الفصل الرابع عشر

رقد ماييرا ساكنًا ورأسه بين ذراعَيه، ووجهه في الرمال. شعر بالدفء واللزوجة من النزيف. وكان يشعر بقرن الثور وهو يضربه في كل مرة. أحيانًا كان الثور يضربه برأسه فقط. وذات مرة اخترقه القرن تمامًا وقد شعر به ينغرس في الرمال. أمسك أحدهم بالثور من ذيله. كانوا جميعًا يسبُّونه ويلعنونه ويُلوِّحون بالرداء الأحمر في وجهه حتى ابتعد. حمل بعض الرجال ماييرا وراحوا يَجرُون به باتجاه الحواجز وخرجوا به من البوابة عبر الممر المحيط بالمدرج المسقوف من الأسفل واتجهوا به إلى المستشفى. وضعوا ماييرا على سرير، وخرج أحد الرجال في طلب الطبيب، ووقف الآخرون في أماكنهم. أتى الطبيب جريًا من الإسطبل حيث كان يخيط جروح خيول البيكادورات. اضطُرَّ إلى التوقف كي يغسل يدَيه. كان هناك صياح عظيم في المدرج المسقوف بالأعلى. شعر ماييرا بأن كل شيء يُصبح أكبر فأكبر، ثم أصغر فأصغر. بعد ذلك، غدا كل شيء أكبر فأكبر، ثم أصغر فأصغر. بعد ذلك، بدأ كل شيء يجري أسرع فأسرع، مثلما يكون الحال حين يُسرِّعون وتيرة شريط فيلم سينمائي. وبعد ذلك فارق الحياة.

نهر كبير ذو قلبَين

الجزء الأول

مضى القطار على خط السكة الحديدية حتى توارى بعيدًا عن مجال البصر، مستديرًا حول أحد التلال التي احترقت أشجارها. جلس نِك على حُزْمة قماش القنب والأغطية التي ألقاها عامل الأمتعة من باب عربة الأمتعة. كانت البلدة قد اختفت كل معالمها، ولم يتبقَّ منها سوى السكة الحديدية والريف المحترق. الحانات الثلاث عشرة التي كانت تصطفُّ على الشارع الوحيد في سيني لم يتبقَّ لها أثر. وبرزت أساسات فندق مانشَن هاوس من فوق الأرض. كانت الحجارة قد تكسَّرت وتشقَّقت بفعل النيران. كان ذلك هو كل ما تبقَّى من بلدة سيني. وحتى سطح الأرض كان محترقًا.

تطلع نِك إلى الطريق المحترق على جانب التل حيث كان يتوقَّع أن يرى منازل البلدة المتناثرة، ثم سار على قضبان السكة الحديدية إلى الجسر الذي يمر فوق النهر. كان النهر هناك. وقد كانت تتشكَّل دوامات حول دعائم الجسر المصنوعة من جذوع الأشجار. نظر نِك في المياه الصافية التي انعكس عليها لون القاع البني المغطَّى بالحصى، وشاهد أسماك السلمون المرقطة تُحافظ على ثباتها في التيار بخفقان زعانفها. وبينما كان يُشاهدها، راحت تُغيِّر مواقعها بزوايا سريعة وقد كان ذلك لكي تُحافظ على ثباتها في المياه السريعة من جديد. أخذ نِك يُراقبها لفترة طويلة.

راقبها وهي تُحافظ على ثباتها وأنوفها في التيار، ورأى الكثير منها في المياه العميقة سريعة الحركة، وقد بدَت مشوَّهةً بعض الشيء؛ إذ كان ينظر بعيدًا إلى القاع عبر السطح البِلَّوري المحدب للمياه، السطح الذي راح يندفع وينتفخ بسلاسةٍ في وجه أكوام الجذوع الخاصة بالجسر. في قاع النهر، كانت هناك أسماكُ السلمون المرقَّطة الكبيرة. لم يرَها نِك في البداية. رآها بعد ذلك في قاع النهر، أسماكٌ كبيرة تُحافظ على ثباتها على القاع الحصَوي في غشاوة متحرِّكة من الرمال والحصى، يُثيرها التيار على دفقات متقطعة.

نظر نِك إلى النهر في الأسفل من فوق الجسر. كان يومًا حارًّا. طار أحد طيور الرفراف أعلى التيار. مضى وقت طويل منذ أن نظر نِك إلى مجرى نهر ورأى أسماك السلمون المرقطة. كانت رؤيتها تمنحه شعورًا كبيرًا بالرضا. وبينما راح ظل طائر الرفراف يتحرَّك أعلى النهر، اندفعت سمكة سلمون كبيرة إلى أعلى التيار في زاوية طويلة، ولم يكن سوى ظلِّها هو الذي يُحدِّد الزاوية، ثم تلاشى ظلُّها حين وصلَت إلى سطح المياه وسقطت عليها الشمس، وحين عادت إلى التيار تحت السطح، بدا أنَّ ظلها يطفو في النهر مع التيار، واتجهَت دون مُقاومة لموقعها تحت الجسر حيث صمدَت في مواجهة التيار.

خفق قلبُ نِك حين تحركَت سمكة السلمون. عاودَه ذلك الشعورُ القديم كاملًا.

التفت ونظر إلى مجرى النهر. كان يمتدُّ بعيدًا، يُغطي قاعَه الحصى وبه مناطقُ من المياه الضحلة وجلاميدُ صخريةٌ كبيرة، وحوض عميق حيث كان ينعطف حول سَفْح جرف.

سار نِك عائدًا إلى عوارض الربط حيث كانت حقيبته ترقد بين الرماد بجوار قضبان السكة الحديدية. كان سعيدًا. عدَّل وضع أحزمة الحقيبة حول حُزْمة الأمتعة، وأحكَم شدَّ الأربطة، وعلَّق الحقيبة على ظهره ثم مرَّر ذراعَيه عبر حزامَيِ الكتفَين وخفف من عبء الحمل على كتفَيه بعض الشيء بأن مال بجبينه للأمام وشدَّ الحزام العريض للحقيبة إلى رأسه. بالرغم من ذلك، كانت لا تزال ثقيلة. كانت ثقيلةً للغاية. كان يُمسِك بحقيبة الصنارة الجلدية في يده ويميل إلى الأمام كي يظَل حِملُ الحقيبة على أعلى كتفَيه، وسار على الطريق الموازي لقضبان السكة الحديدية مُخلِّفًا وراءه المدينةَ المحترقة في الحر، ثم انعطف حول تل، على جانبَيه تلان عاليان قد شوهَتْهما النيران، متجهًا إلى طريق كان يُؤدِّي إلى الريف. سار على الطريق وهو يشعر بالألم من حمل الحقيبة الثقيلة. كان الطريق يتجه إلى أعلى بوتيرة ثابتة. كان صعود التل شاقًّا. كانت عضلاته تُؤلِمه وكان اليوم حارًّا، لكنَّ نِك كان سعيدًا. شعر بأنه قد ترك كلَّ شيء خلفه؛ الحاجة إلى التفكير، والحاجة إلى الكتابة، واحتياجات أخرى. كلها كانت خلفه.

منذ أن نزل من القطار وألقى عاملُ الأمتعة حقيبته من باب العربة المفتوح، اختلفت الأمور. كانت سيني محترقة والريفُ قد احترق وتغيَّر، لكنَّ ذلك لم يكن مُهمًّا. لا يمكن أن يكون قد احترق كلُّ شيء. كان يعرف ذلك. راح يسير على الطريق وهو يتعرَّق في الشمس ويتسلَّق كي يَعبُر سلسلة التلال التي كانت تفصل السكةَ الحديدية عن سهول الصنوبر.

امتد الطريق، منخفضًا في بعض الأحيان، لكنه كان صاعدًا إلى أعلى على وجه العموم. استمرَّ نِك في الصعود. وأخيرًا بلَغ الطريقُ قمَّته بعد أن ظلَّ موازيًا لجانب التل المحترق. استند نِك بظهره على أرومة وحرَّر نفسه من أحزمة الحقيبة. أمامه على المسافة التي يستطيع أن يصلها ببصره، كان سهل الصنوبر. انتهى الريف المحترق على اليسار عند سلسلة التلال. وفي الأمام برزَت من السهل جزرٌ من أشجار الصنوبر الداكنة. وبعيدًا على اليسار كان هناك خطُّ النهر. تبعه نِك بعينَيه ورأى المياه تُومِض في الشمس.

لم يكن أمامه سوى سهلِ الصنوبر، وصولًا إلى التلال البعيدة الزرقاء التي كانت تُحدِّد حدود بحيرة سوبيريور. لم يكن يراها إلا بالكاد؛ إذ كانت باهتة وبعيدة للغاية في ضوء الشمس الحارة فوق السهل. إذا ظلَّ ينظر إليها بثبات، كانت تختفي. أما إذا أغلق عينَيه بعض الشيء، كان يراها؛ تلك التلال البعيدة التي كانت تُحدِّد حدود البحيرة.

جلس نِك مُستنِدًا على الأرومة المتفحِّمة وراح يُدخِّن سيجارة. كانت حقيبته متزنة على قمة الأرومة وكانت أحزمتها مربوطة وقد تشكَّلَت فيها فجوة من ظهر نِك. جلس نِك يُدخِّن متطلعًا ببصره إلى الريف. لم يكن يحتاج إلى إخراج خريطته. كان يعرف موقعه من موقع النهر.

بينما كان يُدخِّن، مادًّا ساقَيه أمامه، رأى جندبًا يسير على الأرض ثم على جوربه الصوفي. كان الجندب أسود اللون. بينما كان نِك يسير على الطريق، أفزع من التراب العديد من الجنادب. كانت كلها سوداء. لم تكن بالجنادب الكبيرة ذات الأجنحة التي يجتمع فيها اللونان الأصفر والأسود أو الأحمر والأسود والتي تُحدِث أغمدةُ أجنحتها السوداء طنينًا عند طيرانها. كانت جنادبَ عادية فحسب، غير أنها كانت جميعُها سوداءَ بلون السخام. جالت بخاطرِ نِك بينما كان يسير، لكنه لم يُفكِّر بشأنها في حقيقة الأمر. والآن، بينما راح يُشاهد الجندب الأسود الذي كان يُعضِّض صوف جوربه بشفته الرباعية، أدرك أنها قد تحوَّلَت جميعًا إلى اللون الأسود من العيش في الأرض المحترقة. أدرك أنَّ الحريق قد حدث في العام السابق بالتأكيد، لكنَّ الجنادب قد أصبحَت كلُّها سوداءَ اللون الآن. تساءل في نفسه كم من الوقت ستظل على تلك الحال.

مدَّ يده إلى الأسفل بحرص وأمسك بالجندب من جناحَيه. قلَبَه على ظهره حيث أصبحت أرجلُه تتحرَّك في الهواء، ونظر إلى بطنه المفصلي. أجل، لقد كانت سوداء اللون هي أيضًا، ومتقزحة بينما كان ظهرُه ورأسه مُغبرَّين بالتراب.

تحدَّث نِك بصوتٍ عالٍ للمرة الأولى قائلًا: «هيا أيها الجندب، طِر بعيدًا.»

ألقى الجندب إلى الهواء وشاهده وهو يطير بعيدًا إلى أرومة متفحمة على الجانب الآخر من الطريق.

وقف نِك. أسند ظهره إلى حقيبته التي استقرت في وضعٍ عمودي على الأرومة وأدخل ذراعَيه عبر أحزمة الكتفَين. وقف وحقيبته على ظهره أعلى التل وراح يتطلع إلى الريف باتجاه النهر البعيد، ثم هبط على جانب التل بعيدًا عن الطريق. تحت السفح، كان الطريق مناسبًا للسير. على بعد مائتَي ياردة من سفح التل، توقف خط الحريق. وامتد بعده السرخس الحلو في ارتفاع الكاهل، وكان السير خلاله سهلًا، كما امتدت كتل من أشجار صنوبر جاك؛ ريف طويل متموِّج به العديد من المرتفعات والمنخفضات، والأرضية الرملية الممتدة، وقد عاد الريف حيًّا من جديد.

حافظ نِك على اتجاه سيره مع اتجاه الشمس. كان يعرف الموقع الذي يُريد أن يصل فيه إلى النهر وواصل السير عبر سهل الصنوبر، صاعدًا مرتفعاتٍ صغيرةً ليرى مرتفعاتٍ أخرى لا تزال أمامه، وأحيانًا كانت تبدو من فوق أحد المرتفعات جزيرةٌ كبيرة مصمتة من أشجار الصنوبر إلى يمينه أو يساره. كسر بعضَ أعواد السرخس الحلو المرقَّط ووضعها تحت أحزمة حقيبته. سحقَها الاحتكاك واشتمَّ رائحتها وهو يسير.

كان مرهقًا ومُحترًّا للغاية من السير على سهل الصنوبر غير المستوي المنعدم الظلال. كان يعرف أنه يستطيع أن يصل إلى النهر في أي لحظةٍ بالانعطاف إلى يساره. لم تكن المسافة لتزيد عن ميل. غير أنه قد واصَل السير باتجاه الشمال ليصل إلى أقرب نقطةٍ من منبع النهر يستطيع أن يبلغها في مسيرة يومٍ واحد.

بعد مرور بعض الوقت وبينما كان نِك يسير، رأى إحدى الجزر الصنوبرية الكبيرة التي تبرز فوق الأرض العالية المتموجة التي كان يعبرها. سار مع الأرض المنخفضة ثم صعد على مهلٍ إلى قمة الجسر وانعطف نحو أشجار الصنوبر.

لم يكن هناك نباتاتٌ تحت شجرية في جزيرة أشجار الصنوبر. كانت جذوع الأشجار تمتدُّ مستقيمةً إلى الأعلى أو يميل بعضها على بعض. وكانت الجذوع مستقيمةً وبنيةً دون أغصان. وكانت الأغصان في الأعلى. تشابكَ بعضها وشكَّلَت ظِلًّا مصمتًا على أرض الغابة البنية. حول تلك الأيكة من الأشجار كانت هناك منطقةٌ عارية. كانت بُنية وشعر بها نِك ناعمةً تحت قدمَيه إذ مشى عليها. كانت الأرضية مغطَّاة بإبر الصنوبر المتشابكة، وتمتد على مسافةٍ أعرَضَ من الأغصان العالية. كانت الأشجار قد نمَت وتحركت الأغصان إلى الأعلى تاركةً خلفها للشمس تلك المساحةَ العارية التي كانت تُغطِّيها من قبل بالظلال. وعلى حافة هذه القطعة الممتدة من أرضية الغابة بالضبط، بدأ امتداد السرخس الحلو.

تحرَّر نِك من حقيبته واستلقى في الظل. استلقى على ظهره وتطلَّع إلى الأعلى إلى أشجار الصنوبر. استراحَت رقبتُه وظهره والجزء السفلي من ظهره إذ تمدَّد. أراحه استناد ظهره على الأرض. تطلَّع ببصره إلى السماء من بين الأغصان، ثم أغمض عينَيه. فتحهما ونظر إلى الأعلى مجددًا. كانت الرياح تُحرِّك الأغصانَ في الأعلى. أغمض عينَيه مُجددًا وخلَد إلى النوم.

استيقظ نِك مُتصلِّبًا ومتشنجًا. كانت الشمس قد أوشكَت على الغروب. كانت حقيبته ثقيلة، وآلَمَته الأحزمة حين حمَلها. مال إلى الأمام بالحقيبة والتقط حقيبة الصنَّارة الجلدية وانطلق من بين أشجار الصنوبر عبر منخفض السرخس الحلو باتجاه النهر. كان يعرف أنَّ المسافة لا يُمكِن أن تزيد عن ميل.

هبط من تل مغطًّى بأروم الشجر إلى مرج. على حافَة المرج تدفق النهر. كان نِك سعيدًا لوصوله إلى النهر. سار عبر المرج متجهًا إلى أعلى النهر. تشبَّع سروالُه بالندى بينما كان يسير. بعد اليوم الحار، هبط الندى بسرعة وغزارة. لم يَصدُر عن النهر أي صوت. كان سريعًا وناعمًا للغاية. على حافة المرج، قبل أن يرقى إلى قطعة مرتفعة من الأرض ليُخيِّم عليها، نظر نِك إلى أسماك السلمون المرقَّطة وهي تقفز. كانت تقفز لتحصل على الحشرات الآتية من المستنقع على الجانب الآخر من النهر عند غروب الشمس. قفزت أسماك السلمون المرقَّطة من المياه كي تنالها. بينما كان نِك يسير على امتداد المرج الصغير بمُحاذاة النهر، قفزت الأسماك عاليًا خارج المياه. الآن بينما كان ينظر في النهر، لا بد أنَّ الحشراتِ كانت مستقرَّة على سطح المياه؛ إذ كانت الأسماك تأكل بوتيرة مستمرة على امتداد النهر بأكمله. وعلى امتداد البصر من مكانه على المرج، كانت الأسماك ترتفع من المياه؛ فتتشكَّل دوائرُ على السطح كله، كما لو أنَّ المطر يبدأ في الهطول.

ارتفعَت الأرض وكانت حراجية ورملية، لتُطِل على المرج والنهر والمستنقع. أنزل نِك حقيبته وحقيبة الصنارة وبحَث عن قطعة مستوية من الأرض. كان يتضور جوعًا وكان يُريد أن ينصب خيمته قبل أن يطهو. وبين اثنتَين من أشجار صنوبر جاك، كانت الأرض مستويةً إلى حدٍّ كبير. أخرج الفأس من حقيبته وقطع جذرَين ناتئَين؛ فسوَّى ذلك قطعةً كبيرة من الأرض تكفي لأن ينام عليها. سوَّى الأرض الرملية بيده واقتلع كل نباتات السرخس الحلو من جذورها. فاحت يداه برائحة طيبة من السرخس الحلو. سوَّى الأرض التي اقتلع منها الجذور. لم يكن يُريد أيَّ كُتل تحت الأغطية. حين أصبحت الأرض مستوية، فرَدَ أغطيته الثلاثة. طوى أحدها طيتَين ووضعه على الأرض مباشرة، ثم فرد الاثنَين الآخرَين فوقه.

باستخدام الفأس، شقَّ قطعةً سميكة لامعة من أرومة شجرة صنوبر، وقسمها ليصنع منها أوتادًا للخيمة. كان يُريد أوتادًا طويلة ومتينة كي تستقرَّ في الأرض. وبعد أن أُخرِجت الخيمة وفُرِشت على الأرض، بدَت الحقيبة، وهي تميل على إحدى أشجار الصنوبر، أصغر كثيرًا. ربط نِك الحبل الذي كان بمثابة الدعامة الأفقية للخيمة بجذع إحدى أشجار الصنوبر ورفع الخيمة من فوق الأرض من الطرَف الآخر للحبل وربطه بشجرة الصنوبر الأخرى. تدلَّت الخيمة على الحبل كأنها غطاء من القنب يتدلَّى على حبل الغسيل. أدخل نِك عمودًا كان قطعه من قبل تحت القمة الخلفية للخيمة وربط الجوانب بالأوتاد. شدَّ الجوانب إلى الخارج بإحكامٍ وغرَس الأوتاد في الأرض بعمق، ودقَّ عليها بالجانب المسطح من الفأس حتى اختفت ربطات الحبل في الأرض، وانسدل قماش الخيمة مشدودًا بإحكام.

على مدخل الخيمة المفتوح ثبَّت نِك قطعة من الشاش الرقيق لكي تحول دون دخول البعوض. زحف نِك إلى الداخل من تحت حاجز البعوض حاملًا العديد من الأغراض من الحقيبة كي يضعها على رأس السرير تحت الجزء المائل من الخيمة. وصل النور إلى داخل الخيمة عبر القنب البنيِّ الذي كانت تفوح منه رائحةٌ طيبة. كانت الأجواء تجمع بين الغموض وأُلفة البيت. شعر نِك بالسعادة حين زحف إلى داخل الخيمة. لم يشعر بالتعاسة طوال اليوم. غير أنَّ شعوره الآن كان مختلفًا. الآن، قد فرغ مما كان عليه فعلُه. كان عليه أن يفعل هذا. والآن قد فعله. كانت رحلة شاقَّة. وكان متعبًا للغاية. والآن قد انتهى ذلك. كان قد صنع مخيَّمه. ولقد استقر فيه. لا يمكن لشيء أن يمسَّه الآن. كانت خيمته في مكان جيد. وكان هناك في هذا المكان الجيد. كان في بيته في المكان الذي صنعه فيه. والآن كان يشعر بالجوع.

خرج زاحفًا من تحت حاجز الشاش. كان المكان مظلمًا إلى حدٍّ كبير في الخارج، وقد كان داخل الخيمة أكثر إضاءة.

ذهب نِك إلى حيث حقيبتُه وتحسس بأصابعه داخلها حتى وجد في قعرها مسمارًا طويلًا في كيس ورَقي للمسامير. وضعه في شجرة الصنوبر وأمسكه جيدًا وأخذ يدق عليه بلطف بالجزء المسطح من فأسه. علَّق الحقيبة على المسمار. كانت أشياؤه كلها فيها. والآن قد أصبحت بعيدةً عن الأرض في مكان محمي.

كان نِك يشعر بالجوع. كان يعتقد أنه لم يشعر بمثل هذا الجوع من قبل. فتح علبة من لحم الخنزير والفاصوليا وعلبة من مكرونة الإسباجيتي وأفرغهما في مقلاة. تحدث نِك قائلًا: «يحق لي أن آكل مثل هذا الطعام، ما دمت قد حملتُه معي.» بدا صوته غريبًا في الأحراج التي بدأ يحل عليها الظلام. ولم يتحدث مجددًا.

أشعل نارًا ببعض قطع الأخشاب التي قطعها بفأسه من أرومة. وضع على النار شوايةً من السلك، وثبَّت أرجلها الأربعة في الأرض بحذائه. وضع نِك المقلاة على الشواية في اللهب. كان جوعه قد اشتد أكثر. غدَت المكرونة والفاصوليا دافئة، فقلَّبهما نِك ومزجهما معًا. بدأ الطعام في البقبقة وتكونَت فيه فقاقيعُ صغيرة كانت تصعد إلى السطح بصعوبة. فاحت منه رائحة طيبة. أخرج نِك زجاجة من صلصة الطماطم وقطع أربع شرائح من الخبز. كانت الفقاقيع تصعد الآن بسرعة أكبر. جلس نِك بجوار النار ورفع المقلاة عنها. صبَّ نصف الطعام تقريبًا في طبق من الصفيح. راح ينتشر ببطء على الطبق. كان نِك يعرف أنه ساخن للغاية. صبَّ بعضًا من صلصة الطماطم. كان يعرف أنَّ مزيج الفاصوليا والمكرونة لا يزال ساخنًا للغاية. نظر إلى النار، ثم إلى الخيمة، ولم يكن ينتوي أن يُفسِد الأمر بحرق لسانه. إنه لم يستمتع بحلوى الموز المقلي لسنوات لأنه لم يكن يستطيع الانتظار حتى تبرد. كان لسانه حساسًا للغاية. وكان يتضوَّر جوعًا. على الجانب المقابل من النهر في المستنقع، في الظلام شبه الدامس، رأى الضباب يتصاعد. ألقى نظرةً أخرى على الخيمة. كل شيء على ما يُرام. أخذ ملء ملعقة من الطبق.

قال نِك: «يا يسوع!» ثم أضاف بسعادة: «يا يسوع المسيح!»

أكل ما في الطبق كلَّه قبل أن يتذكر الخبز. أنهى نِك الطبق الثاني بالخبز وقد مسحه به إلى أن صار لامعًا. لم يكن قد أكل منذ أن تناول كوبًا من القهوة وشطيرة من شرائح لحم الخنزير في مطعم محطة قطار سانت إيجناس. لقد كانت تجربة جيدة للغاية. شعر بمثل ذلك الجوع من قبل، لكنه لم يتمكَّن من إشباع جوعه حينها. كان بمقدوره قبل ساعات أن ينصب خيمته إذا أراد؛ فقد كان هناك الكثير من الأماكن الجيدة للتخييم على النهر. غير أنَّ هذا المكان جيد.

وضع نِك قطعتَين رقيقتَين كبيرتَين من خشب الصنوبر تحت الشواية. وتوهَّجت النار. كان قد نسي أن يُحضِر ماءً للقهوة. أخرج من حقيبته دلوًا قابلًا للطي مصنوعًا من القنب، وسار هابطًا من التل، عبر حافَة المرج، متجهًا إلى النهر. كانت الضفة الأخرى مغطاة بالضباب الأبيض. شعر بالعشب رطبًا وباردًا حين انحنى بركبتَيه على الضفة وأنزل الدلو المصنوع من القنب في النهر. انتفخ الدلو وانجذب بقوة التيار. كانت المياه باردةً كالثلج. أخرج نِك الدلو من المياه وحمله ممتلئًا إلى المخيم. لم يكن الجو باردًا للغاية هكذا بعيدًا عن النهر.

ثبَّت نِك مسمارًا آخر كبيرًا وعلَّق فيه الدلو الممتلئ بالمياه. غمس فيه إناء القهوة وملأه حتى المنتصف، ووضع المزيد من رقائق الصنوبر على النار تحت الشواية ووضع الإناء عليها. لم يستطع أن يتذكر كيف كان يصنع القهوة. كان يتذكر جدالًا بشأنها مع هوبكينز، لكنه لم يتذكر الطريقة التي كان يُؤيِّدها. قرر أن يغليها. تذكر الآن أنَّ تلك كانت طريقة هوبكينز. كان يتناقش في كل شيء مع هوبكينز. وبينما كان ينتظر غليان القهوة، فتح علبة صغيرة من المشمش. كان يُحِب فتح العلب. أفرغ علبة المشمش في كوب من الصفيح. وبينما كان يُراقب القهوة على النار، شرب العصير الموجود مع المشمش. كان يشرب بحرص في البداية لكي يتجنب سكبه، ثم راح يمتصُّ قِطعَ المشمش نفسَها ويبتلعها ببطء. لقد كانت أفضلَ من المشمش الطازج.

غلَت القهوة بينما كان يُراقبها. ارتفع الغطاء إلى أعلى وسالت القهوة وثفلها على جانب الإناء. رفعه نِك من على الشواية. كان ذلك نصرًا لهوبكينز. وضع السكر في كوب المشمش الفارغ وصبَّ فيه بعض القهوة لكي تبرد. كانت ساخنة للغاية بما لا يسمح بصبِّها وقد استخدم قبعته لكي يُمسِك بمقبض الإناء. لم يكن سيتركها تُنقَع في الإناء على الإطلاق. لن يفعل ذلك في الكوب الأول. يجب أن يتبع طريقة هوبكينز تمامًا. كان هوب يستحق ذلك. كان يُكنُّ لشرب القهوة جدِّية كبيرة. كان أكثرَ مَن عرَفَهم نِك جدية. لم يكن صارمًا، بل جادًّا فقط. مضى على ذلك وقتٌ طويل. كان هوبكينز يتكلم دون أن يحرك شفتَيه. كان يلعب البولو. جنى ملايينَ الدولارات في تكساس. كان قد اقترض أجرة السفر لكي يذهب إلى شيكاجو، حين جاءته البرقية بأنَّ بئر البترول الأولى الكبيرة الخاصة به قد بدأت في الإنتاج. كان يُمكِن أن يُرسِل برقيةً طلبًا للنقود، غير أنَّ ذلك كان سيستغرق وقتًا طويلًا. كانوا يُسمُّون فتاة هوب «فينوس الشقراء». لم يكن هوب يُمانِع لأنها لم تكن فَتاتَه الحقيقية. أخبرهم هوبكينز بكل ثقة أنَّ أحدًا منهم لن يسخر من فتاته الحقيقية. وقد كان على حق. رحل هوبكينز حين أتت البرقية. كان ذلك على ضفة النهر الأسود. استغرق الأمر ثمانية أيام كي تصلَه البرقية. أعطى هوبكينز مسدَّسه الآلي من طِراز كولت عيار ٠٫٢٢ إلى نِك. وأعطى آلة تصويره إلى بِل. كان ذلك ليتذكَّراه بهما دومًا. كانوا سيذهبون جميعًا لصيد السمك مرة أخرى في الصيف التالي. أصبح هوب ثريًّا. كان سيشتري يختًا وسيذهبون جميعًا في رحلة بحرية على الساحل الشمالي إلى بحيرة سوبيريور. كان متحمسًا لكنه كان جادًّا. ودَّع كلٌّ منهم الآخر وكانوا جميعًا يشعرون بالحزن. ألغى تلك الرحلة. لم يرَيا هوبكينز بعد ذلك قطُّ. كان ذلك منذ وقت بعيد على ضفة النهر الأسود.

شرب نِك القهوة، القهوة التي كانت على طريقة هوبكينز. كانت القهوة مُرَّة. ضحك نِك. كانت نهايةً جيدة للقصة. كان ذهنه قد بدأ يعمل. كان يعرف أنه يستطيع أن يُوقِفه؛ إذ كان مُتعَبًا بما فيه الكفاية. سكَب القهوة من الإناء وألقى ثفلها في النار. أشعل سيجارة ودخل إلى الخيمة. خلع حذاءه وسرواله، وحين جلس على الأغطية، لفَّ الحذاء في السروال لكي يصنع منهما وسادة ودخل بين الأغطية.

في الخارج أمام الخيمة، راح يُراقب وهج النار إذ هبَّت عليها رياحُ الليل. كانت ليلة هادئة. كان المستنقع هادئًا تمامًا. تمدَّد نِك تحت الغطاء بارتياح. كانت هناك بعوضة تطنُّ بالقرب من أذنه. جلس نِك وأشعل عود ثقاب. كانت البعوضة على قماش الخيمة فوق رأسه. حرك نِك عود الثقاب باتجاهها سريعًا. أصدرت البعوضة في اللهب هسيسًا أشعره بالارتياح. خبا عود الثقاب. استلقى نِك مجددًا تحت الغطاء. استدار على جانبه وأغمض عينَيه. كان يشعر بالنعاس. شعر بالنوم يأتي. انثنى تحت الغطاء وخلد إلى النوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤