرفونه؛ فمن السهل دومًا تمييزُ فارس السباق، ثم إننا كنا نجلس على الطاولة نفسِها دومًا، وقد اعتادوا على رؤيتنا هناك. كان هناك رجال يبيعون صحف الزواج وفتيات يَبِعن بيضًا مطاطيًّا، كنت إذا ضغطت على الواحدة منها يخرج منها ديك، وكان هناك رجل هزيل جدًّا يبيع بطاقاتٍ بريديةً لباريس ويعرضها على الجميع، ولم يكن أحد يشتري أيًّا منها بالطبع، ثم كان يعود ويُريهم الجانب السفليَّ من البطاقات فيتضح أنها بطاقات بذيئة، وكان الكثير من الأشخاص يُقبِلون على شرائها.

يا إلهي! إنني أتذكر الأشخاص المرحين الذين كانوا يمرون بنا. كان هناك فتيات يأتين في وقت العشاء بحثًا عن رجل يُرافقهن ويدعوهن إلى الطعام، وكن يتحدَّثن إلى أبي الذي كان يُمازحهن بالفرنسية وكن يربتن على رأسي ثم يمضين. وذات مرة، كانت هناك سيدة أمريكية تجلس مع ابنتها على الطاولة المجاورة لنا وتأكلان الآيس كريم، وقد ظللت أنظر إلى الفتاة وقد كانت رائعةَ الجمال وابتسمتُ إليها وابتسمتْ إليَّ لكنَّ ذلك هو كل ما آل إليه الأمر؛ إذ إنني ظللت أترقَّبها هي وأمها كل يوم، وخطَّطت لكي أتحدث إليها، ورُحت أفكر فيما إذا كانت أمها ستسمح لي باصطحابها إلى أوتوي أو ترومبلي بعد أن أتعرف عليها، لكنني لم أرَ أيًّا منهما مجددًا. حسنًا، أعتقد أنَّ الأمر ما كان ليُفلِح على أية حال؛ إذ إنني حين أُفكر في الأمر الآن أتذكر أنَّ الطريقة التي ظننت أنها الأفضل في الحديث إليها هي أن أقول لها: «اعذريني، لكن هل لي أن أُقدِّم لكِ رِهانًا رابحًا في أونجَن اليوم؟» وبالرغم من كل شيء ربما كانت لتحسبني بائعًا لتذاكر الرهان، فليس هناك من أحدٍ يُحاول حقًّا أن يُقدِّم لها رهانًا رابحًا.

كنا نجلس في كافيه دي لا بيه، أنا وأبي، وكان لنا تأثيرٌ كبير على النادل؛ إذ كان أبي يشرب الويسكي الذي كان ثمن الكأس منه خمسةَ فرنكات مما كان يعني إكرامية جيدة عند حساب عدد الكئوس. كان أبي يشرب أكثر مما رأيته قبل ذلك على الإطلاق، لكنه لم يكن يمتطي خيولًا على الإطلاق آنذاك، ثم إنه قال إنَّ الويسكي يُساعده على إنقاص وزنه. غير أنني قد لاحظت أنَّ وزنه كان يزداد في حقيقة الأمر. كان قد ابتعد عن أصدقائه القدامى في ميزون، وبدا أنه يستمتع بالجلوس فحسب في الشارع معي. بالرغم من ذلك، فقد كان يُنفق الكثير من المال في السباق كل يوم. كان يبدو عليه الحزن بعض الشيء بعد آخر سباق إذ كان قد خسر في ذلك اليوم، إلى أن نصل إلى طاولتنا ثم يتناول أول مشروب له من الويسكي ثم يُصبح على ما يرام.

كان يقرأ جريدة «باري سبور» ثم ينظر إليَّ قائلًا: «أين فتاتك يا جو؟» ليُمازحني بشأن ما قلته له عن الفتاة التي كانت تجلس في ذلك اليوم على الطاولة المجاورة. وكان ذلك يجعل وجهي يحمرُّ خجلًا، لكنني كنت أُحب أن يُمازحني بشأنها. كان ذلك يمنحني شعورًا جيدًا. كان يقول: «استمر في البحث عنها يا جو؛ فهي سوف تعود.»

كان يسألني بعض الأسئلة عن بعض الأشياء، وكان يضحك لبعض الأشياء التي أُخبره بها. بعد ذلك، كان يبدأ هو في الحديث. كان يتحدث عن ركوب الخيل في مصر أو في سان موريتس على الجليد قبل أن تفارق أمي الحياة، وعن وقت الحرب حين كانوا يعقدون سباقاتٍ منتظمةً في جنوب فرنسا دون نقود ولا رِهان ولا جمهور ولا أي شيء؛ للحفاظ على مستوى الخيول فحسب. وكان يتحدث عن سباقات منتظمة يُرهِق فيها فرسانُ السباق خيولَهم بشدة. يا إلهي! كان يمكن أن أظل أستمع إلى أبي وهو يتحدث لساعات، لا سيما حين يكون قد تناول كأسَين أو نحو ذلك من الويسكي. كان يُخبرني عن طفولته في كنتاكي والذهاب لصيد الراكون، وعن الأيام الخوالي في الولايات المتحدة قبل أن يفسد كل شيء هناك. وكان يقول: «حين يُصبح معنا مبلغ جيد من المال يا جو، ستعود إلى الولايات المتحدة وتتلقى تعليمك.»

وكنت أسأله: «ولماذا أعود إلى هناك لأتلقى التعليم إذا كان كل شيء فاسدًا هناك؟»

وكان يُجيب: «الأمر مختلف الآن.» ثم يدعو النادل كي يدفع ثمن ما تناوله من الويسكي، ثم نركب سيارة أجرة إلى محطة سان لازار ونركب القطار المتجه إلى ميزون.

ذات يوم في أوتوي بعد حضور سباق حواجز، ابتاع أبي الحصان الفائز مقابل ٣٠ ألف فرنك. كان عليه أن يُزايد قليلًا للحصول عليه، لكنَّ الإسطبل باعه له أخيرًا وحصل أبي على رخصته واللباس الذي يُمثَّل به في غضون أسبوع. كم كنت فخورًا بأبي حين أصبح مالكًا لحصان. رتَّب له أبي مكانًا في الإسطبل الخاص بتشارلز دريك، وانقطع أبي عن زيارة باريس، وبدأ جريه وتعرقه مجددًا، وكنت أنا وهو فريقَ الإسطبل بكامله. كان اسم حصاننا جيلفورد، وكان حصانَ قفز جميلًا ورقيقًا من سلالة أيرلندية. تولَّى أبي تدريبه بنفسه وركوبه بنفسه أيضًا، معتقدًا أن هذا كان استثمارًا جيدًا. كنتُ فخورًا بكل شيء وكنتُ أرى أنَّ جيلفورد على القدر نفسِه من البراعة التي كان يتمتع بها كزار. كان حصانًا جيدًا بارعًا في القفز، لونه بني محمر، يجري بسرعة على الأرض المنبسطة إذا طلبت منه ذلك، وقد كان جميل الشكل أيضًا.

لكم كنت مولعًا به! المرة الأولى التي سابق به فيها أبي، جاء في المرتبة الثالثة في سباق حواجز لمسافة ٢٥٠٠ متر، وحين نزل عنه أبي في مربط الخيل متعرقًا وسعيدًا، وذهب للوزن، كنت فخورًا به كما لو أنه كان أولَ سباق يشترك فيه على الإطلاق. القضية أنه حين يتوقف رجلٌ عن ركوب الخيل لفترة طويلة، فأنت لا تستطيع أن تُصدِّق فعلًا أنه قد ركبها من قبل. أصبح الأمر كله مختلفًا الآن؛ إذ إنه في ميلانو، حتى السباقات الكبيرة لم يَبدُ أنها كانت تُشكِّل أي فرق لدى أبي؛ فلم يكن يتحمس على الإطلاق إذا فاز، أما الآن فالوضع مختلف حتى إنني لم أكن أخلد إلى النوم إلا قليلًا في الليلة السابقة على السباق، وكنت أعرف أنَّ أبي متحمس أيضًا، حتى وإن لم يُظهر ذلك. إنَّ دخول السباق بنفسك وعلى حصان تملكه يُشكِّل فرقًا هائلًا.

المرة الثانية التي سابق فيها أبي وجيلفورد، كان يوم أحد مطيرًا في أوتوي، في سباق بري دي مارا، وهو سباقُ حواجزَ لمسافة ٤٥٠٠ متر. فور أن انطلق، سارعتُ إلى المدرج بمنظاري الجديد الذي اشتراه لي أبي كي أُشاهدهما به. انطلقا من الطرف البعيد للمضمار، وقد كان هناك مشكلةٌ عند الحاجز؛ فثَمة فرس كان يرتدي الغمامة الواقية قد أحدث جلبة كبيرة وراح يشبُّ فيما حوله، واصطدم بالحاجز مرة واحدة، غير أنني استطعت أن أرى أبي في سترته السوداء وصليب أبيض وقلنسوة سوداء يجلس بظهرٍ منتصب على جيلفورد ويربت عليه بيده. بعد ذلك اندفعوا قافزين ثم اختفَوْا من مجال البصر خلف الأشجار وكان الناقوس يُقرَع بشدة وتقعقع نوافذ أكشاك الرهان وهي تُغلق. يا إلهي! لكم أثارني ذلك، وكنت خائفًا من النظر إلى الخيول، لكنني ثبَّتُّ المنظار حيث كانت ستخرج من خلف الأشجار، وقد خرجت بعد ذلك وظهرت السترة السوداء القديمة في المرتبة الثالثة، وكانت تقفز جميعًا فوق الحاجز وكأنها طيور. اختفت الخيول عن النظر ثانية بعد ذلك، ثم جاءت تدقُّ الأرض وهي تنزل من المنحدر، وقد كانت تسير جميعها بسلاسة ونعومة، ثم اجتازت بسهولة السياجَ وأخذت تبتعد عنا وقد تكدست معًا وكأنها وحدة واحدة. كانت تبدو وكأنك تستطيع السير على ظهورها؛ إذ كانت تسير متكتلة في مجموعة واحدة وبسلاسة شديدة. قفزت بعد ذلك الحاجز الضخم المزدوج وسقط شيء. لم أستطع أن أرى مَن سقط، لكن بعد لحظة واحدة نهض الفرس وراح يعدو حُرًّا، أما البقية فقد كانت لا تزال متكتلة معًا وراحت تستدير مع المنعطف الأيسر الطويل متجهة إلى المضمار المستقيم. قفزَت الجدار الحجري ونزلَت عنه متكدسةً إلى المضمار باتجاه الحاجز المائي الكبير أمام المنصات. رأيتها تقترب وصِحْت إلى أبي وهو يمر، وقد كان يسبق بفرسه في المقدمة ويتقدم عن الباقين بمسافة تُعادل طولَ حِصان، وينطلق بخفة قرد وكان الجميع يتسابقون نحو الحاجز المائي. انطلقَت الخيول فوق سياج الحاجز المائي الكبير معًا، ثم حدث تصادم وابتعد اثنان من الخيول إلى الجانب واستمرَّا في العَدْو، وتكدست ثلاث خيول أخرى فوق بعضها. لم أتمكن من رؤية أبي في أي مكان. استندت إحدى الخيول على ركبتَيها ونهضت بينما تمسَّك الفارس باللجام وركب عليها واندفع سعيًا للفوز بمركز جيد. كان الحصان الآخر يقف بمفرده بعيدًا وهو يهز رأسه بعنف ويعدو، بينما يتدلَّى منه زِمام اللِّجام، وأخذ الفارس يترنح إلى أحد جانبَي المضمار أمام السياج. بعد ذلك، تدحرج جيلفورد إلى الجانب ونهض عن أبي وبدأ يجري على ثلاثة سيقان بينما كان حافره الأمامي المخلوع يتدلَّى، ورقد أبي هناك على العُشب مستلقيًا ووجهه إلى الأعلى والدم يُغطِّي جانب رأسه. هبطتُ من المنصة جريًا واصطدمت بمجموعة من الناس ووصلت إلى السور وأمسك بي شرطي، واتجه رجلان ضخمان من حاملي النقالات إلى أبي، وعلى الجانب الثاني من المضمار رأيت ثلاث خيول تفصل بينها مسافة كبيرة، تظهر من خلف الأشجار وتقفز من فوق الحاجز.

كان أبي ميتًا حين أحضروه إلى الداخل، وبينما كان الطبيب يستمع إلى ضربات قلبه بشيء يضعه في أُذنَيه، سمعتُ صوت طلقة أتى من المضمار، وذلك كان يعني أنهم قد قتلوا جيلفورد. تمددتُ بجوار والدي حين حملوا النقالة إلى غرفة المستشفى، وتمسكت بالنقالة ورُحت أبكي وأبكي، وكان هو يبدو شاحبًا جدًّا ومغيَّبًا وميتًا بشكل بشع للغاية، ولم أستطع أن أُقاوم شعوري بأنه ربما ما كان عليهم أن يُطلِقوا الرصاص على جيلفورد إذا كان أبي قد مات. ربما كان حافره سيتحسن. لا أدري. لقد كنت أحب أبي حبًّا جمًّا.

بعد ذلك جاء رجلان وربَّت أحدهما على ظهري ثم ذهب وألقى نظرة على أبي، وسحب ملاءة من فوق السرير المتنقل وغطَّاه بها، بينما كان الآخر يتحدث في الهاتف بالفرنسية ليطلب سيارة إسعاف تنقله إلى ميزون. لم أستطع أن أتوقف عن البكاء؛ فقد أخذت أبكي، وأبكي، وأختنق بالبكاء بعض الشيء، ودخل جورج جاردنر وجلس بجانبي على الأرض ووضع ذراعه حولي وقال: «هيا يا جو. إنك فتًى كبير. انهض وسوف نخرج وننتظر سيارة الإسعاف.»

خرجت أنا وجورج إلى البوابة وكنت أحاول التوقف عن النحيب، ومسح جورج وجهي بمنديله، ووقفنا إلى الخلف على مَبْعدة بعض الشيء بينما كان الجمهور يخرج من البوابة، وتوقف رجلان بالقرب منا ونحن ننتظر خروج الجمهور من البوابة وكان أحدهما يعد مجموعة من تذاكر المراهنة وقال: «حسنًا، لقد نال بَتلَر ما يستحقه بالفعل.»

تحدث الرجل الآخر قائلًا: «أنا لا يُهِمني على الإطلاق ما حدث لهذا النصاب. لقد جنى على نفسه بما كان يفعله.»

قال الرجل الآخر وهو يُمزِّق مجموعة التذاكر إلى نصفين: «أعتقد أنَّ ذلك صحيح.»

ونظر إليَّ جورج جاردنر ليرى إذا كنت قد سمعت هذا أم لا، وكنت قد سمعته بالفعل؛ فقال: «لا تستمع إلى هذَين الأحمقين يا جو. لقد كان أبوك رجلًا رائعًا.»

لكنني لا أدري. يبدو أن هؤلاء عندما ينخرطون في الكلام عن أحدٍ، لا يتركون شيئًا فيه إلا ونالوا منه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤