الفصل الرابع

الأديان الكبرى التركيبية

النصرانية

(١) ظهور النصرانية

كانت الدِّيانات القديمة، في بدء الأمر، من العبادات المحلية التي لا تَهْدِف إلى الانتشار أبدًا، فكان للشعب آلهتُهُ كما كانت له لغتُه وقوانينه وعاداته وفنونه، وكان من التدنيس للآلهة أن يَعْبُدها الأجانب، والفاتحُ وحدَه هو الذي كان يمكنه أن يَسْمَح بذلك.

وَحَّدَت الدولة الرومانية العالَمَ القديم تقريبًا وسَهَّلَت المواصلاتِ بذلك؛ فظهرت دياناتٌ ذاتُ مناحٍ عامة، والنصرانيةُ والإسلام هما أشهر هذه الدِّيانات.

وسنقتصر على البحث في النصرانية، ويكفي هذا البحث لإثبات تكوين المعتقدات الكبرى التركيبية وتطورِها، فتاريخ هذا البحث يُعَلِّمُنا كيف يظهر الدين ويتحول وينتشر، وكيف يبتلع المعتقداتِ السابقةَ، ولماذا يُؤَثِّر في النفوس.

وتَطَوَّر النصرانية يساعدنا، أيضًا، على تسويغ تلك السُّنَّة المذكورةِ في فصل سابق، والقائِلة بأن الدِّيانة التي يُعَلِّمُها علمُ اللَّاهوت تختلف عن الدِّيانة التي تزاولها الجموع على الدوام، وذلك التطور يُوضِح تلك السُّنَّة الأساسيةَ القائلة: إن ظواهر النفسية الدينية واحدةٌ لدى جميع الأمم مع ما بين معتقداتها من اختلاف بَيِّن، فالإنسانُ، سواء عليه أَقَدَّسَ لإيزِس أم لمريمَ العذراء، يعبدُهما على السَّوَاء، والإنسانُ عَبَد، كذلك، آلهة الزُّون الإغريقيِّ الرومانيِّ أو قِدِّيسي ملكوت السماء النصراني غير مُفَرِّقٍ بينهما كثيرًا، والإنسانُ قد عَزَا فضائلَ متماثلةً إلى أوثانه، سواءٌ أكانت هذه الأوثان من ذخائر القِدِّيسين أم من التعاويذ والتمائم.

وعلى ما تراه من معرفتنا بما فيه الكفاية لحياة كثير من مؤسسي الأديان — كحياة محمد مثلًا — ترى حياة مؤسس النصرانية مجهولةً تقريبًا، ولا تَبْحَثْ عن حياة مؤسس النصرانية في الأناجيل كما صُنِع ذلك زمنًا طويلًا، وكما عَدَل العلم عن اعتقاد إمكانها في الوقت الحاضر، فهذه الأناجيل — وأقدمُها إنجيل مرقص الذي كُتِب بعد وفاة يسوعَ بنصف قرن على الأقل — هي مجموعة من الأوهام والذِّكْرَيات غيرِ المُحَقَّقة التي بَسَطها خيالُ مؤلفيها التَّقِيُّ.

ورسائلُ القِدِّيس بولس هي، كما يبدو، أقلُّ الوثائق عدمَ صحةٍ في تَمَثل أزمنة النصرانية الأولى، ولكن بولسَ إذ لم يَعْرِف يسوعَ لم يَسْطِع أن يتكلم عنه إلا سَيْرًا مع العَنْعنات والخيال.

وعلى ما تراه في تلك المصادر من نقص فإننا نَسْتَشِفُّ منها، على الأقل، ما كان يدور في زمن يسوعَ من المبادئ، ونَعْلَم منها أن هذا الإله المُقْبِلَ لم يَعُدَّ نفسَه إلهًا قطُّ، ولا مؤسسًا لدين جديد.

قال الأستاذ غِنِيبِر: «لو قيل للحواريين الاثني عشر إن الله تَجَسَّد في يسوعَ ما أدركوا هذه الفضيحةَ الفظيعة، ولرفعوا أصواتهم مُحْتَجِّين … فما كان المبدأ القائل بالبُنُوَّة الإلهية لِيَبْدُوَ لليهوديِّ إلا تجديفًا شنيعًا.»

وإنما كان يسوع معتقدًا أنه نَبِيٌّ خَلَفٌ لمَنْ ظَهَر قبله من الأنبياء فتقوم دعواه الوحيدة على القول باقتراب ملكوت الربِّ الذي حَدَّث اليهودُ عنه منذ زمن طويل، وما كانت هذه البُشْرَى الطيبة لتَخُصَّ غيرَ بني إسرائيل مع ذلك.

ويُتَوَفَّى يسوع، ويحاول تلاميذه نشر نبوءاته وأدبه فلم يُوَفَّقوا إلَّا لجمعِ قليل من الأنصار في بدء الأمر، فما كانت ذكرى يسوعَ لتَبْقَى بعد موته طويلَ زمنٍ.

والواقعُ هو غير ذلك تمامًا كما هو معلوم، فقد أنقذ خيال المتهوس القِدِّيس بولس اسمَ يسوعَ من النسيان وأحاطه بالمجد الخالد.

كان ما اتَّفَق للقِدِّيس بولس من التَّجَلِّي المعروف في طريق دِمَشْقَ نقطةَ التحول الحقيقيةَ في النصرانية، وكان القديس بولس مفطورًا على فَرْط الخيال، وكانت نفسُه مملوءةً بذِكْريات الفلسفة اليونانية والأديان الشرقية، فأسَّس باسم يسوعَ دينًا لا يفقهه يسوع لو كان حيًّا.

ولم يفكر القِدِّيس بولسُ في جعل يسوعَ إلهًا مع ذلك، والقديسُ بولس كان يَعُدُّ يسوعَ رسولًا لِله مُفوَّضًا إليه أن يَدْعُوَ الناس إلى الإيمان بالحياة الأبدية، وأن يشتريَ خطاياهم بموته.

ولا شيء يَدُلُّ على أن الناس عَدُّوا يسوعَ إلهًا في القرن الأول من النصرانية، ولم ينتشر الإيمان بألوهيته إلَّا في أوائل القرن الثاني بين الجماعات النصرانية.

وبطءٌ كذلك مما يُثِير الدَّهَش لِما نَعْلَمه من السهولة التي كان الناس في ذلك الزمن يُؤلِّهون بها أعاظم الرجال كالقياصرة مثلًا.

هناك أسبابٌ كثيرة أَدَّت إلى تأخر ذلك التأليه، ومنها: أن اليهود الذين اعتنقوا النصرانية لم يريدوا أن يَعْدِلوا عن يَهْوَه الإلهِ الجَبَّار الغَيُور، واليهودُ بعد أن عَدُّوا يسوعَ رسولًا لِله جعلوا منه ابنًا لِله في بدء الأمر، ثم وَحَّدُوه بالله، وقد حال الإيمان الأعمى في القرون الأولى دون تَبَيُّنِهم الهُوَّةَ التي تَفْصِل بين يَهْوَه الجَبَّار ويسوعَ الحليم، فالمتناقضات العقلية لا تبدو للمنطق الدينيِّ.

وكانت جهود القديسِ بولسَ تَهْدِف إلى تجريد النصرانية من عناصرها اليهودية على قَدْر الاستطاعة، فتجعلُ من النصرانية دينًا عامًّا، وهذا ما تَمَّ للنصرانية، ولكن ببطءٍ كبير لم يَعْرِفه الإسلام مثلًا.

ولنبحث الآن في تبَنِّي النصرانية للمعتقدات السابقة، وتطورِها مع الأجيال، ثم ندرس أسباب انتشارها.

(٢) تَحَوُّلَاتُ النصرانية

نُسَوِّغ إطلاقنا اسمَ الدِّيانة التركيبية على النصرانية؛ لِما كان من تَبَنِّي النصرانية لمعتقداتٍ سابقة كانت تَزْعُم انفصالها عنها على الخصوص.

كان على مذهب يسوع، منذ خروجه من عالَم بلاد اليهودية الضَّيِّقِ ليَنْفُذَ في الحياة الإغريقية الرومانية، أن يلائم أفكار البِيئَات الجديدة واحتياجاتِها ومشاعرَها بحكم الضرورة.

وقد وُفِّق لذلك بما استعاره من عناصر الفلسفة اليونانية والدِّيانات الشرقية التي كانت ذاتَ حُظْوَة كبيرة في ذلك الحين.

والعِلْمُ الحديث قد أبان بسهولةٍ ما أُنْكِر زمنًا طويلًا من امتزاج المؤَثِّرات الأجنبية ذلك.

قال مسيو غِنِيبِر: «وَجَدَت النصرانية عنصرًا لها في الوثنية والأُولَنْبِيَّة والأُورفية والدِّيانات الشرقية والمذاهب الفلسفية … فغَدَت ديانَةً حقًّا، غَدَتْ دِيانَةً أكملَ من غيرها؛ لِما كان من اقتباسها أحسنَ ما في غيرها.»

وما انفَكَّت النصرانية في قرونها الخمسة الأولى تتحول بتلك الإضافات فأضحت مع الزمن مزيجًا من جميع المعتقدات الشرقية، ولا سيما معتقداتِ مصرَ وفارسَ التي كانت كثيرة الانتشار في العالم الوثنيِّ فكان لإيزِس ومِيتْرَا عِدَّةُ أَتْبَاعٍ فيه على الخصوص، ومُعْظَمُ ما تبصره في النصرانية من الطقوس والشعائر والرموز والكفاح بين الخير والشرِّ هو من دِيانة مِيتْرَا.

قال مسيو أ. ريناك: «أَدَّتْ قِصَّة إرضاع إيزِس لهوروسَ إلى إبداع قصة العذراء وابنها، وأدت قصةُ طعنِ هوروسَ للتمساح إلى إبداع قصة صَرْع القديس جورج والقديس ميشيل للتِّنِّين، وليس بمجهول أن تأثير مصرَ في النصرانية لم يَقِف عند هذا الحدِّ … فقد وُسِمَت مصرُ النصرانية حتى فيما قالت به من جُرْن الماء المُقَدَّس ونواقيسِ القداديس ومجالسِ جهنم مع شياطينها والدعاء للمَوْتَى.»

وبلغت النصرانية في تطعيم شعائرها بمثل تلك الاقتباسات الكثيرة ما ظَنَّ معه آباء الكنيسة، الجاهلون لتلك الإضافات التدريجية، أن دِيانة مِيتْرَا هي تحريفٌ شيطانيٌّ للنصرانية مع أن العكس هو الصحيح.

والنصرانيةُ، لتلك الإضافات المتعاقبة، تطلبت عِدَّةَ قرون ليَتِمَّ تكوينها، حتى إنه يمكن أن يقال إن النصرانية ظَلَّت عاطلة من أيِّ عَرْض رسميٍّ إلى أوائل القرون الوسطى، فبقيت قراراتُ المؤتمرات الدينية غيرَ مُؤَثِّرَة لتناقضها.

وإذ لم يكن لأسْقُف رومة ما يَفْضُل به زملاءَه لم تَسْطِع أية سلطة مركزية أن تُحَدِّد رِيَبَ علماء اللاهوت، ولم يفكر أحد آنئذ في عَظَمة نفسه.

ومن الطبيعيِّ أن يتطور الدين النصرانيُّ بحسب نفسية الأمم التي انتحلته، وظَلَّ هذا الدين عِدَّةَ قرون مزيجًا من عناصرَ متباينةٍ أشدَّ التباين، وما بَذَله علماء اللاهوت من الجهود لتعيين عقائده ذهب أدراج الرياح، وما فَتِئَت الانفصالات والإلحادات تَزِيد، وما استطاع مؤتمر نيقية (إزنيق) الدينيُّ أن يَصِل في سنة ٣٢٥ إلى صَوْغ النصرانية صَوْغًا واضحًا، وهذا المؤتمر لم يجتمع، مع ذلك، إلَّا ليناهض أريوس الذي أنكر كَوْنَ الابن إلهًا كالأب، وهذا المؤتمر قد انتهى، مع ذلك، إلى النتيجة المهمة القائلة بتأليه يسوع.

ولا تَجِد كالنصرانية دينًا لم يتخلص من مشاحنات علماء اللاهوت، ومن المحتمل أن كان هذا الدين يَنْحَلُّ تِجاه هذه المماحكات لو لم يَجِد دِعامةً متينة في إيمان العوامِّ البعيدين منها.

ولم تَثْبُت العقائدُ النصرانية ثباتًا حقيقيًّا إلَّا بعد أن سُلِّمَ بسلطان البابا تسليمًا نهائيًّا في القرن الخامسَ عشرَ.

أَجَلْ، حاول أساقفة رومة في القرن العاشر انتحالَ حَقِّ السيطرة على الكنيسة، ولكنهم لم يُوَفَّقُوا لهذا إلَّا في أحوال شاذة، والبابا إينُوسان الثالث وحدَه، تقريبًا، هو الذي أباح لنفسه حِرْمَ الملوك.

والحَمْلَة الصليبية الأولى هي التي جعلت من أولئك الأساقفة رؤساءَ للنصرانية إلى حدٍّ ما، ولم يخضع الملوك لمثل هذه الوِصاية طويلَ زمنٍ مع ذلك، وما كانت المؤتمرات الدينية لتقول بهذا على إطلاقه، وقاوم مؤتمر بالَ أوامرَ البابا أُوجِينَ الرابع في القرن الخامسَ عشرَ فأعلن هذا البابا حَلَّه، فهنالك خَلَع ذلك المؤتمرُ هذا البابا مُتَوِّجًا آخرَ في مكانه.

ونال البابوات الملوكُ في نهاية الأمر ما كانوا يَحْلُمون به منذ زمن طويل من التفرق، فكان هذا مصيبةً على الكنيسة، فقد أسفرت مزاعم البابوات وسوء أعمال الإكليروس عن نشوب ثورة الإصلاح الدينيِّ وعن اشتعال الحروب الدينيةِ التي خَرَّبَت أوروبة مدةَ خمسين سنة.

وما كان يأتي به رجال الدين من الخصومات المتصلة، ومن أفانين الطمع، ومن الازدراء الشامل — كَفَى لتسويغ قول لُوثِرَ وكالْڨِين بنَبْذ سلطان البابا، وبطرحِ العقائد المشكوك فيها، وبالوقوف عند حدِّ نصوص الكتاب المقدس.

وثورةُ الإصلاح الدينيِّ بعد أن كانت شُؤْمًا على الكنيسة بَدَت خيرًا لها لِما اضْطُرَّت به الكنيسة إلى تحسين حالها وتوحيد أمرها، فلَمَّا عُقِد مؤتمر ترَانْتَ الدينيُّ في سنة ١٥٥٠ اعْتَرَف بسيطرة البابا الشاملة، وقَرَّر العقائدَ في أدقِّ جُزْئِيَّاتها، فتألف من مقررات هذا المؤتمر دستور الكنيسة منذ ذلك التاريخ.

ومن عدم الحَذَر الخَطِر، بل من المستحيل، أن يُزْعم ثباتُ أيِّ دستور دينيٍّ أو مدنيٍّ، وأن يُحَال بذلك دون تَحَوُّلِه، فلا يَعْنِي جمودُ العقائد جمودَ الأفكار.

إذَنْ، كان من العبث تصور البابوات والمؤتمرات الدينية ثباتَ الإيمان النصرانيِّ إلى الأبد، فقد ابتعدت الروح البشرية عن هذا الإيمان شيئًا فشيئًا بما اتفق لها من الاكتشافات.

(٣) انتشارُ النصرانية بين الطبقات الشعبية

بَيَّنَّا كيف نشأت النصرانية وكيف تَحَوَّلَت، فبَقِيَ علينا أن نشير إلى الصورة التي انتشرت بها، ولم يُعْنَ المؤرخون بهذه المسألة المهمة مع أنها ظاهرةٌ نفسية عظيمة جِدًّا.

وفي كتابٍ سابق أسهبتُ في بيان انتشار الآراء والمعتقدات مستقلةً عن كلِّ عامل عقليٍّ، أي بفعل التكرار والتوكيد والعدوى والنفوذ، ولا أعود إلى هذا الموضوع فأقتصر على ذكر بعض الأسباب التي سَهَّلَت أمر انتشار النصرانية.

لو ظَهَرَت النصرانية بما عليه اليوم من العقائد الغريبة واللاهوتية المُعَقَّدة ما أصابت غيرَ نجاح زهيد على الأرجح، فالجموعُ تعيش بالآمال، لا بمبادئ ما بعد الطبيعة.

جاء الدين النصرانيُّ الجديد بآمال واسعة، فقد وَعَدَ الضعفاءَ والمحرومين واليائسين من هذه الحياة الدنيا بجنةٍ ذاتِ نعيم أبديٍّ حيث يتساوى الفقير والغنيُّ، وحيث لا ينال أقوياء الدنيا أكثرَ مما يناله أحقر البائسين من الامتيازات، ولا غَرْوَ، فالاشتراكية تهيمن على الجموع مع أنها دون النصرانية وعودًا في الوقت الحاضر، ولا غَرْوَ، فَرُؤْيا السعادة تجتذب النفوس على الدوام.

وتَمَّ النصر للدين النصرانيِّ منذ لاحت تلك الحياة السعيدة أمرًا يقينيًّا، فتَحَوَّل العالَم.

ومن الممكن أن يُلَاحَظ أن العيش في حياة آخرة مشتملة على جهنمَ والجنةِ مما قال به أكثرُ الأديان القديمة، كأديان مصرَ وفارسَ على الخصوص، ولكن هذا كان على وجه مُبْهَم، ومما ذكرناه أن مملكة الأموات كانت تبدو في زمن أوميرسَ مقامًا غيرَ مرغوب فيه كثيرًا.

والنصرانيةُ، حين فتحت للنفوس أملَ السعادة الأبدية، كان أولَ ما أسفرت عنه تحويلُ هَدَف الحياة، فبينما كانت الحياة الدنيوية أهمَّ ما يُعْنَى به الإغريقُ والرومان صارت الحياةُ الآخرة الغايةَ الوحيدة لآمال النصرانيِّ، والنصرانيُّ إذ كان يَعُدُّ الدنيا مَمَرًّا للحياة السماوية مَلَكَت السعادةُ الأبدية أفكارَه، والنصرانيُّ، لكي ينالَ هذه السعادة ويجتنبَ جهنمَ، رَضِيَ بأسوأ زُهْدٍ: رَضِيَ بالفقر وبالرَّهْبَانِيَّة، وبالشهادة أيضًا.

وليست نصرانيةُ القرون الوسطى عُنْوَان الوَحْدة لدى علماء اللاهوت، ووَجَدَت هذه النصرانيةُ ما نَشَدَتْه من الوَحْدة في نفوس الشعب التي اهتدت بمنارتين عظيمتين: بالأمل في السماء، وبالخوف من جهنم.

وإذا عَدَوْتَ ذينك الأمرين الجوهريين رأيتَ الشعب قد حافظ على نفسيته الوثنية، فأسماءُ الآلهة المُسِنَّة وحدَها هي التي تَغَيَّرَت، فالشعبُ أخذ يَعْبُد الثالوثَ الجديد بعد أن كان يَعْبُد ثالوثَ الكاپيتولَ المؤلفَ من جُوپِيتِر وجُونونَ ومِنِيرڨا، وحلَّ القِدِّيسُون محلَّ جميع الآلهة الثانوية القديمة، وتحولت حيواناتُ الغابات وعرائسُها إلى غيلان وشياطين، وقام السَّحَرة مقامَ العَرَّافين.

وينطوي كلُّ دين على وجهين كما قلنا: ينطوي على ما يقول به علماء اللاهوت والمُثَقَّفون من المبادئ وعلى ما يعتنقه الشعب، ولا ينتشر الدين، إذَنْ، بجهَازٍ واحد في مختلف طبقات المجتمع.

أَجَلْ، يكون للعَدْوَى النفسية والتلقين بالغُ الأثَر في كلتا الحالتين، بَيْدَ أن وسائلَ عملٍ كهذه لا تكفي لإقناع الطبقات المُثَقَّفَة.

رأَيْنَا الوجه الذي انتشرت به النصرانية بين الجماهير، وسنحاول الآن بيان الوجه الذي انتشرت به في طبقات العالَم الرومانيِّ المُنَوَّرة.

(٤) انتشارُ النصرانية بين المُثَقَّفِين

يَسْهُل إيضاح ذلك الانتشار عند النظر إلى الزمن الذي استحوذ فيه الدين النصرانيُّ على الشعب والجيش فأبصر القياصرةُ من السياسة الرشيدة أن يجعلوه دينًا رسميًّا، غير أن النصرانية كانت منتشرة بين أبناء المجتمع المُثَقَّف قبل ذلك الاشتراع، فما هي عِلَلُ انتشاره هذا؟

لا يمكن إدراكُ العِلَل بِجَلَاء إلَّا إذا علمنا قبل كلِّ شيء أن ما يراه الرجل العصريُّ من الخطر في اعتناق دين جديد كان أمرًا غير ذي بال لدى الرومانيِّ، فالرومانيُّ كان يَسْهُل عليه، بالحقيقة، أن يُضِيف إلى زُونه ما يراه من الآلهة من غير أن يُغَيِّر دينه، وكان القياصرة أنفسُهم يستعملون خِيَارَهم في ذلك، فشاد هَادِرْيان معابدَ لجميع الآلهة، وكان أَلِكْسَنْدِر سيڨير يَمْلِك في معبده صُوَرًا لأهمِّ الآلهة، ومنها صورةُ يسوع، ووجَدَتْ طائفة من الآلهة الجديدة مكانًا لها في الأُولِنْپيَا، الآهلةِ بالآلهة، بعد الفتح الروماني، وكانت دِيانات مصرَ وفارسَ تنتشر بالتدريج فكنت ترى فيها آلهةً ذات مَناحٍ توحيدية، ومن هذه الآلهة نذكر، على الخصوص، مِيتْرا، أي إلهَ الشمس لدى الفرس الذي بَدَا كثيرٌ من القياصرة عُبَّادًا حُمْسًا له.

ولكن زَعْمَ النصارى أن ربَّهم هو إلهُ السماءِ الوحيدُ كان يجعل كلَّ تسليم به أمرًا صَعْبًا، فكان لا بدَّ لبلوغ ذلك من التمهيد بتطورٍ نفسيٍّ مؤدٍّ إلى عَدِّ جميع الآلهة القديمة صُوَرًا مختلفةً لألوهية واحدة، أي إلى الفكرة التي كانت سائدة لكثير من دِيانات الشرق منذ زمن طويل.

عَمَّ ذلك الأمر منذ أوائل التاريخ الميلاديِّ مقدارًا فمقدارًا، فتَحوَّل الإشراك الشامل إلى التوحيد النظريِّ بالتدريج، فكان إله النصارى تكثيفًا لذلك.

والحقُّ أن النصرانية لم تأت المُثَقَّفِين بشيء جديد، فهي كانت تقول، من جهةٍ، بإلهٍ واحد أخذ أمره يَذِيع درجةً درجة، وهي كانت حافلةً، من جهةٍ أخرى، بما قُبِل به من العناصر الشرقية منذ طويلِ زمنٍ كالشعائر والطُّقُوس.

وتَصَلب النصرانية الشديدُ من أهمِّ العوامل في انتصارها أيضًا، فلو أُضيف إلهٌ جديد إلى الآلهة الكثيرة الأخرى لابتلعت العباداتُ القديمة هذا الإله ولغَدَا أمره من البِدَع كما حدث للبُدَّهِيَّة (البوذية)، والنصرانيةُ إذ عَدَّت إلههَا وحيدًا ونَعَتَت الآلهةَ الأخرى بالشياطين تَعَذَّر تساهلها مع هذه الآلهة.

أَضِفْ إلى ما تَقَدَّم ما اتَّفَق لأنصار النصرانية من الإيمان القوِيِّ الذي سَهُل عليهم أن يقاتلوا به آلهةً كان يُدَافَع عنها بإيمان ضعيف.

(٥) النتائجُ غيرُ المنتظرة لانتحال النصرانية

تَرَى من الملاحظات السابقة أن الشعب أقبل على النصرانية بحماسةٍ، وأن المُثَقَّفِين نَظَرُوا إليها بعين الإغضاء والتسامح، وأن القياصرة انتحلوها في نهاية الأمر لِغَرَض سياسيٍّ مَحْض.

ولم يُبْصِر أحدٌ، آنئذٍ، ما لذلك الانتحال من النتائج البعيدة، فكان يَلُوح أن القول بإلهٍ يزيد على الآلهة القديمة الكثيرة التي رُضِيَ بها في غُضُون القرون ليس من شأنه أن يُغَيِّر شيئًا في الحياة الاجتماعية وفي الحضارة.

وعكسُ ذلك ما وَقَع بسرعة، فإله النصارى، إذ صار عاطلًا من مُنَافِس سوى الشياطين ذوي القدرة المشكوك فيها، لم يَلْبَث أن قِيلَ بسيطرته على مختلف شئون الكَوْن كما يسيطر على الحياة الدينية، ولم يُعَتِّم عَمَلُه أن امتدَّ إلى عناصر الجهاز الاجتماعيِّ فاستلهمته الفنون والآداب والفلسفة فَتَوارت الحضارةُ الوثنية تمامًا، فلم تسْطِع الروح البشرية أن تتحرك، عِدَّةَ قرونٍ، إلَّا داخلَ النِّطاق الضَّيِّق الذي حَدَّده علم اللاهوت النصرانيُّ.

أَجَلْ، إن النصرانية لم تكن لتمارسَ مثل ذلك النفوذ أيام كان لدى الرومان جهازٌ اجتماعيٌّ متين يَتَعَذَّر تحويله، ولكن النصرانية، حين تَمَّ لها النصر، كان العالَم الهَرِمُ يتداعى يومًا بعد يوم فيَدْنُو من أَجَله المحتوم، وقد أبصر غُزَاة البرابرة في ذلك العالَم الرومانيِّ حضارةً تفوق مزاجَهم النفسيِّ بمراحلَ فلم يَقْدِروا على هضمها فَوجَدوا في النصرانية من عناصر الثبات ما لم يكن لديهم.

كان انتحال أولئك البرابرة للنصرانية ذا خيرٍ عَمِيم لهم، فكان له من الشأن في تطورهم ما لا يَتَّفق لأية حضارةٍ رفيعة، فما كان لغير الوعيد بجهنمَ والوعدِ بالسماء ما تُزْجَر به بعضَ الزجرِ تلك الأخلاطُ التي تسيطر اندفاعاتُها الغريزية عليها، وما تتحول به إلى مجتمعات ثابتة.

ومن نتائج امتزاج النظام الدينيِّ بالنظام السياسيِّ أن زادت قوة الدين وقوة الدولة معًا، فقد اتفقت السلطتان الزمنيةُ والروحية عِدَّةَ قرون مع اصطراعهما أحيانًا، ثم عَدَّ القياصرةُ والملوك أنفسَهم وكلاءَ الله في نهاية الأمر.

دام سلطان النصرانية أَلْفَ سنةٍ فاستطاعت أن تُمَدِّنَ البرابرةَ في أثنائها قليلًا، فأصبح هؤلاء البرابرة قادرين على فَهْم العالَم القديم المَنْسِيِّ منذ زمن طويل، فأُطْلق على ظهور ذلك العالَم ثانيةً اسمُ دَوْر النهضة.

بَدَا ذلك البَعْثُ باهرًا، فقد أعرض الناس، أمام النفائس التي ظهرت لهم، عن المسائل اللاهوتية وعن الوعيد بنار جهنم فأُعْجِبُوا بالآلهة والإلهات التي أُخْرِجَت من مَرْقدها وسَحَرَتْهم أساطيرُها العجيبة.

فهنالك صارت القرونُ الخالية أعظمَ مُلْهِم، فخَضَع لحكمها المُتَفَنِّنُون والأدباء والفلاسفة، ومما يستوقف نظر من يزور رومة أن يُبْصِرَ أن البابوات، الذين هم أشدُّ المدافعين عن عِلْمِ اللاهوت النصرانيِّ، كانوا يطلبون من رجال الفنِّ أن يُصَوِّرُوا أساطير الوثنية، وبجانب إلهامات العالَم القديم تلك كانت تبدو على جانبٍ كبيرٍ من الشُّحُوب وجوهُ القِدِّيسين والشهداء والمسيح وأهلِ جهنمَ الضيقة، ومن هذه الحياة العابسة المحزنة التي فَرَضَها علم اللاهوت النصرانيُّ تَحَرَّرَ الإنسان في نهاية الأمر، فزُيِّنَتْ جُدُر قصور رومة والڨاتيكان بوِلادة ڨِينُوس وبقصَّة پسِيشِه الحسناء وغَرَامِيَّات جُوپِيتِر، وعادت الآلهة التي أَغْوَت البشريةَ في فَجْرِها تَسْحَرُها في عمرها الناضج، وعَلَّمَت البشرية أن تعيش مع الطبيعة، لا خلافًا للطبيعة، وإذا كانت هذه الصَّوْلَة لم تستمرَّ فلِوَضْع الإصلاح الدينيِّ حدًّا لها على وجه غير مباشر، ولولا نفوذُ هذا الإصلاح لرَجَع العالَم إلى الوثنية على ما يحتمل.

ولم يتساوق عصر النهضة وبعثُ العالَم القديم فقط، بل تساوق، أيضًا، هو وازدهارُ العلوم التَّجْرِبِيَّة التي وجب أن تُغَيِّر اتجاه الفكر، فقد رأى الإنسان أنه أصبح من الضروريِّ أن يستبدل بضروب اليقين التي سيرته مدةَ خمسةَ عشرَ قرنًا أمورًا أُخرى.

ونحن، إذ نُكَثِّف في بضعِ صَفَحَاتٍ قرونَ التاريخ الدينيِّ الطويلةَ، لم نَسْطِع غير الإشارة إلى خطوط الصورة المتحركة الكبيرة التي تتألف النصرانية من مجموعها، فهذه الخطوط الكبيرة تكفي لِنُثْبت أن هذه الدِّيانات التي سيطرت على النفوس زمنًا طويلًا ليست حادثةً ظهرت بغتة، بل هي مزيج من الأفكار الجديدة والعقائد السابقة، وأنها، وقد اعتنقها الشعب في بدء الأمر بما بذلته له من الوعود، لم تَصِل إلى طبقات المجتمع الراقية إلا بعد مرور عِدَّة قرون.

ومع ذلك وجب، لانتصار تلك الدِّيانة الجديدة، اجتماعُ أحوالٍ لم تَتَلاقَ سوى ثلاثِ مراتٍ أو أربعِ مَرَّاتٍ في التاريخ، ولم يكن هنالك مَعْدِلٌ عن اجتماع تلك الأحوال لتحقيق نصرها الهائل، وكان للناس بانتصار النصرانية توجيهٌ لذهن الناس زمنًا طويلًا؛ فاعتقد الناسُ بها حِيَازَتَهم لحقائقَ خالدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤