اجتماع عند بداية النهار

هدأ كل شيء في المقر السري للشياطين، الذين ناموا مبكرًا الليلة، فقد كان الاجتماع الأخير صاخبًا بما يكفي، لقد دارت مناقشات طويلة بينهم وبين رقم «صفر»، استعرضوا خلاله أعمالهم التي تمَّت كلها بنجاح. غير أن نهاية الاجتماع كانت أكثر إثارة، وأكثر صخبًا. فقد قال رقم «صفر» في هدوء: قد تتحركون الليلة في مغامرة جديدة، ولم تكن هذه هي المفاجأة. كانت المفاجأة أن المغامرة قد تحتاج لعدة شهور من العمل الشاق، وأن كل المغامرات الناجحة السابقة سوف تبدو عادية وبسيطة أمام المغامرة الجديدة.

لقد كانت هذه الكلمات كافية لتجعل الشياطين يستغرقون في تفكير عميق. إلا أن «ريما» لم تصمت، فقد سألت رقم «صفر» عن طبيعة المغامرة … فأجاب بأنه لا يستطيع أن يقول شيئًا الآن، فهو في انتظار معلومات مفصَّلة عنها.

وسأل «باسم»: هل هي مع «سادة العالم» أيضًا؟

فقال رقم «صفر»: نعم، غير أنهم هذه المرة يُعدُّون لضربتهم منذ شهور، بل إنهم أجرَوا دراسات طويلة حول عمليتهم المقبلة. إن عمليتهم الجديدة لو نجحت فإنها يمكن أن تُهدِّد العالم كله. ولم يُضِف رقم «صفر» كلمة أخرى، فقد غادر مكانه، وترك الشياطين يحاولون الوصول إلى شيء.

دقَّت الساعة الثانية صباحًا، وكان كل شيء لا يزال هادئًا ساكنًا … واحد فقط كان لا يزال يقِظًا بينهم جميعًا، هو «أحمد». إن كلمات رقم «صفر» جعلته لا يعرف النوم. صحيح أنه حاول في البداية أن ينام، لكنه لم يستطع … لقد كان نومه مضطربًا، ولم يجد في النهاية مفرًّا من أن يجذب كتابًا من المكتبة القريبة من سريره، واستغرق في القراءة. لكنه مع ذلك لم يستطع أن يمنع نفسه من التفكير فيما قاله رقم «صفر». إن هذه العملية الجديدة التي قد تستغرق شهورًا — والتي تهدد العالم كله — لا بد أنها مغامرة من نوع جديد، وبرغم أنه احتار طويلًا، إلا أنه أيضًا كان سعيدًا حتى إنه ردَّد بينه وبين نفسه: إنني أعشق المغامرات الجديدة.

وضَع الكتاب الذي كان بيده، والذي يتحدَّث عن حروب المستقبل، ونظر لحظةً إلى جهاز الفيديو، ثم قال لنفسه: إن فيلمًا مسليًا الآن يمكن أن يدفعني إلى النوم. ضغط على زرٍّ بجوار السرير؛ فظهرت على شاشة الجهاز الصورة. لقد كان الفيلم من أفلام «رعاة البقر». استغرق في المطاردة التي بدأ بها الفيلم. لكن فجأة، توقفت الصور، وظهرت كلمات على الشاشة، كانت الكلمات تقول: «لن تسهر طويلًا، إن المعلومات في الطريق.»

عرف «أحمد» أن هذه الرسالة من رقم «صفر»، فابتسم. اختفت الكلمات، وبدأ عرض الفيلم من جديد. كان الفيلم مسليًا فعلًا، حتى إنه استغرق فيه. مضت نصف ساعة، ومرة أخرى توقَّفت الصور، ثم ظهرت كلمات على الشاشة، قرأها ثم نظر بجواره. كان هناك دوسيه مُتخَم بالأوراق، عرَف أنه جاء من رقم «صفر» عن طريق الممر السحري الذي تصل به الرسائل المطلوبة.

رفع الدوسيه بين يديه ثم فتحه، كانت أول ورقة فيه مكتوبًا عليها: «الوقود النووي». استغرق في قراءة المعلومات التي يضمها الدوسيه. كانت تتحدث عن المحطات الكهربائية النووية، وعن العلاج بالذرة، وعن الوقود النووي للغواصات، وعن مواصلات المستقبل، التي سوف تعتمد على الذرة في كل شيء.

كانت أشعة الصباح قد بدأت تتسلل عبْر الشرفات الزجاجية في المقر السري. وقبل أن يظهر أول شعاع للشمس، كان «أحمد» قد انتهى من قراءة الدوسيه، استغرق في التفكير، فماذا يعني رقم «صفر» بهذه المعلومات؟ وهل المغامرة الجديدة لها عَلاقة مثلًا بمفاعل نووي، أو محطة نووية؟ تردَّدت أسئلة كثيرة في ذهنه.

فجأة، قطعت حيرتَه صَفَّارة رقيقة متقطعة، فعرَف أن شيئًا هامًّا قد حدث؛ قفز من سريره. وعندما خرج من الحجرة، كان الشياطين جميعًا يخرجون من حُجراتهم، وكانت الحَيرة تبدو على وجوههم، فهذه أول مرة يستدعيهم فيها رقم «صفر» في هذا الوقت المبكر. كانت الصَّفَّارة المتقطعة تعني أن هناك ربع ساعة قبل بداية الاجتماع؛ ولذلك فقد تجمَّعوا معًا، قبل أن يأخذوا طريقهم إلى قاعة الاجتماعات. وعندما تردَّدت الصَّفَّارة الثانية، أخذوا طريقهم إلى القاعة.

لم يكن هناك شيء غير عادي، القاعة بإضاءتها الهادئة، الخريطة الإلكترونية مُضاءة. الذي لفتَ نظرَهم هو ذلك اللون الأزرق الذي يُغطِّي الخريطة. لم يكن لونًا واحدًا. كانت تدرُّجات اللون الأزرق؛ بدءًا من الأزرق الفاتح جدًّا، حتى الأزرق العميق جدًّا، وربما تكون هذه الدرجات من اللون هي التي أعطت لهم إيحاء بمكان مغامرتهم الجديدة.

ظهرت خطوط الطول والعرض على الخريطة، وتحدَّدت نقطة توقَّف عندها الشياطين. لقد كانت النقطة هي بلدة «لورين» على الساحل الشمالي الغربي لفرنسا، ثم ظهر رقم ٤٠٠٠ فوق المساحة الزرقاء العميقة، وعرَف الشياطين أن هذه هي أعمق نقطة في المحيط الأطلنطي.

كانت هذه التفاصيل القليلة تشير إلى أن المغامرة سوف تدور عند الساحل الشمالي الفَرنسي، ثم أُضيف إلى التفاصيل اسم خليج «بسكي» الفَرنسي.

غير أن الشياطين كانوا يُفكِّرون في سؤال واحد هو: ما هي المغامرة؟ إنهم يَذكرون الحديث الغامض الذي تَحدَّثه رقم «صفر» في نهاية اجتماع الأمس حينما قال إن «سادة العالم» سوف يقومون بعملية جديدة، قد تُهدِّد العالم كلَّه. الوحيد الذي كان قد بدأ يضع يده على المغامرة هو «أحمد». لقد ربط بين ما قرأه في الدوسيه عن «الوقود النووي». وبين خليج «بسكي»، والمحيط الأطلنطي.

غير أن صوت رقم «صفر» لم يترك له فرصة الاستمرار في الاستنتاج.

توقَّفت أقدام رقم «صفر» وألقى عليهم تحية الصباح، ثم قال إن المغامرة الجديدة سوف تكون أكثر المغامرات التي قمتم بها إثارةً، وأنتم بالتأكيد تذكرون حديثي بالأمس في اجتماعنا الأخير، فقد قلت لكم إن «سادة العالم» سوف يقومون بعملية غريبة. وتوقَّف رقم «صفر» عن الكلام، فقد ترك الوقت لكلماته حتى تعطيَ تأثيرها المطلوب على الشياطين، وإن كانوا الآن يتعجَّلون معرفة أبعاد المغامرة.

بعد دقيقة أضاف: في العام قبل الماضي، تخلَّصت البحرية الأمريكية من إحدى غواصاتها النووية، والتي كانت مدة خدمتها قد انتهت. لقد قطعت الغواصة الأمريكية النووية ٢٠٠ ألف كيلومتر دون أن تتزوَّد بالوقود؛ لأنها تعمل بالوقود النووي. وكانت المشكلة عند التخلص من الغواصة هي كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ وفي نفس الوقت لا تترك أثرًا ضارًّا على الكائنات الحية، بما فيها الإنسان والحيوان والنبات. هل تقوم بإغراقها في قاع المحيط على بُعدٍ سحيق فيه؟ أو تقوم بدفنها في باطن الأرض؟

إن المعروف أن المواد النووية لها إشعاعات ضارة. وأظنكم تذكرون قنبلة «هيروشيما» الذرية التي ألقتها أمريكا على اليابان، في نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي أنهت الحرب. لقد ظلت إشعاعات القنبلة مستمرة لعدة سنوات، تؤثر في الإنسان والحيوان والنبات. وكان عدد ضحاياها رهيبًا، بجوار تأثيرها على الأرض الزراعية التي جعلتها بلا فائدة.

مثل هذه الإشعاعات تُمثِّل المشكلة في التخلُّص من الغواصة النووية؛ حيث يكون لها إشعاعات ضارة، لطول تعاملها مع المواد النووية. والذي فعلَته البحرية الأمريكية أنها عالجت المعدات النووية بطريقة خاصة، حتى تتخلص من تأثيرها. ثم قامت بوضع جسم الغواصة في متحف. ورغم أن هذه الطريقة هي الأكثر أمنًا، إلا أنها في نفس الوقت تتكلف كثيرًا، فقد كانت التكاليف ستة ملايين دولار، ولو أنها أغرقتها في عمق المحيط، ما كانت تتكلف هذه التكاليف، وهذا يعني أن إغراق الغواصة في المحيط هو السبيل الذي يقف في مُقدمة السبل الأخرى، وصمَت رقم «صفر».

وظلت أعين الشياطين مُعلَّقة بمصدر الصوت، فهم حتى الآن لا يعرفون بالتحديد طبيعة مغامرتهم الجديدة، وإن كان «أحمد» قد فهِم تقريبًا نوعية المغامرة.

أضاف رقم «صفر» بعد قليل: حتى الآن، أنتم لا تعرفون عَلاقة عصابة «سادة العالم» بمغامرتنا الجديدة. إن البحرية الفَرنسية سوف تُحيل الغواصة «السهم» إلى المعاش، وهي من غواصات الأسطول البحري الفَرنسي.

سكت لحظة، ثم قال: وقد أُجريَت دراسات على طبيعة التخلُّص منها، خوفًا من انتشار النشاط الإشعاعي للمواد النووية، ووصل القرار إلى إغراق «السهم» في عمق المحيط الأطلنطي الذي يصل إلى ٤٠٠٠ قدم تحت سطح البحر. وعند هذا العمق، لا يكون هناك ضرر يُذكر. فالأرض لها هي الأخرى إشعاعات نووية، نتيجة المواد التي تدخل في تكوينها. وهذه الإشعاعات ليست ضارة، لكن إذا زادت نسبتها، فإنها يمكن أن تُهلك كلَّ شيء.

توقَّف عن الكلام قليلًا، ثم أضاف: إن عصابة «سادة العالم» سوف تمتلك الغواصة «السهم»، التي ترقد الآن في خليج «بسكي».

كانت هذه الجملة كافية لكي يعرف الشياطين طبيعة مغامرتهم الجديدة، وكما فكَّر «أحمد» تمامًا، منذ أن تحدث رقم «صفر»، عن غواصة البحرية الأمريكية.

قال رقم «صفر»: إن خطة العصابة أن تستوليَ على الغواصة، إما بانتشالها من قاع المحيط، أو خطفها من خليج «بسكي»، برغم الحراسة الشديدة التي تضعها البحرية الفَرنسية. وطبعًا إن العصابة تستطيع تنفيذ ذلك.

تردَّد جرس متقطع جعل رقم «صفر» يقول: هناك رسالة في الطريق.

ثم أخذَت أقدامه تبتعد شيئًا فشيئًا حتى اختفت تمامًا. والتقت أعين الشياطين الذين كانوا يُفكِّرون في مغامرتهم. إنها فعلًا مغامرة مثيرة، لم يدخلوا مثلها قبل ذلك.

قالت «إلهام»: إننا ينبغي أن ننطلق الآن إلى «لورين» التي تقع على خليج «بسكي». فمن هناك ينبغي أن تبدأ المغامرة.

لم يردَّ أحد من الشياطين مباشرة. وإن كان «بو عمير» قد قال بعد قليل: إن الأمور لم تنكشف كلها بعد. فلا نزال في انتظار أوامر رقم «صفر».

قالت «إلهام»: إننا نستطيع أن نوقِفَ عملية خطف الغواصة قبل أن تتم.

لم يُعلِّق أحد على كلام «إلهام»، فقد بدأ صوت أقدام رقم «صفر» يقترب. ركَّزوا انتباههم في انتظار ما سوف يقول.

وعندما توقَّف تمامًا، قال: لقد اختفت الغواصة «السهم». ثم صمت، وترك الكلمات تؤدي دَورها مع الشياطين، الذين فوجئوا بالخبر.

لم تستطع «ريما» السكوت. فسألت: ومتى خُطفت؟

قال رقم «صفر»: منذ ست ساعاتٍ. وهذا يعني أنها خرجت من «خليج بسكي»، إلى عُرْض المحيط.

ثم قال بعد قليل: إن عملاءنا يحاولون الآن تتبُّع خط سيرها، لنعرف وِجْهتها، ونعرف مركز قيادتها على سطح الأرض. ثم سكت، وهو يُقلِّب بعض الأوراق التي كان صوتها يصل واضحًا إلى الشياطين.

بعدها قال: إن البحرية الفَرنسية لم تعلن الخبر. فهو خبر من الصعب إعلانه، ورغم أن جهودًا دولية قد بدأت للسيطرة على الموقف الذي يمكن أن يتضاعف، إلا أن دوركم قد بدأ الآن. إن عصابة «سادة العالم» سوف تُهدِّد الدول بهذه الغواصة، التي يمكن أن تُشيع الدمار في الأرض والبحر. إنني سوف أترككم تُجهِّزون أنفسكم حتى وصول معلومات أخرى.

أخذت أقدامه تبتعد شيئًا فشيئًا. في نفس الوقت الذي ظلَّ فيه الشياطين في أماكنهم لا يغادرونها. فهم حتى الآن لا يعرفون ماذا سوف يفعلون. فالأمور لم تتضح كلها بعد.

وقف «أحمد» فجأة، ثم قال: علينا أن ننتظر تعليمات رقم «صفر».

بدأ الشياطين يغادرون أماكنهم، ثم أخذ كلٌّ منهم طريقه إلى حجرته. وما كاد «أحمد» يفتح الباب، حتى كانت تعليمات رقم «صفر» قد ظهرت على شاشة «الفيديو». كانت التعليمات تُحدِّد مجموعة المغامرة وهم: «أحمد»، «بو عمير»، «فهد»، «رشيد»، «عثمان». قرأ أحمد الأسماء بسرعة ثم بدأ يُجهِّز حقيبته الصغيرة …

وفجأة ظهرت معلومات جديدة. وكانت التعليمات: إن مركز القيادة الأرضي للغواصة يقع في جزيرة «سانت هيلانة».

لمعَت عينا «أحمد»، فقد اتَّضحت خُطة العمل. وبسرعة أرسل رسالة إلى المجموعة، لتلتقي عند مكان السيارات، حيث يجب أن ينطلقوا في خلال ربع ساعة. وعندما التقوا، وأخذ «رشيد» مكانه خلف عجلة القيادة، انطلقت السيارة في سرعة الصاروخ وهي تجتاز البوابة الصخرية للمقر السري، وعندما أصبحت في الخلاء، كانت البوابة قد أُغلقَت دون أن يُسمَع لها صوت. وبدأت المغامرة الجديدة للشياطين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤