الفصل الثاني

كانت المآذن تبرز شامخة في المطر عبر البيوت الطينية بمدينة آدريانوبل. واصطفَّت العربات على مسافة ثلاثين ميلًا على طريق كاراجاتش. كانت الماشية وجاموس المياه تجر العربات في الطين. ما من بداية ولا نهاية لصف العربات؛ فقط عربات محملة بكل ما كانوا يملكونه. كان العجائز رجالًا ونساءً يسيرون وهم مبتلُّون تمامًا كي يَحثُّوا الماشية على الاستمرار في الحركة. كان يتدفق نهر ماريتسا أصفر اللون وكاد يبلغ الجسر. اكتظ الجسر عن آخره بالعربات التي راحت الجمال تشق طريقها فيما بينها. سار الخيالة اليونانيون بين الرَّكْب يحافظون على نظامه وسيره. جثمت النساء والأطفال في العربات مع المفارش والمرايا وآلات الخياطة والحِزم. كانت هناك امرأة تلد طفلًا وفتاة صغيرة تُمسِك بغطاء تضعه عليها وتبكي. كان النظر إلى هذا المشهد مخيفًا للغاية. وقد ظل المطر يهطل طوال عملية الإجلاء.

الطبيب وزوجته

أتى دِك بولتون من المخيم الهندي كي يقطع بعض جذوع الأشجار لوالد نِك، وأحضر معه ابنه إدي وهنديًّا آخر يُدعى بيلي تابِشو. جاءوا من الأحراج عبر البوابة الخلفية. كان إدي يحمل منشار قطع عمودي طويلًا يتأرجح على كتفه ويُصدِر صوتًا موسيقيًّا في أثناء سيره. أما بيلي تابِشو، فكان يحمل خطافَي إمالة كبيرَين. وحمل دِك ثلاث فئوس تحت ذراعه.

استدار دِك وأغلق البوابة، بينما سبقه الاثنان الآخران وتوجها إلى شاطئ البحيرة حيث كانت جذوع الأشجار مدفونة في الرمال.

كانت الجذوع قد شردت عن حواجز الأخشاب الكبيرة التي كانت الباخرة «ماجيك» قد ربطتها من البحيرة إلى المنشرة. كانت قد انجرفت إلى الشاطئ، وإذا لم يُفعَل شيء بشأنها، كان طاقم الباخرة «ماجيك» سيأتي عاجلًا أو آجلًا في زورق تجديف إلى الشاطئ، ويعثر عليها، ويدق فيها مسمارًا حديديًّا ذا حلقة في طرف كل منها، ويثبتها في البحيرة لبناء حاجز جديد. غير أنَّ قطاع أخشاب الأشجار قد لا يأتون على الإطلاق لقطع هذه الجذوع؛ إذ إنَّ عددًا صغيرًا من الجذوع لم يكن يستحق ثمن جمع الطاقم لها. وإذا لم يأتِ أحد لأخذها، فسوف تُترَك لتتشرَّب المياه عن آخرها وتتعفن على الشاطئ.

افترض دومًا والد نِك أنَّ هذا هو ما سيحدث، وطلب من الهنود أن يأتوا من المخيم ويقطعوا الجذوع باستخدام منشار القطع العمودي ثم يقسموها بخابور ليصنعوا منها شرائط وقطعًا خشبية للمدفأة المفتوحة. دار دِك بولتون بالمكان ومر بالكوخ وصولًا إلى البحيرة. كانت هناك أربعة جذوع كبيرة من أشجار الزان تقبع مدفونة بأكملها تقريبًا في الرمال. علَّق إدي المنشار من أحد مقبضَيه في جزء متشعِّب من إحدى الأشجار. ووضع دِك الفئوس الثلاث على الرصيف الصغير. كان دِك هجينًا، وكان العديد من المزارعين الذين يقطنون حول البحيرة يعتقدون أنه رجل أبيض في حقيقة الأمر. كان كسولًا للغاية، لكنه كان يؤدي العمل ببراعة حين يبدأ فيه. أخرج قالبًا من التبغ من جيبه وقضم منه قطعة راح يمضغها، وتحدث إلى إدي وبيلي تابِشو بلغة أوجيبواي.

غرزوا طرَفَي خطافَي الإمالة في أحد الجذوع وراحوا يحركونه لكي يتخلخل في الرمال. وألقَوْا بثقلهم على ذِراعَي الخطافَين. تحرك الجذع في الرمال، واستدار دِك إلى والد نِك، وقال: «حسنًا يا دوك، إنها كمية جيدة من الخشب تلك التي سرقتَ.»

قال الطبيب: «لا تتكلم بهذه الطريقة يا دِك. إنه خشب منجرف.»

كان إدي وبيلي تابِشو قد أخرجا الجذع من الرمال المبتلَّة ودحرجاه باتجاه الماء.

صاح دِك بولتون قائلًا: «ضعاه بأكمله في المياه.»

سأل الطبيب: «لمَ تفعل هذا؟»

أجاب دِك: «من أجل غسله وتنظيفه من الرمال التي علقت به حتى ننشره. أريد أن أعرف صاحبه.»

كان الجذع تغمره مياه البحيرة في تلك اللحظة. انحنى إدي وبيلي تابشو على خُطافَيهما وهما يتصبَّبان عرقًا في الشمس. وهبط دِك على ركبتَيه في الرمال ونظر إلى علامة مطرقة قَشر الخشب الموجودة في نهاية الجذع.

قال: «إنه يعود إلى وايت وماكنالي.» ثم نهض وأخذ ينظف ركبتَي سرواله.

كان الطبيب منزعجًا بشدة.

وتحدث بعد برهة قائلًا: «من الأفضل إذن ألَّا تُقطِّعه يا دِك.»

قال دِك: «لا تنزعج يا دوك، لا تنزعج. إنني لا آبَهُ ممن تَسرق. إنَّ هذا ليس من شأني.»

قال الطبيب بوجه تعتليه الحمرة: «إذا كنت تظن أنَّ الجذوع مسروقة، فاتركها وخذ أدواتك وعُد إلى المخيم.»

قال دِك: «لا تتسرَّع يا دوك.» بصق عصير التبغ على الجذع، الذي خف قوامه بعد أن انزلق في الماء. ثم تابع: «إنك تعلم أنها مسروقة مثلما أعلم ذلك تمامًا، لكنَّ ذلك لا يُشكِّل أي فارق لدي.»

«حسنًا، إذا كنت تظن أنَّ الجذوع مسروقة، فخذ أدواتك واذهب من هنا.»

«الآن، يا دوك …»

«خذ أدواتك واذهب.»

«استمع إليَّ يا دوك.»

«إذا دعوتني بدوك ثانيةً، فسوف أجعلك تبتلع أسنانك بضربة واحدة.»

«أوه، كلا، إنك لن تفعل هذا بالطبع، يا دوك.»

راح دِك بولتون ينظر إلى الطبيب. كان دِك رجلًا ضخمًا، وكان يُدرِك مدى ضخامته. كان يُحِب الشجار؛ لذا فقد كان سعيدًا بذلك. انحنى إدي وبيلي تابِشو على خُطافَيهما ونظرَا إلى الطبيب. قضم الطبيب شعر لحيته الموجودَ على شفته السفلى ونظر إلى دِك بولتون، ثم استدار بعيدًا وصعد التل متجهًا إلى الكوخ. كانوا يستطيعون أن يرَوا من ظهره كم كان غاضبًا. شاهدوه جميعًا وهو يصعد التل ويدخل الكوخ.

قال دِك شيئًا بلغة أوجيبواي. ضحك إدي، لكنَّ بيلي تابشو بدا جادًّا للغاية. لم يكن يفهم الإنجليزية لكنه ظل قلقًا طوال الفترة التي دام فيها الشجار. كان سمينًا وليس له من شارب سوى شعراتٍ قليلة كرجل صيني. التقط خطافَيِ الإمالة، وحمل دِك الفئوس، وأخذ إدي المنشار من الشجرة. انطلقوا وصعدوا إلى الأعلى حيث الكوخ ثم خرجوا من البوابة الخلفية إلى الأحراج. ترك دِك البوابة مفتوحة، لكنَّ بيلي تابِشو عاد وأغلقها. وتواروا في الأحراج.

في الكوخ، كان الطبيب جالسًا على السرير في غرفته ورأى كومة من الدوريات الطبية على الأرض بجوار المكتب. كانت ما تزال مغلقة في أغلفتها. أزعجه الأمر.

سألت زوجة الطبيب من الغرفة التي كانت تستلقي فيها والتي كانت ستائرها منسدلة: «ألن تعود إلى العمل يا عزيزي؟»

«نعم!»

«أكان هناك مِن خَطْب؟»

«لقد تشاجرتُ مع دِك بولتون.»

قالت الزوجة: «أوه، أرجو أنك لم تفقد أعصابك يا هنري.»

قال الطبيب: «كلا.»

قالت الزوجة: «تذكر أنَّ «مالك روحه خير ممن يأخذ مدينة».» كانت من أتباع كنيسة العلم المسيحي. وكانت تقبع على منضدتها الموجودة بجوار السرير في الغرفة المعتَّمة نسخة من الإنجيل، ونسختها من كتاب «العلم والصحة» ونسختها من مجلة «كوارترلي».

لم يرد عليها زوجها. صار الآن جالسًا على السرير ينظف بندقية. دفع مخزن البندقية الممتلئ بالقذائف الثقيلة الصفراء وأخرجها بسرعة مرة أخرى؛ فتناثرت على السرير.

نادت زوجته قائلة: «هنري.» توقفت لحظة ثم قالت ثانيةً: «هنري!»

قال الطبيب: «نعم.»

«لم تتحدث إلى بولتون بشيء يُغضبه، أليس كذلك؟»

قال الطبيب: «نعم.»

«ما المشكلة التي تشاجرتما بشأنها يا عزيزي؟»

«أمر بسيط.»

«أخبرني يا هنري. أرجوك لا تحاول أن تُخفي أي شيء عني. ما المشكلة التي تشاجرتما بشأنها؟»

«حسنًا، دِك يَدين لي بمبلغ كبير من المال لعلاج زوجته من الالتهاب الرئوي وأعتقد أنه قد أراد الشجار كي يتخذ ذلك ذريعةً لئلا يرد لي هذا المبلغ بالعمل.»

صمتت زوجته. وراح هو يمسح بندقيته بحرص بقطعة من القماش. ودفع القذائف في مكانها قبالة نابض المخزن. جلس والبندقية على ركبتَيه. كان شغوفًا بها للغاية. سمع بعد ذلك صوت زوجته من الغرفة المعتَّمة.

«عزيزي، أنا لا أعتقد، لا أعتقد حقًّا أنَّ أحدًا قد يفعل شيئًا كهذا.»

قال الطبيب: «حقًّا؟»

«كلا، أنا لا أصدق أنَّ أي شخص قد يفعل شيئًا مثل ذلك عمدًا.»

وقف الطبيب ووضع البندقية في الركن خلف منضدة الزينة.

قالت زوجته: «هل ستخرج يا عزيزي؟»

أجاب الطبيب: «أعتقد أنني سأخرج للتمشية.»

قالت زوجته: «عزيزي، إذا رأيت نِك، فهلَّا أخبرته أنَّ أمه تريد رؤيته؟»

خرج الطبيب إلى الرواق، وصُفِع الباب الشبكي خلفه. سمع زوجته تلتقط أنفاسها حين صُفِع الباب.

قال وهو يقف خارج نافذتها والستائر منسدلة: «آسف.»

ردت: «لا بأس يا عزيزي.»

سار في الجو الحار خارج البوابة، وتابع في الطريق المؤدي إلى أحراج الشوكران. كان الجو منعشًا في الأحراج حتى في مثل ذلك اليوم الحار. وجد نِك جالسًا مستندًا بظهره على شجرة يقرأ.

تحدث الطبيب إليه قائلًا: «إنَّ أمك ترغب في أن تذهب لرؤيتها.»

قال نِك: «أريد أن أذهب معك.»

نظر إليه أبوه.

وقال: «حسنًا، لنذهب إذن. أعطني الكتاب لأضعه في جيبي.»

قال نِك: «إنني أعرف مكان السناجب السوداء يا أبي.»

قال والده: «حسنًا، لنذهب إلى هناك.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤