عامر وجدي

الإسكندرية أخيرًا.

الإسكندرية قطر الندى، نفثة السَّحابة البيضاء، مَهْبِط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المُبلَّلة بالشهد والدموع.

•••

العِمارة الضخمة الشاهقة تُطالعك كوجه قديم يستقرُّ في ذاكرتك، فأنت تعرفه ولكنَّه ينظر إلى لا شيء في لا مبالاة فلا يعرفك. كلحت الجدران المقشَّرة من طول ما استكنَّت بها الرطوبة. وأطلَّت بجماع بنيانها على اللسان المغروس في البحر الأبيض، يجلِّل جنباته النخيل وأشجار البلح، ثم يمتدُّ حتى طرفٍ قصيٍّ حيث تفرقع في المواسم بنادق الصيد. والهواء المنعش القوي يكاد يقوِّض قامتي النحيلة المقوَّسة، ولا مقاومة جِديَّة كالأيام الخالية.

ماريانا، عزيزتي ماريانا، أرجو أن تكوني بمَعْقِلك التاريخي، كالظنِّ وكالمأمول، وإلَّا فعليَّ وعلى دنياي السلام. لم يبقَ إلَّا القليل، والدنيا تتكرَّر في صورة غريبة للعين الكليلة المظلَّلة بحاجبٍ أبيضَ مُنجرِدِ الشَّعر.

ها أنا أرجع إليك أخيرًا يا إسكندرية.

•••

ضغطت على جرس الشقَّة بالدَّوْر الرابع. فُتحت شُرَّاعة الباب. فُتحت شُرَّاعة الباب عن وجه ماريانا. تغيَّرتِ كثيرًا يا عزيزتي. ولم تعرفني في الطُّرقة المُظلمة. أمَّا بشرتُها البيضاءُ الناصعةُ وشَعرُها الذهبيُّ فقد توهَّجا تحت ضوءٍ ينتشر من نافذة بالداخل.

– بنسيون ميرامار؟

– نعم يا فندم.

– أريد حجرة خالية.

الباب فُتح. استقبلني تمثال العذراء البُرنزي. ثمَّة رائحةٌ ما لعلِّي أفتقدها أحيانًا. وقفنا نتبادل النظر. طويلة رشيقة، الشعرُ ذهبيٌّ، والصحَّةُ لا بأسَ بها، ولكن بأعلى الظهر احْدِيداب، والشعر مصبوغ حتمًا، واليد المعروقة وتجاعيد زاويتَي الفم تَشِي بالعجز والكِبَر. إنَّكِ يا عزيزتي في الخامسة والستين رغم أن الروعة لم تسحب منكِ جميع أذيالها. ولكن هل تتذكَّرينني؟

نظرت باهتمام تِجاريٍّ بادئ الأمر، ودقَّقت النظر، ثم اختلجت العينان الزرقاوان. ها أنتِ تتذكَّرين، وها أنا أستردُّ وجودي الضائع.

– أوه .. أنت!

– مدام!

تصافحنا بحرارة، غلبها الانفعال فقهقهت ضاحكة، كنساء الأنفوشي قهقهت. وأطاحت بالوقار بضربة واحدة.

– يا خبر أبيض، عامر بك، أستاذ عامر، ها .. ها.

جلسنا على كنبة الآبنوس تحت العذراء وشبحانا يتخايلان في زجاج صوان المكتب القائم للزينة.

نظرتُ فيما حولي وقلت: مدخل البنسيون هو هو لم يتغيَّر.

فقالت مُحتجَّة، مُلوِّحة بيدها بفَخَار: بل تجدَّد وطُليَ مرَّات، وعندك أشياء جديدة كالنجفة والبارفان والراديو.

– إني سعيد يا ماريانا، الشكر لله على أنكِ في صحة جيدة.

– وأنت أيضًا يا مسيو عامر، الْمِس الخشب.

– عندي المُصران الغليظ والبروستاتا، نحمده على أي حال.

– أتجيء بعد زوال الصيف؟

قلت باهتمام: بل جئت للإقامة، متى تلاقَيْنا آخر مرَّة؟

– منذ .. منذ .. أقلتَ للإقامة؟

– نعم يا عزيزتي، رأيتك آخر مرَّة منذ حوالي عشرين عامًا.

– واختفيت طيلة ذلك العمر!

– العمل، الهموم …

– أراهن على أنك زرت الإسكندرية مرَّات ومرَّات في تلك الأعوام.

– أحيانًا، ولكن وطأة العمل كانت شديدة، وأنتِ أدرى بالصحافة.

– وأعرف أيضًا جحود الرجال.

– ماريانا يا عزيزة، أنتِ أنتِ الإسكندرية.

– تزوَّجتَ طبعًا.

– كلَّا بعد!

تساءلت مُقهقِهةً: ومتى تتمُّ النيَّة وتُقْدِم؟

قلتُ بنبرة لم تَخلُ من امتعاض: لا زواج، لا أبناء، اعتزلت العمل، انتهيت يا ماريانا.

شجَّعتني بحركة من يدها فواصلت قائلًا: عند ذاك نادتني الإسكندرية، مسقط رأسي، ولمَّا لم يكن لي فيها من قريبٍ حيٍّ فقد قصدت الصديق الباقي لي في دنياي.

– جميل أن يجد الإنسان صديقًا يقاسمه وَحْدته.

– أتذكرين أيام زمان؟

قالت بصوتٍ مأساويٍّ: ذهبت بكل جميل.

ثم في شبه غمغمة: ولكن علينا أن نعيش.

وجاء وقت الحساب والمساومة. قالت إنه لم يعد لها من مورد إلَّا البنسيون، ولذلك فهي تُرحِّب بنزلاء فصل الشتاء ولو كانوا من الطَّلبة المُزعجين، وفي سبيل ذلك تستعين بالسماسرة وبعض خدم الفنادق. ردَّدت ذلك بحزن عزيزِ قومٍ ذَلَّ. واختارت لي الحجرة رقم ٦ في الجناح البعيد عن البحر. واتَّفقنا على أجرة معقولة تصلُح لشهور العام عدا فصل الصيف، على أن يكون لي حق الاستمرار في الإقامة صيفًا إذا دفعت أجرة المصيِّفين. تم الاتِّفاق على كلِّ شيء بما فيه الفطور الإجباري، وأثبتت المدام أنها تستطيع في الوقت المناسب أن تستنقذ قلبها من الذكريات لتُحسن المساومة والتدبير. وسألتني عن حقائبي، فأجبت بأنها في أمانات المحطة. فقالت ضاحكة: لم تكن متأكدًا من وجود ماريانا.

ثم واصلت بحماس: لتكن إقامة دائمة.

فنظرت إلى يدي التي ذكَّرتني بيد مُومِياء في المتحف المصري.

•••

لا تَقِلُّ حجرتي في شيء عن الحجرات المُطلَّة على البحر، مستوفية لحاجتها من الأثاث والمقاعد المريحة ذات الطابع القديم. ولتبقَ الكتب في صندوقها إلَّا ما نَدَر ممَّا قد أراجعه فيمكن وَضْعه فوق الترابيزة أو التسريحة. لا يَعيبُها شيء إلَّا أنَّ جوَّها يسبح في مغيب دائم لأنها تُطلُّ على منور كبير يتسلَّق على جدرانه سُلَّم الخدم حيث تهرُّ القطط ويتناجى العاملون. وزرت الحجرات كلها. الورديَّة والبنفسجيَّة والسماويَّة وكانت جميعها خالية. في كلٍّ أقمت صيفًا أو أكثر في زمن مضَى. ورغم اختفاء المرايا القديمة والسجاجيد الفاخرة والقناديل المفضَّضة والفنايير البِلَّوْرية فما زالت مسحة أرستقراطيَّة باهتة تَعْلَق بالجدران المورقة والأسقف العالية الموشَّاة بصور الملائكة.

قالت وهي تتنهَّد وقد لمحتُ لأول مرَّة طاقم أسنانها: كان بنسيون السادة.

فقلت مواسيًا: سبحان مَن له الدوام!

فعادت تقول وهي تلوي بوزها: أكثر النُّزلاء شتاءً من الطَّلبة، وأمَّا في الصيف فأستقبل كلَّ مَن هبَّ ودبَّ.

•••

– عامر بك، كن شفيعي عند دولة الباشا.

وقلت للباشا: يا دولة الزعيم، ليس الرجل ذا كفاءة ممتازة ولكنه فَقَدَ ابنه في الجهاد وهو جدير بأن يُرشَّح عن الدائرة.

وافق على اقتراحي، أسكنه الله أعزَّ مكانٍ في جنَّته. كان يُحبُّني ويتابع مقالاتي باهتمام صادق. ومرَّة قال لي: أنت كلب الأمَّة الخافك.

كان رحمه الله ينطق القاف كافًا. وسمع بها بعض الزملاء القُدامى من رجال الحزبِ الوطنيِّ؛ فكانوا كلَّما رأوني صاح صائحهم: «أهلًا بكلب الأمَّة.»

لكنها كانت أيام المجد والجهاد والبطولة.

كان عامر وجدي شخصًا فريدًا، له في الرجاء جانب يَرِده الأصدقاء، وفي الخوف جانب يتجنَّبه الأعداء.

•••

في الحجرة أتذكَّر أو أقرأ أو أستسلم للنُّعاس. وفي المدخل مجال سمر مع الراديو وماريانا. وإن شئت تنويعًا في التسلية ففي أسفل العِمارة مقهى الميرامار. من البعيد جدًّا أن أعثر على أحد أعرفه أو يعرفني، ولا في التريانون نفسه. ذهب الأصدقاء وذهب زمانهم. وإني لأعرفكِ يا إسكندرية الشتاء. تُخلين ميادينك وشوارعك مع المغيب فيمرح فيها الهواء والمطر والوَحْشة، وتعمُر حجراتك بالمناجاة والسمر.

•••

– ذلك العجوز الذي يُخفي جسده المحنَّط تحت بدلة سوداء من عهد نوح.

وقال من عَيَّنه الزمن الهازل رئيسًا للتحرير: زمن البلاغة ولَّى، هل عندك عبارة تصلح لراكب طيَّارة؟

راكب طيَّارة! أيها «القره جوز» المفعم شحمًا وغباءً .. إنما خُلِقَ القلم لأصحاب العقول والأذواق لا للمجانين المُعَرْبِدين من ضحايا الملاهي والحانات .. ولكن قُضيَ علينا طول العمر بالسير في ركاب زملاء جدد في المهنة، لُقِّنُوا علمَهم في السيرك ثم اجتاحوا الصحافة ليلعبوا دور البهلوانات.

•••

جلست على الفوتيل مرتديًا الروب، استسلمت ماريانا إلى مسند الكنبة الأبنوس تحت تمثال العذراء، وانبعث من المحطة الإفرنجية موسيقى راقصة. وَدِدْتُ أن أسمع لونًا آخر، ولكني تجنَّبت إزعاجها. استرخت جفونها كمن تحلم وحرَّكت رأسها في طرب كأيام زمان.

– كنا وما زلنا أصدقاء يا عزيزتي.

– طول العمر.

– لم نتبادل العشق ولا مرَّة!

ضحكت ضحكة عالية وقالت: ذوقك بلدي، لا تُنكر.

– عدا مرَّة عابرة، هل تذكرين؟

ضحكت طويلًا ثم قالت: نعم، جئت مرَّة بخواجاية فاشترطت عليك تكتب في السجل «عامر وجدي وحَرَمه».

– وسبب آخر أبعدني عنكِ، كنتِ حسناء فاخرة يحتكرك الوجهاء.

تهلَّل وجهها في سعادة شاملة، ماريانا، مُهم عندي جدًّا أن يمتدَّ بكِ العمر بعدي ولو يومًا واحدًا حتى لا أُضطرَّ إلى البحث عن مأوًى جديد. ماريانا، إنكِ شاهدٌ حيٌّ على أنَّ التاريخ ليس وهمًا، من عهد الإمام إلى اليوم.

•••

– سيدي الأستاذ، أستودعك الله.

رمقني في ضجر، وهو يضيق بي كلما رآني. قلت: آن لي أن أعتزل.

قال وهو يداري ارتياحه: خَسارة كبيرة ولكنني أرجو لك حياة طيبة.

انتهى كلُّ شيء.

انطوت صفحة تاريخ بلا كلمة وداع ولا حفلة تكريم ولا حتى مقال من عصر الطائرة. أيها الأنذال، أيها اللوطيُّون، ألا كرامة لإنسان عندكم إن لم يكن لاعب كرة؟

•••

قلت وأنا أرنو إليها تحت تمثال العذراء: ولا هيلانة في زمانها!

ضحكت وقالت: قبل أن تجيء كنت أجلس وحدي، لا أنتظر أحدًا أعرفه. مُهدَّدة دائمًا بأزمة كُلى.

– سلامتك، ولكن أين أهلك؟

وهي تتنهَّد: هاجر النساء والرجال.

ولوت بوزها المجعَّد ثم واصلت: قلت أين أذهب؟ لقد وُلدت هنا، لم أرَ أثينا أبدًا في حياتي، ثم إن البنسيونات الصغيرة لن تُؤمَّم على أيِّ حال.

•••

يُعجبني الصدق في القول والإخلاص في العمل، وأن تقوم المحبَّة بين الناس مكان القانون. لا فُضَّ فُوك. لقد أكرمك الله بتمثالَين والموت.

•••

– مصر وطنكِ، والإسكندرية ليس كمثلها شيء.

عزف الهواء في الخارج. والظلام يهبط خُلْسةً. قامت فأشعلت من النجفة ثلاثة مصابيح في أسفلها مثل عنقود العنب. عادت إلى مجلسها وهي تقول: كنت سيدة، سيدة بكلِّ معنى الكلمة.

– ما زلتِ سيدة يا عزيزتي.

– هل تشرب كأيام زمان؟

– كأس واحدة عند العشاء، طعامي خفيف جدًّا، وذاك سرُّ حيويَّتي رغم تقدُّم العمر.

– آه يا مسيو عامر، تقول إن الإسكندرية ليس كمثلها شيء؟ كلَّا، لم تعد كما كانت على أيامنا، الزبالة تُرى الآن في طرقاتها.

قلت بإشفاق: عزيزتي، كان لا بُدَّ أن تعود إلى أهلها.

قالت بحِدَّة: ولكننا نحن الذين خلقناها.

– عزيزتي ماريانا، ألا تشربين كأيام زمان؟

– كلَّا، ولا كأس واحدة، عندي ضغط من الكُلَى.

– ما أجملَ أن نُوضع في متحف جنبًا إلى جنب، ولكن عديني بألَّا تموتي قبلي.

– مسيو عامر، قتلت الثورة الأولى زوجي الأول، أمَّا الثورة الثانية فجرَّدتني من مالي وأهلي، لماذا؟

– إنَّكِ مستورة والحمد لله، ونحن أهلك، والعالم يشهد أمثال هذه الحوادث كل شروق شمس.

– يا له من عالم!

– ألا نُغيِّر المحطة الإفرنجية؟

– عدا ليلة أم كلثوم، فلا محطَّة غيرها!

– أمركِ يا عزيزتي.

– خبِّرْني لماذا يُعذِّب الناس بعضهم البعض، ولماذا يتقدَّم بنا العمر؟

ضحكت دون أن أنبِس.

أجَلْتُ البصر في الجدران المنقوش عليها تاريخها. هاك صورة الكابتن بقبَّعته العالية وشاربه الغزير في البدلة العسكرية، زوجها الأول، ولعلَّه حبيبها الأول والأخير، الذي قُتل في ثورة ١٩١٩. في الجدار المقابل وفوق المكتبة صورة أمِّها العجوز، كانت مُدرِّسة. على مرمى البصر في الصالة فيما وراء البارفان صورة الزوج الثاني ملك البطارخ وصاحب قصر الإبراهيميَّة، أفلس ذات يوم فانتحر.

– متى فتحتِ البنسيون؟

– قل متى اضطُررت لفتحه من فضلك!

ثم أجابت: عام ١٩٢٥.

عام مِحْنة وكَدَر.

•••

– ها أنا شِبه سجين في بيتي، وعرائض التأييد تُزفُّ إلى الملك.

– زيف وكذب يا دولة الزعيم.

– حسبت الثورة قد طهَّرت النفوس من ضعفها.

– الجوهر سليم والحمد لله … سأُسمِع دولتكم مقالة الغد.

•••

راحت تدلك بشرة وجهها بليمونة وهي تقول: كنت سيدة يا مسيو عامر، أحبُّ الحياة الحُلْوة والنور والفخامة والأُبَّهة والملابس والصالونات، وكنت أَهُلُّ على المدعوِّين كالشمس.

– رأيت ذلك بعينيَّ.

– لكنك لم ترَ إلَّا صاحبة البنسيون.

– كانت تَهُلُّ أيضًا كالشمس.

– وكان النُّزلاء من السادة، ولكن لم يُعزِّني ذلك عن تدهوري.

– ما زلتِ سيِّدة بكلِّ معنى الكلمة.

هزَّت رأسها ثم سألت: والأصدقاء القُدامى ماذا حَلَّ بهم؟

– حَلَّ بهم المكتوب عليهم.

– لماذا لم تتزوج يا مسيو عامر؟

– سوء الحظ، ليتنا أنجبنا ذُرِّيَّة.

– أوه .. كان كلا الزوجين عاقرًا!

يغلب عليَّ الظن أنك أنت العاقر، إنه أمر مؤسف إذ إننا لم نوجد إلَّا لكي نُنجب.

•••

ذلك البيت الكبير الذي تحوَّل مع الأيام إلى فندق، يراه السائر في خان جعفر كقلعة صغيرة، وحوشه القديم الذي شُقَّ فيه طريق إلى خان الخليلي، قد نُقش في قلبي هو وما يكتنفه من بيوت قديمة والكلوب العتيق، صورة تذكاريَّة لنشوة الحب المشبوب المرتطم بخيبة الأمة. العمامة واللحية البيضاء وقسوة الشفتين وهما تلفظان «لا» فتقضي في تعصُّب أعمى على الحبِّ الذي هَبَطَ إلى الدنيا قبل الأديان بمليون سنة.

– مولاي، إني أَنْشُد القرب منكم على سُنَّة الله ورسوله.

صمت وبيننا فنجان قهوة لم يُمسَّ، فقلتُ: إني صحفي، ذو مال، وابن شيخ كان خادمًا لمسجد سيدي أبي العبَّاس المرسي.

قال: رحمه الله، كان من التُّقاة المؤمنين.

وقبض على المِسْبَحة ثم استطرد: يا بُني، كنت منا، جاورت الأزهر زمنًا.

ذاك التاريخ متى يُنسى! قال: ثم طُردتُ من الأزهر، أنت تذكر …؟

– مولاي، ذلك تاريخ قد انقضى، لأتفه الأسباب كان يحقُّ الطرد، شابٌّ هزَّه الشباب فاشترك في تخت مطرب ذات ليلة، أو طرح بعض أسئلة ببراءة.

قال بامتعاض: قضى عليه قوم عقلاء بتهمة شنيعة.

– مولاي مَنْ ذَا يستطيع أن يقضيَ على إنسان بتهمة كالإلحاد، ولا مُطَّلِع على الفؤاد إلَّا الله؟

– يستطيع ذلك مَن يسترشدُ بالله.

اللعنة! مَن ذَا يزعم أنه عَرَف الإيمان! قد تجلَّى الله للأنبياء ونحن أحوجُ منهم إلى ذاك التجلِّي. وعندما نتحسَّس موضعنا في البيت الكبير المسمَّى بالعالم فلن يُصيبنا إلا الدُّوَار.

•••

لنحذر الكسل. لا بأس من تجرِبة المشي في الصباح المشمس. ما أحلى أيام الدفء في البالما والبجعة. ولو وجدت نفسك وحيدًا بين أُسر تَعمُر بالأجيال. الأب يُطالع جريدة والأمُّ تُطرِّز رُقعة، والأبناء يلعبون. لو يخترع المخترعون للمعتزلين جهازًا يبادلهم الحديث والسمر، أو شخصًا إلكترونيًّا يلاعبهم النَّرد، أو يركِّب لهم عينًا جديدة تولَع مرَّة أخرى بنبات الأرض وألوان السماء.

وقد عشنا دهرًا طويلًا حافلًا بالأحداث والأفكار، نوينا أكثر من مرَّة أن نُسجِّله في مذكرات — كما فعل الصديق القديم أحمد شفيق باشا — ولكن لم تصدُق النية ثم تبدَّدت بين إمهال وإرجاء. اليوم لم يبقَ من النية القديمة إلا الحسرة بعد أن وَهَنَتِ اليد وضعُفت الذاكرة واضمحلَّت القوة. ففي ذمَّة الله ذكريات الأزهر، وصُحبة الشيخ علي محمود وزكريا أحمد وسيد درويش، حزب الأمَّة ما أعجبني فيه وما نفَّرني منه، الحزب الوطني بحماساته وحماقاته، الوفد بثورته العالميَّة الخالدة، الخلافات الحزبيَّة التي قوقعتني في حياد بارد لا معنى له، الإخوان الذين لم أحبَّهم، الشيوعيُّون الذين لم أفهمهم، الثورة ومغزاها وامتصاصها للتيَّارات السابقة، غراميَّاتي وشارع محمد علي، مَوْقِفي العنيد من الزواج. لو قُيِّض لذكرياتي أن تُكتب لكانت عجبًا حقًّا.

زرتُ بحنان أثنيوس وباستوريدس وأنطونيادس. جلست وقتًا في بَهْو وندسور وسيسل، مُلتقَى الباشوات والساسة الأجانب في الزمن القديم، وخير مجال لالتقاط الأخبار ومتابعة الأحداث، فلم أرَ إلا قلَّة من الأجانب شرقيِّين وغربيِّين. رجعت ولي عند الله دعاءان: دعاء بأن يمنَّ عليَّ بحلِّ مشكلة الإيمان، ودعاء بألَّا يُصيبَني بمرض يُقعِدني عن الحركة فلا أجد من يأخذ بيدي.

•••

ما أجمل هذه الصورة النابضة بالشباب! قد وضعتْ على المقعد ركبة الساق اليمنى وأراحت الأخرى على الأرض، ومالت بجذعها نحو مسند المقعد مُلقيةً معصميها عليه، واستدار وجهها ليواجه الكاميرا باسمًا معتزًّا بملاحته، وقد انحسر ديكولتيه الفستان الكلاسيكي الفضفاض عن قاعدة العنق الطويل ونحر منبسط كالمرمر.

كانت قد ارتدت مِعْطَفها الأسود والإشارب الكحلي تأهُّبًا لزيارة الطبيب، وجلست تنتظر الوقت المناسب للذَّهاب. سألتها: أقلتِ إن الثورة جرَّدتكِ من مالك؟

فرفعت حاجبَيها المزجَّجين وقالت: ألم تسمع بكارثة الأسهم؟

لعلَّها قرأت في عينيَّ تساؤلًا ففطنت إلى ما يدور بخَلَدي فقالت: ضاع ما رَبِحته أيام الحرب الثانية. صدِّقني، لقد ربحتُه بشجاعتي إذ أصررت على البقاء في الإسكندرية عندما هاجر الكثيرون إلى القاهرة والأرياف خوفًا من غارات الألمان، طليت النوافذ باللون الأزرق وأسدلت الستائر، ودار الرقص على ضوء الشموع، ولن تجد من يضاهي ضبَّاط الإمبراطورية في البَذْل والكرم.

وجدتُني وحيدًا بعد ذَهابها أنظر إلى عينَي زوجها الأول وينظر إليَّ. تُرى من قتلك وبأيِّ سلاح؟ وكم من جيلنا قتلت قبل أن تُقتل؟ جيلنا العتيد الذي فاق الأجيال جميعًا في غزارة ضحاياه.

•••

الغناء الإفرنجي لا ينقطع. أقسى ما حكم الزمان به عليَّ في عزلتي. ماريانا أخذت حمَّامًا ساخنًا عقب عودتها من عند الطبيب، ها هي تجلس ملفوفةً في بُرْنُس أبيض وقد عَقَصَتْ شعرها المصبوغ غارسةً فيه عشرات المشابك المعدنيَّة البيضاء. خفَّضت صوت الراديو إلى حدِّ الهمس لتبدأ هي إذاعتها وقالت: مسيو عامر .. لا شكَّ أنَّ لديك مالًا وفيرًا.

فسألتها بشيء من الحذر: هل عندك مشروعات؟

– كلَّا، ولكن في مثل عمرك — وعمري أيضًا مع الفارق الكبير — لا يتهدَّدنا شيء مثل الفقر والمرض.

قلت والحذر لم يفارقني بعد: لقد عشت مستورًا وأرجو أن أموت مستورًا.

– لا أذكر أنك كنت مُسرفًا قط.

تردَّدتُ قليلًا ثم قلت: أرجو أن يكون عمر المدَّخَر من نقودي أطول من عمري.

لوَّحت بيدها باستهانة وقالت: الطبيب شجَّعني هذه المرَّة فوعدته بألَّا أحمل همًّا.

– جميل ألَّا نحمل همًّا.

– يجب أن نفرحَ ونلهوَ عندما تأتي ليلة رأس السنة.

قلت ضاحكًا: نعم، على قدر ما تسمح قلوبنا.

راحت تهزُّ رأسها في تلذُّذ وتقول في مناجاة: يا ليالي رأس السنة …

فقلت منفعلًا بذكريات بعيدة: كم أحَبَّكِ الكُبراء!

– لم أعرف الحبَّ إلا مرَّةً واحدة.

ثم أشارت إلى صورة الكابتن. وعادت تقول: قتله طالب من الطَّلبة الذين أخدمهم اليوم!

ثم قالت بخيلاء: كان بنسيون السادة .. يعمل به طاهٍ ومرمطون وسفرجي وغسَّالة وخادمان، لا أحد يخدم به اليوم سوى غسَّالة أسبوعية.

– كُبراء كثيرون يغبطونكِ على ما أنتِ فيه.

– أهذا عدل يا مسيو عامر؟

– هو على أيِّ حال طبيعي يا مدام.

اربدَّ وجهها فضحكتُ متودِّدًا وملاطفًا.

•••

الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ

مضيتُ أقرأ سورة الرحمن الحبيبة إلى قلبي مذ كنت في الأزهر. كنت غائصًا في مقعد كبير طارحًا قدميَّ على وسادة. هطل المطر بغزارة فارتفع رنينه فوق درجات السُّلَّم المعدِني في المنور.

كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ

ثمَّة أصوات تقتحم الصمت خارج الحجرة في البنسيون. رَفَعْتُ رأسي عن الكتاب وأنصتُّ. ضيف أم نزيل جديد؟ صوت ماريانا يُرحِّب بحرارة لا تليق إلَّا بصديق حميم. وثمَّة ضحك أيضًا. ثم وَضَحَتْ نبرة غليظة من صوت أجوف. تُرى مَن القادم؟ الوقت بعد العصر بقليل. والمطر ينهلُّ بشدَّة، والغيوم تريق في الحجرة ظُلمة كالليل. ضغطت على زر الأباجورة حين لمع برق خاطف نضح به الشيش، وهَزَمَ الرعد.

يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ

•••

يميل إلى القِصر والبدانة، منتفخ الشدقين واللُّغْد، وله عينان زرقاوان رغم سُمرة بشرته، ذو طابع أرستقراطي لا تُخطئه العين وينمُّ عنه صمته المتكبِّر إذا صمت، وحركات رأسِه ويديه المتَّزنة المرسومة بدقَّة إذا تكلَّم. قدَّمته المدام بِاسْمِ «طلبة بك مرزوق» في مجلس المساء، ثم قالت تَزيدُني معرفةً به: كان وكيلًا لوزارة الأوقاف ومن الأعيان الكبار.

لم يكن عندي في حاجة إلى تعريف. عرَفْتُه من بعيد بحكم مهنتي على عهد النضال السياسي والحزبي. كان من المنتمين إلى أحزاب السراي، وبطبيعة الحال من أعداء الوفد. وتذكَّرتُ أيضًا أنه وُضع تحت الحراسة منذ عام أو أكثر وأنَّه جُرِّدَ من موارده عدا القدر المعلوم. أمَّا المدام فقد تبدَّت في أحسن أحوالها مرَحًا وعاطفيَّة، نوَّهت مِرارًا بصداقتها القديمة لطلبة بك. وبرز حماسها المتدفِّق عندما دعته بمُحبِّها القديم.

وقال لي الرجل ونحن نتبادل الحديث: قرأت لك كثيرًا فيما مضَى.

فضحِكتُ ضحكةً ذات مغزًى فضحِك بدوره قائلًا: كنت تعطيني مثلًا حيًّا لقوة البلاغة عندما تتصدَّى للدفاع عن باطل!

وضحك طويلًا ولكنَّني لم أجادله. وقالت المدام تخاطبني بشماتة: طلبة بك تلميذ قديم للجزويت، سنسمع الأغاني الإفرنجيَّة معًا ونتركك لتتعذب وحدك.

ثم بسطت راحتيها في ترحيب وقالت: جاء ليقيم معنا.

فرحَّبتُ به فعادت تقول في رثاء: كان يملك ألف فدَّان، كان يلعب بالمال لعبًا.

هنا قال الرجل بامتعاض: انقضى عهد اللعب.

– وأين كريمتك يا طلبة بك؟

– في الكويت مع زوجها المقاول.

وكنت أعلم أنَّ الحراسة قد فُرضت عليه لشبهة تهريب، بَيْدَ أنه فسَّر مأساته قائلًا: خسرت أموالي جميعًا ثمنًا لنكتة عابرة!

فسألته: هل دُعيت إلى تحقيق؟

فقال بازدراء: المسألة بكل بساطة أنهم كانوا في حاجة إلى مالي.

وكانت المرأة تنظر إليه بإمعان فقالت: تغيَّرت كثيرًا يا طلبة بك.

ابتسم فُوه الصغير المطوَّق بشدقيه ثم قال: أصابتني جلطة كادت تقضي عليَّ.

ثم بشيء من العزاء: ولكنني أستطيع أن أشرب الويسكي في حدود الاعتدال.

•••

غمس الكروَسَّان في الشاي الممزوج باللبن ثم أكَلَ بأناةِ مَن لم يألف الطاقم الجديد بعد. لم يكن على مائدة الإفطار سوانا. وكانت الأيام القلائل الماضية قد قرَّبت بيننا وأزالت حواجز الحذر فغلب الأنس بروح الجيل الواحد على الخلافات البالية، وإن انطوى كلٌّ منا في أعماقه على مزاج متفرِّد مناقض لصاحبه: ولكن تجيء أوقات يبرز فيها المزاج الثاوي في الأعماق ليُثير الغبار والتحدِّيات. أجل، قد سألني بلا مناسبة: أتدري ما السبب وراء المصائب التي حلَّت بنا؟

فتساءلت بدهشة: أي مصائب تعني؟

– أيها الثعلب، إنك تعرف تمامًا ما أعني.

– ولكن لم تحلَّ بي المصائب من أي نوع كان.

رفع حاجبَيه الأشيبَين وقال: لقد اغتيلت شعبيَّتكم كما اغتيلت أموالنا.

– لعلَّك تذكر أنني خرجت من الوفد، بل من الأحزاب جميعًا، منذ حادث ٤ فبراير.

– ولو .. ثمَّة لطمة قد أحاطت بكبرياء الجيل كله.

فقلت زاهدًا في الجدل: بصرف النظر عن موقفي فإني مَشُوقٌ إلى معرفة رأيك.

قال بهدوء وازدراء: يوجد سبب بعيد في طرف الحبل المشدود حول أعناقنا، شخص لا يكاد يذكره أحد.

– مَن هو؟

– سعد زغلول!

لم أتمالك من الضحك فراح يقول بحدَّة: أجل، منذ دأب على إثارة الِإحَن بين الناس، والتطاول على الملك، وتملُّق الجماهير، رمَى في الأرض ببذرة خبيثة، ما زالت تنمو وتتضخَّم كسرطان لا علاج له حتى قضى علينا.

•••

لم يكن بالبالما إلَّا آحاد. مضى طلبة مرزوق ينظر إلى ماء النيل شبه الساكن في ترعة المحموديَّة على حين مددت ساقيَّ واستلقيت على مسند الكرسي كأنما أضطجع تحت شعاع الشمس النقيِّ الدافئ. هاجرنا إلى أطراف الإسكندريَّة المزدحمة بالنبات والأزهار، التي تنعم أيام الصحو بالدفء والسلام، فآوينا إلى ركن من الجنَّة عامر بالبركات.

مهما يكن من غلوِّ صاحبي وعصبيَّته فهو يستحقُّ قدرًا من الرِّثاء. عليه أن يبدأ حياة جديدة مريرة بعد الستين. إنه يغبط كريمته في مهجرها ويرى أحلامًا غريبة، لا يطيق أن يسمع عن نظرية تُبرِّر مأساته التاريخية. ويؤمن بأنَّ الاعتداء على ماله إنما كان اعتداءً على كون الله وسننه وحكمته.

– كدت أعدل عن الإقامة في البنسيون عندما علمت بوجودك.

لم أصدِّق وسألته عن السبب: وقع اختياري على بنسيون ميرامار بأمل ألَّا أجد فيه إلا صاحبته الخواجاية.

فسألته عما بدَّد سوء ظنِّه بي: فكَّرت، ثم اقتنعت بأن التاريخ لم يعرف عميلًا فوق الثمانين!

ضحكت طويلًا ثم سألته: ولِمَ تخاف العملاء؟

– لا شيء في الحقيقة غير أني أُروِّح عن نفسي أحيانًا بالكلام.

ثم واصل حديثه بعصبية: لم يعد لي مقام في الريف، وجوُّ القاهرة يُصرُّ على إشعاري بهواني. عند ذاك فكَّرتُ في عشيقتي القديمة، وقلت لقد فقدتْ زوجَها في ثورة، ومالَها في الثورة الأخرى، وإذن فسوف نعزف لحنًا واحدًا.

وأثنى على صحَّتي رغم طعوني في السنِّ، وجعل يُغريني على مصاحبته في دُور السينما والمقاهي الشتويَّة. تم تساءل: لماذا عَدَلَ الله عن سياسة القوَّة؟

لم أُدرك مَرْماه، فقال متبسِّطًا في الشرح: أعني الطوفان والرياح وغيرها.

فسألته بدوري: أتحسب أن الطوفان قد أهلك من البشر أكثر ممن أهلكتهم قنبلة هيروشيما؟

فلوَّح بيده ساخطًا وقال: ردِّد دعايات الشيوعيِّين أيها الثعلب! إن أكبر خطأ في حق البشرية قد وقع لدى تردُّد أمريكا في الاستيلاء على سلطان العالم عندما كانت تملك وحدها القنبلة الذريَّة.

– خبِّرْني هل تُجدِّد غراميَّاتك مع ماريانا؟

ضحك عاليًا وقال: يا لها من فكرة جنونيَّة، إني شيخ هدمه العمر والسياسة وهيهات أن تحرِّكني إلَّا المعجزات، وأمَّا هي فلم يبقَ لها من الأنوثة إلَّا ألوانها المجرَّدة.

وضحك مرَّةً أخرى ثم قال: وأنت هل نسيت تاريخك؟ لقد قرأت عن فضائحك في مجلة الكشكول، عن جريك وراء المُلَاءَاتِ اللفِّ بشارع محمد علي.

ضحكت بلا تعليق فتساءل: هل رجعت أخيرًا إلى الدين؟

– وأنت؟ .. يُخيَّل إليَّ أحيانًا أنك لا تؤمن بشيء.

فقال بحنق: كيف لا أومن بالله وأنا أحترق في جحيمه؟!

•••

– لقد خُلِقَ أمثالك للجحيم، لن يبارك الله لك في شيء، اخرُج مطرودًا من هذا المكان الطاهر، كما طُرد إبليس من رحمة الله.

•••

دقَّت الساعة الكبيرة في الصالة مُعلِنةً انتصاف الليل. تجاوبت أركان المنور بصفير هواء قوي. أقعدني الكسل والدفء وأنا غائص في المقعد الكبير عن القيام إلى الفراش. وثقلُت عليَّ وحدتي بعد أن انفردت بي في الحجرة الخالية؛ فقلت لنفسي: ما جدوى الندم بعد الثمانين!

وإذا بالباب يُفتَح دون استئذان ويقف طلبة مرزوق على عتبته قائلًا: معذرة، أدركت من ضوء الحجرة أنك لم تَنَم.

نظرت نحوه باستغراب. لقد شرب الليلة أكثر ممَّا يشرب عادة. وسألني متهكِّمًا وحركات رأسه تواكب نبرته: أتعلم كم كان يُكلِّفني في الشهر الواحد الدواء والفيتامينات والهرمونات والروائح والدهون وخلافه؟

انتظرت أن يتكلَّم ولكنه أغمض عينيه كأنَّ الجهد أرهقه، ثم تراجع فأغلق الباب ومضَى.

•••

السُّرادِق مكتظٌّ بالخَلْق، ساحة المولد كيوم الحشر، والصواريخ تنطلق في الفضاء. انشقَّ النور وانعدم الظلام لمولد أحمد. وتهادت الرولزرويس حتى وقفت أمام السُّرادِق. هبط منها طلبة مرزوق فخفَّ لاستقباله أقوام وأقوام من السادة الدمرداشيَّة؛ طريقة الرجل الذي جمع في قلبه بين الرسول والمندوب السامي. ولمحني صاحب الرولزرويس فأعرض عني في كبرياء. وقيل ليلتها إنك جئت ثمِلًا كما جئتني الليلة. ودُعيَ سيد المطربين إلى وسط السُّرادِق فأنشدَ «يا سماءً ما عليك سماء.» وفي الهزيع الأخير من الليل غنَّى «أحب أشوفك» فأطاح بعقول المُريدين. متى كانت تلك الليلة العجيبة؟ على التحديد لا أذكر ولكنَّها حتمًا سبقت وفاة الرجل الجليل وإلَّا ما صفا لي الطَّرَب.

•••

كنت أجلس في المدخل ولا أحد معي في البنسيون عندما دقَّ الجرس. فَتحتُ الشُّرَّاعة على طريقة المدام فرأيت أمامي وجهًا انشرح لمرآه صدري. من النظرة الأولى انشرح له صدري. وجه أسمر لفلَّاحة مُطوَّقة الرأس والوجه بطرحة سوداء، أصيلة الملامح، مؤثِّرة جدًّا بنظرة عينيها الحُلْوة المترقِّبة: مَن أنتِ؟

– أنا زهرة!

قالتها ببراءة وثقة كأنما تنطق باسم علَم من الأعلام. سألتها وأنا أبتسم: ماذا تريدين يا زهرة؟

– الست ماريانا.

فتحتُ لها الباب فدخلت حاملة بُقجة صغيرة. نظرتْ فيما حولها ثم سألتْ: أين الست؟

– ستجيء بعد قليل. اجلسي.

جلست على مقعد واضعةً البُقجة على حجرها فَعُدْتُ إلى مجلسي في نشاط جديد. جعلت أنظر إليها، إلى تكوينها القوي الرشيق، وملاحتها الفائقة، وشبابها الغض، وأنا في غاية من الارتياح. واستسلمت لرغبة في محادثتها فقلت: قلتِ إنَّ اسمك زهرة؟

– زهرة سلامة.

– من أين يا زهرة؟

– من الزياديَّة بحيرة.

– على ميعاد مع المدام؟

– لا.

– إذن؟

– جئتُ لأقابلها.

– تعرفك طبعًا؟

– نعم.

تملَّيت جمالها وشبابها بارتياح لم أشعر بمثله من دهر، ثم عُدْتُ أسألها: هل تعيشين في الإسكندرية من زمن طويل؟

– لم أعِش في الإسكندرية، ولكن زرتها مِرارًا مع المرحوم أبي.

– وكيف عرَفتِ المدام؟

– كان أبي يجيئها بالجُبْن والزُّبْد السمن والدجاج، وكنت أجيء معه أحيانًا.

– فهمت، تنوين يا زهرة أن تحلِّي محلَّ أبيكِ.

– لا.

حوَّلت عينيها إلى البارفان كأنما لتتفادى من المزيد، فاحترمتُ سرَّها وازددتُ لها حبًّا. وبكل حنان دعوت لها في سرِّي أن يحفظها الله.

•••

قلت وأنا أُقبِّل يدها المعروقة المدبوغة: «ببركة دعواتك أصبحت رجلًا ولا كل الرجال، هلُمِّي معي إلى القاهرة.» فقالت وهي تَتَطلَّع نحوي بحنان: «فليزدك الله من خيره وبركاته، أمَّا أنا فلن أغادر البيت، إنه حياتي وعمري.»

بيت نحيل، مُقشَّر الجدران، تلطمه الرياح وتستقرُّ أملاح البحر على أحجاره، وتلفحه روائح السمك المكدَّس على شاطئ الأنفوشي.

قلت: «لكنَّكِ تعيشين هنا وحدك.»

فقالت: «معي خالِقُ الليل والنهار.»

•••

دقَّ الجرس فقامت زهرة ففتحت الباب. نظرت إليها المدام بدهشة ثم هتفت: زهرة! .. غير معقول!

لثمت الفتاة يدها مُشرقة الوجه لحرارة الترحيب.

– جميل أن أراكِ، الله يرحم والدك، تزوَّجتِ يا زهرة؟

– كلَّا.

– غير معقول!

وضحكت عاليًا ثم التفتت إليَّ قائلة: زهرة بنت رجل طيب يا مسيو عامر.

ومضتا معًا إلى الداخل حين جاش صدري بحنان وأبوَّة.

•••

ولمَّا جمَعَنا مجلس الليل — أنا وطلبة وماريانا — قالت المدام: أخيرًا ارتحت.

وسكتت لحظة ثم واصلت: زهرة ستعمل عندي.

اجتاحني إحساس غريب بالفرح والضيق معًا ثم سألت: أجاءت لتعمل خادمة؟

– نعم، لِمَ لا، ستكون على أيِّ حال في مركز ممتاز.

– ولكن ما …

– كانت تستأجر نصف فدَّان وتزرعه بنفسها، ما رأيك في ذلك؟

– جميل، ولكن لِمَ تركت أرضها؟

نظرت إليَّ مليًّا ثم قالت: لقد هربت.

– هربت!

قال طلبة ساخرًا: اعتبروها إقطاعيَّة!

– أراد جَدُّها أن يزوِّجَها من عجوز مثله لتخدمه، والباقي معروف.

قلت بحزن: حدث خطير لا تهضمه القرية.

– لا أحد لها بعد جَدِّها إلَّا شقيقتها الكبرى وزوجها.

– وإذا عرَفوا أنها هنا؟

– محتمَل، ولكن ما يهمُّ؟

– ألا تخْشَيْن …؟

– ليست صغيرة، وما فعلتُ إلَّا أنَّني آويتها وأعطيت لها عملًا شريفًا.

ثم بإصرار: مسيو عامر، لن أتخلَّى عنها.

•••

لن أتخلَّى عن واجبي ما دام فيَّ عِرْق ينبض، ولتفعل بنا القوَّة ما تشاء.

•••

وراحت تعلِّمُها وزهرة تتعلَّم بسرعة فائقة، وماريانا تقول بسرور: البنت مُدهشة يا عامر بك، مُدهشة، ذكيَّة وقوية، من مرَّة واحدة تعرف المطلوب، أنا بختي عال.

وقالت لي في مرَّة أخرى: ما رأيك، خمسة جنيهات غير الأكل واللبس؟

أعلنتُ ارتياحي ثمَّ قلت برجاء: لا تُلبسيها بطريقة عصريَّة!

– أتريدها أن تلبس كالفلَّاحات؟

– عزيزتي، البنت جميلة، فكِّري في الأمر.

– أنا عيني مفتوحة دائمًا، والبنت طيِّبة يا مسيو عامر.

هكذا خطرت زهرة في فستان من الكستور فُصِّلَ على جسمها الرشيق ليُبرز محاسنه، ربما لأول مرَّة، بعد طول اختفاء تحت الجلباب الفضفاض المسترسل حتى الكعبين، ومُشِّط شعرها جيدًا بعد أن غُسل بالجاز ثم فُرق في وسط الدماغ ليجتمع في ضفيرتين انسابتا في امتلاء وراء الأذنَين.

ورآها طلبة مرزوق فنظر إليها مُتفرِّسًا ثم مال نحوي بعد ذَهابها وهمَسَ قائلًا: سنشاهدها في الصيف القادم في الجنفواز أو مونت كارلو.

فقلت باستياء: فال الله ولا فالك يا شيخ!

ثم مرَّ بها وهو في طريقه إلى الخارج فسألها مداعبًا: هل فيكِ عِرْقٌ أجنبيٌّ يا زهرة؟

شَيَّعته بنظرة متسائلة. واضح أنَّها لم تستلطفه. ونظرت نحوي فقلت لها: إنه يداعبكِ، فاعتبري قوله نوعًا من الثناء.

ثم قلت باسمًا: وأنا أيضًا من عشَّاقك يا زهرة.

فابتسمت ابتسامة صافية، فلم أشكَّ في أنها تبادلني مودَّة بمودَّة وسُررتُ بذلك جدًّا. وكانت المدام تدعوها — بعد انتهاء العمل — للجلوس معنا في المدخل حول الراديو، فكانت تختار مقعدًا بعيدًا بعض الشيء عنَّا وعلى كثب من البارفان وتتابع أحاديثنا برغبة جادَّة في الاستطلاع والفَهْم، واستأنستها بمودَّتي فصرنا صديقين، وتبادلنا الكلام كثيرًا في الفرص المتاحة.

وقصَّت علينا ذات ليلة قصَّتها بنفسها وهي تظن أننا نسمعها لأول مرَّة. ثم قالت تعليقًا على بعض ظروفها: أراد زوج أختي أن يأكُلَني، فزرعتُ أرضي بنفسي.

– ألَمْ يشقَّ عليكِ ذلك يا زهرة؟

– كلَّا، إني قوية بحمد الله، لم يغلبني أحد في المعاملة، لا في الحقل ولا في السوق.

فقال طلبة مرزوق ضاحكًا: ولكن الرجال يهتمُّون بأمور أخرى أيضًا؟

فقالت بتحدٍّ لطيف: أكون رجلًا عند الضرورة.

فأمَّنْتُ على قولها بحماس. وقالت المدام: زهرة ليست غشيمة، كانت تصحب أباها في جَوْلاته، كان يحبُّها جدًّا.

فقالت بحزن: وكنت أحبُّه أكثرَ من عينيَّ، أما جَدِّي فلا يفكِّر إلَّا في الانتفاع من ورائي.

ولكن طلبة عاد إلى معاكستها قائلًا: لو كان باستطاعتكِ أن تكوني رجلًا فلمَ اضطُررتِ إلى الهرب؟

فقلت مدافعًا عنها: يا طلبة بك، أنت أدرى بجوِّ القُرى، وقداسة الأجداد، والتقاليد الرهيبة، كان عليها أن تبقى لتصير زوجةً زائفةً أو أن تهرب.

رمقتني بامتنان، ثم قالت بأسف: تركتُ أرضي.

وإذا بطلبة يقول: سيقولون إنكِ هربتِ لكيت وكيت …

حَدَجَتْه بنظرة غاضبة، واكفهرَّ وجهها كأنما اتخذ من ماء الفيضان بَشَرة جديدة، وفردت سبَّابتها والوسطى وهي تقول بخشونة: أغرزهما في عين من يتقوَّل عليَّ بالباطل.

هتفت المدام: زهرة، ألا تفرِّقين بين الجِدِّ والدُّعابة؟

وقلت بدوري ملاطفًا وقد أُخذت بغضبتها: إنه يداعبك يا زهرة.

وملتُ نحوه متسائلًا: أين لباقتك يا عزيزي؟

فأجابني باستهانة: موضوعة تحت الحراسة!

•••

عيناها عسليَّتان، وجنتاها دسمتان مورَّدتان، في ذقنها غمَّازة. بالكاد حفيدتي الصغرى، أمَّا جَدتها المحتملة فقد مرَّت في لمح البصر. لم يدركها حبٌّ ولا زواج. المستحيل تذكُّر ملامحها. بيرجوان والدرب الأحمر وسيدي أبو السعود طبيب الجِراح.

•••

– حتى متى تبقى هنا يا سيدي؟

كانت تجيئني في حجرتي بقهوة العصر فأستبقيها حتى أفرُغ؛ رغبةً في حديثها.

– إنِّي مقيم هنا يا زهرة.

– وأسرتك؟

قلت ضاحكًا: لا أحد لي في الدنيا سواكِ.

فضحكتْ من أعماق قلبها في مرَح. يدها صغيرة صُلبة خشنة الأنامل. قدماها مفلطحتان كبيرتان. أمَّا الجسم والوجه فسبحان الله العظيم!

ومرَّة همست لي: إنه ثقيل الدم!

قلت لها مستعطفًا: إنه رجل كبير سيئ الحظ، وبه مرض.

– يظنُّ نفسَه باشا وقد مضَى عهد الباشوات.

وقع قولها من أذني موقعًا غريبًا، فدار رأسي في دائرة سحريَّة قُطرها قرن كامل.

•••

– يأبَوْنَ زيارة وزير الحقَّانية لأنه أفندي.

– يا دولة الزعيم، لرجال القضاء مهابتهم!

– إني فلَّاح قبل كل شيء، أمَّا هم فشراكسة.

ثم ماضيًا في تصميم: اسمع، طالما عيَّروني بالغوغاء ففاخرتهم بأنني زعيم الرعاع ذوي الجلاليب الزُّرق. اسمع، لا بُدَّ أن تتمَّ الزيارة .. وبكل احترام.

•••

حتى أنواع الويسكي حفظت أسماءها وهي تبتاعها من بقَّالة الهاي لايف. وكانت تقول لي: كلما طلبتها رمقتني الأبصار وضحكت الوجوه.

فردَّدت في نفسي «ليحفظك الله!»

•••

يا لها من ضوضاء. الأصوات ليست بالغريبة ولكنها تصرخ محتدِمة. ماذا يجري خارج الغرفة؟ غادرت الفراش والساعة تدقُّ الخامسة مساءً. تلفَّعت بالروب ومضيت إلى الخارج. لمحت طلبة وهو يختفي في حجرته ضاربًا كفًّا على كفٍّ. رأيت زهرة جالسة مقطِّبة وشبه باكية مقوَّسة الظهر، والمدام واقفة أمامها في غاية من الكدر. ماذا هناك؟ قالت المدام لمَّا رأتني: زهرة سيئة الظنِّ جدًّا يا عامر بك.

تشجَّعتْ زهرة بحضوري فقالت بخشونة: أراد أن أدلِّكه!

بادرتها المدام: إنكِ لا تفهمين، إنَّه مريض، كلنا نعلم ذلك، في حاجة إلى تدليك، كان يسافر كلَّ سنة إلى أوروبا، وما دمتِ لا تريدين فلن يرغمَك أحد.

قالت زهرة بحِدَّة: لم أسمع عن ذلك من قبل، دخلت حجرته بنيَّة سليمة فرأيته منطرحًا على وجهه شبه عارٍ!

– كُفِّي يا زهرة، الرجل كبير، أكبر من والدك، ليس إلَّا سوء تفاهم، قومي فاغسلي وجهك وانسي الأمر كلَّه.

جلسنا على كنبة من الآبنوس وحدنا. الهواء يصرخ في الخارج والنوافذ تصطكُّ. غشانا صمت ثقيل مُرهق، فقال المدام: هو الذي طلب. وأنا لا أشكُّ في نيَّته.

تمتمتُ بلهجة ذات معنى: ماريانا!

تساءلت بحِدَّة: أتشكُّ في نيَّته؟

– العبث لا حدود له!

– لكنَّه شيخ كما تعلم.

– وللشيوخ عبثهم أيضًا!

– قلت إنها أَوْلَى بالنقود من أخرى غريبة.

– إنها فلَّاحة.

ثم ذكَّرتُها قائلًا: وقد وَضَعتِها في حِماكِ!

•••

وجاء طلبة فاتخذ مجلسه في بساطة البريء وانطلاقته. وراح يقول: الفلَّاح يعيش فلَّاحًا ويموت فلَّاحًا.

فقلت بضيق: دعها تعيش وتموت على ما فَطَرَها الله عليه.

قال بامتعاض: قطَّة متوحِّشة، لا يغرَّك منظرها في الفستان، وجاكتة المدام الرماديَّة، إنها قطَّة متوحِّشة.

إني حزين من أجلك يا زهرة. أُدرك الآن مدى وحدتك. وليس البنسيون بالمكان المناسب لك. المدام — حاميتكِ — لن تتورَّع عند أول فرصة عن اتهام براءتك.

وتساءل طلبة مرزوق بعد الكأس الأولى قائلًا: مَن ذا يحدِّثني عن حكمة الله في خَلْقه؟

فهتفت ماريانا مرحِّبة بتغيير مجرى الحديث: حاسب أن تكفر يا طلبة بك!

فأشار إلى تمثال العذراء وسأل: خبِّريني يا سيدتي، لماذا رضي الله بأن يُصلبَ ابنه؟

فقالت بجِدٍّ: لولا ذلك لحلَّت بنا اللعنة!

فضحك طويلًا ثم قال: ألم تحلَّ بنا اللعنةُ بعد؟

وكان يسترق إليَّ النظر وأنا أتجاهله حتى لَكَزَني بكوعه وهو يقول: أيها الثعلب، عليك أن تصالحني مع زهرة.

•••

نزيل جديد؟

شيء في وجهه الأسمر الواضح الملامح يشي بأنه فلَّاح، معتدل القامة في غير امتلاء، سُمرته أميل إلى الغمق، له نظرة قوية، في الثلاثين من عمره. دعته المدام إلى مقعد من مائدة الإفطار وهي تقول: مسيو سرحان البحيري.

ثم قدَّمَتْنا إليه، وطلبت منه أن يَزيدنا تعريفًا بنفسه إن شاء، فقال بصوت قوي ذي طعمٍ ريفيٍّ متمدِّن: وكيل حسابات شركة الإسكندرية للغزل.

وعقب خروجه ضحكت المدام مُعلِنةً عن سرورها وقالت: نزيل مقيم أيضًا وبنفس الشروط.

ولم يكد يمضي أسبوع حتى جاء حسني علَّام للإقامة أيضًا: وهو شابٌّ يصغر سرحان بقليل، رَبْعة أبيض اللون، ذو بنيان متين يليق بمصارع، وقالت المدام: إنه من أعيان طنطا.

وأخيرًا جاء منصور باهي مذيع بمحطة الإسكندرية، في الخامسة والعشرين، وقد أثَّر فيَّ وجهُه الرقيق وقسماتُه الصغيرة الجميلة، أجل فيه شيء من الطفولة ولا أقول الأنوثة، ولكن بدا من أول الأمر أنه يعيش في ذاته عسير الألفة.

إذن قد شمل العمران الحجرات جميعًا وطارت المدام من الفرح. وتوثَّب قلبي للترحيب والتعارف ولإشباع عواطفه المتعطِّشة. وقلت للمدام: شباب مرح جميل، فلعلَّهم لا يزهدون في مجلسنا العجوز.

فقالت بسرور: وليسوا طلبة على أي حال.

لم يتجاوز التعارف حدوده الرسميَّة، حتى اقتربت الليلة الأولى لموسم أم كلثوم فعلمتُ أنهم سيسهرون معنا حول الراديو وأنها ستكون ليلة طيِّبة عامرة بالشباب والغناء.

•••

أعدُّوا فيما بينهم عَشاءً من الشواء وشرابًا من الويسكي .. جلسنا حول الراديو وزهرة تقوم على خدمتنا كنحلة. الليلة باردة ولكنها صامتة لم نسمع للرياح فيها صوتًا وقالت زهرة: إن السماء صافية وإنك تستطيع أن تَعُدَّ النجوم. ودارت الكئوس وزهرة جالسة عند البارفان تراقبنا بنظرة باسمة. عانى طلبة مرزوق وحده قلقًا خفيًّا. قال لي قبل السهرة بأيام: «سينقلب البنسيون جحيمًا.» إنه يخاف الأغراب، ولم يشكَّ في أنهم يحيطون بتاريخه وظروف حراسته علمًا، إن لم يكن عن طريق الصحف فعن سبيل المذيع منصور باهي.

وكانت المدام كعادتها قد استخلصت منهم المعلومات الخليقة بأن تُشبِع تطفُّلها الأبدي: مسيو سرحان البحيري من أسرة البحيري!

لم أسمع عن الأسرة من قبل ولا بدا على طلبة مرزوق نفسه أنه سمع بها.

– وقد دلَّه صديق على البنسيون لمَّا علِمَ بضيقه بشقَّته القديمة.

وحسني علَّام؟

– مسيو حسني من أسرة علَّام بطنطا.

وخُيِّل إليَّ أن طلبة يعرفها ولكنَّه تجنَّب الحديث ما أمكنه.

– وهو يملك مائة فدَّان!

قالتها بزهو كأنها هي المالكة.

– لم تَزِدْ ولم تنقص فالثورة لم تمسَّه.

وتهلَّل وجهها كأنما النجاة كانت لها.

– وقد جاء الإسكندرية ليُنشئ لنفسه عملًا.

هنا سأله سرحان: ولِمَ لا تزرع أرضك؟

فقال باقتضاب: مؤجَّرة.

فتفحَّصه سرحان بنظرة مداعبة ثم قال: قل إنك لم تزرع في حياتك قيراطًا.

وضحك ثلاثتهم ولكن برزت ضحكة حسني المُجَلْجِلة.

ثم أشارت المدام إلى منصور باهي وقالت: أمَّا هذا فهو شقيق صديق قديم يُعتبر من أحسن ضبَّاط البوليس الذين عرَفَتهم الإسكندرية.

خُيِّل إليَّ أنَّ أشداق طلبة قد ازدادت انتفاخًا.

– وقد أشار عليه لدى نقله من الإسكندرية قريبًا بالإقامة في بنسيون ميرامار.

مال طلبة نحوي منتهزًا فرصة انشغالهم بالشراب وهمس: وقعنا في وكر للجواسيس!

فهمستُ له بدوري: لقد ولَّت أيام الوحشيَّة، فلا تكن سخيفًا.

وإذا بالسياسة تفرقع في السمر. وبدا سرحان متحمِّسًا بلا حدود: لقد خُلِقَ الريف خَلْقًا جديدًا.

كان صوته يتغيَّر تبعًا لامتلائه بالطعام أو خلوِّه منه: كذلك العمَّال، إني أعيش بينهم في الشركة فتعالَوا وانظروا بأنفسكم.

وسأله منصور باهي — إنه أميلهم للصمت وقد ينفجر ضاحكًا كأنه شخص آخر: أتشتغل بالسياسة بالفعل؟

– من هيئة التحرير إلى الاتحاد القومي، واليوم فأنا عضو بلجنة العشرين وعضو مجلس الإدارة المنتخب عن الموظفين.

– ألم تشتغل بالسياسة من قبل؟

– كلَّا.

وقال حسني علَّام: إني مقتنع تمامًا بالثورة؛ لذلك أُعتبر ثائرًا على طبقتي التي جاءت الثورة لتصفيتها.

فقال منصور باهي: على أيِّ حال فالثورة لم تَمسَّك.

– ليس ذاك هو السبب، فحتى فقراء طبقتنا قد لا يُحبُّون الثورة.

وأخيرًا قال منصور باهي: إني مقتنع تمامًا بأن الثورة كانت أرفق بأعدائها ممَّا يجب!

والظاهر أنَّ طلبة مرزوق ظنَّ أنَّه إنْ لزِمَ الصمت فقد يضرُّه الصمت، لذلك قال: لقد حاق بي ضرر بالغ فأكون منافقًا لو قلت إنني لم أتألَّم، ولكنني أكون أنانيًّا كذلك لو أنكرت أنَّ ما عُمل هو ما كان ينبغي أن يُعمل.

•••

عندما آويتُ إلى حجرتي قُبيل الفجر لَحِقَ بي فسألني عن رأيي فيما قال، فأجبتُه بصوت غريب بعد أن نزعت طاقم أسناني: رائع.

– أتظن أن أحدًا صدَّقني؟

– لا يهم.

– يحسُن بي أن أبحث عن مقام آخر.

– لا تكن سخيفًا.

– كلما سمعت ثناءً على إجراءات قتلي تعرَّضت لأزمة روماتزم!

– عليك أن تروِّض نفسك عليه.

– كما تفعل أنت؟!

فقلت ضاحكًا: إننا مختلفان منذ الأزل كما تعلم.

فمضَى وهو يقول لي: أتمنَّى لك أحلامًا مزعجة!

•••

وقالت المدام ولم تكن تشارك في الشراب وقنعت من الطعام بشريحة شواء وكوب حليب دافئ: عيب ثومة أنها تبدأ في وقت متأخِّر!

ولكن الشبَّان نجحوا في التغلُّب على آلام الانتظار. وفجأني منصور باهي قائلًا: إني أعرف من تاريخك الشيء الكثير.

اجتاحني فرحٌ صبيانيٌّ كأنما رُدِدتُ إلى فترة من فترات الشباب، فمضى يفسِّر قوله: راجعت الصُّحُف القديمة مرَّات وأنا بصدد إعداد برنامج إذاعي.

تَطلَّعتُ إليه مستزيدًا في اهتمام فقال: تاريخ طويل حقًّا، أسهمت بقدر ملحوظ في شتى تيَّاراته، حزب الأمة، الحزب الوطني، الوفد، الثورة.

قَبَضْتُ على الفرصة بجنون، مَضَيْتُ به إلى رحلة في رحاب التاريخ، نوَّهت بمواقف لا يجوز أن تُنسى، استعرضنا الأحزاب؛ حزب الأمة ما له وما عليه، والحزب الوطني ما له وما عليه، والوفد وحلَّه للمتناقضات القديمة وقاعدته الشعبيَّة من الطَّلبة والعمَّال والفلَّاحين، لماذا جنحت بعد ذلك للاستقلال، ثم لماذا أيَّدت الثورة.

– ولكنك لم تهتمَّ بالمشكلة الاجتماعية الجوهرية.

فقلت ضاحكًا: لقد نشأت عهدًا بالأزهر فلم يكن غريبًا أن أعمل كمأذونٍ شرعيٍّ رسالته في الحياة أن يُوفِّق بين الشرق والغرب في الحلال!

– أليس غريبًا أن تحمل على النقيضَين معًا، أعني الإخوان والشيوعيِّين؟

– كلَّا، كانت فترة حيرة، ثم جاءت الثورة لتمتصَّ خير ما فيهما معًا.

– إذن فقد انتهت حيرتك؟

أجبت بالإيجاب. ثم تذكَّرت حيرتي الخاصَّة التي لا تُحلُّ بحزب أو ثورة فردَّدت في نفسي الدعاء الذي لا يدري به أحد.

وآن الأوان فدفعت بقاربي المضطرب إلى بحر الأنغام والطَّرَب. نَشَدْتُه أن يكون من الأعضاء المتنافرة المتناحرة جسمًا ينبض بالروح والانسجام. نَشَدْتُه أن يعلِّمني التوافق والتوازن في بناء ترعاه عين الحب والسلام. أن يصهر عذاباتي في نغمة تُنعش القلب والعقل بجمال البصيرة. أن يسكب الشهد المصفَّى على عناد الوجود.

•••

ألم تسمع بالخبر العجيب؟ .. لقد اجتمع مجلس النظَّار أمس بعوَّامة منيرة المهديَّة.

•••

– شُبَّان ظرفاء وأغنياء!

هكذا جعلت تُردِّد ماريانا، وقد زادت أعباء زهرة ولكنَّها حملتها بهمَّة عالية حقًّا. أمَّا طلبة مرزوق فراح يقول: إني لا أطمئن إلى أحد منهم.

فسألته ماريانا: ولا حسني علَّام؟

فواصل حديثه قائلًا: سرحان البحيري أشدُّهم خطورة، لقد انتفع بالثورة إلى أقصى حد، ودعْكِ من أسرة البحيري التي لم يسمع بها أحد، ثم إن كل مولود في البحيرة فهو بحيري، حتى زهرة فهي زهرة البحيري.

ضحكتُ كما ضحكت المدام. ومرَّت بنا زهرة في طريقها إلى الخارج لأداء واجب من واجباتها، فرأيتها مطوَّقة الرأس بإشارب أزرق ابتاعته بنقودها، تخطر في جاكتة المدام الرماديَّة، فاتنة من فاتنات الأعشاب النديَّة والزهور البريَّة. وعُدت أقول: منصور باهي فتى ذكي، ما رأيك؟ … لا يحبُّ الكلمات الجوفاء، ويُخيَّل إليَّ أنه ممَّن يعملون في صمت، ثم إنه من جيل الثورة الخالص.

– ما الذي يدعوه، هو أو غيره، إلى الالتصاق بالثورة؟

– إنك تتكلم كأنما لا يوجد بالوطن فلَّاحون ولا عمَّال ولا شُبَّان!

– لقد سلَبَتِ البعضَ أموالَهم وسلَبَتِ الجميعَ حريَّتهم.

فقلت ساخرًا: إنك تتكلم عن حرية بالية، وحتى هذه لم تحظَ باحترامكم أيام سطوتكم.

•••

وأنا خارج من الحمَّام رأيت في الطرقة شبحين، زهرة وسرحان البحيري. في مهامسة أو مناجاة. لعلَّه أراد أن يداريَ موقفه، فرفع صوتَه متحدِّثًا في بعض الشئون التي تُعَدُّ الفتاة مسئولة عنها. مضيت إلى حجرتي كأنما لا أرى ولا أسمع ولكن اجتاحني القلق. كيف تحافظ زهرة على راحة بالها في خليَّة غاصَّة بالشبَّان؟ وعندما جاءتني بقهوة العصر سألتها: أين تقضين عطلتكِ الأسبوعيَّة مساء الأحد؟

أجابت بابتهاج: في السينما.

– وحدك؟

– مع المدام.

قلت من قلب محبٍّ: فليحفظك الله!

ابتسمت قائلة: إنك تخاف عليَّ كما لو كنت طفلة.

– وإنك لطفلة يا زهرة.

– كلَّا، تجدني في وقت الشدَّة كالرجال.

قرَّبتُ وجهي من وجهها الجميل المحبوب وقلت: زهرة، هؤلاء الشبَّان لا يعرفون للَّهْو حدودًا، أمَّا عند الجد … وفرقعت بأصابعي، ولكنها قالت: حدَّثني أبي عن كلِّ شيء.

– إني في الواقع أحبُّكِ وأخاف عليكِ.

– أنا فاهمة، لم أعرف رجلًا مثلك منذ أبي، وأنا أحبُّك أيضًا.

لم أسمع بكلمة الحبِّ من قبل بهذه النعومة الرائقة. وكان من الجائز أن تخاطبَني بها عشرات الأفواه البريئة لولا تُهمة ألقيت بغباء، تُهمة لا يمكن أن يقضيَ فيها أحد من الناس.

•••

البرقع الأبيض.

خرجت العجوز من الباب إلى الحارة وهي تقول: هلمِّي، قد كفَّ المطر.

تبعتها صاحبة البرقع الأبيض تمشي في حذر على أرض زلقة متجنِّبةً نُقْرةً مملوءةً بماء المطر. عفَّى الزمان على ذكريات جمالها إلَّا الأثر. تنحَّيْتُ جانبًا وأنا أردِّد في نفسي سبحان الخلَّاق ذي النعم. واهتزَّ الفؤاد من أعماقه، فقلت أتوكَّل على الله وخير البِرِّ عاجلُه.

•••

في المدخل وحدنا وقد جلست تحت العذراء تعكس عيناها الزرقاوان نظرة مُثقَلة بالفكر. وكان المطر يهطل بلا توقُّف منذ الظهر والسُّحُب تنتابها نوبات رعديَّة متفجِّرة. قالت المدام: مسيو عامر، إني أشمُّ رائحة غريبة.

رمقتها بحذر فقالت باستياء: زهرة!

ثم بعد وقفة قصيرة: وسرحان البحيري!

انقبض صدري ولكنني تساءلت بسذاجة: ما تعنين؟

– أنت تفهم تمامًا ما أعني.

– ولكن الفتاة …

– قلبي لا يخونني في هذه الأمور!

– البنت طيِّبة وشريفة يا عزيزتي ماريانا.

– مهما يكن من أمرها فإني لا أحبُّ أن يلعب أحد من وراء ظهري!

إمَّا أن تبقى زهرة شريفة وإمَّا أن تعمل لحسابك. إني أفهمك تمامًا أيتها العجوز.

•••

حلمتُ — وأنا مستغرِق في القيلولة — بالمظاهر الدامية التي اقتحم الإنجليز على أثرها ساحة الأزهر. وفتحت عينيَّ وأصوات المتظاهرين وطلقات الرَّصاص تدوِّي في رأسي. كلَّا، إنها أصوات من نوع آخر تجتاح البنسيون خارج حجرتي. ارتديتُ الروب وغادرت الحجرة وأنا من الانزعاج في نهاية. وجدت الجميع قد سبقوني إلى المدخل. البعض في حال استطلاع مثلي، أمَّا سرحان البحيري فكان ثائرًا مُتسخِّطًا وهو يسوِّي الكرافتة وياقة القميص، كذلك زهرة كانت مصفَرَّة الوجه من الغضب وقد تمزَّقت طاقة فستانها وراح صدرها يعلو وينخفض، على حين مضَى حسني علَّام إلى الخارج بالروب آخذًا معه امرأة غريبة وهي تصرخ وتسبُّ، وقد بصقت في وجه سرحان البحيري قبل أن يغيِّبها الباب. وصاحت المدام: لا يجوز هذا في بنسيون محترم.

وجعلت تردِّد بحِدَّة: «لا .. لا .. لا.»

ثم خلا المدخل إلَّا من ثلاثتنا — أنا وهي وطلبة مرزوق. سألت ولمَّا أُفِقْ من النوم تمامًا: ماذا حدث؟

فأجابني طلبة مرزوق: لم أرَ أكثر مما رأيت إلَّا القليل.

وذهبت المدام إلى حجرة سرحان للاستماع فيما بدا، أمَّا طلبة فواصل الحديث قائلًا: يبدو أنَّ صاحبنا البحيري دون جوان عتيد!

– ما الذي حملك على هذا الظن؟

– ألم ترَ إلى المرأة وهي تبصق عليه؟

– ولكن مَن المرأة الغريبة؟

– امرأة، أي امرأة!

ثم وهو يضحك: امرأة جاءت تسعى وراء رجُلِها الهاجر!

وجاءت زهرة وهي ما زالت منفعلة فمضت تقول دون سؤال من أحد: فتحت الباب للأستاذ سرحان وإذا بامرأة تتبعه وهو لا يدري ثم اشتبكا في عراك حامٍ.

– ورجعت المدام فقالت وهي واقفة: الفتاة كانت خطيبته، أو هذا ما فهمته.

وَضَحَ كل شيء فيما أعتقد غير أن طلبة مرزوق سأل بخُبث: وما دخل زهرة في الموضوع؟

فأجابت زهرة: أردت أن أخلِّص بينهما فتحوَّلت إليَّ ثم كان ما كان.

فقال الرجل: إنكِ ملاكمة جبَّارة يا زهرة.

فقلت برجاء: فلنعتبر الموضوع منتهيًا من فضلكم.

•••

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ.

سمعت يدًا تنقِّر على الباب مستأذنة في الدخول. دخلت المدام باسمة ثمَّ جلست أمامي على مقعد بلا ظهر أطرح عليه ساقيَّ أحيانًا. ثمَّة زوبعة كانت تعوي في المنور وأنا مُدَّثِرٌ بالروب، والحجرة نعسانة في جوها شبه المظلم الذي لا يدلُّ على وقت. قالت وهي تغالب ضحكة: إليك نبأ عجيبًا …

أغلقت الكتاب ووضعته على الكوميدينو وأنا أُغمغم: ليكن سارًّا يا عزيزتي.

– زهرة قررت أن تتعلم.

نظرت إليها ببلاهة ولم أفهم شيئًا: حقًّا قرَّرت أن تتعلَّم، قالت لي إنها ستغيب ساعة كل يوم لتتلقَّى درسًا.

قلت: هذا مذهل حقًّا.

– عندنا في العِمارة بالدَّوْر الخامس أسرة فيها ابنة مُدرِّسة اتفقت معها.

– أُكرِّر أنه قرار مذهل حقًّا.

– من جانبي لم أعارضها وإن أشفقت على أجرتها التي ستستولي عليها المُدرِّسة.

– جميل منك هذا يا مدام، ولكنِّي مذهول بكل معنى الكلمة.

ولما جاءتني زهرة بقهوة العصر قلت لها: تُخفِين عني أسرارك يا ماكرة!

قالت بحياء: لا أسرار تخفى عليك.

– وقراركِ عن التعليم؟ .. خبِّريني كيف فكَّرتِ في ذلك؟

– كل البنات تتعلَّم، إنهن يملأن الشوارع.

– ولكنكِ لم تفكِّري في ذلك من قبل.

ضحكت بسرور فقلت: إنكِ قلتِ لنفسكِ إنك أجمل منهن، فلِمَ يتعلَّمن ولا تتعلمين .. هه؟

جعلت تنظر إليَّ بابتهاج دون أن تَنْبِس فقلت: ولكن ليس ذاك بكلِّ شيء.

– ماذا هناك أيضًا؟

تردَّدت لحظة ثم قلت: هناك صاحبنا سرحان البحيري.

تورَّد وجهها وغضَّت البصر فقلت بإشفاق: أمَّا التعليم ففكرة مدهشة وأمَّا سرحان …

تردَّدت في الإفصاح، فتساءلت: ما له؟

– هؤلاء الشبَّان طموحون.

قالت بامتعاض: كلُّنا أبناء حوَّاء وآدم.

– هذا حق ولكن …

– الدنيا تغيرت، أليس كذلك؟

– الدنيا تغيَّرت، ولكنَّهم لم يتغيَّروا بعد.

امتلأت نظرتها بالتفكير وهي تقول: بعد الكتابة والقراءة سأتعلَّم مهنة كالخياطة.

خِفْت إن تكلَّمت أكثر أن أجرح مشاعرها فسألتها: هل يحبُّك حقًّا؟

فأحنت رأسها بالإيجاب فقلت: ليحفظكِ الله ويسعدك.

ورحت أساعدها من حين لآخر وهي تدقُّ باب المجهول، عالم الكلمات والأعداد. وعلِم الجميع بقرارها وناقشوه طويلًا ولكن لم يسخر منها أحد. على الأقلِّ أمامها. كان الجميع يميلون إليها فيما أعتقد. كلٌّ على طريقته. وتابع طلبة مرزوق القضية فلم يَخفَ عليه شيء من أسرارها، ثم قال لي: ما هو الحل السعيد لمشكلة زهرة؟ .. أن ينزل عندنا يومًا منتج سينمائي. ما رأيك؟

فلعنت رأيه.

•••

وذات أصيل ذهبت كالعادة إلى مجلسي بالمدخل فرأيت زهرة جالسة إلى جانب فتاة غريبة على الكنبة. من لمحة أدركت أنها المُدرِّسة. فتاة ريفيَّة وجميلة. وقد تكرَّمت بالحضور إليها بسبب وجود زوَّار في شقَّتها. وكالعادة كانت المدام قد استجوبتها وعرَفَتْ عنها بعض ما تتطلَّع إليه، فأخبرت بأنها تقيم مع والديها وأنَّ لها أخًا يعمل في السعوديَّة. وتكرَّر حضور المُدرِّسة للبنسيون، وكانت تُثني على اجتهاد تلميذتها.

ولاحظت مرَّة – وزهرة قادمة بقهوة العصر – أنَّها مُتجهِّمة فسألتها عن الصحة فأجابتني بفتور: كالبغل!

– والدروس؟

– لا شكوى من هذه الناحية.

فقلت بقلق: لم يبقَ إلا صديقنا البحيري!

وصمتنا بعض الوقت كأنما لنُصغي إلى صوت المطر المنهمر، ثم قلت: لا أطيق أن أراكِ متألِّمة.

فقالت بامتنان: إنِّي أُصدِّقك.

– ماذا حدث؟

– الحظُّ يعاندني.

– قلت لكِ من أول يوم …

– ليس الأمر بالسهولة التي تتصورها!

ثم نظرت إليَّ بكآبة وقالت بانفعال: ما العمل؟ إني أحبُّه، ما العمل؟

– هل تبيَّن لكِ كذبُه؟

– كلَّا، إنه يحبني أيضًا، ولكنه يتكلم دائمًا عن العَقبات.

– ولكن الرجل إذا أحبَّ …

فقالت بإصرار: إنه يُحبُّني ولكنه دائمًا يتكلم عن العقبات.

فقلت بحنان: ولكن ما ذنبكِ أنتِ؟ يجب أن تعرفي لنفسك طريقًا.

فمضت وهي تقول: ما قيمة أن أعرف ما يجب عمله ما دمت لا أستطيعه!

•••

– يا سعادة الباشا، كيف هان عليك؟

فقاطعني قائلًا: كان عليَّ أن أختار بين أمرين، فإمَّا الانتفاع ببنك التسليف الزراعي مع إعلان خروجي على الوفد وإمَّا الخراب.

– ولكنَّ الكثيرين فضَّلوا الخراب.

فصاح غاضبًا: صه .. إنك لا تملك قيراطًا ولا ابن لك ولا بنت، ولقد ضُربت واعتُقلت في قشلاق قصر النيل، ولكن ابنتي أعزُّ عليَّ من الدنيا والآخرة.

•••

قالت لي المدام هامسة: تعالَ معي، أهل زهرة حضروا.

مضيتُ معها إلى المدخل فرأيت شقيقة زهرة وزوجها جالسَين والفتاة واقفة في وسط المكان تنظر إليهما في صلابة وعناد. وكان الرجل يقول: حسن أن تذهبي إلى المدام، ولكن عار أن تهربي.

وقالت أختها: فضحتِنا يا زهرة في الزياديَّة كلِّها.

فقالت زهرة بغضب وحِدَّة: أنا حرَّة ولا شأنَ لأحدٍ بي.

– لو كان جدَّك يستطيع السفر …

– لا أحد لي بعد أبي.

– يا للعيب! .. هل كفر لأنَّه أراد أن يزوِّجك من رجل مستور؟

– أراد أن يبيعَني.

– الله يسامحك .. قومي معنا.

– لن أرجع ولو رجع الأموات.

وَهَمَّ زوج أختها بالكلام ولكنها بادرته: لا شأن لك بي!

وأشارت إلى المدام قائلة: إني أعمل هنا كما يعمل الشرفاء وأعيش من عَرَق جبيني.

خُيِّل إليَّ أنهما يودَّان أن يصارحاها برأيهما في المدام والبنسيون وتمثال العذراء ولكنَّهما لا يستطيعان. وقالت المدام: زهرة ابنة رجل كنت أحترمه، إني أعاملها كابنة، فأهلًا بها إن أرادت البقاء.

ونظرت المدام إليَّ كأنما تستحثُّني على الكلام، فقلت: فكِّري يا زهرة واختاري.

لكنها قالت بإصرار: لن أرجع ولو رجع الأموات!

انتهت الرحلة بالفشل فمضَى الرجل بزوجته وهو يقول لزهرة: القتل لكِ حقٌّ وعَدْل.

وجعلنا نناقش الموضوع، ونقول ونعيد، حتى قالت لي زهرة: خبِّرْني عن رأيك صراحة؟

فقلت: أتمنَّى أن ترجعي إلى قريتكِ!

– أرجع للهوان؟

– قلت «أتمنَّى» يا زهرة .. أقصد أن ترجعي وأن يكون في الرجوع سعادتك.

– إني أحبُّ الأرض والقرية ولكني لا أحبُّ الشقاء.

وانتهزت فرصة ذَهاب المدام إلى بعض شأنها فقالت بحزن: هنا الحب والتعليم والنظافة والأمل.

أدركت أشجانها. لقد هاجرتُ مثلها مع والدي من القرية. وأحببت القرية مثلها ولكنِّي ضِقتُ بالعيش فيها. وعلَّمتُ نفسي كما تودُّ أن تفعل. ورُميت مثلها بتهمة باطلة فقال أقوام إنِّي أستحقُّ القتل. ومثلها فتنني الحبُّ والتعليمُ والنظافةُ والأمل.

اللهَ أسألُ أن يجعل حظَّكِ أسعد من حظِّي يا زهرة.

•••

دنا الخريف من نهايته، ولكنَّ جوَّ الإسكندرية يسير على هواه. وقد أنعمت بركاته علينا بصباح مضيء دافئ، فابتهج ميدان الرمل تحت أشعَّة الشمس الهابطة من سماء صافية الزُّرقة. ابتسم إليَّ محمود أبو العباس بائع الجرائد وأنا أقف أمام معرضه الملوَّن بأغلفة المجلَّات والكتب، ابتسم وقال لي: سعادة البك!

ظننتُ أنَّ ثمَّة خطأً في الحساب. نظرت إليه متسائلًا وهو قائم أمامي بجسمه الفارع فقال: سعادتك تُقيم في بنسيون ميرامار؟

أجبت بهزَّة من رأسي فقال: لا مؤاخذة، توجد في البنسيون بنت اسمها زهرة؟

أجبت بانتباه مفاجئ: نعم.

– أين أهلها؟

– لكن لماذا تسأل؟

– لا مؤاخذة، أريد أن أخطُبها.

فكَّرت قليلًا ثم قلت: أهلها في الريف، وأظنُّها على خلاف معهم، هل فاتحْتَها في الأمر؟

– إنها تجيء أحيانًا لشراء الجرائد ولكنها لا تشجِّعني على الكلام.

وزار المدام مساء اليوم نفسه ليطلب يد زهرة. وخاطبت المدام زهرة في الأمر بعد ذَهابه. ولكنها رفضته بلا تردُّد ولا تفكير. ولمَّا أعادت على مسمعنا — أنا وطلبة — الحكاية، قال الرجل: لقد أفسدتِها يا ماريانا، نظَّفْتِها ولبَّستِها ملابسك، وها هي تختلط بالشبَّان الممتازين فتلعب بعقولها الأحلام، وليس لذلك كلِّه إلا نهايةٌ محتومةٌ واحدة.

وفي خَلْوتنا اليوميَّة — عندما جاءتني بقهوة العصر — تحادثنا في الموضوع. قلت لها: كان يجب أن تفكِّري في الأمر.

فقالت محتجَّة: ولكنَّك تعرف كلَّ شيء.

– لا ضرَرَ البتَّة من التفكير والمشاورة.

فقالت معاتِبةً: إنك تراني شيئًا حقيرًا لا يجوز له أن ينظر إلى فوق!

فلوَّحت بيدي معترضًا وقلت: المسألة أنني أراه زوجًا كفئًا، هذا كل ما هناك.

– سأعود معه إلى مثل حياة القرية التي هربت منها.

لم أرتَحْ إلى حُجَّتِها، فواصلت حديثها قائلة: ومرَّة سمعته يتكلَّم مع صاحب له وهو لا يراني، فيقول له إن النساء تختلف في الألوان ولكنها تتَّفق على حقيقة واحدة، فكل امرأة حيوان لطيف بلا عقل ولا دين، والوسيلة الوحيدة التي تجعل منهن حيوانات أليفة هي الحذاء!

نظرت إليَّ كالمتحدِّية ثم تساءلت: أمِن العيب أن أحبَّ لنفسي حياة كريمة؟

لم أجد ما أقوله. ورغم تظاهري بالأسف فإنني شعرت بإعجاب بها لا يُحدُّ. لن أضايقَكِ بنصائح العجائز. لقد كان سعد زغلول يستمع إلى نصائح الشيوخ، ولكنه اتَّبع غالبًا آراء الشباب. ليحفظكِ الله يا زهرة!

•••

– أحداث هامَّة تقع من حولك وأنت لا تدري أيها العجوز.

قال طلبة مرزوق ذلك وهو يبتسم ابتسامة خبيثة. كنا نجلس في المدخل وحدنا ولا أنيسَ لنا إلَّا صوت هطول المطر. سألته وأنا أتوقَّع أنباء سوء: ماذا هناك؟

– دون جوان البحيرة يدبِّر انقلابًا في الخفاء.

همَّني الأمر لصلته بزهرة فسألتُه عمَّا يعني فقال: غيَّر الهدف القديم، وهو يسدِّد الآن بإحكام نحو هدف جديد.

– تكلَّم بلا تلذُّذ بالمصائب.

– حسن، جاء دور الأستاذة!

– المُدرِّسة؟

– بالضبط، لمحت نظرات متبادلة وأنا — كما تعلم — لي خبرة قديمة بهذه اللغة.

– يا لك من رجل تتجسَّد له أفكاره الشريرة في صورة حقائق.

قال وهو يسخر ضاحكًا، وشامتًا: بابا عامر .. أدعوك إلى متابعة ألطف دراما في ميرامار!

عزمتُ على ألَّا أصدِّقه ولكن كدَّر صَفْوي القلق. وإذا بحسني علَّام يحدِّثنا في نفس اليوم عن معركة دارت بين سرحان البحيري ومحمود أبو العباس بائع الجرائد في ميدان الرمل. خمَّنْتُ ما وراء المعركة من أسباب، ولكن تخيُّل تطوراتها كان فوق المستطاع. وقال حسني: تبادلا الضرب حتى خَلَّص الناس بينهما.

فسأله طلبة مرزوق: هل شهدتهما وهما يتضاربان؟

– كلَّا، علمت بما كان بعد وقوعه بفترة وجيزة.

وتساءلت المدام بإشفاق: وهل وصل الأمر إلى القسم؟

– كلَّا، انتهى بسيل من السِّباب والوعيد.

ولم يُشِرْ سرحان إلى الواقعة فتجنَّبْنا ذكرها. ورجعت أفكِّر فيما قال طلبة عن سرحان والمُدرِّسة فاعتراني غمٌّ ونَكَد.

الوفاء عند الِملاح صُدف
أسعفيني يا دموع العين

واستعدناها مرَّات ومرَّات بالتصفيق والهُتاف، فراحَ يغنِّي حتى مطلع الفجر. كنت ليلتها مكتظًّا بالشباب والقوَّة والطعام والخمر. والقلب يعاني وحده أسرار الشجن.

حلمت بوفاة أبي.

كنت مستغرقًا في النوم في الهزيع الأخير من الليل. رأيتهم وهم يحملونه من رواق مسجد أبي العباس حيث أدركته الوفاة ثم يمضون به إلى البيت. بكيت. ودوَّى في أذني صوات أمي. ومضَى يُدوِّي حتى فتحت عينيَّ.

يا إلهي! ماذا يحدث في الخارج؟ كالمرَّة السابقة؟ لقد انقلب بنسيون ميرامار إلى ميدان قتال. ولكن عندما غادرت حجرتي كان كل شيء قد انتهى. ولمحتني ماريانا فأقبلت نحوي كالمستغيثة فدخلنا الحجرة وهي تهتف: لا .. لا .. فليذهبوا جميعًا إلى الجحيم.

نظرت إليها بعينيَّ المثقلتين بالنوم فقصَّت عليَّ القصة الجديدة. استيقظتْ على صوت عراك، غادرت حجرتها فوجدت سرحان البحيري وحسني علَّام وهما يتضاربان.

– حسني علَّام؟!

– نعم، لِمَ لا، يجب أن يأخذ كلٌّ نصيبَه من الجنون.

فسألتها بامتعاض: ولكن ما السبب؟

– آه، فلنرجع خطوة إلى الوراء، إلى حادثة لم أشهدها لأني كنت مثلكم مستغرقة في النوم.

– وهي؟

– قالت زهرة: إنَّ حسني علَّام رجع من الخارج سكران فحاول أن …

– لا!

– إني أصدِّقها يا مسيو عامر.

– وأنا أيضًا، ولكن حسني لم يُلاحَظ عليه أنه …

– لا يمكن أن نلاحظ كلَّ شيء. وقد استيقظ سرحان في الوقت المناسب، فكان ما كان.

– يا للأسف!

مسحت على عنقها كأنما لتزيل عنه الألم الذي ألمَّ بأوتار صوتها من الزَّعْق، ورجعت تقول: لا .. فليذهبوا إلى الجحيم.

فقلت بامتعاض: على الأقلِّ يجب أن يذهب حسني علَّام.

لم تُعلِّق على قولي، بل ولم تتحمَّس له، ثم غادرت الحجرة متجهِّمة.

ولما جاءتني زهرة عصر اليوم التالي تبادلنا نظرات ذات معنى. غمغمت: أسِفتُ جدًّا يا زهرة.

فقالت بسخط: رجال بلا شهامة.

– للحق إنَّ المكان لا يليق بك.

– بوسعي دائمًا أن أدافع عن نفسي، وقد فعلت.

– ولكن ليست هذه بالحياة المطمئنة التي تُرجى لبنت طيِّبة مثلك.

فقال بعناد: يوجد أرذال في كلِّ مكان، حتى في القرية.

•••

غادرتُ البنسيون عقب أيام حُبست فيها داخله لشدَّة البرد وثورة الرياح وانهلال المطر. كانت أيامًا فظيعة فانطوينا على أنفسنا في الحجرات، ولكن لم يكُفَّ الجوُّ عن مهاجمتنا في قواقعنا، لطمت المياه النوافذ، وزلزلت الجدران بصواعق الرعد، وومض البرق كالنذر، وصرخت الرياح كعزيف الجان.

ولمَّا غادرت البنسيون استقبلني الوجه الآخر للإسكندرية، الذي أُفْرِخَ غضبُه. وثاب إلى وداعته، تلقَّيتُ الشعاع الذهبي المغسول بامتنان، نظرت إلى الأمواج وهي تتتابع في براءة، على حين نُقشت السماء بسحائب صغيرة متهافتة كالأنفاس المتردِّدة. جلست في التريانون لأشرب القهوة باللبن. كما كنت أجلس في الأيام الخالية مع الغرابلي باشا والشيخ جاويش، ومدام لبراسكا الإفرنجيَّة الوحيدة التي جرَّبتها وسط طوفان من المُلاءات اللفِّ! جلس معي طلبة مرزوق بعض الوقت ثم انصرف إلى بَهْو وندسور لمقابلة صديق قديم. وإذا بسرحان البحيري يُقبِل نحوي فيُسلِّم ويجلس ثمَّ يقول: فرصة سعيدة. دعني أودِّعُك فقد لا ألقاك وأنا أغادر البنسيون.

سألتُه بدهشة: هل عزمتَ على الرحيل؟

فأجاب بصوته العريض: نعم، انتهت الإقامة، ولو ذهبت دون أن أودِّعك لأسِفْتُ على ذلك طيلة العمر!

شكرت له رقَّته، ولكني وجدت أسئلة تُلِحُّ عليَّ، غير أنَّه لم يهبني فرصة لمزيد من الكلام إذ يُلوِّح بيده لشخص قادم ثمَّ صافحني وذهب.

وسألت نفسي في قلق وكآبة: ماذا عن زهرة؟

•••

قَبض بشدَّة على قضبان قفص الاتِّهام وهو يستمع إلى النطق بالحكم ثمَّ صاح بأعلى صوته في المحكمة: يا فرحتك فيَّ يا دنف، يا فرحتك فيَّ يا نعيمة يا ضباطي!

•••

ولمَّا رجعت إلى البنسيون وجدت المدام وطلبة مرزوق وزهرة مجتمعين في المدخل، مغلَّفين بكآبة أبلغ في إفصاحها عن أي تفجُّع أو ندب! جلست صامتًا وقد وَضَحَ لي ما ودِدْتُ أن أسأل الآخر عنه. قالت المدام: تكشَّف أخيرًا ذاك السرحان عن حقيقته.

تمتمت: قابلني منذ ساعات في التريانون فأخبرني بأنه سيغادر البنسيون.

– الحق أني طردتُه!

ثم وهي تشير نحو زهرة: هاجمها بلا حياء، ثم أعلن بأنه ذاهب ليتزوَّج من المُدرِّسة.

نظرت إلى طلبة فنظر إليَّ وقال ساخرًا: أخيرًا استقرَّ رأيه على الزواج!

وقالت المدام: لم يرتح له قلبي أبدًا، من أول نظرة فهمته، شرير لا خلاق له.

ثم واصلت حديثها: أراد مسيو منصور باهي أن يناقشَه وإذا بمعركة جديدة تنشَب فجأة، عند ذاك صرختُ في وجهه أن يخرج إلى غير رجعة.

نظرت إلى زهرة بإشفاق، أيقنت أن اللُّعبة قد انتهت، وأنَّ الوغد قد ذهب بلا جزاء. وغضبت غضبة كغضبات الأيام المريرة ثم قلت لزهرة: إنه وَغْد لا يستحقُّ أن تأسفي عليه!

ولما خَلَوْتُ إلى طلبة قلت له: ليتها تقبل الزواج من محمود أبو العبَّاس!

فقال لي بلهجة من يوقظ محدِّثَه من غفلة: يا رجل، أي محمود! ألم تدرك بعد أنها فقدت الشيء الذي لا يُعوَّض؟

قطَّبْتُ محتجًّا، وقد أُخذت في الوقت نفسه، فقال ساخرًا: أين عقلك أيها العجوز؟ .. وأين فطنتك؟

– ليست زهرة كالأخريات.

– الله يرحمك!

وبقدر ما حنقت عليه بقدر ما اجتاحني الشك. وقلت لنفسي بحزن عميق: يا لَلخَسارة!

وعاد طلبة يقول: المدام أول من نبَّهني، ولكنِّي لم أكن في حاجة إلى تنبيه.

– امرأة سوء!

– إنها كما تعلم على استعداد دائمًا لحمايتها أو لاستغلالها.

فقلت بغيظ: لا هذا ولا ذاك، أقسم على ذلك.

وجاء لقاء العصر حزينًا مؤثرًا. رجتني ألَّا أُذكِّرها بنصائحي القديمة وألَّا ألوم أو أعتب. تبرَّأت من ذلك كله وقلت إنَّ عليها أن تواجه مستقبلها بشجاعة هي جديرة بها.

– تُرى هل يفتر حماسك للتعليم؟

فقالت بتصميم وبلا أدنى ابتهاج: سأجد مُدرِّسةً أخرى.

فهمست: وإن احتجت إلى أيِّ مساعدة …

مالت نحوي حتى لَثَمَتْ مَنْكِبي ثم عضَّت على شفتها لتمنع الدموع. مددت يدي المعرُوقة المدبوغة حتى مسحت بحنان شعرها الأسود وتمتمتُ: ليحفظك الله يا زهرة!

•••

لزِمْتُ حجرتي تلك الليلة مذعنًا لإحساس شامل بالإعياء، وأقعدني التعب بضعةَ أيامٍ أُخَر. وجعلت المدام تحثُّني على مقاومة الضعف لأشهد ليلة رأس السنة الجديدة. وفي سياق ذلك سألتني: نقضيها في المونسنيير كما يقترح طلبة بك أم نقضيها هنا؟

غمغمت في فتور: هنا أفضل يا عزيزتي.

كم احتفلت بها في صولت وجروبِّي وألف ليلة وحديقة لبتون. وقد مرَّت بي عامًا وأنا مُعتَقل في سجن القلعة الحربي.

•••

وفي صباح اليوم الثالث لاعتكافي اقتحمت المدام غرفتي في غاية من الانزعاج ثم قالت لاهثة: أما سمعت بالخبر؟

ثم وهي تغوص في المقعد الكبير: قُتل سرحان البحيري!

هتفت: هه!

– وُجد قتيلًا في طريق البالما!

ولحق بها طلبة مرزوق قابضًا بعصبية على الجريدة وهو يقول: خبر مزعج جدًّا، وقد يجرُّ علينا متاعبَ لم تكن في الحسبان!

وجعلنا نتبادل النظر والرأي دون جدوى. استعرضنا كافَّة الاحتمالات، فكَّرنا في خطيبته الأولى، حسني علَّام، منصور باهي، محمود أبو العباس، وحتى قالت المدام: قد يكون القاتل شخصًا آخر لا يخطُر لنا ببال.

فقلت: لِمَ لا، نحن لا نكاد نعرف عن الشابِّ شيئًا، لا عن حياته ولا عَلاقاته ولا ظروفه.

فقالت المدام بقلق: كم أتمنَّى أن يكتشفوا القاتل عاجلًا وأن يكون بعيدًا عنَّا كلَّ البعد، وألا أرى وجه رجل من البوليس.

فأيَّدها طلبة مرزوق قائلًا: كم أتمنَّى ذلك أيضًا!

وسألت عن زهرة فتنهَّدت المدام قائلة: صُعقت المسكينة، صُعقت بكل معنى الكلمة.

قلت بحزن: ألا يمكن أن أراها؟

– إنها مُنهارة تمامًا في حجرتها وقد أغلقت الباب.

وعدنا نتبادل الرأي والنظر دون جدوى.

أخيرًا أغمضتُ عينيَّ فتردَّد في خاطري: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤