الفصل السادس

القوانين العلمية ونظريات الحوادث

(١) القوانينُ العلميةُ ودرجةُ صحتها

تدلُّ القوانين العلمية على العلاقات الكَمِّيَّة الثابتة بين بعض الحوادث.

وكانت القوانين العلمية عند كثير من الناس مثالَ اليقين المُطْلَق، فَتُرِك هذا المبدأُ عندما أصبحت المقاييسُ العلمية أدقَّ مما كانت عليه.

قال الأستاذ كُولْسُون: «إذا ما دَرَسْنا الحوادثَ الفيزياوية عن كَثَب أمكننا أن نَقْنَع بعدم وجود أيِّ قانونٍ فيزياويٍّ حُقِّق تحقيقًا دقيقًا، ففي جميع الحالات، تقريبًا، نشاهد انحرافاتٍ على شيء من الاتساع في تلك القوانين.»

ومن هذه الانحرافات نَعْلَم أننا لا نَعْرِف سوى بعض شروط الحادثات، ونحن، لكي نستخرج قانونًا، نُضْطَرُّ، كما ذَكرتُ، إلى حَذْف العوامل الثانوية بسبب كثرتها وصعوبةِ اكتشافها، وبعضُ حوادث الطبيعة إذ كان تابعًا لبعضٍ فإن بعضَها يُؤَثِّر في بعض، ولم نَبْلُغ من اتساع الذكاء ما نُحِيط بها، فنُحْدِث، لذلك، من الانقطاع فيها ما لا نكترث معه لغير أهمِّها، فهنالك يبدو القانونُ صحيحًا ضِمْنَ بعض الحدود تقريبًا ما دامت العوامل المهملة ذاتَ تأثير ضعيف، وهذا التأثير إذا ما عَظُم أضاع القانونُ صِحَّته وأمكن تَلَاشِيه، فخُذْ قانونَ مارْيُوت مثلًا تَجِدْه صحيحًا تقريبًا في أمر الغازات البعيدة كثيرًا من نقطة انحلالها، وتَجِدْه غيرَ صحيحٍ كلما اقْتُرب من هذه النقطة الخَطِرة.

ويظهر القانون وثيقًا أحيانًا حينما لا يَكْشِف ما لدينا من آلاتٍ ناقصة عما فيه من عدم الصحة، وهذا ما حَدَث في قوانين كِيپْلِر الفلكية لعَجْز كيپْلِر عن ملاحظة الاختلالات التي يمتنع تَبَيُّنُها بوسائلِ تَرَصُّدِه عندما صاغ تلك القوانين.

فالقوانينُ العلمية هي، إذَنْ، ضَرْبٌ من الحقائق المتوسطة، والقوانينُ العلمية، وإن كانت كافيةً عَمَليًّا، ليست من الحقائق المطلقة.

ولا تستحقُّ القضايا الرياضية نفسُها أن تُوصَف بالمطلقة، وبَيَّن هنري پُوَانْكَارِه ذلك جيدًا فلا أرى أن أُسهب فيه، وإنني، من غير أن أبحث معه في وُجُوه الهندسة الممكنة في عوالمَ غيرِ عالَمنا، أجِدُ من الكفاية أن أذكر أن أسُس هندستنا الأقْليدِيَّة نفسَها خياليةٌ، وتُحَدِّثُنا هذه الهندسة، بالحقيقة، عما يستحيل وجوده أو يستحيل تَصَوُّره من الأجرام ذاتِ البُعْدِ الواحد أو البُعْدَيْن، مع أن الأجرام في عالَمنا لا تكون إلَّا ذاتَ ثلاثة أبعاد، فالنقطةُ — مهما بلغت من الصِّغَر ومهما كانت دون آخر الجراثيم — فإنها ذاتُ ثلاثة أَبْعاد، والخطُّ، مهما دَقَّ فإنه ذو ثِخَن وعَرْض وطول، أي ذو ثلاثة أبعاد على الدوام، أَجَلْ، يمكن إهمالُ الأبعاد في الحساب، ولكننا لا نستطيع بذلك أن نَحْرِمَها الوجودَ، ونحن إذا ما اتخذنا النقطةَ حدًّا لكُرَةٍ، وإذا ما اتخذنا الخطَّ المستقيم حَدًّا لأسْطُوَانَة … إلخ، فإن الأشكال لا تَفْقِد خواصَّها لهذا السبب وتحافظ على أبعادها الثلاثة من حيث النتيجة.

إذَنْ، لا ينبغي أن يُبْحَث عن المطلق في الرياضيات كما لا ينبغي أن يُبْحث عنه في العلوم الأخرى، والمطلقُ قد ظَلَّ مُهَاجِرًا طويل زمنٍ في عالَم الحقائق الاعتدالية، أي في التأملات الهندسية، بَيْدَ أن هذا العالَم، كما يظهر، ليس له، في الغالب، أساسٌ سوى الافتراضات غير المحققة من بعض الوجوه.١

قال الرياضيُّ العَلَّامة إميل پيكار: «يَعْتَرِينا ذُعْرٌ حينما نَدْرُس أحدثَ الكتب عن مبادئ الهندسة فَنُبْصِرُ جدولَ القضايا المُسَلَّم بها التي لا بدَّ من وضعها؛ ليكونَ لعلم الهندسة ما يُعْزَى إليه من الوُثوق المنطقيِّ.»

ولا أشاطر پيكارَ ذُعْرَه، فالقضايا المُسَلَّم بها تُؤدِّي إلى وضع دساتيرَ رياضيةٍ وثيقة، ولا أحدَ يجهل ما لمثل هذه القضايا من التأثير في النفوس البسيطة، فمن الحَسَن أن يُصْنع في الحين بعد الحين من الحقائق ما يُفْتَرض أنه مطلقٌ لما في حيازته من تسليةٍ للنفس، والعلم مع أنه يَدْحَرنا بالتدريج إلى النِّسْبِيِّ والتقريبيِّ، ترانا نَسْلُك سبيلَ المطلق على الدوام.

(٢) النظرياتُ العلمية الكبرى وشأنها

ترى مما تقدم أن صَرْح العلم يأتلف من وقائعَ أُحْسِنَ تفسيرها، غير أن شأن العالِم لا يقتصر على التَّرَصُّد والتفسير، فالعالِم إذ حاز ما أُجِيدَ إيضاحُه من الوقائع وَضَع من النظريات العامة ما هو شاملٌ لتفسير عدد كبير من الحوادث.

وعملُ العالِم هذا صَعْبٌ جدًّا ما دامت المبادئ الناظمة في كلِّ دَوْرٍ قليلةً إلى الغاية مع أن الوقائع التي تُسْتَخرج منها لا يُحْصِيها عَدٌّ.

وبالوقائع تُعَدُّ الموادُّ الضرورية لشَيْد النظريات العظيمة، ولا بدَّ من استخدام عُمَّال كثيرين في اكتشافها قبل أن يتلاقى أرباب النفوس العالية القادرون على صُنْع التراكيب التي هي روح العلم.

قال هنري پُوانْكارِه: «إن جمع الوقائع ليس عِلْمًا كما أن كَوْمَة الحجارة ليست بَيْتًا.»

وقد يَحدُث أن يَصِلَ الذي يَرْصُد الوقائع إلى تركيبها: ولكن من القليل أن تلتقي قابلياتُ التحليل والتركيب في العالم الواحد، وليس الرجال الذين استطاعوا منذ قرنٍ، مثلُ لَامَارْك ودَارْوين، أن يُحَوِّلوا الفكرَ العلميَّ تحويلًا عميقًا، أكثرَ الرجال اكتشافًا للوقائع، بل هم الذين عَرَفوا أَن يَرَوا الروابط التي يرتبط بها بعض الوقائع، المعلومةِ سابقًا، في بعض.

وإذ إن على النظريات كلِّها أن تستند إلى وقائع — أي إلى نُبَذٍ من الأشياء — وإذ إن الوقائع تظلُّ ناقصةً، دَوْمًا، اشتملت كلُّ نظرية على أجزاءٍ افتراضية بحكم الضرورة، وتُشابه النظريةُ في ذلك رَسْمَ علماء الآثار للمباني القديمة، فبجانب العلامات الصحيحة توجد علائمُ مشكوكٌ فيها على الدوام.

ويدلُّ تاريخ العلم على درجة خِصْب النظريات العلمية العظيمة مع ما فيها من أقسام مشكوك فيها، وهذه الأقسامُ، على ما فيها من مواطنِ الرِّيَب، قد تكون كثيرة الفائدة بما توجبه من تحقيق، ومن ذلك أن مبادئ دَارْوين فَرْضِيَّةٌ إلى الغاية، ومع ذلك لا تَجِد مثلَها غيرَ مبادئَ قليلةٍ أثَّرت تأثيرًا أساسيًّا في أفكار الجيل العلمية فأدت إلى مباحثَ كثيرةٍ، فهي قد أسفرت عن إدخال فِكْرَة الاتصال إلى العلوم الطبيعية، فَدَلَّت على إمكان إيضاح ما لم يُرَ وَجْهٌ لإيضاحه علميًّا فيما مضى، فغدا من المستطاع تركيبُ ما لم يظهر إمكانُ وَصْلِه سابقًا، أَجَلْ، إنه لم يُثْبَت تَحَوُّلُ الموجودات بالانتخاب، وإن من الممكن جدًّا أن تكون صفات الأنواع قد اكْتُسِبَت بغير التَّكَتُّلات الصغيرة الوِراثية، بَيْدَ أنه لا كبيرَ أهمية لذلك، فالعالَم الذي أثاره دَارْوِينُ ظَلَّ مُثَارًا، وبَقِيَ إمكان التحول بالوسائل الطبيعية أمرًا سائدًا، وتلاشت نظريةُ الخَلْق المتتابع إلى الأبد وتَطَوَّرَ تفكير العلماء تطورًا عميقًا.

وقُلْ مثلَ ذلك عن مُعْظَم النظريات الكبيرة، ومنها نظرياتُ پاسْتُورَ التي غَيَّرَت العِلْمَ تغييرَ نظرياتِ دَارْوِينَ له، فجَدَّدَت صِناعاتٍ مهمةً، وكَوَّنَت الطبَّ الحديث وكَشَفَت عن عالَم مجهولٍ، ومع هذا زال أهمُّ ما كان لهذا العَلَّامة من الآراء الابتدائية.

ولا يجوزُ، إذَنْ، أن نَحْكُم في أمر النظريات من خِلال جزءِ الحقيقة التي تشتمل عليه، بل يجب أن نَحْكم في النظريات من حيث ما تُؤدِّي إليه من المباحث على الخصوص، والنظريَاتُ يمكن أن تُعَدَّ وسائلَ اكتشافاتٍ لا نظير لتأثيرها، حتى عند النظر إلى فائدتها العملية الصِّرْفَة، فهي تُوَجِّه مباحثَ ألوف الباحثين، والنظرياتُ لو أُقْصِيَت ما كان هنالك عِلْمٌ ولا اكتشافاتٌ ممكنة، فمن الإصابة قولُ إميل پِيكار: «إن الأفكار النظرية تَبْدُو بالتدريج بِذْرَةً خصيبة يَخْرُج منها مُعْظم المُبْتَكرات.»

وجميعُ نظرياتنا العلمية مُعَدَّةُ للتَّغَيُّر لا ريب، وإبداءُ مثل هذا القول يَعْنِي أن العلم سيتقدم أيضًا، والنظرياتُ لا تتغير لأنها فاسدة، بل لأن اكتسابَ أمورٍ جديدة يَحْمل النظرياتِ على ملاءَمة هذه الأمور، والنظرياتُ تكون صحيحة في الوقت الذي تُبْدَى فيه، لإيضاحها الأمورَ المعروفة في حينها، وبالنظريات تُكْتَشف أمور أخرى، والنظريةُ التي توجب أمورًا جديدة تتحول بهذه الأمور فيما بعد.

إذَنْ، إن شأن النظريات العامة في العلم عظيم، والباحثُ الذي ليس لديه من النظريات ما يَتَّخِذه دليلًا يَظَلُّ، على الدوام، عاملًا بسيطًا منتظرًا إلهاماتِه من المصادفة الخالصة أو من توجيهِ أستاذٍ له.

وبجانب ما للنظريات الكبرى من فائدةٍ بادية نَجِدُ محاذيرَ لها، فلا تَلْبَث النظريات عند ذوي النفوس البسيطة أن تتحول إلى عقائدَ فيَدْخُل هؤلاء بذلك دائرةَ المعتقدات، والمعتقدُ العلميُّ يغدو عندهم كالمعتقد الدينيِّ الذي يُسَلَّم به من غير أن يُجَادَل فيه، وكان لِغَائيَّةِ أرسطو وخِلْقَاتِ كُوڨِيه المتتابعة وانتخابِ دَارْوين وما إلى ذلك من النظريات الكثيرة التي ظهرت وزالت في غضُون القرون قوةُ اليقين الدينيِّ في إبَّان سلطانها، فما كان لأحدٍ أن يُنَقِّب عن أُسُسها.

(٣) مبادئُ الكوْن العلمية

لم يَظلَّ العلم قائمًا، دَومًا، على أساس دِراسة ما بين الحوادث من علاقات وعلى الانتفاع بقُوَى الطبيعة، فالعلمُ، كالدِّيانات والفلسفات، قد حاول أن يَنْفذ أسرارَ الكون الكبرى فيَعْرِفَ تركيبها.

والعلماءُ، لكي يُحَقِّقوا ذلك، لم يَقْدِروا، بحكم الطبيعة، على غير الانتفاع بما هو معروف من أجزاء الأشياء، وإذ لم تَزَلْ هذه الأجزاءُ قليلةَ العَدَد بَدَت المباني التي شِيدَت غيرَ مُرْضية مع مبتكرات العلم الكثيرة.

وليست مبادئُ الكَوْن العلمية الحاضرة كثيرةً مع ذلك، ما دام يمكن أن تُرَدَّ إلى نظريتيْن: النظرية الآلية والنظرية الطَّاقِيَّة.

وكانت النظرية الأولى، التي تَرْجِع إلى ديكارْت، أساسًا لحسابات لاپلاس فتَعُدُّ الطبيعةَ عنصريْن أساسيَّيْن: الذَّرَّ والحركة، فتَجِد أن مجموع الذَّرِّ هو الكوْن الثابت، وأن جميع الحوادث من تراكيب حركات الذَّرِّ.

واكتُشِف، أو ظُنَّ أنه اكْتُشف، حوالَي النصف الثاني من القرن الأخير أمرٌ ثابتٌ آخر، وهو الطاقةُ التي لاح أنها تستطيع أن تقوم مقام الأولى في تَفَهُّم الحوادث، ومن دراسة هذا الأمر الآخر اشْتُقَّت النظرية الطَّاقِيَّة.

وجميعُ الحوادث، بحسب هذه النظرية، تُعَدُّ وليدةَ انتقالاتِ كيانٍ لا يَفْنَى، أي الطاقة، فتُطْرَح جانبًا مبادئُ الكُتْلة والذَّرَّة والقُوَى فيُقْتَصرُ على قياس تقلُّبات الطاقة التي تلازم الحوادث.

وجميعُ الطاقات قابلٌ للتحول كما يظهر، فيَنْتُج عن إحداها طاقاتٌ أخرى بسهولة، فيمكن أن يُعَبَّر بالوَحْدَة الواحدة عن مختلف مظاهر الطاقة، فتُخْتارُ، بحسب الأحوال، الطاقةُ التي يَسْهُل قياسُها كالحرارة مثلًا.

وجَعَل المبدأُ الطَّاقيُّ إقامةً الكَمِّيِّ مقامَ الكَيْفِيِّ في دِراسة الحوادث أمرًا أسهلَ من قبل، ولكن من غير أن يأتي بأيِّ إيضاح جديد لهذه الحوادث، فنحن — مع قياسنا بسهولةٍ نتائجَ الطاقة — لا نَعْرِف شيئًا من طبيعتها، وما شأنُ عمليات القياس التي تُحَقَّق بالطاقة إلا كشأن عامل السكة الحديدية الذي يَزِنُ الحقائبَ من غير أن يَعْرِف ما تحتويه.

وإمكانُ تحويل أيِّ شكلٍ للطاقة متى يُرَادُ إلى أيِّ شكلٍ آخرَ يَعْدِلُه، أي الإمكانُ الذي هو أساس صِناعتنا بأجمعها، مما يُسَوِّغ حقيقةَ المبدأ الفلسفيِّ الذي كُنَّا قد ألمعنا إليه وهو: أن حوادث الطبيعة إذ كان بعضها مرتبطًا في بعض ارتباطًا وثيقًا فإن تغيير بعضها يُؤَدِّي إلى تغيير بعضها الآخر بحكم الضرورة، والأمورُ تسير كما لو كان الكَوْنُ ضَرْبًا من النظام ذي المفاصل الذي لا يُغَيِّر توازنَه في نقطةٍ من غير أن يَبْدُوَ ذلك التغيير في الأخرى على وجه معادل.٢

وفي تلك النظريات يجب أن يُنْظَر إلى مناهج العمل فقط، فيُعْدَل عن استنباط إيضاحاتٍ منها عن أصل الأشياء وتحولاتها، على أن نظرياتٍ كتلك تَفْقِدُ قيمتَها إذا ما أريد انتحالُها في تفسير الحوادث التي نكترث لها أكثر من سواها، أي حوادثِ الحياة، وذلك بدلًا من تطبيقها على الأعمال الفيزياوية الكيماوية.

(٤) الحدودُ المُفْتَرَضَة لِما يمكن معرفته

يشتمل بيانُنا السابق الوجيز على خلاصةِ ما نَعْرِفُه عن صَرْح حقائقنا العلمية والمناهج التي يُشَادُ بها، ولا يكاد هذا الصَرْح يُرْسَم في الوقت الحاضر مع أنه كان يُظَنُّ بناؤُه إلى الأبد؛ وذلك لأن علمنا غدا أبعدَ غوْرًا وأكثرَ ضبْطًا، ويبدو حرص ذلك الصَّرْح اليوم أصغرَ مما كان عليه، فالعالِمُ إذ وَجَد نفسه تِجاه اتِّساعٍ لا يزال مجهولًا تقريبًا عاد لا يفكِّر في تلك التراكيب الكبيرة التي فتَنت الفلاسفةَ في جميع الأجيال.

ونحن، إذ نَعْجِز اليوم عن فهم العالم في مجموعه، نرى أن ندْرُس نُبَذًا منه، ونحن، قبل أن نكتشف السببَ الأول للحادثة الواحدة، نَرَى أن نَعرِف سلسلةَ أسبابها المتعاقبة، وهذا الموضوع هو من السَّعَة بحيث يجاوز حدودَ عقلنا، فتاريخُ أيِّ جِرْم، كتاريخ الحَصَاة مثلًا، يستلزم معرفةً تامَّةً لجميع أسرار الكون.

ومن ذلك لا نَسْتَنْتِج، مع كثير من الفلاسفة، وجودَ أمورٍ لا تُعْرَف، غير أنه يوجد من الأمور الكثيرة ما يمتنع على معرفتنا، ولو كان للنظريات القائلة بما لا يُعْرَف أيُّ تأثيرٍ في سَيْر العلم لبَطَل كلُّ تَقَدُّم له، ومما ذكرناه أن أُوغُوسْت كُونْت كان يَعُدُّ تركيب الكواكب الكيماويَّ، الذي كَشَف عنه التحليلُ الطيفيُّ مؤخرًا، من الأشياء التي لا تُعْرَف، فيرى من غير المفيد أن يُكْتَرث لها.

وتثبت الاكتشافاتُ الحديثة استحالةَ رَسْمِ حدودٍ للعلم وأن يُحْصَر العلمُ في دائرة من الحقائق المزعومة المحكوم بضرورتها، فمما يوصَل إليه، على الدوام، هو الاعتراف بأن هذه الحقائق غيرُ ضرورية، ثُمَّ بعدم صحتها.

ومهما تكن حدود العلم الراهنة فإن اكتشافاته مَنَحَت الإنسان سيطرةً على الطبيعة ستساوي، لا ريب، ما عُزِيَ إلى آلهته القديمة، وتَمْنَحه القُوَى العجيبة، التي يستخدمها العالِمُ العصريُّ، قدرةً أعلى من قدرة الآلهة التي ذُكِرَت في الأساطير القديمة.

هوامش

(١) يجب — كما نرى — إتمام التعاريف القديمة للنقطة والخط المستقيم والمسطح على الوجه الآتي: النقطة: هي شكل هندسي ذو ثلاثة أبعاد صغيرة إلى حد تهمل معه في الحسابات. الخط المستقيم: هو شكل هندسي ذو ثلاثة أبعاد يبلغ اثنان منها من الصغر ما يهملان معه في الحسابات. المسطح: هو شكل هندسي ذو ثلاثة أبعاد يبلغ أحدها من الصغر ما يهمل معه في الحسابات. الحجم: هو شكل هندسي ذو ثلاثة أبعاد لا يجوز أن يهمل أي واحد منها في الحسابات. ومن شأن هذه التعاريف الدقيقة أن تؤدي إلى قلب بعض مبادئ الهندسة الأساسية، وهي تتضمن، على الخصوص، إمكان إمرار عدة خطوط متوازية من نقطة واحدة خلافًا لنص أقليدس المسلم به الذي حاولت أجيال كثيرة من الرياضيين إثباته على غير جدوى.
(٢) أحيل القارئ، الذي يرغب في تفصيل تلك الملاحظات، على الطبعة الثالثة عشرة من كتابي «تطور القوى».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤