الفصل الثالث

العوامل الوهمية في الأخلاق

(١) تقسيم أُسُس الأخلاق

ما فَتِئَ الفلاسفة وعلماء اللاهوت، منذ القرون القديمة، يبحثون في أُسُس الأخلاق، فبالتتابع ذُكِرَت الدِّيانة والمنفعة والسعادة والعِلم … وعناصرُ أخرى كثيرةٌ أساسًا للأخلاق.

وبعض هذه العوامل مصنوعٌ وبعضٌ آخرُ منها حقيقيٌّ، ومن هذه العوامل ما هو ذو تأثير بالغ في بعض الأحيان مع أنه مصنوعٌ كالدِّيانات مثلًا، فلا يكون تقسيمنا مطلقًا إذَنْ، وهو لا ينفع لغير تسهيل الوصف ككل تقسيم.

وفي هذا الفصل نبحث في الأُسُس الوهمية للأخلاق، ثم نُتْبِعُه بالبحث في العوامل الحقيقية.

(٢) الدينُ والأخلاق، مصادرُ الشعور الدينيِّ والشعور الخُلقيِّ

الدِّيانةُ هي أهمُّ أُسُس الأخلاق المَعْزُوَّة، وكثيرٌ من الناس في الوقت الحاضر يَعُدُّون الدِّيانة النَّاظِمَ الرئيسَ للسلوك.

وقَلَّمَا كانت الديانات القديمة تُعْنَى بالتعاليم الخُلُقِيَّة، وكان سلوك الناس فيما بينهم يَدَعُ الآلهةَ غيرَ مكترثة، وكان أمرُ مصرَ شاذًّا من هذه الناحية مع ذلك، فأعمالُ الأحياء في مصر كانت تُوزَنُ بعد مماتهم بدِقَّة، فيُذَكِّرُنا حُكم أُوزِبرِس بيوم الفصل لدى النصارى.

وتشتمل كتب اليهود الدينية على تعاليمَ خُلقية أيضًا، وذلك مع شيء من البساطة، وذلك لتلخيصها في الوصايا العَشْر الموجزةِ التي عُبِّرَ بها عن مناحي أناسٍ تَأَلَّفَ منهم مجتمع.

وبانتصار النصرانية فقط زَعَمَ هذا الدينُ أنه صاغ قواعدَ الأخلاق الوثيقة فسيطر على حياة الناس في جُزْئِيَّاتها، ومما ذكرناه آنفًا أن النصرانية أَسْفَرَت عن تحويل مقياس القِيم البشرية وتغيير هَدَف الحياة، ففي الحياة الآخرة يجب أن يُبْحَث عن السعادة حيث تكون أبدية، لا في هذه الحياة الدنيا حيث تكون السعادةُ زائلةً بحكم الطبيعة.

وبَدَت صَرَامة التعاليم الدينية وقَسْوَةُ إنذاراتها وعظمةُ ثوابِها ملائمةً لنفسية شِبَاه البرابرة الذين كانوا يسيرون وراء اندفاعاتهم فكان يجب أن يُؤَثَّر فيهم بعُنْف، ففي عصور الإيمان كان للأمل في الجنة والخوفِ من جهنم أنفعُ دعائمَ للأخلاق، وأعانت مُؤَيِّدَات الحياة الآخرة ووعودُها على تمدين غُزَاة أوروبة بعض التمدين بعد انهيار الدولة الرومانية، فكان لذلك من النفوذ فيهم ما لم يكن لآلهة الوثنية المذبذبة الخَلِيَّة.

ولا تزال الصِّلَةُ بين الأخلاق والدِّيانة في النصرانية تَحْمِلُ كثيرًا من الناس على الاعتقاد بإمكان قيام الأخلاق على الدين فقط، ومصدرُ هذا الخطأ الذي لا يزال شائعًا هو الخَلْط بين الشعور الدينيِّ والشعور الخلقيِّ على العموم، مع أنهما مختلفان منشأً، وإن أَثَّرَ أحدُهما في الآخر، أي إن كلًّا منهما ملائمٌ لاحتياجاتٍ في النفس مخالفةٍ لاحتياجاتٍ أخرى فيها.

فالحقُّ أن الشعور الدينيَّ هو وجه من الروح الدينية في الإنسان، وأن الشعور الخُلُقيَّ هو ملاءمةٌ لمقتضيات البِيئة، والمنطقُ الدينيُّ هو الذي يهيمن على الدِّيانة، والمنطقُ العاطفيُّ هو الذي يهيمن على الأخلاق.

إذَنْ، ليس للشعور الدينيِّ، الذي هو مظهر من مظاهر الروح الدينية التي أبَنْتُ عُمُومِيَّتَها وقُوَّتَها، أيةُ صلة بالأخلاق التي هي من مصدر عاطفيٍّ، والروحُ الدينية لا تُحْدِث الأديان فقط، بَلْ تُحْدِث، أيضًا، الروحانيةَ والمعتقدَ ذا الصِّيَغ السياسية وذا المعجزات، والمظاهرَ الأخرى الغريبةَ كثيرًا عن الأخلاق.

وبتلك الفروق بين الشعور الدينيِّ والشعور الخُلقيِّ يُفَسَّر السبب في أن بعض الأفراد أو الشعوب قد يكون مُتَدَيِّنًا إلى الغاية على حين يكون ذا أخلاق ضعيفة، شأنُ أشدِّ شعوب أوروبة تَدَيُّنًا وأقلِّها أخلاقًا كالروس والإسبان، وسكانُ نِيپَالَ هم أقلُّ من شاهدتهم في رحلاتي أخلاقًا، ونِيپَالُ، مع ذلك، أكثرُ بِقَاع الأرض احتواءً لمعابدَ خاصَّةٍ بعبادة الآلهة.

ومن العلماء الكثيري التدين، كَمَكْس مُولِّر، مَن اتَّخَذوا البُدَّهِيَّةَ (البوذية) دليلًا على استقلال الأخلاق عن الدين، فقد قال مَكْس مُولِّر:

دَعَا إلى الأخلاق الفاضلة — قبل ظهور المسيح — أناسٌ اعتقدوا أن الآلهة أشباحٌ باطلة فلم يُقِيموا هيكلًا حتى للربِّ غيرِ المعروف.

ولا أرى أن يُسْهَب في إيضاح ذلك المثل، فالبُدَّهِيَّة هي، بالحقيقة، دِيانةٌ بلا آلهة عند مؤسسيها، ولكنني بَيَّنْت في فصل آخر أن البُدَّهِيَّة أُثْقِلَت بآلهة كثيرة حين نفوذها في الروح الشعبية.

والدِّيانةُ والأخلاق — وإن كانتا من أصليْن مستقليْن — يمكن أُولاهما، كما قلنا، أن تُؤَثِّر في الأخرى في أدوار الإيمان، وذلك بطريق الخوف من العقاب والطمعِ في الثواب، فهنالك يكون تأثير ما في الدساتير الدينية من الوعيد كتأثير الدساتير المدنية.

ويجب أَلَّا يُعْتَمد كثيرًا على نفوذ الأديان مع ذلك، فالشخصُ الذي يكون مُتَدَيِّنًا عاطلًا من الأخلاق في آن واحد يُوَفِّق، في الحقيقة، بين إيمانه وغرائزه السَّيِّئة، طالبًا العَوْن من السماء، أحيانًا، لإتمام مُنْكَراته، وغيرُ قليلٍ عددُ الأتقياء الذين ساروا على غِرَار لويس الحادي عشر فوَعَدوا العذراءَ والأولياءَ بثمين الهدايا نَيْلًا لعَوْن هؤلاء في أمور غير مُسْتَحَبَّة.

ونُوَكِّد أمر استقلال الدين عن الأخلاق فنقول: إن علماء الحقوق الجزائية أبصروا، منذ طويلِ زمنٍ، وجودَ جُنَاةٍ قُسَاة أتقياءَ معًا، فمزاجُ هؤلاء النفسيُّ مماثلٌ لنفسية أولئك اللصوص الإسبان الذين يَشْحَذُون خناجرَهم وهم يستمعون إلى بعض الأدْعِيَة حول هيكل بعض القِدِّيسين طمعًا في نَيْل عَوْنهم، وأُتِيح لي أن أزور في نوڨِي تارْغ الواقعةِ في جبال تَتْرَة كنيسةً صغيرة أقامها، على ما يُرْوَى، لصوصٌ لمريمَ العذراء شُكْرًا؛ وذلك لحمايتها إياهم في أثناء مغازيهم.

وعلى ما تراه من عدم رؤية مُعْظم المفكرين للْفَرْق العميق بين الروح الدينية والروح الخُلقية أَبْصَر بعض هؤلاء إمكانَ قيام مجتمعٍ بلا دين، ومن هؤلاء بُوسُويِه حيث قال:
إن الأحرى أن يُحَافَظ على الدين أكثرَ من المحافظة على الممالك حِفْظًا لطَيِّب الأعمال ونجاةً للنفوس، ويمكن المجتمعاتِ المدنيةَ، مع ذلك، أن تَبْقَى وأن تقوم حتى في طَوْر من الكمال عند افتراض اضمحلال الدين الحقِّ.١

وعلى ما للدِّيانة والأخلاق من مصادرَ مختلفةٍ يمكن إحداهما أن تُؤَثِّر في الأخرى عندما يكون الإيمان قويًّا، ولكن هذا التأثير ظاهريٌّ أكثر من أن يكون حقيقيًّا.

والوهمُ فيما للدين من تأثير في الأخلاق ينشأ عادةً عما يُعْزَى إلى الدين من الأعمال الناشئة عن مزاج الشعوب النفسيِّ، وهذا ما يقع عندما يُعَبِّر الدين عن سجايا العرق التي هي أركان سلوكٍ أقومُ مما في الكُتُب من التعاليم، ومن ذلك أن زُهْد بعض الإنكليز وعُنْفَهم، مثلًا، أَثَّرَا في المعتقدات اللاهوتية أكثرَ من أن تُؤثِّر هذه المعتقدات فيهما، وأن اقتراف الإثم والخوفَ من جهنم وإن ظهرا عنصرًا للپيُورِيتَانِيَّة، نشأت الپيوريتانية عن مزاج أتباعها النفسيِّ على الخصوص ما ظَلَّتْ حَيَّةً بعد تلاشي إيمانهم، وأن الپيوريتانية تَحَوَّلَت من ظاهرة دينية إلى ظاهرة اجتماعية، فلا يكادُ المَسْرَح الإنكليزيُّ والقصةُ الإنكليزية يتكلمان عن العِشْق بفعل الپيوريتانية، وأن بَيْع بعض الكتب الفرنسية، ومنها المعتدلة، قد حُظِر بفعلها أيضًا، وأن كثيرًا من الإنكليز، ومنهم أحرارُ الفكر، ومنهم پروتستانٌ أحرار، يحافظون على أخلاقٍ پيوريتانية ولو في الظاهر على الأقل، فلا يوجد، كما قلتُ، أخلاقٌ دينية، بل أخلاقٌ عِرْقِيَّة، وليس الدين إلا ذريعةً إلى ذلك.

والأممُ إذ إنها مختلفةٌ أخلاقًا فإن الأديان تُؤَثِّر فيها تأثيرًا متفاوتًا، فعلى ما كان من سَوْم الإسبانِ بمظالم التفتيش وتحريقهم في المواقد عِدَّةَ قرون لم يكتسبوا تلك الأخلاقَ الرَّضِيَّة المُضَادَّة لِلَّهْوِ، والتي هي من نِتاج الشعب الإنكليزيِّ في الحقيقة.

وكلُّ ما يقال بِوثُوقٍ في أمر الأخلاق ذاتِ الأساس الدينيِّ هو أن لهذه الأخلاق قُوَّةَ العادات التقليدية التي يدوم عملها حتى عند عجز العقل عن الدفاع عنها، فللأمم، إذَنْ، كلُّ الحقِّ في المحافظة على آلهتها التي آلَتْ إليها من الأجداد.

ويُفَسِّر النفوذ الذي يكون للأخلاق التقليدية السببَ في أن بعض الأمم، كالإنكليز والأمريكيين، لا يَأْلُو جُهْدًا في المحافظة على العقائد القديمة حين يسعى في جعلها عصريةً قليلًا، ومما رأيناه أن كثيرًا من المذاهب النصرانية عَدَل عن عَزْوِ أصلٍ إلهيٍّ إلى مُؤَسِّس النصرانية؛ وذلك لتلائم العقائدُ مناحِيَ النقد العلميِّ، ورأى بعض المذاهب اجتنابَ الجَدَل فذهب إلى المحافظة على الأسْطُورَة الدينية ناظرًا إلى فائدة الدين دون صحته، فعلى هذا الرأي مذهبُ الذرائع الذي تكلمنا عنه آنفًا، والذي سنعود إليه عَمَّا قليل.

(٣) مبادئُ ما بعد الطبيعة في الأخلاق

لم تُؤَثِّر مبادئ ما بعد الطبيعة، التي جعلتها الفلسفةُ دِعامةً للأخلاق، في سلوك الناس قَطُّ، وقد انْتُفع بها؛ لتكون ذريعةً للبحث عند المُثَقَّفين فقط، فيكفي أن تُدْرَس باختصارٍ إذَنْ.

أشهرُ الأخلاق القائمة على ما بعد الطبيعة هي الأخلاقُ التي جاء بها كَنْتُ، وتدلُّ دِراسة هذا الفيلسوف المفضال، الذي صَرَف عبقريته إلى البحث عن أُسُس الأخلاق، على عودته السريعة إلى تَأمُّلات علماء اللاهوت القديمة مع قليل تعديلٍ.

وليس بمجهولٍ ما أبداه كَنْتُ من الشكِّ في كتابه «نَقْدِ العقلِ المَحْض»، فقد أوضح فيه كيف أن معرفتنا للأمور ليست سوى تفسيرٍ، مُقَيَّدٍ بطبيعة إدراكنا، للمُعْطَيات التي نكتسبها من حواسِّنا، ثم صَرَّح بأن الحقيقةَ لا يُرْقَى إليها، وكَنْتُ قد تلاشى شَكُّه عندما تناول مسألة الأخلاق.

وبرهنةُ كَنْتَ إذا ما رُدَّت إلى عناصرها الأساسية بَدَتْ على جانب كبير من السذاجة فتقوم نقطةُ الابتداء عنده على مبدأ الخير والشرِّ القديم، والناسُ، لاستعداداتهم الخاصة، مُلْزَمون بإطاعة المبدأ الجازم الذي يأمرهم بصنع الخير واجتناب الشرِّ، واختيارٌ كهذا يتطلب أن يكونوا أحرارًا، وعند كَنْتَ تكفي هذه الضرورة لإثبات وجود الإرادة فينا.

بَيْدَ أن اختيار الشرِّ، كما يلوح، أَلذُّ من اختيار الخير في الغالب، فمما هو واضحٌ بدرجة البداهة أن الرذيلة لا يعاقَب صاحبها، دَوْمًا، في هذه الدنيا، وأن الفضيلة لا يكافَأُ صاحبها إلا قليلًا في بعض الأحيان، فلا بدَّ من وجود عالَم آخرَ تُوَزَّع فيه العقوبات والمكافآت إذَنْ، والروح هي خالدة إذَنْ.

وتَفْتَرِض ضرورةُ وجودِ عالَم مُقْبِل وجودَ حاكمٍ عادل أيضًا، وهذا الحاكم هو الله.

وبتسلسل البراهين تلك يكون قد أُثْبِت الاختيار وخلود الروح والجنة والنار ووجود الله في بضع كلمات.

وأَدِلةٌ كتلك تَنِمُّ اليوم على شيء من السذاجة وضعف الإقناع، فإذا ما حَدَث فَرْطُ نَمُوٍّ في خَلِيَّاتِ ضائنٍ الدماغيةِ، وهذا غيرُ محتمل، فاستطاع هذا الضائن أن يُبَرْهِن لم يَنْتَه إلى غير ما انتهى إليه كَنْتُ تقريبًا، فلا يَعْسُر عليه أن يُثْبِت بسلسلةٍ من الأَدلة خلودَ روح الضأن ووجودَ إله يُجَازي ويكافئ.

ومما يقوله الضَّائن أن مصير الضَّأن حافلٌ بالجَوْر والطغيان، وأن الله إذ كان طَيِّبًا إلى الغاية فإنه لم يَخْلُقها ليُجْعَلَ من لحومها قِطَعٌ للأكل فقط، مع أنها عُنْوان الفضائل بدَعَتِها وتسليمها، وأن القانون الخُلُقِيَّ يقضي بأن تُعَوَّض من مصيرها الجائر، فالضائنُ، إذَنْ، ذو روح خالدة، وسيجد في حياةٍ آخرةٍ مكافأةً له على المظالم التي ذهب ضحيتها في هذه الحياة الدنيا.

ومن الصعب أن ندرك أن فيلسوفًا مثلَ كَنْتَ يُبَرْهِن على ذلك الوجه الهزيل إذا ما نسِينا أنه عاش في زمنٍ كان الإنسان يُعَدُّ فيه كائنًا ذا خِلْقَةٍ خاصَّة فُرِضَ عليه أن يستعدَّ لحياةٍ خالدة سعيدة باتِّبَاعه أوامرَ خالقِه في الأرض.

وكان علماء ما بعد الطبيعة في ذلك العصر يقولون إن الأخلاق ذاتُ كِيَان واحد شامل لجميع الأمم، والخيرُ في مراعاة مبادئها والشرُّ في مخالفتها.

وكانت مبادئ الأخلاق التي أَمْلَتْها ما بعد الطبيعة بسيطَةً جدًّا، فقد ذهب كَنْتُ إلى إمكان تلخيص الناموس الخُلُقِيِّ في القاعدة: «سِرْ، على الدوام، كما لو تُرِيدُ أن يَبْدُوَ عملُك مبدأ عامًّا للسلوك»، ويمكن ضَمُّ هذه النصيحة إلى النصائح التي تَمْلَأُ الكتبَ الدينية كالقول: أحِبَّ قريبك كما تُحِبُّ نفسك، وكالقول: أَدِرْ خَدَّكَ الأيمن إذا ما ضُرِبْتَ على خَدِّك الأيسر … إلخ.

وهنالك علماء على جانب كبير من الفضل رَأَوْا نظرياتِ كَنْتَ في الأخلاق واضحةً قاطعة، فإليك قولَ بِرْتِلُو سنة ١٨٦٣ في هذا الموضوع:
يكون كَنْتُ، بإقامته الحقائقَ الخُلُقِية على أساس عقليٍّ عمليٍّ متين، قد مَنَحَ هذه الحقائقَ، في أواخر القرن الأخير، دِعامتَها الصحيحةَ وسَافاتِها٢ الجازمة.

واليوم أصبح من المتعذر أن تَسْتَنِدَ الأخلاق إلى النظرية القائلة بإلهٍ منتقم خالق لموجودات ناقصة يَتَلَهَّى بتحريقها في عالَم الأبدية مع أنه قادر على خَلْقِها كاملةً، ومما لا ريب فيه أن هذه المسألة من أكثر المسائل إيذاءً لِأَخْيِلَةِ الدماغ البشريِّ.

وأصاب إمِيل فَاغِيه في تعبيره عن الآراء الحاضرة حَوْلَ تلك المسألة في الأسطر الآتية، قال فَاغِيه:

إذا كان الربُّ موجودًا وإذا كان واحدًا كان قادرًا على كلِّ شيء، والشرُّ إذا كان موجودًا في هذه الدنيا وجب ألَّا يقال إن الربَّ أباحه، لِما ليس لهذه الكلمة من معنًى مع وجود قادر على كلِّ شيء، بَلْ يجب أن يقال إنه أراده، والحقُّ أن ربًّا يريد الشرَّ لا يَفْهمه العقلُ أو يكون ممقوتًا، فالأفضلُ ألا يكون موجودًا إذَنْ …

… ومن المُؤَكد أنه لا يُخْرَج من ذلك إلا بذرائعَ معقولةٍ قليلًا، فالقولُ إن الربَّ أراد الشرَّ كامتحانٍ يمكن أن يُدْعَم إذا ما تَعَلَّق بالناس، ولكن الحيواناتِ تَأْلَم أيضًا، فلا يُرَى أيُّ امتحانٍ تعانيه فيكونُ صالحًا أو شافيًا أو نافعًا أو معقولًا، والقولُ إن الشرَّ هو جزاء الخطيئة الأولى لا يؤدي إلا إلى تأخير المسألة من غير أن يُحَوِّلها، أيْ إلى تركها كاملة كما هي، فإذا كان الإنسان قد اقترف الإثمَ الأول فلأن الربَّ أَذِن في ذلك، أي أراد ذلك، وكيف يكون الربُّ القادر على كلِّ شيْء عادلًا طيبًا وهو يريد أن يُذْنِب الإنسان لِيُجَازِيَه؟ أَلَا إن الربَّ هو صانع الشرِّ في الأرض، هو صانع الشرِّ الخُلُقِّي والجُثْمَانِيِّ.

… والاعتقادُ بربٍّ مُجَازٍ ومكافئ مما دعا إليه علم الأخلاق على ما يحتمل، بَيْدَ أن هذا الاعتقاد مما يُقَوِّض دعائمَ الأخلاق، وهذا ما يجب أن يُنْظَر إليه، أَجَلْ، إن اعتقادَ الثواب والعقاب بعد الموت يَهْدِم الأخلاق؛ وذلك لأنكم إذا ما اعتقدتم هذا الثوابَ وهذا العقابَ لم تَصْنَعُوا الخير للخير، بل تصنعونه طَمَعًا في الحُلْوَان وخوفًا من السَّوْط، فلا تكونون ذوي أخلاق إذَنْ، ومن قول بعضهم: «إن أسوأ سوء في الأخلاق هو الاعتقاد بقيام الأخلاق على المنفعة.»

(٤) أوهامُ علماء الأخلاق في الفضيلة والرذيلة

أوجب قديمُ الآراء في الأخلاق إدخالَ مبدأ الفضيلة والرذيلة إليها، وبدا هذا المبدأُ عزيزًا على كَنْتَ فزَعَم أنه يستنبط منه الأدلة على وجود الإله القادر على إثابة ذوي الفضيلة ومعاقبة ذوي الرذيلة.

ومن شأن وِجْهَة النظر هذه، القريبةِ من وِجهة نظر علماء اللاهوت، أن تَجْعَل مسألة الأخلاق أمرًا بسيطًا جدًّا، فالإنسان إذ كان حُرًّا في أعماله صَدَر ما يصنعه من خير أو شرٍّ عن إرادته.

واليومَ لا يُدَافَع عن تلك المبادئ التي تَنِمُّ على السَّذَاجَة، فسنرى، حين البحث في الأُسُس الحقيقية للأخلاق، أن الأخلاق لم تكن إلَّا بعد أن غَدَتْ لا شعورية، أي بعد أن تحررت من كلِّ تأمل واستقلَّتْ عن مشاعر الخوف والرجاء التي أَصْلَتَتْهَا القوانين الدينية والمدنية على الرءوس.

والأخلاقُ أصبحت لا إرادية فزالت مَزِيَّة إطاعتها بعد أن استقرت بدائرة اللاشعور بفعل المُؤَثرَات الموروثة أو عواملِ التربية التي درسناها في مكان آخر.

والأخلاقُ الحَتْمِيَّة إذا لم تستقرَّ بدائرة اللاشعور استقرارًا تامًّا فتَرَدَّدَ الفرد بين الاندفاعات المتناقضة كان من الفضيلة أن يَضْبِطَ ميولَه الضَّارَّة، ولكن تَرَدُّدَه يثبت أن أخلاقه لم تَصِل إلى درجة الثبات بعدُ.

وسألتُ الأشخاصَ الذين يجادلون في تلك البرهنة عن تفضيلهم خادمًا لا يُفَكِّر في سَرِقَتِهم على خادم يقاوم في نفسه ميلًا إلى سَرِقَتِهم، فكان الجواب أن الخادمَ الأول عاطلٌ من الفضيلة لِما ليس فيه من تلك المقاومة، وأن الخادم الآخر مملوءٌ فضيلةً لِمَا يَبْذُله من مقاومة ذلك الميل، ويُخْشَى ألا يُوَفَّق هذا الخادمُ الآخر، مع ذلك، في مقاومته فيُرَجَّح الخادم الأول عليه مع عَطَل الخادم الأول من الفضيلة.

ويمكن إكمال هذا المثال بمثالٍ أوضحَ منه، وإن كان من نوع آخر، فمن المعلوم أن راكب الدَّرَّاجَةِ يَصِلُ بتمريناتٍ مُكَرَّرَة إلى الاستواء عليها من غير عَناء، فإذا ما انتحلنا لغةَ علماء الأخلاق الذين يُرْدِفُون الفضيلةَ بالجُهْد قلنا إن راكب الدَّرَّاجة حين يحافظ على موازنته فوقَها بكبيرِ مجهودٍ هو أفضل منه حين ينتهي إلى درجة الاستقرار عليها بلا مجهود، مع أنه يُعَدُّ عالِمًا بركوبها في هذا الدور الثاني معتمدًا على ما اتَّفَق له من خُلق ثابت في ذلك.

إذَنْ، يجب أن نَتَعَوَّد الفَصْلَ بين مبدأ الأخلاق ومبدأ الفضيلة، فالقاعدةُ الخُلُقية، كما قُلْتُ، لا تَثْبُت في النفس إلا حين تزول فضيلة ملاحظتها، والواقع هو أننا نستطيع أن نقول إن الإنسان الذي يَعْقِل أخلاقَه يكونُ غير مكتسِبٍ للأخلاق بعد.

وهذه النظريةُ — وإن كانت تَبْدُو غريبةً على ما يحتمل وكان صوابُها أمرًا لا مِرَاء فيه — رَأَيْتُ أن أجِدَ من المؤلفين مَن يَدْعَمُونها فوجدتُ واحدًا منهم فقط، وجدتُ ويِلْيَم جِيمْس الذي تشابه آراؤُه آرائي بعضَ الشَّبَه في هذه المسألة، فقد قال: «من الوهم المحزن أن نُدير جميع أخلاقنا الإنسانية حول مسألة الفضيلة.»

والملاحظات الآنفة الذِّكر فائدةٌ عملية لا جِدَال فيها، فبِها نَعْرِف أين يجب أن نبحث عن العوامل الحقيقية في تربية الأخلاق غيرِ المُدْرَكَة كثيرًا في الوقت الحاضر، وتلك الملاحظاتُ تَكْشِف لنا، أيضًا، عن تعليم النظريين الجُدُدِ الشديد الخَطر، وتعليمُ هؤلاء يكون أعظمَ خطرًا في المستقبل مما في الوقت الحاضر ما دامت الأخلاقُ أمرًا وِرَاثِيًّا على الخصوص فضلًا عن أنها تُكْتَسَب من الحياة الحاضرة، فالحاضرُ يُحْدِث من أخلاق الساعة الراهنة ما هو أقلُّ من أخلاق المستقبل بدرجات، ونحن نَعِيش بأخلاق آبائنا، وسيعيش أبناؤُنا بأخلاقنا.

(٥) العلاقات بين التعليم والأخلاق

إن من أكثر أوهام الديموقراطية الحديثة استعصاءً هو أن تُفْتَرَض قدرة التعليم على تَنْمِيَة الأخلاق، حتى إن أحد وزراء الجمهورية الفرنسية أَلَّف كتابًا ضَخْمًا؛ ليُثْبِت فيه أن التعليم هو الوسيلةُ الصائبة لإتمام الأخلاق، وتدلُّ أقلُّ ملاحظة، مع ذلك، على أنه لا علاقةَ بين المعرفة الفردية والشعور الخُلقيِّ، فمن الممكن أن يكون الشخصُ كثيرَ الجهل كبيرَ الخُلق، أو أن يكون، بالعكس، واسعَ العِلم بادِيَ العَيْب، وفي كتابٍ آخر أوردتُ أمثلةً مشهورة في ذلك فأَقتصرُ الآن على الإشارة إلى أن غير المتعلمين هم الذين ينالون، على العموم، جوائزَ الأخلاق في الأكاديمية الفرنسية.

على أن النظرية الوهمية حَوْلَ تأثير التعليم في الأخلاق قديمةٌ جدًّا، فقد حاول الأَغَارِقَة أيام سقراط أن يَسُنُّوا قوانينَ في الأخلاق العقلية، ومما كانوا يفترضونه — وهذا ما لا يزال أناسٌ كثير يعتقدونه — هو أن الذنوب وليدةُ الجهل فتَسْهُل معالجتها بالتعليم، فيَكفي لبلوغ ذلك استظهارُ رسالةٍ في الأخلاق كما يُحْفَظ كتابٌ في الحقوق المدنية أو في الفيزياء على ظهر القلب.

والحقُّ أن الأخلاق والتعليم أمران مستقلٌّ أحدُهما عن الآخر إلى الغاية، ويُؤَدِّي نُمُوُّ مَلَكات النقد بالتعليم إلى زعزعة الأُسُس العاطفية والدينية التي هي قواعدُ كثير من الأخلاق.

والحقُّ أنني لا أرى من الضروري أن أُسْهِب بأكثر مما تقدم في إثباتي أن المعارف التي يُكَدِّسها العقلُ عاطلةٌ من أيِّ تأثير في الأخلاق، فعلى من هو في رَيْبٍ من ذلك أن يَنْظُر إلى أبناء الأُسْرَة الواحدة الذين تَلَقَّوا تعليمًا واحدًا في مدرسة واحدة؛ ليرى اختلافهم خُلقيًّا في الغالب.

(٦) ضَعْفُ قيمة الأخلاق القائمة على العقل والعِلم

تساءل الفلاسفة عن إمكان إقامة أخلاق على أُسُس عقلية، وذلك عندما لاح أنه لا يمكن الدفاع عن الافتراض القائل بوجود ربٍّ حاكم يكافئُ المُحْسِنَ ويُجازِي المُسِيء، والعقلُ قد أَدَّى إلى إقامة صَرْح المعارف الرائع، فصار من المأمول أن يُشَاد به صَرْحٌ للأخلاق بسهولة، فهذا وَهْمٌ من آخر أوهام الفلسفة.

ومصدرُ الاعتقاد بأن الإنسان يستطيع أن يَجِد في العقل جميعَ عوامل السَّيْر هو الخطأ النفسيُّ الذي بحثنا فيه غيرَ مرة، والقائلُ بأن من الواجب أن يكون المنطقُ العقليُّ وحدَه دليلَ المجتمعات والأفراد.

وظلَّ كثيرٌ من الفلاسفة والمُرَبِّين والسياسيين المعاصرين قانعين بأن العقل وحدَه هو مصدر الأخلاق، ويَسِير هؤلاء مع الأستاذ بُوتْرُو فَيُعَرِّفون الأخلاقَ، مختارين، بأنها «مجموعة القواعد العقلية لسلوك الإنسان».

وتتَجَلَّى درجة شيوع الوَهْم في أن الأخلاق ذاتُ مصدرٍ عقليٍّ من تَصَفُّح صَفَحات التحقيق التي قامت بها مجلة الرِّيڨُو لدى أشهر الفلاسفة والعلماء والكُتَّاب، مثلِ لُرْوَا بُولْيُو وأَنَاتُول فرَانْس وأُولَار ودُرْكيم وشارل رِيشِه وفُوِّيه وبُوتْرُو وسيَاي وشار جِيد … إلخ، فقد أجمع هؤلاء، تقريبًا، على القول بوجوب استناد الأخلاق إلى العقل.

وعلى ما وقع من الاعتماد على هذا الخطأ لم يكن هذا الخطأ عامًّا، فقد بَيَّن هَنْرِي پُوَانْكارِه الشهيرُ في صَفَحَاتٍ ممتازة عدمَ إمكان وجودِ أخلاقٍ علمية، وأن العِلم يظلُّ عاجزًا عن تعيين قواعد سلوك الإنسان.

وسنرى في تضاعيف هذا الكتاب أنه لا مكان للعقل في العوامل المؤثرة في تكوين الأخلاق الحقيقية، أي الأخلاق المُزَاوَلة، فالدعائمُ الحقيقية الوحيدة للأخلاق هي العناصر العاطفية المستقلة عن العقل، فنحن — وإن أمكننا أن نتكلم عن العِلم العقليِّ — لا نقدر على الكلام عن الأخلاق العقلية.

إذَنْ، من العبث أن نبحث هنا في مختلف مناهج الأخلاق العقلية، فليس لهذه المناهج أيُّ تأثير أبدًا، وهي لا تَنِمُّ على غير تأمُّلَاتٍ وهمية،٣ وما نال نجاحًا منها، ذات يوم، أكثرَ من غيره فقد أصبح مَنْسِيًّا في الزمن الحاليِّ.

وجميعُ تلك المناهج الخاصة بما بعد الطبيعة مما لا يدافَعُ عنه إلَّا إذا اكْتَشَف مبتدعوها ما تصير به مقبولةً قواعدُ الأخلاق التي يَزْعُمون وَضْعَهم لها، ولا قيمةَ لتعداد القوانين النظرية في مثل هذا الموضوع، وإنما الصعوبةُ كلُّ الصعوبة في فَرْضها، وكان النجاح يُكْتَب لكَنْتَ بفضل عَوْنِ ربٍّ مرهوب، والارتباكُ يكون عند عدم ذلك العَوْن، وما كان لأخلاقٍ حَتْمِيَّة خالصةِ العقل أن تكون شافيةً حَتْمًا.

وإذا ما سُلِكَت سبيل اللَّغْو فأُريد وَضْع منهاج في الأخلاق أمكنَ قيام هذا المنهاج على الهَوَى أو محبةِ الغَيْر أو الضرورة أو على عناصرَ أخرى، لا على المنطق العقليِّ قَطُّ، والشخصُ الذي ينقاد للبراهين القائمة على التأمل والعقل فقط سائرًا وراءَ خيالِ كثيرٍ من الفلاسفة لا ينال أَيَّ ثباتٍ خُلقِيٍّ، ولا تُعَتِّم أخلاقٌ كهذه أن تتلاشى عند أول نَفْخَة نَفْعِيَّة، وعند الأشخاص الذين يَزْعُمون اتَخاذَ العقل دليلًا لهم يجب أن تُعْزَى «الأعمال الصغيرة إلى الخوف، والأعمالُ المتوسطة إلى العادة، والأعمالُ العظيمة إلى الزَّهْو» كما قال نِيتْشِه.

ومن الواضح أن شأن العقل في الأخلاق ليس صِفْرًا، بل ضعيفٌ إلى الغاية، وهذا إلى أن المنطق العقلي يَنْفَع، أحيانًا، في معارضة شعورٍ بشعور، وفي وَزْن العِلَل وفي اجتناب الأعمال الخَطِرَة، ولكن العقل، وإن كان ينتفع بِقُوَانا الخَفِيَّة، لا يمكنه أن يَحِلَّ محلَّ السَّجِيَّة والمُؤَثِّرَاتِ اللاشعورية التي تُسَيِّرنا.

ولْنَبْحَث الآن في الأُسُس الحقيقية التي تقوم عليها الأخلاق، والتي تختلف عن الأسُس المذكورة في هذا الفصل.

هوامش

(١) انظر إلى الفصل الخامس والثلاثين من الباب الثاني من كتاب الدفاع عن النبيين لبوسويه.
(٢) السافة: المدماك.
(٣) خيل إلى جميع موجدي الأخلاق العقلية أن العقل يكفي الإنسان ليسير في الحياة، وتثبت العبارة الآتية التي نقلها مسيو لاشوليه من كنت أن هذا الفيلسوف المشهور أبصر، في نهاية الأمر، أنه لا يطمئن إلى توجيه قواعد الأخلاق القائمة على العقل، قال كَنْتُ:

لدي كتاب من المفضال المرحوم سولزر يسألني فيه: ما هي العلة في أن المبادئ الخلقية التي يقنع بها العقل ذات تأثير ضعيف في العمل؟ وقد أخرت جوابي طمعًا في أن يكون جامعًا، بيد أنني لم أجد سوى ما يأتي وهو: أن الأساتذة لا يستنبطون تعاليمهم على ضوء الحقيقة، بل يفسدون الدواء الذي يودون أن يكون شافيًا، وذلك لتنطسهم وجمعهم من كل ناحية عوامل صالحة لحملنا على الخير.

يثبت هذا الجواب المبهم درجة ارتباك كَنْتَ تجاه البرهان الصائب الذي وجهه إليه مراسله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤