الفصل الثامن والعشرون

زواج الأقارب والأباعد

أرسل إلي بعض الأدباء يقول:

هل لي أن ألتمس لديكم الرأي في أمر عنَّ لي؟ لم أوفق إلى غيركم أطمئن إليه، لأعهد إليه في الإجابة الشافية القويمة.

والمسألة هي مسألة زواج ذوي القرابة، وخصوصًا القرابة القريبة بين من يسميهم الإنجليز أبناء العمومة Cousins.

فقد زعم بعض من كتب في هذا الموضوع وقرأت لهم أن النسل يأتي هزيلًا معتل البنية والذهن، كلما اقترب الزوجان في النسب، ولنضرب مثلًا لذلك صاحب كتاب أصول الحضارة في تدعيمه رأيه ببيوتات أوروبا المالكة، كما قرأت أيضًا ما ينفي هذا القول ويثبت نقيضه.

ثم إنني رأيت أن نبينا محمدًا — صلوات الله عليه — قد ذهب إلى تزويج بنتين من بناته من رجلين من ذوي قرباهما القريبة، فاستنتجت من ذلك أن لا غضاضة ولا مضرة في مثل هذا الزواج.

ومن هنا ترون التضارب والخبط بين علماء أوروبا وأدباء العربية القدامى في أمور هي من الأهمية بالمكان الأول؛ لأنها تتعلق بمستقبل بني الإنسان، وما يرجى لهم على هذه الأرض من ارتقاء في بنية الجسوم والعقول والأخلاق.

وعلى هذا نلتمس بين يديكم الحجة والصواب في هذه المشكلة من الناحية البيولوجية والعلمية … وأما ونحن بصدد الزواج وما يدور حوله، فليسمح لي الأستاذ أن أستفتيه في اقتران المصريين من الأوروبيات الغربيات من الناحية البيولوجية الحديثة …

ومسألة الزواج اليوم — وبعد الحرب الحاضرة على الخصوص — هي إحدى المسائل التي يتجدد البحث فيها، أو يعاد النظر إليها على ضوء من العلم الحديث، والتجارب السابقة واللاحقة في المجتمعات المختلفة، حسبما تدين به تلك المجتمعات من العقائد الدينية والسياسية، ولا سيما المجتمعات التي تفرض عليها عقائدها رأيًا خاصًّا في بناء الأسرة، وعلاقات الرجال والنساء.

فالنظر إليها من بعض جوانبها مقدمة لنظرات كثيرة في الواقع سيشغل بها أبناء مصر مختارين، أو غير مختارين بعد زمن قصير.

ومن هذه الجوانب التي تستحق النظر أو تستحق إعادة البحث فيها جانب الزواج بين الأقارب والأباعد، وما يقوله عنه المختصون بهذه الشئون من علماء الاجتماع، ومؤرخي طبائع الأجناس.

فالزواج بالأباعد — وهو ما يسميه خبراء هذه الشئون «إكسوجامي» Exogamy — هو عادة أو شريعة من أقدم الشرائع في المجتمعات الفطرية، والمجتمعات التي أخذت بنصيب من الحضارة.

ويندر بين هذه المجتمعات من لم يعرف «الإكسوجامي» في صورة من صوره الكثيرة، التي تتقلب على جميع الفروض، وتتناقض أغرب التناقض في بعض الأحوال.

فمن هذه المجتمعات ما يحرم فيه زواج الأخوين، ولا يحرم فيه زواج الأب ببنته، ومنه ما يحرم فيه زواج هؤلاء جميعًا ومعهم أبناء الأعمام، ومنه ما يحرم فيه زواج أبناء القبيلة الواحدة الذين ينتسبون إلى جد واحد، ومنه ما يحرم فيه الحمل، ولا تحرم فيه الصلات الجنسية.

والاختلاف في تعليل هذا التحريم بين الباحثين فيه أكبر وأوسع من اختلاف القبائل في هذه العادة، وهذه الشريعة.

فمنهم من يعزوها إلى غيرة الأب من ولده، وغيرة الأم من بنتها، ومنهم من يعزوها إلى رغبة الرجال في إظهار القوة باغتصاب الحلائل من القبائل البعيدة، ومنهم من يعزوها إلى «الطوطمية» أو اتخاذ حيوان من الحيوانات جدًّا للقبيلة كلها وربًّا حارسًا لجميع أفرادها، فهم جميعًا في حكم الأسرة الواحدة التي لا يجوز لها أن تأكل من لحمها ودمها … ومنهم من يعزوه إلى الأسباب الاقتصادية؛ لأن الأب يتقاضى مهرًا من الزوج الغريب ولا يتقاضاه من ابنه أو ابن عمه، ومنهم من يعزوه إلى ما يكون بين الأقربين من الألفة، التي تضعف الرغبة الجنسية وتنشئ بين الأقربين علاقة من الرحم غير علاقة الزواج.

وكل أولئك جائز أن يؤدي إلى تقرير هذه الشريعة في الجماعات الأولى، وإن غلب بعضه على جماعة، وغلب غيره على جماعة أخرى.

وقد كان اجتناب الأقربين في الزواج مذهبًا معروفًا بين العرب، وإن لم يتفقوا عليه، فكان أناس منهم يعتقدون أن الولد يجيء من القريبة ضاويًا «لكثرة الحياء من الزوجين فتقل شهوتهما، ولكنه يجيء على طبع قومه من الكرم»، وفي ذلك يقول أحدهم:

يا ليته ألقحها صبيَّا
فحملت فولدت ضاويا

ويروى عن النبي — عليه السلام — أنه قال: «اغتربوا لا تضووا.» حديث لا نقطع بصحته؛ لأنه — عليه السلام — قد زوج بنتيه من الأقربين، كما ذكر الأديب صاحب الخطاب.

أما الرأي الذي يوشك أن يستقر عليه الخبراء بهذه الشئون، فهو أن الزواج بالأقارب لا ضرر فيه من الوجهة البيولوجية إلا في حالة واحدة، وهي أن يغلب على الأسرة كلها استعداد جسدي لبعض الأمراض، كما يتفق أن يغلب على بعض الأسر الاستعداد لأمراض الصدر، أو اختلال الأعصاب أو سوء الهضم، أو ما شاكل ذلك من دواعي الضعف التي تورث وتنتقل إلى الأبناء، فإن الولد إذا ورث الاستعداد للمرض من أبيه وأمه كانت وقايته منه أصعب من وقاية أبويه، وهذه حالة لا شك في ضررها، سواء كان تشابه البنية في أسرة واحدة أو في أسر غريبة، إذ لا يجوز لرجل مستعد لمرض من الأمراض أن يتزوج بامرأة مستعدة لهذا المرض على التخصيص، سواء كانت من أهله أو غير أهله.

أما في غير هذه الحالة، فزواج الأقارب مأمون من الوجهة البيولوجية على قول الأكثرين من الثقات، وقد روى وستر مارك في كلامه عن أحدث الآراء في موضوع «الإكسوجامي» مشاهدات بعض المعنيين بتجربة التلاقح بين الحيوانات، فإذا بالكثيرين منهم يتفقون على أن هذه الحيوانات سلمت من عوارض الهزال المزعوم، وأنجبت ذرية من أحسن أنواعها في صفات القوة والنشاط، ولا سيما الحيوانات التي يعنى بانتخابها، وإبعاد الضعيف منها لأسباب فردية، لا علاقة لها بالبنية الموروثة.

ومع هذا أي قول من أمثال هذه الأقوال يمضي بغير خلاف من النقيض إلى النقيض؟

فمن أعجب التناقض في هذا الصدد أن الكاتب بت رڨرس Pitt-Rivers ينفي الضرر من تزاوج الحيوانات القريبة، ويجعل شاهده على ذلك خيول السباق، فإذا بزميل له في هذه البحوث وهو سير جيمس بن بوكوت Boucat يناقض هذا الرأي، ويتخذ خيول السباق نفسها حجة له على قوله، ويهيب بقومه أن يدركوا ذرية الخيول الإنجليزية بدم غريب قبل أن يبلغ بها الضعف مبلغًا لا تجدي فيه المداركة.

والقول الفصل في هذا الخلاف غير مستطاع، ولكننا نسيغ بالعقل سبب الضعف الذي ينجم من تزاوج الأقربين، وهو اشتراكهم في الاستعداد للأمراض والعوارض الخلقية أو الخلقية، فإذا انتفى هذا الاشتراك فليس يتضح أمامنا سبب للتحذير من هذا الزواج، وليس فيما شاهدناه من الأمثلة دليل على أن زواج الأقربين أضر بالذرية من زواج الأبعدين.

•••

أما زواج المصريين بالأوروبيات فلا ضرر فيه من الوجهة الجسدية مع سلامة الزوجين، وفيه إلى جانب هذا مزايا التلقيح بالدم الجديد الذي شوهدت حسناته في كثير من الشعوب والأفراد.

ونحن نعتقد أن المسألة هنا ليست مسألة اللحم والدم، وصحة الجوارح والأعضاء، ولكنها مسالة «الأعصاب» التي هي خزين الملكات والمواهب الخلقية والعقلية ومناط التفاضل الكبير بين الأقوام والأجناس، فقد تكون المرأة صحيحة الدم واللحم بريئة من عوارض السقم والهزال، ولكنها لا تنفث في أبنائها نشاطًا جديدًا ما لم يكن مصدر هذا النشاط ذلك الخزين العصبي، الذي تكنزه بعض الأمم بالتجارب النفسية والجسدية في عشرات الألوف من السنين.

فهذا الخزين العصبي هو الذي يستفاد من البناء بالأوروبيات، ولا سيما بنات الشمال.

ومن هذه الوجهة لا اعتراض على زواج المصريين بالأوروبيات، أو من يشابههن في هذه الخصلة، وإنما يأتي الاعتراض على هذا الزواج من الوجهة القومية، والوجهة الأخلاقية والوجهة الإنسانية على السواء.

فالنساء المصريات اليوم أوفر عددًا من الرجال المصريين، فإذا تركهن أبناء وطنهن ليبنوا بالأجنبيات فعاقبة ذلك عضل مئات الألوف من البنات في سن الزواج، وعاقبة هذا العضل فساد في الأخلاق وبلاء على المجتمع المصري يربيان على كل نفع مرجو من البناء بالأوروبيات، ولو كن من أفضل النساء.

وهكذا يرى الأديب صاحب الخطاب أن شئون الأمم تعالج جملة من جوانب كثيرة، ولا يقتصر العلاج فيها على جانب دون جانب، وعندنا أن الأمة التي تكون كل فتاة فيها متزوجة في سنها المعقولة أسلم من الأمة التي ينجب فيها عشرة آلاف أو عشرون ألفًا نسلًا متفوقًا وإلى جوارهم ألوف العوانس يبتذلن أنوثتهن، فيسري فسادهن إلى البيوت جميعًا، ويغرق ذلك النسل المتفوق في لجته التي لا تدفعها شطوط ولا جسور.

فنصيحة الفرد أن الزواج ببنات الأمم المتقدمة زواج صالح مطلوب.

ونصيحة الأمة أن ترك بناتها معضولات بلاء غير مأمون، فإن تسنى دفع هذا البلاء، وتحصيل النفع من البناء بالأوروبيات المتقدمات، فقد استطيعت خدمة الفرد والأمة على السواء.

ولكنه على هذا احتمال بعيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤