مُقَدِّمَة المُترجم

منذ سنواتٍ نقلتُ إلى العربية كتابَ: «الآراء والمعتقدات»، وكتابَ: «روح الثَّوْرَات والثورة الفرنسية» للعالم الاجتماعيِّ غُوسْتاف لُوبُون؛ فأقبل القراءُ عليهما إقبالًا حسنًا فطُبِعَا للمرة الثانية، وكان لوبون قد عَزَّزَهما بثالث سَمَّاه: «حياةَ الحقائق»؛ فكانت الكتبُ الثلاثة سلسلةً لموضوعات واحدة، وكانت: «حياة الحقائق» أهمَّ حَلْقة في هذه السلسلة على ما نرى، «وقد تكون «حياة الحقائق» أكثر كتب لوبون طرافةً وإبداعًا وتأثيرًا وإثارةً لملكة التفكير، وهي تحمِل على إعادة النظر فيما دُرِج عليه من الآراء والمبادئ» كما يرى بعض الكتاب.

ونقرأ كتاب «حياة الحقائق» ونُفَكِّرُ في ترجَمته، وتَحُول أحوالٌ دونَها غير غافلين عن نقل غُرَرٍ أخرى إلى العربية كما يَعْلَم القراء، فالأمورُ مرهونة بأوقاتها.

ويَحِلُّ الوقت فنترجم كتابَ «حياة الحقائق» ترجَمةً حرفية، ونَعْرِضُه على أبناء العروبة بأسلوبه الحاضر الذي نَطْمَعُ أن يكون خاليًا من العُجْمَة مع صعوبة الموضوع.

وغايةُ هذا الكتاب — كما ذَكَر لوبون — هي: «البحثُ في مصادر بعض المعتقدات الدينية والفلسفية والخُلُقيَّة العظيمة التي وَجَّهَت الناس في غضون التاريخ، والبحثُ في تَحَوُّلات هذه المعتقدات.»

ويَبْحَث لوبون في الحقائق البشرية فيَجِدها تتطور كجميع الحادثات الطبيعية، فتُولَد وتنمو وتزول، فيجعل عُنْوَانَ كتابه هذا «حياةَ الحقائق».

وفي هذا الكتاب درسٌ وَافٍ لأُسُس المعتقدات، وما تتألف منه هذه المعتقدات من العناصر الدينية والعاطفية والعقلية والجَمْعِيَّة.

وفي هذا الكتاب بحثٌ طَرِيف فيما يعتور المعتقداتِ الفرديةَ من التحولات حينما تصبح جَمْعِيَّة، وفيما يعتور الدينَ من التحولات حين انتقاله من أمة إلى أخرى.

ولم يَغْفُل لوبون عن دِراسة الأديان القديمة، وخَصَّص لوبون مطالبَ وفصولًا للنصرانية؛ فبحث في ظهورها، وتحولاتها، وأوجهِ انتشارها، وما كانت عُرْضَةً له من الإلحادات والانفصالات وشَتَّى المذاهب.

وفي الكتاب مباحثُ دقيقةٌ في الأخلاق، وما يدور حَوْلَ الأخلاق من الرِّيَب، وفي ضَعْف قيمة الأخلاق القائمة على العقل والعلم، وفي العوامل الحقيقية التي تتكون بها الأخلاق الجَمْعِيَّةُ والفردية، فيرى لوبون أن العادة والرأي العامَّ عاملان في هذه الأخلاق، كما يَدْرُس لوبون شأن المنفعة واللاشعور في تكوين الأخلاق الفردية، فيرى أن الشعور بالشرف عُنْوَانٌ مِثَالِيٌّ لهذه الأخلاق.

ويُخَصِّصُ لوبون بابًا للبحث في دائرة الحقائق العقلية فيبحث في الفلسفة والعلم؛ فيتكلم عن الفلسفات الوِجْدَانية والنفعية، وعن القيمة الحقيقية للفلسفة، وعن بناء المعرفة العلميِّ، وعن حدود ما يمكن معرفته؛ فَيصِل، في الغالب، إلى نتائجَ مخالفةٍ لما اتَّفَق عليه الباحثون من أصحاب المذاهب الفلسفية والعلمية؛ وذلك لعدم اتِّبَاعه أيَّ واحد من هذه المذاهب، شَأْنُه في جميع مؤلفاته.

ذلك بعضُ ما دَرَسَه الدكتور غوستاف لوبون في كتابه هذا، فإذا كنتُ قد وُفِّقْتُ لنقل هذا الكتاب نقلًا صحيحًا؛ فإنني أكون قد مَلَأْت فراغًا في المكتبة العربية كما أرجو، واللهُ المُوَفِّق.

عادل زعيتر
نابلس

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤